بين يدي رمضان (1)
الشيخ: محمد إسماعيل المقدم
إن حكمة الله -جل وعلا- اقتضت أن يجعل هذه الدنيا مزرعةً للآخرة، وميداناً للتنافس, وكان من فضله -عز وجل- على عباده وكرمه أن يجزي على القليل كثيراً، ويضاعفَ الحساب، ويجعلَ لعباده مواسم تعظم فيها هذه المضاعفة؛ فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرَّب فيها إلى مولاه بما أمكنه من وظائف الطاعات، عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات؛ فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات، قال الحسن -رحمه الله- في قول الله -عز وجل-: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (الفرقان: 62)، قال: «من عجز بالليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن عجز بالنهار كان له من الليل مستعتب».
أعظم المواسم
ومن أعظم هذه المواسم المباركة وأجلِّها شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن المجيد؛ ولذا كان حريًا بالمؤمن أن يحسن الاستعداد لهذا القادم الكريم، ويتفقه في شروط العبادات ومستحباتها وآدابها المرتبطة بهذا الموسم الحافل؛ لئلا يفوته الخير العظيم، ولا ينشغل بمفضول عن فاضل، ولا بفاضل عما هو أفضل منه.
استبشار بالقريب
أخي المسلم: استحضر في قلبك الآن أحب الناس إليك، وقد غاب عنك أحد عشر شهراً، وهب أنك بُشِّرتَ بقدومه وعودته خلال أيام قلائل، كيف تكون فرحتك بقدومه، واستبشارك بقربه، وبشاشتك للقائه؟
أول الآداب الشرعية
إن أول الآداب الشرعية بين يدي رمضان، أن تتأهب لقدومه قبل الاستهلاك، وأن تكون النفس بقدومه مستبشرة ولإزالة الشك في رؤية الهلال منتظرة، وأن تستشرف لنظره استشرافها لقدوم حبيب غائب من سفره؛ إذ إن التأهب لشهر رمضان والاستعداد لقدومه من تعظيم شعائر الله -تبارك وتعالى- القائل: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحـج: 32).
العزم على تعميره بالطاعات
يفرح المؤمنون بقدوم شهر رمضان ويستبشرون، ويحمدون الله أن بلَّغهم إياه، ويعقدون العزم على تعميره بالطاعات، وزيادة الحسنات، وهجر السيئات، وأولئك يبشَّرون بقول الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس: 58)؛ وذلك لأن محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله -عز وجل-، قال -تعالى-: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } (التوبة: 124)؛ فترى المؤمنين متلهفين مشتاقين إلى رمضان، تحن قلوبهم إلى صوم نهاره، ومكابدة ليله بالقيام والتهجد بين يدي مولاهم، وتراهم يمهدون لاستقبال رمضان بصيام التطوع ولاسيما في شعبان.
قصة جارية
باع قوم من السلف جارية لهم لأحد الناس؛ فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان – كما يصنع كثير من الناس اليوم –؛ فلما رأت الجارية ذلك منهم، قالت: «لمـاذا تصنعون ذلك؟»، قالوا: «لاستقبال شهر رمضان»؛ فقالت: «وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟ والله لقد جئت من عند قوم السَّنَةُ عندهم كأنها كلَّها رمضان، لا حاجة لي فيكم، رُدُّوني إليهم»، ورجعت إلى سيدها الأول.
إلا الصوم
سمع المؤمنون قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال -تعالى-: «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي» (الحديث رواه مسـلم)؛ فعلموا أن الامتناع عن الشهوات لله -عزوجل- في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة، كما أشار إلى ذلك مفهوم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها، حُرِمَها في الآخرة» (متفق عليه), وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» (متفق عليه)، وقوله - صلى الله عليه وسلم-: «من ترك اللباس تواضعاً لله، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من أي حلل الإيمان شـاء يلبسها» (رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي).
