شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة الجمعة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (141)
صـــــ(1) إلى صــ(22)
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم).
ثالثا: أننا وجدنا الصحابة قد فهموا اللزوم للغسل، وذلك أن عثمان رضي الله عنه دخل وعمر يخطب في الناس يوم الجمعة،
فقال له عمر: (أي ساعة هذه؟) أي: ما بك وما شأنك قد تأخرت عن الجمعة؟
فقال: (يا أمير المؤمنين! ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت وقدمت فقال: والوضوء أيضا) كأنه ينكر عليه، فدل على أن الغسل كان معروفا أنه لازم لصلاة الجمعة، وعلى هذا فإنه يقوى القول بالوجوب.
ثم إن دليل النظر يقوي هذا القول، وهو أنه إذا لم يغتسل أضر بالناس، وذلك بحصول النتن، وإن كان النتن منه يسيرا فاليسير مع اليسير من غيره كثير، والجبال من دقائق الحصى، ومعنى هذا أن دفع هذا الضرر مطلوب شرعا، وبناء عليه فإنه يعتبر أشبه ما يكون بالوجوب واللزوم منه إلى السنة.أما الغسل للجمعة فإنه أفضل ما يكون عند إرادة الخروج، فهذا أفضل ما يكون،
فمثلا: لو كان يخرج الساعة التاسعة أو العاشرة، فإنه يؤخر غسل يوم الجمعة إلى هذه الساعة؛ لأنه إذا أخر غسله إلى هذه الساعة حقق مقصود الشرع من حصول النظافة والنقاء،
ومن ثم قال العلماء: الأفضل في غسل الجمعة أن يقع قريبا جدا من الخروج، ولكن إذا كان غسله عند الخروج فيه ضرر عليه كأن يكون في شدة برد، فإنه لا حرج أن يقدمه بوقت على قدر ما يدفع به الضرر عن نفسه.لكن لو أن إنسانا صلى الفجر واغتسل، أو طلعت عليه الشمس واغتسل، فهل يصدق عليه أنه حقق الواجب من غسل الجمعة؟ الذي يقوى ويظهر أن هذا الغسل ينبغي أن يكون قريبا من الخروج،
وذلك للرواية في الصحيح: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)،
فيكون مطلق قوله: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) مقيدا بقوله: (إذا أتى أحدكم الجمعة)، خاصة وأنه يفهم من النص أو الأمر بهذا الغسل أن يكون نقيا لصلاة الجمعة، فلو أنه اغتسل قبل الجمعة بوقت ربما زال هذا المعنى، فيعتريه ما يعتري الإنسان من العرق ونحو ذلك، فيذهب المقصود من غسله ليوم الجمعة.
قال رحمه الله تعالى: [وتقدم]: أي: تقدمت صفة الغسل، وهذه العبارة تعقب فيها صاحب المتن بأن فيها نظرا، وليس المراد أنها فاسدة من كل وجه،
فإذا كان الكلام مستقيما والحجة مستقيمة وقال الخصم: (فيه نظر)، فإن قوله هذا يكون مكابرة وعنادا، وقد يكون الكلام فيه احتمال الخطأ،
فقولهم: (فيه نظر) يعنى أنه يحتمل الخطأ، أو فيه خلل في ضابط من ضوابطه أو أصل من أصوله الذي اعتمدها.فقول المصنف: [وتقدم] لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قوله: [وتقدم] أي: تقدم أنه مسنون، وهذا احتمال، وحينئذ على هذا الوجه يكون الذي تقدم حكم غسل الجمعة.
وإما أن يكون معناه: تقدمت صفة الغسل، أو تقدم بيان الغسل، أو بيان ما يتحقق به الغسل الذي يسن.فإن كان معنى قوله: [وتقدم] أي: تقدم أنه مسنون،
فهذا هو الذي جعلهم يقولون: (فيه نظر)؛ لأنه في باب غسل الجنابة لم يذكر أن غسل الجمعة سنة،
فيكون قول الشارح: (فيه نظر)، أي: إن تقدم حكم غسل الجمعة بأنه سنة ففيه نظر.
والواقع أن المصنف رحمه الله قصد بقوله: [وتقدم] بأنه تقدم ضمنا ولم يتقدم صراحة، وتوضيح ذلك أنه لما تكلم في باب الغسل ذكر من موجباته خروج المني دفقا، وتغييب الحشفة، وإسلام الكافر، والحيض إلى آخره، ولم يذكر يوم الجمعة، فلما لم يذكر الجمعة مع الموجبات فهمنا أن غسل الجمعة مسنون وليس بواجب، وهذه إشارة خفية، ومن هنا لم يتبين لمن تعقب المصنف رحمه الله وجه كونه قدم الحكم، والواقع أنه قدم الحكم، ولكن قدمه بدقة.
