أئمة الطرق الصوفية بين سَلَفِهم وخَلَفِهم «الطريقة النقشبندية نموذجاً»
فيصل بن قزار الجاسم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
فهذا بحث مختصر يقوم على عرض واقع التصوف المتأخر والمتمثِّل بالطرق الصوفية، على طريقة أئمة الصوفية المتقدمين، والغرض منه بيان مباينة طريقة متأخري الصوفية عن طريقة متقدميهم.
وقد اخترت الطريقة النقشبندية لتكون نموذجاً يمثل التصوف المتأخر، وقمت بتعريف مصطلحي: «سلف الصوفية» و«خَلَف الصوفية»، وعرضت معتقد وطريقة الفريقين مدعماً بالنقولات من كتبهم، ثم قمت بعرض طريقة خَلَف الصوفية -ويمثِّلهم النقشبنديون- على طريقة سلف الصوفية المتقدمين.
ولم أُرِد استيعاب جميع الجوانب العقدية أو العملية بين الفريقين، بل اكتفيت بأهمها، كمصدر التلقّي، والتوحيد، والعلم، والاتباع، والموقف من البدع والمحدثات، لأنه أصول الدين، فالخطأ فيها والزلل ليس كالخطأ في غيرها، ولذا لم أُعرِّج على ما يُعرف بشطحات الصوفية، كالرقص، والمشي في الهواء، وضرب السكاكين، لأنها ليست بأعظم من التوحيد، ولأنها فرع عن مصدر التلقّي والاتباع.
وفي نهاية البحث ختمت بخاتمة تُمثِّل النتيجة التي توصلت إليها من خلال هذا العرض.
والحمد لله رب العالمين.
ماذا نعني بـ«التصوف»؟
جاء في الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة في تعريف الصوفية: (التصوُّف: حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنـزعاتٍ فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة كرد فعل مضادٍّ للانغماس في الترف الحضاري. ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقاً مميزة معروفة باسم الصوفية، ويتوخّى المتصوفة تربية النفس والسموِّ بها بغية الوصول إلى معرفة الله - تعالى -بالكشف والمشاهدة، لا عن طريق اتباع الوسائل الشرعية، ولذا جنحوا في المسار حتى تداخلت طريقتهم مع الفلسفات الوثنية: الهندية والفارسية واليونانية المختلفة)[1].
وقال ابن الجوزي: (والتصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي، ثم ترخَّص المنتسبون إليها بالسماع والرقص، فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام لما يُظهرونه من التزهَّد، ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب)[2].
وقد قال الجنيد في تعريف التصوف: (الخروج عن كلِّ خلقٍ رديء، والدخول في كل خلقٍ سنّي)[3].
وقال في موضع آخر: (التصوف تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، ومنازلة الصفات الربانية، والتعلق بعلوم الحقيقة، واتباع الرسول في الشريعة)[4].
وأما مبدأ التصوف فقد قال ابن الجوزي فيه: (كانت النسبة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والإسلام. فيُقال: مسلم ومؤمن، ثم حدث اسم زاهد وعابد، ثم نشأ أقوامٌ تعلَّقوا بالزهد والتعبّد، فتخلّوا عن الدنيا، وانقطعوا إلى العبادة، واتّخذوا في ذلك طريقة تفرّدوا بها، وأخلاقاً تخلَّقوا بها، ورأوا أن أوَّل من انفرد به بخدمة الله - سبحانه وتعالى - عند بيته الحرام رجلٌ يُقال له: صوفة، واسمه الغوث بن مر فانتسبوا إليه لمشابهتهم إيّاه في الانقطاع إلى الله - سبحانه وتعالى - فسُمُّوا بالصوفية)[5].
وخلاصة القول أن التصوف ظاهرة يراد بها التعبد لله - تعالى -، والزهد في الدنيا، والمبالغة في ذلك، وكانت بمثابة ردة فعل لما حصل من انغماس الناس في الدنيا في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث، ثم تطوّر الأمر إلى دخول البدع وتطرقها إلى الصوفية نتيجة قلة اعتنائهم بالعلم.
ولذلك قال ابن الجوزي: (وكان أصل تلبيسه عليهم أن صدهم عن العلم، وأراهم أن المقصود العمل، فلما انطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات)[6].
ماذا نعني بـ«الطرق الصوفية»؟
قال عبد الرحمن عبد الخالق: (الطريقة الصوفية تعني أولاً النسبة إلى شيخ يزعم لنفسه الترقّي في ميادين التصوف، والوصول إلى رتبة الشيخ المربِّي. ويدّعي لنفسه بالطبع رتبة صوفية من مراتب الأولياء عند الصوفية كالقطب والغوث والوتد والبَدَل...إلخ.
