قال الامام محمد بن عبد الوهاب
وأما : ما ذكر لكم عني، فإني لم آته بجهالة، بل أقول – ولله الحمد والمنة وبه القوة – إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، ولست – ولله الحمد – أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم، مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، أو غيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أنّى لا أرد الحق إذا أتاني، بل أُشهد الله وملائكته وجميع خلقه : إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنّها علي الرأس والعين ؛ ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق .
وصفةُ الأمر : غير خاف عليكم ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون وأبتاعهم، والأئمة كالشافعي، وأحمد وأمثالهما ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم ؛ وكذلك ما درج عليه من سبقت له من الله الحسنى من أتباعهم .
وغيرُ خاف عليكم : ما أحدث الناس في دينهم من الحوادث، وما خالفوا في طريق سلفهم، ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غيرّ وبدّل، وسادتهم وأئمتهم وأعلمهم وأعبدهم، وأزهدهم، مثل : ابن القيم، والحافظ الذهبي، والحافظ العماد ابن كثير، والحافظ ابن رجب، وقد أشتد نكيرهم على أهل عصرهم، الذين هم خيرٌ من ابن حجر، وصاحب الإقناع، بالإجماع، فإذا استدل عليهم أهل زمانهم بكثرتهم والإطباق على طريقتهم، قالوا : هذا من أكبر الأدلة على أنه باطل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر : أن أمته تسلك مسالك اليهود، والنصارى حذوا القذة بالقذة ( حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه ).
وقد ذكر الله في كتابه : إنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعاً وأنهم كتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا هذا من عند الله وأنهم تركوا كتاب الله والعمل به، وأقبلوا على ما أحدثه أسلافهم من الكتب، وأخبر أنه وصاهم بالاجتماع وأنهم لم يختلفوا لخفاء الدين بل اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ( فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحين ) (المؤمنون 35) [والزبر : الكتب ]
فإذا فهم المؤمن، قول الصادق المصدوق ” لتتبعن سنن من كان قبلكم ” وجعله قِبْلة قلبه، تَبين له أن هذه الآيات وأشباهها، ليست على ما ظن الجاهلون : أنها كانت في قوم كانوا فبانوا، بل يفهم ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال في هذه الآيات : مضى القوم وما يعنى به غيركم .
وقد فرض الله على عباده في كل صلاة : أن يسألوه الهداية إلى الصراط المستقيم صراط الذين، أنعم عليهم الذين هم غير الغضوب عليهم، ولا الضالين، فمن عرف دين الإسلام، وما وقع الناس فيه من التغيير له، عرف مقدار هذا الدعاء، وحكمة الله فيه .
والحاصل : أن صورة المسألة، هل الواجب على كل مسلم أن يطلب علم ما أنزل الله على رسوله، ولا يُعذر أحد في تركه، البتة ؟ أم يجب عليه أن يتبع التحفة مثلا ؟ فاعلم المتأخرين وسادتهم منهم، كابن القيم : قد أنكروا هذا غاية الإنكار ؛ وأنه تغيير لدين الله ؛ واستدلوا على ذلك بما يطول وصفه، من كتاب الله الواضح، ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم البين، لمن نَور الله قلبه، والذين يجيزون ذلك، أو يوجبونه، يُدلون بشبهٍ واهية، لكن أكبر شبههم على الإطلاق : إنا لسنا من أهل ذلك، ولا نقدر عليه، ولا يقدر عليه إلا المجتهد ؛ وإنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون .
ولأهل العلم في إبطال هذه الشبهة ما يحتمل مجلداً، ومن أوضحه قول الله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) (التوبة 31) وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بهذا الذي أنتم عليه اليوم، في الأصول، والفروع، لا أعلمهم يزيدون عليكم مثقال حبة خردل، بل يُبين مصداق قوله : ” حذو القذوة بالقذوة ” الخ، وكذلك فسرها المفسرون، لا أعلم بينهم اختلافاً، ومن أحسنه : ما قاله أبو العالية، أما إنهم لم يعبدوهم، ولو أمروهم بذلك ما أطاعوهم، ولكنهم وجدوا كتاب الله، فقالوا : لا نسبق علماءنا بشيء، ما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا.