وإن كان مراده بقوله: [وتقدم] أي: تقدم بيان ما يتحقق به الغسل المعتبر، فقد تقدم، فإنه في الغسل بين ما يتحقق به الغسل في باب غسل الجنابة، وبناء على ذلك فلا وجه لتعقب صاحب المتن،
وكلامه صحيح ومعتبر على الوجهين: إن قلنا: أراد الحكم، فلا إشكال.
وإن قلنا: أراد الصفة، فلا إشكال.
[التنظف والتطيب]
قال رحمه الله تعالى: [ويتنظف ويتطيب].هذا الأمر بالنظافة يفهم منه الأمر بالغسل، وذلك أنه لما أمر الشرع بالغسل فإن معنى ذلك أن يتنظف الإنسان، وهذا صحيح، فإننا نأخذ الأحكام إما من منطوق الشرع، أو مما نفهمه من الشرع، وهذا من الفقه، فإنه إذا جاء النص يأمرنا بغسل الجمعة فإننا نفهم أن المراد أن يكون الإنسان على نظافة ونقاء، إضافة إلى أن الأصل في شهود المساجد ودخولها أن يكون الإنسان على نقاء،
يقول تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف:31]،
فقوله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف:31] مما يتضمن الزينة المطلقة، سواء أكانت زينة البدن التي يصحبها نقاؤه ونظافته، أم الزينة التي يراد بها ستر العورة، وقد استدل العلماء رحمهم الله بهذه الآية على اشتراط ستر العورة، وقد تقدم معنا.قوله: [يتنظف].الغسل قد يكون فيه نظافة وقد لا يكون فيه نظافة، فالإنسان قد يبل جسده بأن يدخل في بركة ويغتسل ولكن لا يتنظف، بمعنى أنه لا يدلك جسده، ولا يبالغ في إزالة الشعث عنه، فالنظافة فوق الغسل، وبناء على ذلك فإن السنة والأفضل للإنسان أن يبالغ في نظافة جسده حتى يكون محققا لمقصود الشرع من زوال الأذى الذي يتضرر به الناس، وهو وجود الرائحة الكريهة.
وقوله: [ويتطيب].الطيب هو الرائحة، ويشمل الطيب الذي يكون سائلا، أو يكون له رائحة كالبخور والند والعود، ونحو ذلك، فهذا كله من الطيب، والطيب من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (ومس من طيب أهله)، وهذا يدل على أن السنة أن يتطيب الإنسان،
وقد جاء في حديث فضل المضي إلى الجمعة: (ومس طيبا) أي: يمس من طيبه طيب بيته أو طيب أهله،
وقالوا: التعبير بطيب الأهل لأن الإنسان إذا أراد أن يتجمل على أبلغ ما يتجمل فإنه يتجمل لزوجه، ولذلك اختار هذا النوع من الطيب الذي يكون به أبلغ ما يكون في زينته، وأحسن ما يكون في رائحته،
وكأنه لما قال: (طيب أهله) لأن الإنسان لا يحب أن يضر أهله عند نومه معهم ونحو ذلك، كذلك أيضا في مخالطته لإخوانه، فإنه يتطيب بأحسن ما يجد من الطيب وأفضله.
[لبس أحسن الثياب]
قال رحمه الله تعالى: [ويلبس أحسن ثيابه].