ولا بد أن يكون من أهل الكرامات والمكاشفات، ويكون له بالطبع ذكرٌ خاص به... )[7].
وأوّل من أظهر الطرق الصوفية أبو سعيد محمد أحمد الميهمي الصوفي الإيراني تلميذ أبي عبد الرحمن السلمي.
فقد جاء في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة في مبادئ ظهور الطرق الصوفية: (وضع أبو سعيد محمد أحمد الميهمي الصوفي الإيراني (357 ـ 430هـ) تلميذ أبي عبد الرحمن السلمي أوّل هيكل تنظيمي للطرق الصوفية بجعله متسلسلاً عن طريق الوراثة)[8].
وجاء فيها أيضاً: (يمثل القرن السادس الهجري البداية الفعلية للطرق الصوفية وانتشارها حيث انتقلت من إيران إلى المشرق الإسلامي)[9].
من هم سلف الصوفية؟
سلف الصوفية هم أوائلهم الذين كانوا على جادة السنَّة، الذين عاصروا السلف، وأخذوا عنهم العلم، وقد ذكر أبو القاسم القشيري أئمة الصوفية المتقدمين ومشائخهم فعدَّ منهم: إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، وسري السقطي، وبشر الحافي، والحارث المحاسبي وسهل التستري، والجنيد بن محد، وعمرو بن عثمان، وغيرهم إلى أن انتهى بأبي عبد الله بن أحمد بن عطاء الروذباري المتوفى سنة ست وتسعين وثلاثمائة[10].
وعلى هذا فأئمة الصوفية هم الذين عاشوا في القرن الثاني والثالث وأوائل الرابع. وذلك قبل استفحال البدع وتمكنها من الصوفية.
من هم خَلَف الصوفية؟
المراد بخَلَف الصوفية، هم الذين أتوا بعد أبي عبد الرحمن السلمي، وذلك مع نشأة الطرق الصوفية وانتشارها، فالطرق الصوفية يمثلون الخَلَف، وهم الذين ظهرت فيهم رسوم التصوف المتأخرة، كلبس الخرقة، والمريد والشيخ، والذكر الخاص، البناء على قبور الأولياء، ونحو ذلك مما أصبح سمة بارزة في أصحاب الطرق الصوفية.
وجاء في الموسوعة الميسرة للأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة: (ومن أهم ما تتميز* به القرون المتأخرة: ظهور ألقاب شيخ السجادة، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية، والخليفة والبيوت الصوفية التي هي أقسام فرعية من الطرق نفسها مع وجود شيء من الاستقلال الذاتي يُمارس بمعرفة الخلفاء، كما ظهرت فيها التنظيمات والتشريعات المنظمة للطرق تحت مجلس وإدارة واحدة الذي بدأ بفرمان أصدره محمد علي باشا والي مصر يقضي بتعيين محمد البكري خلفاً لوالده شيخاً للسجادة البكرية، وتفويضه في الإشراف على جميع الطرق والتكايا والزوايا والمساجد التي بها أضرحة، كما له الحق في وضع مناهج التعليم التي تُعطى فيها. وذلك كله في محاولة لتقويض سلطة شيخ الأزهر وعلمائه، وقد تطورت نظمه وتشريعاته ليعرف فيما بعد بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية في مصر)[11].
الفصل الأوَّل: الطريقة النقشبندية
نشأة الطريقة النقشبندية:
نشأت الطريقة النقشبندية في القرن الثامن هجري على يد محمد بهاء الدين شاه نقشبند المُتَوفّى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وهو الذي تُنسب إليه الطريقة.
وقد ذكر محمد بن عبد الله الخاني الخالدي النفشبندي: أن الطريقة كانت تُنسب قبلُ إلى عبد الخالق الغجدواني. وقد سُمِّيت الطريقة بـ«المجددية» أو «الفاروقية» نسبةً إلى الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي، وبـ«الخالدية» أيضاً نسبةً إلى خالد النقشبندي الملقب بالطيار ذي الجناحين[12].
ويقول أصحاب الطريقة النقشبندية أن طريقتهم كانت تسمى «الصديقية» نسبةً إلى أبي بكر الصديق، ثم سُميت «الطيفورية» نسبةً إلى أبي يزيد البسطامي واسمه طيفور.
و«نقشبند» في الحقيقة لقب لمحمد بهاء الدين، وقد ذكر محمد أمين الكردي سببين لتلقيبه بنقشبند:
الأول: لانطباع صورة لفظ الله على ظاهر قلبه من كثرة ذكر الله.
