العروج أو الصعود قدمًا في السماء
محمد جمال الدين الفندي




تقديم:
المعروف علميًّا والثابت أن الفضاء الكوني لا يعرف الخط المستقيم، كما عرفته لنا "هندسة إقليدس"، كما نرسمه في كافة مجالات نشاطنا على الأرض.
ولقد ثبت لنا عمليًّا أن أسفار الفضاء مثلاً لا تتم في خطوط مستقيمة، ولكن في مسارات منحنية أو متعرجة، وأن الكون كله ينحني على نفسه ويقفل.
وبصرف النظر عن أشكال تلك المسارات، لم يتوسع العلماء في دراستها إلا بعد أن عرف الإنسان المحرك الصاروخي أو المحرك النفاث، واستطاع أن يفلت من قبضة جذب الأرض، وراح ينطلق في الفضاء الكوني صاعدًا في السماء إلى حيث القمر مثلاً.
وما من شك أن "هندسة إقليدس" التي لا تزال تدرس في الثانوي والمراحل الأولى في كليات العلوم - لا تصلح في حسابات أسفار الفضاء، وقد ظهرت هندسة أخرى أكثر قبولاً، وأقرب تطابقًا لطبيعة الفضاء وأسفاره الممتدة إلى ما شاء الله، فأما هندسة إقليدس المبنية على أساس الخط المستقيم، فإنما تصلح لاستخداماتنا الأرضية على مقياس صغير جدًّا نسبيًّا.
وأعجب العجب، بل من أعماق الإعجاز العلمي في كتاب الله العزيز، أن يطلق هذا الكتاب مسبقًا على أسفار الفضاء الكوني، والصعود قدمًا في السماء - اسمَ العروج أو المعراج، معبِّرًا بذلك عن حقيقة أن مسارات تلك الأسفار كلها متعرجة أو منحنية، فأي إعجاز علمي أظهر من ذلك يتحدى الناس في عصر الفضاء؟
الآيات الكريمة:
1 - (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج: 4].
2 - (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة: 5].
3 - (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) [سبأ: 2].
4 - (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) [الحديد: 4].
5 - (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) [الحجر: 14].
6 - (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ) [المعارج: 3].
وواضح أن معنى العروج هو الصعود في السماء، وهو تعبير قرآني يطابق الواقع.
ويمضي القرآن الكريم، فيصف في إعجاز أخاذ حال وما يصادف رواد الفضاء من ألوان المناظر التي لم يألفوها على الأرض أثر العروج، فيقول: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر: 14، 15].
والمعنى أن المجرمين لا يؤمنون حتى لو مكنهم الله - تعالى - من الرقي إلى السماء والصعود فيها؛ ليروا عجائب الخلق المذهلة مما لم يألفوه على الأرض، وكأنما سُكِّرَتْ أبْصَارُهُمْ، أو وقعوا تحت تأثير السحر.
وفي هذا العصر فتح الله - تعالى - على الناس بابًا للرقي في السماء، والسبح في الفضاء، باستخدام المحرك الصاروخي أو المحرك النفاث، فرأوا من أهوال الفضاء وعجائبه ما كان سببًا في انهيار أعصاب كثير من رواد الفضاء؛ كادوا لا يصدقون ما يرون، ولا يحتملون هول ما حل بهم!
ولقد علمتنا أسفار الفضاء عمليًّا أن طبيعة الفضاء الكوني تختلف تمامًا عن كل ما ألفناه على الأرض، ولا تقتصر على مجرد أن أسفار الفضاء إنما تتم في مسارات متعرجة، وهذا عين ما تشير إليه الآية الكريمة: (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر: 15] في إعجاز علمي منقطع النظير تجلى في عصر الفضاء.
إن أول ما يعاني منه رائد الفضاء هو انعدام الوزن، إلا أن آثار هذه الظاهرة يتم معالجتها بالتعرض لما يماثلها مبدئيًّا على الأرض في معاهد أعدت صناعيًّا لذلك؛ حتى يعتاد رواد الفضاء عليها.
يصعد رواد الفضاء فوق القبة الزرقاء - وهي القشرة من الغلاف الجوي - المضيئة بضوء النهار، والتي لا يتعدى سمكها نحو "200 كيلو متر" فوق سطح الأرض، والتي هي بمثابة طبقة رقيقة من غلاف الأرض الجوي تواجه الشمس دائمًا بأن تنسلخ من جسم الغلاف الجوي المظلم بطبيعته، والذي يدور مع الأرض أثناء دورانها حول محورها أمام الشمس مصداقًا لقوله - تعالى -: (وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) [يس: 37].
عندما يصعد رواد الفضاء فوق هذه القبة تظلم الدنيا من جديد رغم ظهور الشمس، وتظهر نجوم السماء جنبًا إلى جنب مع الشمس؛ لأن الفضاء الكوني مظلم جدًّا، وكما قلنا يقتصر ضوء النهار على قشرة رقيقة من غلاف الأرض الجوي تواجه الشمس دائمًا أثناء دوران الأرض حول محورها أمام الشمس.