قصة سرية
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبو موسى على سرية في البحر؛ فبينما هم كذلك، قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة، إذا هاتف فوقهم يهتف: «يا أهل السفينة ! قفوا أخبركم بقضاء الله على نفسه» فقال أبو موسى: «أخبرنا إن كنت مخبراً»، قال: «إن الله -تبارك وتعالى- قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف، سقاه الله يوم العطش» (رواه البزار، وحسنه المنذري)، وفي رواية عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: «إن الله قضى على نفسه أن من عطَّش نفسه لله في يوم حار، كان حقًا على الله أن يَرْوَيه يوم القيامة»، قال: «فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر الذي يكاد الإنسان ينسلخ فيه حراً فيصومه» (رواه ابن أبي الدنيا).
باب الريان
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائـمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم؛ فإذا دخلوا أغلِق؛ فلم يدخل منه أحد؛ فإذا دخل آخرهم أغلق، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً».
قل: آمين
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتاني جبريل؛ فقال: يا محمد، من أدرك أحد والديه، فمات فدخل النار؛ فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: يا محمد، من أدرك شهر رمضان، فمات فلم يُغفر له، فأُدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: ومن ذُكِرتَ عنده فلم يصل عليك، فمات، فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين» (رواه الطبراني في (الكبير)، وصححه الألباني).
لا تعجب فرمضان فرصة نادرة
فهل تعجب أخي المؤمن أن جبريل ملك الوحي يقول في هذا الحديث، وفيما رواه مسلم: «من أدرك شهر رمضان ولم يُغفر له باعده الله في النار» ثم يؤمِّن خليل الرحمن الصادق - صلى الله عليه وسلم - على دعائه؟!، وأي عجب ورمضان فرصة نادرة ثمينة فيها الرحمة والمغفرة، ودواعيها متيسرة، والأعوان عليها كثيرون، وعوامل الفساد محدودة، ومردة الشياطين مصفَّدون، ولله عتقاء في كل ليلة، وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النيران مغلقة؛ فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذاً؟، ولا يهلك على الله إلا هالك، ومن لم يكن أهلاً للمغفرة في هذا الموسم؛ ففي أي وقت يتأهل لها؟ ومن خاض البحر اللجاج ولم يَطَّهَّرْ فماذا يطهره؟!.
إذا الروْض أمسى مُجْدِباً في ربيِعِه ففي أي حينٍ يستنيرُ ويُخْصِبُ؟
الاستعداد لرمضان
لقد بيَّن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - اختلاف سعى الناس في الاستعداد لرمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بمحلوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان، وذلك لما يُعِدُّ المؤمنون فيه من القوة للعبادة وما يُعد فيه المنافقون من غَفلات الناس واتباع عوراتهم, هوغَنْمٌ للمؤمن يغتنمه الفاجر». (أخرجه الإمام أحمد، ونسبه ابن حجر في «التعجيل» إلى صحيح ابن خزيمة، وصححه العلامة أحمد شاكر رقم8350).
خير الشهور
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - من طريق آخر مرفوعاً: «أظلَّكم» أي أشرف عليكم، وقرب منكم «شهركم هذا بمحلوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ما مَرَّ بالمؤمنين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، إن الله -عز وجل- ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يُدخِله، ويكتب إصره – أي إثمه وعقوبته – «وشقاؤه من قبل أن يدخله»؛ لأنه يعلم ما كان وما يكون «وذلك أن المؤمن يُعِدُّ فيه القوة للعبادة من النفقة، ويعد المنافق اتباع غفلة الناس واتباع عوراتهم؛ فهو غنم للمؤمن، يغتنمه المنافق» (رواه الإمام أحمد والبيهقي والطبراني في الأوسط، وابن خزيمة في صحيحه، وسكت عنه المنذري، وأورده الهيثمي، وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، عن تميم مولى ابن رمانة ولم أجد من ترجمه) اهـ.