الثاني: أنه سُمِّي بذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع كفه الشريف على قلبه فصار نقشاً في القلب[13].
مناطق انتشار الطريقة
كانت الطريقة مقصورة الانتشار في بخارى وما جاورها لكونها المدينة التي عاش فيها مؤسسها نقشبند، ثم انتشرت في بلاد الشام بعد ذلك عن طريق الشيخ خالد النقشبندي بعد أن تلقّى الطريقة من الشيخ عبد الله الدهلوي[14].
تنتشر الطريقة النقشبندية في أماكن كثيرة خصوصاً في بلاد القوقاز وبخاري وسمرقند وتركمان -وهي صحراء في الاتحاد السوفياتي-، وشبه القارة الهندية سابقاً حيث أن سادات الطريقة النقشبندية من تلك البلاد. كما تنتشر الطريقة في معظم البلاد العربية خصوصاً في بلاد الشام[15].
مشائخ الطريقة
من أشهر مشائخ الطريقة: الشيخ عبد الخالق الغجدواني المتوفى سنة خمس وسبعين وخمسمائة للهجرة، ومن تُنسب إليه وهو الشيخ محمد بهاء الدين نقشبند المتوفى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة للهجرة، والشيخ أحمد الفاروقي السرهندي المتوفى سنة أربع وثلاثين وألف للهجرة.
ومن أشهر مشائخهم المتأخرين محمد عثمان سراج الدين الثاني المتوفى سنة سبع عشرة وأربعمائة وألف للهجرة.
أصول الطريقة
لا تختلف الطريقة النقشبندية في أصولها عن الطرق الصوفية الأخرى، والتي تقوم على أمورٍ من الذِّكر والتعبّد مما ليس عليه دليل من الكتاب أو السنَّة، والغلو في المشائخ إلى حد قد يصل إلى تأليههم.
الفصل الثَّاني: أصول التصوف عند سلف الصوفية
أولاً: التوحيد ونبذ الشرك
أئمة الصوفية كانوا على التوحيد الخالص من شوائب الشرك، لا يلتفتون إلا إلى الله - تعالى -، ولا يرجون أحداً سواه، ولا يهتفون إلى باسمه، ولا يستعينون إلا به تبارك وتعالى، وهم بذلك سائرون على الطريق الذي شرعه ربنا تبارك وتعالى، وخطّه النبي r، وهو إفراد الله - تعالى -بالعبادة، كما قال - سبحانه - (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء)[البينة: 5]، وقال - تعالى -: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)[غافر: 65].
ولم يُعرف عن سلف الصوفية استغاثة بميّت أو غائب، وليٍّ أو غيره، ولا ذبح للأولياء، ولا الطواف بقبورهم، ولا طلب المدد والعون من أمواتهم.
وهذا آثار القوم وأقولهم وتراجمهم شاهدة بذلك.
قال يحيى بن معاذ الرازي: (اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول، فلكل واحد منها ضد، فمن سقط عنه وقع في ضده: التوحيد وضده الشرك، والسنَّة وضدها البدعة، والطاعة وضدها المعصية)[16].
وقال الفضيل بن عياض في قوله(لِيَبْلُوَ ُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)[هود: 7]: (أخلصه وأصوبه، فإنه إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً وصواباًَ، والخالص إذا كان لله، والصواب إذا كان على السنَّة)[17].
وكانوا يُقرون بوجود الله - تعالى -وربوبيته وألوهيته، وبأنه لا مثيل له ولا شبيه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. ويميزون بين الخالق والمخلوق، فلا يعرفون وحدة الوجود، ولا اتحاد الخالق بالمخلوق.
وقال أبو القاسم القشيري: (اعلموا رحمكم الله أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع بما وجدوا عليه السلف وأهل السنَّة: من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، وعرفوا ما هو حق القِدَم، وتحققوا بما هو نعت الموجود عن العدم.
ولذلك قال سيِّد هذه الطريقة الجنيد - رحمه الله -: «التوحيد إفراد القِدَم من الحدث».
وأحكموا أصول العقائد بواضح الدلائل، ولائح الشواهد.
كما قال أبو محمد الجريري - رحمه الله -: «من لم يقف على علم التوحيد بشاهد من شواهده زلت به قدم الغرور في مهواة التلف»)[18].
وسُئل الجنيد عن التوحيد فقال: (إفراد الموحَّد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته: أنه الواحد الذي لم يلد ولو يولد، بنفي الأضداد، والأنداد، والأشباه، بلا تشبيه، ولا تكييف، ولا تصوير، ولا تمثيل(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)[الشورى: 11])[19].