لأنه يوم عيد، والجمعة عيد الأسبوع، ولذلك يلبس أحسن ما يجد، وهي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الإنسان إذا أراد شهود صلاة الجمعة، أو الصلاة عموما فالأفضل له أن يلبس أحسن ما يجد.ومن الأخطاء الشائعة عند الناس اليوم -وينبغي أن ينبهوا لها- شهود بعض الناس المساجد بملابس نومهم، فهذا أمر لا ينبغي، وهو يخالف أمر الله عز وجل بأخذ الزينة عند دخول المساجد، وإذا رأيت إنسانا يدخل المساجد بهذه الثياب تنبهه، ولا مانع أن تبالغ في بيان أن هذا الأمر لا ينبغي للإنسان الذي يقف بين يدي الله عز وجل، فإنه لو مضى إلى مقابلة إنسان عظيم فإنه يتجمل ويلبس أحسن ما يجد، ولوجد في نفسه المنقصة أن يخرج بمثل هذه الثياب، والأصل عند العلماء وضوابط العلماء التي قرروها أنه لو خرج الإنسان بالثياب الداخلية أمام الناس والملأ عامة فضلا عن المسجد فإنه تسقط عدالته، ويعد هذا من خوارم المروءة، فالذي يخرج بثياب نومه أمام الناس في الشارع، فضلا عن أن يدخل بيت الله عز وجل والمساجد التي يشهدها الناس على اختلاف طبقاتهم فإنه قد حرم مروءته.ومن الحياء والخجل أن يخرج الإنسان بثياب نومه إلى بيوت الله عز وجل، فينبغي إجلال هذه البيوت،
قال تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع} [النور:36]، ولذلك ينبغي للإنسان أن يشهدها وهو على أحسن وأفضل ما يكون،
قال عليه الصلاة والسلام: (ما على أحدكم أن يتخذ ليوم جمعته ثوبين سوى ثوبي مهنته) أي: ما عليه من ضرر لو أنه جعل ثوبا لمهنته، وثوبا لجمعته، مع أن ثياب المهنة يقابل بها الناس، فكيف إذا كان بثياب بيته التي لا يقابل بها الناس؟ ولو أنه دعي لمقابلة إنسان يكرمه ويجله ويعظمه لما خرج بثياب نومه، ولأحس هذا الإنسان أنه يزدريه وينتقصه، فكيف بالله جل جلاله؟! ولذلك ينبغي للإنسان أن يظهر نعمة الله عز وجل عليه.كما أن خروج الناس بمثل هذه الثياب فيه أثر نفسي على الأبناء والأطفال، فإن الأبناء والأطفال إذا رأوا آباءهم، أو رأوا كبار السن يخرجون بمثل هذه الثياب إلى المساجد احتقروا أمر الصلاة، وتقالوا أمر المساجد، ولكنهم إذا رأوهم يأخذون زينة المساجد تأسوا بهم واقتدوا بهم، فكان شعورا نفسيا يعين على إجلال بيوت الله عز وجل ومساجده، وإجلال شعائره التي من أعظمها الصلاة،
قال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فعلى الأئمة والخطباء أن ينبهوا الناس، وإذا رأيت إنسانا يصلي بجوارك وعليه هذه الثياب تنبهه،
وإذا كان الإنسان له مكانة لا مانع أن تقرعه وتقول: إن هذا لا ينبغي،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فالحياء يدعو الإنسان ألا يخرج بمثل هذه الثياب؛ لأن هذه ثياب البيت.
التبكير في الذهاب إلى الصلاة مشيا
قال رحمه الله تعالى: [ويبكر إليها ماشيا].هذه هي السنة،
لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا وأنصت)، فقوله: (من بكر وابتكر) قالوا: بكر على وزن (فعل)، وهذه الصيغة تدل على زيادة المبنى، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى،
قالوا: إن هذا يدل على تكلف البكور، والبكور في أول النهار، واختلف العلماء رحمة الله في التبكير للجمعة متى يكون؟ فمنهم من يرى أن التبكير للجمعة يكون من بعد الزوال، كما هو قول طائفة من فقهاء المدينة من السلف رحمة الله عليهم، وبه يقول إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمة الله على الجميع.والقول الثاني أن التبكير يكون من أول النهار، وهو مذهب الجمهور، فيمشي من بعد طلوع الشمس.
بل قال بعضهم: لو صلى الفجر وجلس كان أبلغ في التبكير،
أي: لو أنه بعد صلاة الصبح، وبعد رجوعه إلى بيته وإصابته لطعامه خرج إلى مسجده، فهذا أبلغ ما يكون من البكور.وإن كان الأقوى أنه بعد طلوع الشمس؛ لأن فيه الساعات الأول التي فيها الفضل،
والتي سبق بيانها وأنه: (من خرج في الساعة الأولى كان كأنما قرب بدنة ... ) الحديث، فهذا الفضل لا يكون إلا للمبكر، وهو الذي يخرج في أول الساعات.فالفضل يكون في البكور، ولأن البكور فيه مسارعة للخير ومسابقة إليه، والله سبحانه وتعالى ندب عباده إلى المسارعة والمسابقة إلى الخير،
فقال سبحانه: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة:148]،
وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} [آل عمران:133]، فالذي يسارع إلى الجمعة يسارع إلى مغفرة من ربه، والذي يسابق إلى الجمعة يسابق إلى مغفرة من ربه، وإلى جنة عرضها السماوات والأرض؛ لأن دافعه إلى ذلك رجاء رحمة الله، ورجاء عفوه ومغفرته ورضوانه، فالفضل في التبكير للجمعة، وأعظم الناس أجرا في الجمعة أبعدهم إليها ممشى، وأسبقهم إليها تبكيرا.
