فقه الأسماء الحسنى(1) منزلة العلم بأسماء الله -تعالى- وصفاته


الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر



إنَّ الفقه في أسماء الله الحسنى باب شريف من العلم، بل هو الفقه الأكبر، وهو يدخل دخولاً أوَّلياً ومقدماً في قوله[: «من يُرد الله به خيراً يُفقِّهه في الدين» (متفق عليه)، وهو أشرف ما صرفت فيه الأنفاس، وخير ما سعى في تحصيله ونيله أولو النُّهَى والرشاد، بل هو الغاية التي تسابق إليها المتسابقون، والنهاية التي تنافس فيها المتنافسون، وهو عماد السير إلى الله، والمدخل القويم لنيل محابِّه ورضاه، والصراط المستقيم لكلِّ من أحبَّه الله واجتباه.
وكما أنَّ لكلِّ بناء أساساً؛ فإنَّ أساس بناء الدِّين الإيمانُ بالله -سبحانه- وبأسمائه وصفاته، وكلَّما كان هذا الأساس راسخاً حمل البنيان بقوة وثبات، وسَلِم مِنَ التداعي والسقوط، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: من أراد علوَّ بنيانه؛ فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدَّة الاعتناء به؛ فإنَّ علوَّ البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه؛ فالأعمال والدرجات بنيانٌ وأساسها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقاً حمل البنيان واعتلى عليه، وإذا تهدَّم شيءٌ من البنيان سهل تداركه، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت، وإذا تهدَّم شيء من الأساس سقط البنيان أو كاد.
تصحيح الأساس وإحكامه
فالعارف همَّته تصحيح الأساس وإحكامه، والجاهل يرفع في البناء عن غير أساس؛ فلا يلبث بنيانه أن يسقط، قال -تعالى-: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}(التوب ة: 109)؛ فالأساس لبناء الأعمال كالقوة لبدن الإنسان؛ فإذا كانت القوة قوية حملت البدن ودفعت كثيراً من الآفات، وإذا كانت القوَّة ضعيفة ضعف حملها للبدن وكانت الآفات إليه أسرع شيء.
أساس الإيمان
فاحمل بنيانك على قوَّة أساس الإيمان؛ فإذا تشعث شيء من أعالي البناء وسطحه، كان تداركه أسهل عليك من خراب الأساس، وهذا الأساس أمران: صحَّة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته، والثاني: تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه؛ فهذا أوثق أساس أسَّس العبدُ عليه بنيانه، وبحسبه يعتلي البناء ما شاء.
دلائل القرآن الكريم
ولذا كثرت الدلائل في القرآن الكريم المرسِّخةُ لهذا الأساس المثبِّتةُ لهذا الأصل، بل لا تكاد تخلو آية من آياته من ذكرٍ لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا؛ مما يدل دلالة واضحة على أهميةِ العلم بها والضرورة الماسَّة لمعرفتها، وكيف لا يتبوَّأ هذه المكانة المنيفة وهو الغاية التي خُلِق الناسُ لأجلها وأُوجدوا لتحقيقها؛ فالتوحيد الذي خلق الله الخلق لأجله نوعان:
توحيد المعرفة والإثبات، وهو يشمل الإيمان برُبوبية الله والأسماء والصفات.
وتوحيد الإرادة والطلب، وهو توحيد العبادة.
دلَّ على الأوَّل قوله -تعالى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}(الطلاق: 12).
ودلَّ على الثاني قوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(ا لذاريات: 56).
في الأولى خَلَق لتعلموا، وفي الثانية خلق لتعبدوا؛ فالتوحيد علم وعمل، وجاء في القرآن آيات كثيرة فيها الأمر بتعلم هذا العلم الشريف والعناية بهذا الأصل العظيم، قال الله -تعالى-: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(البقرة: 209)، وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(البقرة: 231)، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(البقرة:2 33)، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(البقرة: 235)، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(البقرة: 244)، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}(البقرة: 267)، وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(المائدة : 98)، وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}(الأن فال: 40)، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(ا لبقرة: 194)، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}(ال بقرة: 235)، وقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}(محمد: 19). والآيات في هذا المعنى تقارب الثلاثين آية.
ذكر الله لأسمائه وصفاته
وأمَّا ذكر الله لأسمائه وصفاته في القرآن فهو كثير جداً، ولا يقارن به ذكره -سبحانه- لأيِّ أمر آخر؛ إذ هو أعظم شيء ذُكِر في القرآن وأفضُله وأرفعُه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة، والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظمُ قدراً من آيات المعاد؛ فأعظم آية في القرآن آية الكرسي المتضمنة لذلك، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لأبيّ بن كعب: «أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}؛ فضرب بيده في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر».