وقد ذكر الكلابادي معتقد القوم في أبواب التوحيد، فقال في الباب الخامس: (شرح قولهم في التوحيد: اجتمعت الصوفية على أن الله واحد أحد، فرد صمد، قديمٌ عالمٌ قادرٌ حيٌّ سميعٌ بصيرٌ عزيزٌ عظيمٌ جليلٌ كبيرٌ جوادٌ رؤوفٌ متكبرٌ جبارٌ باقٍ أولٌ إلهٌ سيدٌ مالكٌ ربٌّ رحمن رحيمٌ مريدٌ حكيمٌ متكلمٌ خالقٌ رزاقٌ، موصوف بكل ما وصف به نفسه من صفاته، مُسمّى بكل ما سمّى به نفسه، لم يزل قديماً بأسمائه وصفاته، غير مشبه للخلق بوجه من الوجوه، لا تشبه ذاته الذوات، ولا صفته الصفات، لا يجري عليه شيء من سمات المخلوقين الدالة على حدثهم، لم يزل سابقاً متقدماً للمحدثات، موجوداً قبل كل شيء، لا قديم غيره ولا إله سواه)[20].
وقال في الباب السادس: (شرح قولهم في الصفات: أجمعوا على أن لله صفات على الحقيقة هو بها موصوف، من العلم والقدرة والقوة والعز والحلم والحكمة والكبرياء والجبروت والقدم والحياة والإرادة والمشيئة والكلام، وأنها ليست بأجسامٍ، ولا أعراضٍ، ولا جواهر، كما أن ذاته ليس بجسم، ولا عرض، ولا جوهر. وأنَّ له سمعاً وبصراً ووجهاً ويداً على الحقيقة، ليس كالأسماع والأبصار والأيدي والوجوه.وأجمعوا أنها صفات لله وليس بجوارح ولا أعضاء ولا أجزاء)[21].
وقال معمر بن زياد شيخ الصوفية في عصر أبي نعيم ويحيى بن عمار: (أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنَّة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين، قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف مجهول. وأنه - عز وجل - بائنٌ من خلقه، والخلق بائنون منه، بلا حلول ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة، لأنه الفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق. وأنَّ الله سميع بصير عليم خبير، يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاُ، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، فيقول: هل من داع فأستجيب له، هل من تائب فأتوب عليه، حتى يطلع الفجر، ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأوَّل فهو مبتدع ضال)[22].
ثانياً: التعبَّد
يقوم التصوف عند سلف الصوفية على أساس الزهد في الدنيا والتجافي عنها، والابتعاد عن شهواتها، والتخلي للتعبد والتنسك، وإصلاح السرائر، وأن لا يكون للعبد مقصود سوى الله - تعالى -.
قال معروف الكرخي: (التصوف: الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق)[23].
وذكر الكلابادي كلمات أئمة الصوفية في تعريف التصوف، ثم قال بعد ذلك في بيان ما يعنيه «التصوف»: (وجميع المعاني كلها من التخلي عن الدنيا، وعزوف النفس عنها، وترك الأوطان، ولزوم الأسفار، ومنع النفس حظوظها، وصفاء المعاملات، وصفوة الأسرار، وانشراح الصدور وصفى السباق)[24].
وقال الدكتور إبراهيم هلال: (رغم كثرة التعاريف التي عُرِّف بها التصوف الإسلامي في كتب التصوف وغيرها فإننا نستطيع أن نقول: أن التصوف كما يراه الصوفية في عمومه هو السير في طريق الزهد، والتجرد عن زينة الحياة وشكلياتها، وأخذ النفس بأسلوب التقشف وأنواع من العبادة والأوراد والجوع والسهر في صلاة أو تلاوة ورد. حتى يضعف في الإنسان الجانب الجسدي، ويقوى فيه الجانب النفسي أو الروحي، فهو إخضاع الجيد للنفس بهذا الطريق المتقدم سعياً إلى تحقيق الكمال النفسي كما يقولون، وإلى معرفة الذات الإلهية وكمالاتها، وهو ما يُعبِّرون عنه بمعرفة الحقيقة)[25].
وقد ذكر أبو القاسم القشيري في «الرسالة القشيرية» مقامات الصوفية وأحوالها، كالتوبة، والزهد، والورع، والصدق، والخوف، والرجاء، والصمت، والعزلة، والقناعة، والشكر، واليقين وغير ذلك من المقامات التي لا بد للسالك في طريق التصوف من تحقيقها، وهي في عامتها طرق سنية عليّة، جاءت بها الشريعة المحمدية.