[الدنو من الإمام]
قال رحمه الله تعالى: [ويدنو من الإمام].
لأنه في القديم كانت المساجد لا يوجد فيها الأجهزة التي يبلغ فيها الصوت، فكلما دنوت من الإمام كلما كان ذلك أدعى لسماعك، والمقصود من الجمعة أن تسمع الموعظة، ولذلك من أفضل ما يكون للعبد يوم الجمعة أن يكون تأثره بالخطيب بليغا، حتى ولو كانت خطبته لا يجد فيها تلك الفصاحة وتلك البلاغة، لكن ينبغي أن يتفاعل مع ما يقوله الخطيب وما يأمر به من أوامر الله وما ينهى عنه من زواجر الله، فإنه إذا فعل ذلك، وتأثر بما يقوله الخطيب فإنه من أفضل الناس وأعظمهم أجرا، وكان العلماء رحمهم الله يستبشرون للعبد بذلك، ويعدونه من دلائل الإيمان.وما جعلت هذه المنابر، وما أمر الأئمة بإلقاء الخطب عليها إلا للعمل وللتأثر بما يقولون، فإذا رزق الله العبد أذنا صاغية وقلبا واعيا، فإن هذا من نعم الله عليه،
وقد كانوا يقولون: من أعظم الناس أجرا يوم الجمعة أفضلهم تأثرا بقول الخطيب.
وكان بعضهم يقول: إن من دلائل القبول أنه إذا وجد نفسه في الخطبة تتأثر وينكسر قلبه ويخشع، وربما يبكي، ويحس أن هذه الزواجر تقرعه وتذكره وتعظه، وأنها تنصحه، ويجد لها وقعا بليغا على قلبه، فليحمد الله، عز وجل على عظيم نعمة الله عليه، فهذا من نعم الله، ومما يخص الله به من شاء من عباده.
وقد اختلف العلماء في مسألة وهي: لو أن الإنسان يوم الجمعة كان في بادية، أو في مكان ليست فيه أجهزة مكبر الصوت، فلو أنه جاء مبكرا فأدرك الصف الأول في طرفه بحيث لا يسمع الخطبة، ويمكنه أن يأتي في الصف الثاني فيسمع الخطبة، فهل الأفضل أن يكون في الصف الأول مع بعده عن سماع الإمام، أم يكون في الصف الثاني مع سماعه وتأثره؟
ومثل هذه المسألة أيضا: صلاة الفجر،
فقد اختلفوا فيها: هل الصف الثاني أفضل إذا كان الصف الأول أبعد عن الإمام بحيث لا يسمع قراءته، أم الفضيلة للصف الأول وإن لم يسمع قراءة الإمام؟
فبعض العلماء يقول: إن قربه من الإمام ولو كان في الصف الثاني أو الثالث أو الرابع أفضل من الصفوف الأول، ويرجح ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء:78]،
فقالوا: إن هذا يدل على فضل هذه القراءة،
خاصة وقد قيل: إن الفجر تشهده الملائكة وقيل: إنه يشهده الله عز وجل، أي أن النزول إلى السماء الدنيا يستمر إلى قراءة الفجر إعظاما لهذه الصلاة.والصحيح: أن قوله: {كان مشهودا} [الإسراء:78]،
معناه: تشهده الملائكة؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار يجتمعون في صلاة الصبح والعشي) التي هي صلاة العصر،
فقوله: {كان مشهودا} [الإسراء:78] معناه: تشهده الملائكة.
وفائدة الخلاف أن من يقول: الأفضل أن يكون في الصف الثاني والثالث مع السماع والتأثر،
يقول: السماع والتأثر مقصود من الشرع، فكأن صلاة الجمعة قصد منها أن يسعى الإنسان ويتأثر، فيحقق بذلك مقصود الشرع والنفع بها متعدد، خاصة وأنها من جنس العلم، والصف الأول من جنس العبادة، والعلم مقدم على العبادة، ففضل العلم مقدم على العبادة.
ومن يقول: الصف الأول أفضل، فذلك لعموم النصوص.