وهذه رسالة : لا تحتمل إقامة الدليل، ولا جواباً عما يُدلي به المخالف، لكن أعرض عليه من نفسي الإنصاف والانقياد للحق، فإن أردتم الرد على بعلم وعدل، فعندكم كتاب أعلام الموقعين، لابن القيم عند ابن فيروز في مشرفة .
فقد بَسط الكلام فيه على هذا لأصل بسطاً كثيراً وسرد من شُبه أئمتكم ما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم، وأجاب عنها، واستدل لها بالدلايل الواضحة القاطعة، منها : أمر الله ورسوله عن أمركم هذا بعينه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصفوه من قبل أن يقع، وحذروا الناس منه، وأخبروا أنه لا يسير على الدين إلا الواحد بعد الواحد، وأن الإسلام يصير غريباً كما بدأ .
وقد علمتم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة في أول الإسلام : من معك على هذا ؟ قال : ” حر وعبد ” يعنى أبا بكر، وبلالاً، فإذا كان الإسلام يعود كما بدأ، فما أجهل من استدل بكثرة الناس، وأطباقهم، وأشباه هذه الشبهة، التي هي عظيمة عند أهلها، حقيرة عند الله، وعند أولي العلم من خلقه، كما قال تعالى : ( بل قالوا مثل ما قال الأولون ) [المؤمنون:81] فلا أعلم لكم حجة تحتجون بها، إلا وقد ذكر الله في كتابه : أن الكفار استدلوا بها على تكذيب الرسل، مثل أطباق الناس، وطاعة الكبراء، وغير ذلك .
فمن منَّ الله عليه بمعرفة دين الإسلام، الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف قدر هذه الآيات، والحجج، وحاجة الناس إليها، فإن زعمتم : أن ذكر هؤلاء الأئمة لهذا لمن كان من أهله فقد صرحوا بوجوبه على الأسود والأحمر، والذكر والأنثى، وأنه ما بعد الحق إلا الضلال، وأن قول من قال ذلك صعب مكيدة من الشيطان، كاد بها الناس عن سلوك الصراط المستقيم، الحنيفية ملة إبراهيم ؛ وإن بان لكم أنهم مخطئون، فبينوا لي الحق حتى أرجع إليه، وإنما كتبت لكم هذا معذرة من الله، ودعوة إلى الله، لأحصل ثواب الداعين إلى الله، وإلا أنا أظن أنكم لا تقبلونه، وأنه عندكم من أنكر المنكرات، من أن الذي يعيب هذا عندكم، مثل من يعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
لكن أنت، من سبب ما أظن فيك من طاعة الله، لا أبعد أن يهديك الله إلى الصراط المستقيم، ويشرح قلبك للإسلام فإذا قرأته : فإن أنكره قلبك فلا عجب فإن العجب ممن تجنى كيف تجنى فإن أصغى إليه قلبك بعض الإصغاء، فعليك بكثرة التضرع إلى الله، والانطراح بين يديه، خصوصاً أوقات الإجابة، كآخر الليل، وأدبار الصلاة، وبعد الأذان .
وكذلك بالأدعية المأثورة، خصوصاً الذي ورد في الصحيح، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول : ” اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ” فعليك بالإلحاح بهذا الدعاء، بين يدي من يجيب المضطر إذا دعاه، وبالذي هدى إبراهيم لمخالفة الناس كلهم، وقل : يا معلم إبراهيم علمني .
وإن صعب عليك مخالفة الناس، ففكر في قول الله تعالى : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ) [الجاثية :18-19] (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) [الأنعام :116]وتأمل قوله في الصحيح : ” بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ” وقوله صلى الله عليه وسلم : ” إن الله لا يقبض العلم ” إلى آخره وقوله :” عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ” وقوله:”وإياكم ومحدثات الأمور، فان كل بدعة ضلالة ” والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة أفردت بالتصنيف .
فإني أحبك، وقد دعوتك لك في صلاتى، واتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم، ولا يمنعني من مكاتبتك إلا ظني أنك لاتقبل، وتسلك مسلك الأكثر، ولكن لا مانع لما أعطى الله، والله لا يتعاظم شيئأ أعطاه، وما أحسنك لو تكون في آخر هذا الزمان فاروقا لدين الله كعمر رضى الله عنة في أوله، فانك لو تكون معنا لانتصفنا ممن أغلظ علينا .