هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم العقيدة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد روى الشيخان من حديث عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل فقال: ((يا معاذ بن جبل!)) قلت: لبيك رسول الله وسعديك! ثم سار ساعة، ثم قال: ((يا معاذ بن جبل!)) قلت: لبيك رسول الله وسعديك! ثم سار ساعة، ثم قال: ((يا معاذ بن جبل!)) قلت: لبيك رسول الله وسعديك! ثم سار ساعة، ثم قال: ((هل تدري ما حق الله على العباد؟)) قال: قلت الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً))، ثم سار ساعةً، ثم قال: ((يا معاذ بن جبل!)) قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: ((هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم! قال: ((أن لا يعذبهم)).
وفي هذا الموقف، تتجلى لنا بعض المعاني في هديه - صلى الله عليه وسلم - في تعليم العقيدة، منها:
1 - اغتنامه - صلى الله عليه وسلم - للفرص في إيصال معاني التوحيد لأصحابه - رضي الله عنهم وأرضاهم-، حتى ولو كان ذلك في حال ركوب الدابة!..
وهكذا شأن الداعية الموفق، فلا ينفك عن الدعوة إلى التوحيد في جميع أحواله: حضراً وسفراً، راكباً وماشياً، صحيحاً ومريضاً، وسيأتي وقفات مستقلة - إن شاء الله - مع بعض المواقف التي تجلي حرصه على الدعوة في هذه الأحوال من حياته - صلى الله عليه وسلم -.
إن من تأمل هذا الموقف مع معاذ، وموقف نبي الله يوسف في دعوة السجناء، وقبلهم نوحٌ - عليهم جميعاً الصلاة والسلام - في دعوته لابنه حتى آخر لحظة من حياة ابنه - أدرك جيداً أن الدعوة هي وظيفة لا تقبل التوقف، وأنه لا يمنعهم منها مانع، فإن حيل بينه وبينها بقلم أو لسان، كان ثباته عليها، دعوةً بذاتها، خاصةً في الأزمان والأحوال التي يكثر فيها الجهل، والناكصون على أعقابهم، والمهونون من شأن الدعوة إلى التوحيد، بأعذار كثيرة معروفة.
2 - التشويق لسماع واستيعاب ما يراد طرحه من مسائل مهمة، كمسائل الاعتقاد، وهذا ما يلاحظ من تكرير السؤال من النبي - صلى الله عليه وسلم - على معاذ، ثم ترك الجواب، وإعطائه فرصةً ليفكر فيه، وقع هذا ثلاث مرات، وهذا الأسلوب في عرض المسائل - فيما وقفت عليه من أحاديث - من النوادر.
ويستفاد من هذا أن على داعية التوحيد أن ينوع في الأساليب في دعوته إلى هذه العقيدة، وأن يجتهد في التشويق بكل ما يقدر من أساليب ممكنة، ومحاولة الاستفادة من جميع الوسائل الممكنة لتقريب هذا العلم العظيم: اللغوية، والأدبية، والبيانية، والفنية، والتقنية، وغيرها.
3 - سياق الحديث يوحي بنوع اختصاص لمعاذ بهذا الحديث، بدليل قول معاذ: أفلا أبشر الناس؟ وجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - له بقوله: ((لا تبشرهم فيتكلوا)).
وفي هذا فائدتان في بيان هديه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب:
الأولى: أن من العلم - وخصوصاً في باب الاعتقاد - ما لا يشاع لعامة الناس، بل يؤخر نشره إلى أن يناسب الحال نشرَه وبثّه، وهذا يختلف باختلاف البلدان، والأحوال، والأشخاص، وهذا الهدي النبوي باقٍ إلى يوم القيامة.
وهذا كما هو هديه - صلى الله عليه وسلم - في الأقوال، فهو هديه - أيضاً - في الأفعال، كما في قصة ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -.
وسيراً على هذا الهدي كان بعض أئمة السنة - كالإمام أحمد - يكره التحديث بأحاديث الصفات عند العامة.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
الثانية: وهي وثيقة الصلة بما قبلها، أن للعالم أن يخص بعض نجباء طلابه ببعض العلم، إذا كان الطالب يفقه أبعاد الخطاب ومراميه.
وقد بوب البخاري - رحمه الله - على هذا في صحيحه بقوله: "باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا"، ثم أورد تحت هذا الباب قولَ عليٍّ - رضي الله عنه -: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله".
وفائدة ذلك أن يتصل العلم، ولا ينقطع بموت العالم، ويبقى في الطلاب من يتحمل مسؤولية البلاغ بعد ذلك، ناهيك عن الأثر النفسي الرائع الذي يتركه هذا الاختصاص.
4 - تأمل كيف قرن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين العمل والترك في تحقيق التوحيد، فلا يكفي مجرد البراءة من الشرك، بل لا بد من عمل، وهذا ظاهرٌ جليٌّ في جمعه - صلى الله عليه وسلم - بين العبادة وترك ما يضادها حين قال: ((أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)).
والمراد بالعبادة: عمل الطاعات، واجتناب المعاصي، وعطف اجتناب الشرك دقيقه وجليله، لقوله: ((شيئاً)) في سياق النهي.
والحكمة في ذلك - كما ذكر بعض أهل العلم-: "أن بعض الكفرة كانوا يدعون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا يعبدون آلهة أخرى، فاشترط نفي ذلك".
وهذا معنى ما يقرره أئمة السنة، من أن الإيمان: قول وعمل، فلابد من جنس العمل، إذ لا يتصور إيمان بلا عمل، أو أنه يكفي في الإيمان مجرد التصديق، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلو ذلك؟)) فنص على الفعل.
وللحديث صلة - إن شاء الله -