وثانيا: أن الصف الأول فضيلته متصلة،
أي: أنه يتصل بنفس فعل الصلاة، والسماع لا يعتبر في كل الصلاة وإنما في بعضها، فإذا صلى الصلاة كلها في الصف الأول فالفضيلة كاملة له، لكن السماع لا يكون إلا في حال الخطبة، ولا يكون إلا في حال القراءة، كما في صلاة العشاء يكون في الركعتين الأوليين، وفي صلاة المغرب في ثلثي الصلاة وهما الركعتان الأوليان.
فقالوا: الأفضل أن يصلي في الصف الأول.والحقيقة أن الصف الأول أفضل من جهة النص ومن جهة المعنى، ومقصود الشرع من ناحية الفائدة، فإن القرب من الإمام أفضل، لكن والحمد لله مع وجود الوسائل الموجودة الآن لا شك أنه يرتفع الخلاف، ويكون الصف الأول أفضل مطلقا؛ لأنه يسمع الإمام ويصيب فضيلة الصف الأول.
[قراءة سورة الكهف يوم الجمعة]
قال رحمه الله تعالى: [ويقرأ سورة الكهف في يومها].
أي: السورة التي ذكرت فيها قصة أهل الكهف، وتسمى سور القرآن بما يذكر فيها،
وقد اختلف السلف في ذلك: فبعضهم يقول: لا يقال: سورة الكهف، ولا يقال سورة البقرة، وإنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة، أو السورة التي يذكر فيها الكهف.
والصحيح أنه يجوز أن يقال: سورة الكهف، وسورة البقرة؛
لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر شفاعة القرآن قال: (تقدمهم سورة البقرة وآل عمران)،
وقال: (من قرأ الآيتين من آخر البقرة في ليلته كفتاه)،
فهذ يدل على مشروعية تسمية السورة مباشرة بقوله: سورة البقرة، وسورة آل عمران، ونحو ذلك.وذكره قراءة سورة الكهف لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث -وحسنه غير واحد من الأئمة- قوله: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطي نورا كما بين السماء والأرض)، وهذا يدل على فضل قراءة هذه السورة يوم الجمعة.
وللعلماء وجهان في قراءتها: فمنهم من يقول: تقرأ في ليلة الجمعة، ولا حرج أن يقرأها في الليل أو النهار فهو بالخيار.
ومنهم من يقول: لا تكون قراءتها في الليل، وإنما بين طلوع الشمس إلى غروبها.ويفضل بعض العلماء أن تكون قبل الصلاة، بمعنى أن تكون ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الجمعة، وهذا أقوى وذلك لأنه يكون في أول النهار، فلما يقرأ القرآن تكون عبادته معينة له على صلاة الجمعة وحضور القلب، فكلما شهد الإنسان الجمعة وهو أكثر خيرا وأكثر برا كلما كان أكثر تأثرا وأكثر انتفاعا وأرجى للقبول من الله عز وجل، ولكن لا حرج لو قرأها بعد صلاة الجمعة، أو بعد العصر.وينبغي أن ينبه على أنه لا يعتقد الفضل لوقت معين بعينه لقراءة هذه السورة، فلو قال إنسان: لا تقرأ هذه السورة إلا في الساعة الأولى من الجمعة، فإن تحديده لهذه الساعة بدعة، وذلك لأنه أحدث؛ لأن الشرع أطلق وهو قيد، ولا يجوز تقييد المطلقات من الشرع إلا بدليل يدل على هذا التقييد.
قال العلماء: سبب تخصيص سورة الكهف بالقراءة يوم الجمعة لما فيها من ذكر ابتداء الخلق، وكذلك لما فيها من ذكر مآل الناس من مشاهد يوم القيامة وعرصات يوم القيامة، ولما فيها من التزهيد في الدنيا وضرب الأمثال على حقارة الدنيا، خاصة قصة صاحب البستان، وما كان منه من كفر نعمة الله عز وجل عليه، وكيف أن الله انتقم منه لما كفر نعمة الله سبحانه وتعالى،
وبيان حقيقة الدنيا بقوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك} [الكهف:46]، فكون الإنسان يقرأ مثل هذه الآيات، ويتأثر بها ويحس أنها تخاطبه لا شك أن هذا يدل على فضل هذه السورة، وكذلك ما اشتملت عليه من الدعوة إلى طلب العلم وفضل طلب العلم -كما في قصة الخضر وموسى- كل هذا يدل على فضل هذه السورة لما تشتمل عليه من معان جليلة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر الجمعة بسورتي السجدة والإنسان،
قالوا: لما فيهما من ذكر الآخرة، والتذكير بمآل الناس يوم القيامة من نعيم وجحيم.
يتبع