الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، (وبعد) :
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
هذا الحديث الكريم أخرجه البخاري رحمه الله من طريق واحد ، ألفاظه فيها متقاربة ، وأخرجه مسلم رحمه الله من أربع طرق ، والحديث لا شك أصل من أصول الدين ؛ كيف لا وهو المبين دعائم أو مبانى وأركان دين المسلم ، وقد آثرت أن أطرح هذا الموضوع (أيُّ إسلام؟) في هذا الوقت تحديدا أي قبيل رمضان ؛ لنعرف كيف نقيم أركان ديننا ، وليكن صيام رمضان هو النموذج العملي القريب في ذلك ، وهذا لا يعني إغفال باقي الأركان ، بل أدعي أن ترتيب الأركان أيضا ليس عشواء ، بل مقصود ، فكل ركن ينبني على ما قبله ، وأساس وركن الأركان جميعا التوحيد.
وأعني بقولي (أي إسلام؟) : بيان كيف نقيم بهذه الأركان الخمسة ديننا ، وإسلامنا لربنا ، ولا يمكن لأحدنا ذلك إلا أن يفهم مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك ؛ لذلك لما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتوحيد قال : (فاعلم أنه لا إله إلا الله) ؛ إذ الفهم والفقه الصحيح لحقيقة التوحيد وقضاياه
ومسائله ، هو السبيل لعمل صحيح بمقتضاه ، وما أوتينا في هذه الأزمان خصوصا إلا من الفهم الخاطئ ،
ولما كانت أركان الإسلام هي دعائم الدين وأركانه -أي التي يقوم عليها ، فهي مبدؤه وأساسه ومنشؤه- ، اهتم العلماء قديما وحديثا ببيانها وشرحها وبيان حقيقتها ومقتضياتها ، وكان لزاما على كل مسلم أن يعرفها ، ويتعلمها ، ليحقق الإسلام الذي أراده الله تعالى ربه منه ، فتعالوا إخواني لنشرع في ذلك ، وكلي رجاء في الله أن ييسر ويفتح بفتحه سبحانه ، وأن تكون تلك الكلمات نافعة للمسلمين عبر المكان والزمان ، وأن يتقبل سبحانه مني ذلك ، رب يسر وأعن يا كريم.
أولا/ لماذا جعلت تلك الخمسة دون غيرها أركانا للإسلام؟
اعلم رحمني الله وإياك أن البنيان : أساس ، وبناء ، وأركان الإسلام هي أساسه كما سبق ، ولا يمكن بحال أن نبني طوابق ، ثم أبنية فى كل طابق منها ، ثم نجعل لكل بناء غُرفه وملحقاته ، دون حامل يحمل ذلك كله ، وهذه الخمسة التي جاءت في الحديث هي المحققة لأصل حرية الإنسان من كل معبود سوى الله تعالى ، وحبه وتعظيمه وخضوعه وذله وعبوديته له تعالى وحده ، فمن ضيعها كان لغيرها أضيع ، ولم يَقُم إسلامه ، فلو أن إنسانا منافقا أو مراء -مثلا- أمر بالجهاد في سبيل ربه تعالى ، فهو واحد من اثنين لا ثالث:
فإما أن يخرج على ما هو عليه من حال الرياء والنفاق ، فيكون بذلك عابدا لهواه وليس لله ، فهذا إسلامه لغير ربه تعالى ، ولا يخفي قبيح ما هو عليه ، وشنيع ما تنطوي علي نيته وسريرته .
وإما أن لا يخرج ويؤثر حياته وراحته ، فإسلامه كذلك لغير الله تعالى ، إنما باع نفسه للشيطان وهواه فأهلكها ، ثم كيف يتسنى له ذلك وهو لم يقم على أصل الإسلام ومبناه ، فعبد ماله لما لم ينفقه في سبيل ربه ومولاه ، ومن لم يَجُد بماله ، لم يجد بنفسه ولابد ، هذا مثال وبه يتضح المقال .
أما الأركان الحمسة فتحقق أصل الحرية من كل معبود سوى الله تعالى ،
(فركن التوحيد) ، يحرر -بإذن الله تعالى- القلب والجوارح من التوجه لغير الله تعالى بعمل ، لتكون خالصة لوجهه سبحانه .
(وركن الصلاة) ، يحرر القلب والجوارح
-بإذن الله تعالى- من الخضوع لأمر أحد من الطواغيت أو المعبودات سوى الله تعالى .
(وركن الزكاة) ، يحرر القلب والجوارح
-بإذن الله تعالى- من عبودية المال والدرهم والدينار والقطيفة والخميصة .
(وركن الصيام) ، يحرر القلب والجوارح -بإذن الله تعالى- من عبودية الطعام والشراب وسائر الشهوات .
(وركن الحج) ، يحرر القلب والجوارح -بإذن الله تعالى- من أي عبودية مالية أو بدنية لغير الله تعالى .
ويلاحظ تميز هذه الأركان الخمسة بثلاثة أمور قد لا تجتمع في غيرها :
الأول :
أن هذه الأركان -ومن ثم غيرها- قيامها ، على أساس الإيمان ، والمراقبة ، والمجاهدة ، فلا يتصور من أحد إسلام ولا إسلام صحيح دون تحقيق الإيمان بالله تعالى الذي له يكون الإسلام ، وإذا فقد الإنسان المؤمن المراقبة غاب عن حقيقة الإسلام وغابت حقيقته عنه ، وإذا لم يستفرغ وسعه في المجاهدة في تحقيق تلك الأركان فما عداها لم ينفعه إيمانه .
الثاني :
أن هذه الأ ركان اشتملت على ما كان من العبادات بدنيا وما كان منها ماليا ، وشَمَلت القلب واللسان والجوارح ، فبنت أصل الإسلام ومهدت لتمامه .

الثالث :
أن هذه الأركان روعي فيها مبدؤ الوحدة ؛ فهي أصل وحدة المسلمين ؛ إذ وحدت عقيدتهم ، وتوجههم ، ووقبلتهم ، وشعائرهم ، وشرائعهم.
ثانيا/ كيف يقيم المسلم تلك الأركان؟
البعض يظن أن إقامة هذه الأركان مجرد أداء جارحي ، وهذا من أعظم الخطإ ؛ لأن هذه الأركان لا حقيقة لها إن لم يسع القلب في تحقيقها ؛ لتنقاد الجوارح له في ذلك ، وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أصل في ذلك ، وذلك معناه -أيضا- وجوب إقامة القلب على حقيقة تلك الأركان من دوام التزام الحب والتعظيم والخضوع والذل بالتوحيد والطاعة لله تعالى ، وإن لم يكن المسلم على حال الأداء البدني لتلك الأركان ، بل قد يؤديها جارحيا ولا علاقة له بها ولم يقم شيئا منها ، إن هو لم يقم على حقائقها ومقتضياتها ، ومثال ذلك :
(الصلاة) ، فقد مدح الله تعالى المصلين وذمهم في كتابه تعالى .
(الزكاة) ، فمدح تعالى المتصدقين وذمهم في كتابه .
و(الصيام والحج) لا تخفى النصوص فيهما ،
(وأخيرا) ، لا يعد المسلم مقيما لتلك الأركان ومن ثم دينه إن لم يلتزم أداءها البدني على وفق ما بينته الشريعة ، ويقيم على التزام معانيها وحقائقها أبدا.
وفقنا الله لمرضاته.