ويزداد عدد النجوم في السماء؛ لأن هواء الأرض يحجب ضوء عدد وفير منها، فلا يصل إلى سطح الأرض ومن ثم نراها، وهكذا يخيل لرواد الفضاء أن قد سكرت أبصارهم، وتخز أشعة الشمس الأجسام وخز الإبر، كما تدفعها بالضغط عليها.
وكثيرًا ما يصاب بعض رواد الفضاء من جراء ذلك بانهيار عصبي، خصوصًا جراء الاهتزازات الدائمة المتلاحقة التي تولدها آلات وأجهزة سفن الفضاء، ويزود الرواد بعقاقير لعلاج مثل هذه الحالات، كما جرت العادة على أن يتم تدريبهم على ذلك تدريجيًّا على الأرض، ثم بالصعود إلى الفضاء الكوني على فترات.
ويعتبر السفر إلى القمر مثلاً - وهو أقصى ما وصل إليه الرواد، وحطوا رحالهم عليه - يعتبر مهمة بسيطة بالنسبة إلى الوصول إلى الكواكب السيارة داخل مجموعتنا الشمسية، وقطر هذه المجموعة طوله خمس ساعات ضوئية؛ أي يقطعه الضوء في خمس ساعات بسرعته البالغة "300.000 ألف كيلو متر" في الثانية الواحدة.
ويتطلب الخروج من مجموعتنا الشمسية من أجل الوصول إلى أقرب مجموعات الشموس إلينا في مجرتنا، المعروفة باسم "طريق التبانة" أو "الطريق اللبني" - ضرورةَ السفر عبر الفضاء مسافة تزيد على أربع سنوات ضوئية، وتعرف هذه المجموعة باسم "مجموعة قنطورس"، ويفيض الفضاء الكوني الخارجي بألوان من الأشعة الكونية التي تقتل الخلايا الحية، وهي بمثابة النار التي لا دخان لها، والتي يعبر عنها القرآن بكلمة "نُحَاسٌ" في قوله - تعالى -: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ) [الرحمن: 33 - 35].
وإن اختيار لفظ "أقطار" في الآية (33) فيه إعجاز علمي عظيم، ويدل على حقيقة أن مسالك الفضاء الكوني متعرجة، وأن سائر ما يسبح فيه إنما ينطلق في مسارات منحنية (أغلبها بيضاوي الشكل، يعرف علميًّا باسم القطاع الناقص).
وفي الآيات الكريمة قطع باستحالة النفاذ من أقطار السماوات والأرض من غير تقدير الخالق - عز وجل - وعنايته ورعايته، والقطر على أية حال هو - على حد مفهومنا العلمي - الخط الواصل بين نقطتين متقابلتين على السطح المنحني أو المسار المغلق، ويمر بالمركز أو بالبؤرة.
وجليٌّ أن النفاذ من أقطار الأرض مثلاً إنما يعني اختراق قشرتها اليابسة، التي لا يزيد سمكها على نحو "60 كيلو متر"، والانطلاق عبر باطنها الملتهب الذي تربو درجة حرارته على "5.000 درجة سنتجراد".
وعلى أية حال؛ فإن مجرد اختراق القشرة اليابسة، إنما يعني انبثاق مواد الباطن المنصهرة على هيئة بركان ثائر يرسل شواظ النار والنحاس، أما النفاذ من أقطار السماوات فهو أشد هولاً، وأعظم استحالة من غير سلطان من الله تعالى؛ إذ يستلزم غالبًا عبور نجم كالشمس أو أكبر منها يرسل إلى الفضاء أكداسًا من شواظ النار والنحاس.
وليس المراد بالسلطان هو سلطان العلم كما قد يتبادر إلى الأذهان؛ لأن قوانين العلم التي نعرفها إنما تقودنا إلى ضرورة أن يمضي رائد الفضاء على الأقل ملايين السنين قبل أن ينفذ من قطر من أقطار مجرتنا!.
والكون الذي يضم الطاقة والمادة تقع حدوده على أبعاد تفوق حدود الوصف والخيال، وينحني على نفسه ويقفل في الفضاء، الذي لا يعلم مداه إلا الله - تعالى -، ويبقى ما وراء ذلك فراغًا تامًّا، والله - تعالى - أعلم بما فيه.
ومن ناحية أخرى يستخدم القرآن الكريم لفظ "السماء" للدلالة على غلاف الأرض الجوي، الذي يمتد إلى ارتفاع ألف كيلو متر فوق سطحها، ذلك لأن "السماء" في اللغة تعني كل ما علانا وارتفع فوق رؤوسنا، فيقول القرآن مثلاً: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ) [الروم: 48].
وكما هو معروف ومألوف تتم إثارة السحاب، ويتم نموه وانتشاره في الهواء الذي يكون غلاف الأرض الجوي، وفيه غاز الأكسجين الذي نستنشقه؛ ليجدد نشاط الخلايا الحية، ويكسبنا القدرة على العمل.
وتقل مقادير الهواء عامة ومنها الأكسجين بالارتفاع فوق سطح الأرض؛ ولهذا يشعر الإنسان بضيق الصدر عندما يصعد في الجو من غير حماية، أو تكييف خارجي يوفر له نفس مقادير الهواء التي ألفها على سطح الأرض كما في الطائرات، ويعبر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة في إعجاز علمي رائع؛ إذ يقول: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [الأنعام: 125].
والله - تعالى - أعلم