أفضل سورةٍ
وأفضل سورةٍ سورةُ أمّ القرآن، كما ثبت ذلك في حديث أبي سعيد بن المعلى في الصحيح، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : «إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزَّبور ولا في القرآن مثلها، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أُوتيتُه»، وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظم مما فيها من ذكر المعاد، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن، وثبت في الصحيح أنه بَشَّر الذي كان يقرؤها ويقول: إني لأحبها؛ لأنها صفة الرحمن: بأن الله يحبه؛ فبيَّن أن الله يحب من يحب ذكر صفاته -سبحانه وتعالى-، وهذا بابٌ واسع.
أصل من أصول الإيمان
وكل هذا واضح الدلالة على أهمية هذا العلم الشريف وعظم شأنه وكثرة خيراته وعوائده، وأنه أصل من أصول الإيمان، وركن من أركان الدين، وأساس من أُسُس ملة الإسلام، عليه تبنى مقامات الدين الرفيعة ومنازله العالية، وكيف يستقيم أمر البشرية وتصلح حال الناس دون معرفتهم بفاطرهم وبارئهم وخالقهم ورازقهم، ودون معرفتهم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ونعوته الكاملة الدالة على كماله وجلاله وعظمته، وأنه المعبود بحق ولا معبود بحق سواه؟ ولكن أكثر الناس شغلهم ما خُلِق لهم عما خُلِقوا له، وقد حذر الله عباده من ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(ا لمنافقون: 9)، والله المستعان والموفِّق لكلِّ خير.
فضل العلم بأسماء الله -تعالى- وصفاته
لا ريب أن العلم بأسماء الله وصفاته أشرف العلوم الشرعية، وأزكى المقاصد العلية وأعظم الغايات السَّنية؛ لتعلُّقه بأشرف معلوم وهو الله -عز وجل-؛ فمعرفته -سبحانه- والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجل علوم الدين كلها، وإرادة وجهه أجل المقاصد، وعبادته أشرف الأعمال، والثناءُ عليه بأسمائه وصفاته ومدحُهُ وتمجيدُه أشرفُ الأقوال، وذلك أساس الحنيفية ملَّة إبراهيم -عليه السلام-، وهو الدين الذي اجتمع عليه النبيِّون جميعهم، وعليه اتفقت كلمتهم، وتواطأت مقالتهم، وتوارد نصحهم وبيانهم، بل إنه أحد المحاور العظيمة التي عليها ترتكز دعوتهم من أولهم إلى خاتمهم محمد -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، أُرسِلوا بالدعوة إلى الله -عزَّ وجل-، وبيان الطريق الموصل إليه، وبيان حال المدعوين بعد وصولهم إليه؛ فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل ملة على لسان كل رسول.
دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم
وفي هذا يقول العلاَّمة ابن القيِّم -رحمه الله-: إن دعوة الرسول تدور على ثلاثة أمور: تعريف الربِّ المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله، الأصل الثاني: معرفة الطريقة الموصلة إليه، وهي ذكره وشكره وعبادته التي تجمع كمال حبّه وكمال الذلّ له، الأصل الثالث: تعريفهم ما لهم بعد الوصول إليه في دار كرامته من النعيم الذي أفضله وأجله رضاه عنهم وتجلّيه لهم ورؤيتهم وجهه الأعلى وسلامه عليهم وتكليمه إياهم.
المطلب العظيم
وقال في شأن بيان خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم لهذا المطلب العظيم: فعرَّف الناس ربهم ومعبودهم غاية ما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، وأبدى وأعاد، واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله، حتى تجلَّت معرفته -سبحانه- في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشك والريب عنها كما ينجاب السحاب عن القمر ليلة إبداره، ولم يَدَع لأمَّته حاجة في هذا التعريف لا إلى من قبله ولا إلى من بعده، بل كفاهم وشفاهم وأغناهم عن كل من تكلم في هذا الباب {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الع نكبوت: 51)، كيف لا؟ وهو القائل صلى الله عليه وسلم : «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلاَّ هالك» رواه أحمد وابن ماجه.

من الأسس العظام
وبهذا يدرك المسلم شرف هذا العلم وفضلَه، وأنَّه من الأسس العظام التي قامت عليها دعوات المرسلين، وأنه السبيل الوحيد لعزِّ العبد ورفعته وصلاحه في الدنيا والآخرة، وعليه؛ فإن من في قلبه أدنى حياة أو محبة لربه وإرادة لوجهه وشوق إلى لقائه؛ فطلبه لهذا الباب وحرصه على معرفته وازدياده من التبصر فيه وسؤاله واستكشافه عنه، هو أكبر مقاصده وأعظم مطالبه وأجل غاياته، وليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنَّة إلى شيء من الأشياء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، ولا فرحها بشيء أعظم من فرحها بالظفر بمعرفة الحق فيه”