ثالثاً: العلم
من أصول سلف الصوفية اهتمامهم بالعلم، ووصية الأتباع به.
قال الجنيد: (من لم يحفظ القرآن، ويكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مُقيَّدٌ بالكتاب والسنَّة)[26].
وقال علي بن إبراهيم الحداد: حضرت مجلس القاضي أبي عباس بن سريج، فتكلم في الفروع والأصول بكلام حسنٍ عجبت منه، فلما رأى إعجابي قال:
أتدري من أين هذا؟
قلت: يقول به القاضي.
قال: هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد.
وقيل للجنيد: من أين استفدت هذا العلم؟
فقال: من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة تحت هذه الدرجة، وأومأ إلى درجةٍ في داره[27].
وهذا يدل على علم الجنيد وصبره عليه، حتى كان أبو العباس بن سريج يحيل في علمه إلى أنه استفاده من الجنيد.
وقال محمد بن الفضل البلخي: (ذهاب الإسلام من أربعة: أولها: لا يعلمون بما يعلمون، والثاني: يعملون بما لا يعلمون، والثالث: لا يتعلمون ما لا يعلمون، والرابع: يمنعون الناس من التعلم)[28].
وقال أبو يعقوب النهرجوري: (أفضل الأحوال ما قارن العلم)[29].
وقال أبو عمرو بن نجيد: (كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه)[30].
رابعاً: الاتباع وترك الابتداع وتوحيد مصدر التلقّي بالكتاب والسنَّة
ومن أصولهم المهمة التي درجوا على التنويه بها، والتحذير من التنكب عن طريقها: الاتباع للكتاب والسنَّة، والاقتفاء لآثار سلف الأمة، والحذر من البدع والمحدثات. وكلامهم في هذا يطول.
قال شقيق بن إبراهيم: (مرَّ إبراهيم بن أدهم في أسواق البصرة، فاجتمع الناس إليه، فقالوا له: يا أبا إسحاق، إنَّ الله - تعالى -يقول في كتابه:(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ)[غافر: 60]، ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا.
قال: فقال إبراهيم: يا أهل البصرة، ماتت قلوبكم في عشرة أشياء: أولها: عرفتم الله ولم تؤدّوا حقه. الثاني: قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به. والثالث: ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركتم سنته... حتى عد عشراً-)[31].
وقال ذو النون المصري: (من علامة المُحِب لله متابعة حبيب الله في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسننه)[32].
وسئل أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني: كيف الطريق إلى الله؟ فقال: (الطرق إلى الله كثيرة، وأوضح الطرق، وأبعدها عن الشبه: اتباع السنَّة قولاً وفعلاً وعزماً وعقداً، لأن الله - تعالى –يقول(وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور: 54]، فقيل له: كيف الطريق إلى السنَّة؟ فقال: مجانبة البدعة، واتباع ما أجمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام، والتباعد عن مجالس الكلام وأهله، ولزوم طريق الاقتداء، وبذلك أمر النبي بقوله - تعالى – (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً)[النحل: 123])[33].
وقال أبو بكر الترمذي: (لم يجد أحد تمام الهمة بأوصافها إلا أهل المحبة، وإنما أخذوا في ذلك من اتباع السنَّة ومجانبة البدعة، فإن محمداً كان أعلى الخلق همةً، وأقربهم زلفى)[34].
وقال سهل التُّستري: (أصولنا سبعة أشياء: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسنة رسول الله، وأكل الحلال، وكفُّ الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق)[35].
وقال أبو سليمان الداراني: (ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنَّة)[36].
وقال أبو حفص الحداد: (من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنَّة، ولم يتهم خواطره فلا نعُدُّه في ديوان الرجال)[37].
وقال أبو القاسم الجنيد: (مذهبنا هذا مُقيَّد بالكتاب والسنَّة)[38].
وقال أيضاً: (الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول).
وآثار القوم وأقوالهم في هذا الباب كثيرة يصعب حصرها، كلها تدل على اهتمام سلف الصوفية بالاتباع، وتحذير الأتباع من الابتداع والخروج عن قيد الكتاب والسنَّة، وأن الأفعال والأقول إنما توزن بميزان الكتاب والسنَّة.
ولما ذكر الشاطبي آثار عن السلف في ذم البدع والنهي عنها قال: (الوجه الرابع من النقل ما جاء في ذمِّ البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس.
وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر وإن كان فيما تقدم من النقل كفاية لأن كثيراً من الجهال يعتقدون فيهم أنهم متساهلون في الاتباع، وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه، أو يقولوا به، فأوّل شيء بنوا عليه طريقتهم اتباع السنه، واجتناب ما خالفها)[39].