تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 13 من 16 الأولىالأولى ... 345678910111213141516 الأخيرةالأخيرة
النتائج 241 إلى 260 من 307

الموضوع: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

  1. #241
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (241)

    صـــــ(1) إلى صــ(27)


    أركان العمرة وما يتعلق بها من أحكام

    قال المصنف: [وأركان العمرة: إحرام]
    الركن الأول: الإحرام للعمرة بنية الدخول في النسك


    قوله: (وأركان العمرة: إحرام) تقدم هذا في أركان الحج، وأن مذهب طائفة من أهل العلم: أن الإحرام ونية الدخول في النسك يعتبر ركناً من أركان الحج والعمرة، فلا يحكم بدخول الإنسان في النسك إلا بها، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) وهي ركن من أركان الحج وركن من أركان العمرة، وقد تقدم بيان ضابط الإحرام، وبيان ما ينبغي للإنسان أن يلتزمه إذا نوى الدخول في نسك الحج ونسك العمرة.
    الركن الثاني: الطواف

    قال المصنف: [وطواف]قوله: (وطواف)، فالطواف في العمرة يعتبر ركناً من أركانها، فلا يحكم للإنسان بكونه معتمراً إلا إذا طاف بالبيت، فلو جاء وأحرم من الميقات وسعى بين الصفا والمروة ورجع إلى بلده فإن عمرته لم تكتمل، ويلزمه أن يرجع ويطوف بالبيت، ثم يعيد السعي؛ لأن السعي لا يصح إلا إذا تقدمه طواف كما تقدم تفصيله في موضعه.

    الركن الثالث: السعي بين الصفا والمروة


    قال: [وسعي]أي: السعي بين الصفا والمروة، فإن السعي يعتبر ركناً من أركان العمرة، وهذا على مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.


    واجبات العمرة وما يتعلق بها من أحكام


    قال المصنف: [وواجباتها: الحلاق] الواجب الأول: الحلق أو التقصير للمعتمر


    أي: أن من واجبات العمرة الحلاق، والمراد بالحلاق هنا: أن يحلق أو يقصر، وسواء أخذ بالرخصة وهي التقصير، أو أخذ بالأفضل وهو الحلق، فالمراد بذلك أن يتحلل من عمرته.
    الواجب الثاني: الإحرام من الميقات

    قال المصنف: [والإحرام من ميقاتها، فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه].أي: أن من واجبات العمرة: الإحرام من الميقات، فإن الإحرام من الميقات لازم في العمرة كما هو لازم في الحج كما لا يخفى.
    فمن ترك نية الدخول في العمرة وهو الذي عبر عنه بالإحرام لم ينعقد نسكه، فلو أن سائلاً سألك فقال: مررت بالميقات ولكنني لم أنو، ومضيت إلى مكة وطفت وسعيت؟ تقول: لست بمعتمر، وطوافك وسعيك نافلة ولا يعتد به، وإنما العمرة أن تنوي الدخول في النسك، وعلى هذا فإنه لا ينعقد الإحرام بدون وجود هذه النية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، وقد تقدم بيان الأدلة على اعتبار النية بالدخول في العبادة حينما تكلمنا على مسائل الإحرام.


    حكم من ترك ركناً من أركان العمرة غير الإحرام

    قال المصنف: [ومن ترك ركناً غيره]أي: ومن ترك ركناً غير الإحرام لم ينعقد نسكه إلا به، فنحن نقول: إن المعتمر إذا ترك الطواف بالبيت أو ترك السعي بين الصفا والمروة فإنه ليس بمعتمر، ولو جامع أهله قبل أن يطوف الطواف المعتبر، أو قبل أن يسعى السعي المعتبر حكم بفساد عمرته، وعليه المضي في هذه العمرة الفاسدة إتماماً لها على ظاهر نص آية البقرة، ثم يلزم بقضاء عمرته الفاسدة بعد انتهائه منها كما سبق بيانه.

    حكم من ترك النية في ركن من أركان الحج والعمرة


    قال المصنف: [أو نيته لم يتم نسكه إلا به]أي: أنه إذا لم ينو قبل أداء الركن، كأن يطوف بالبيت دون أن ينوي أنه عن طواف عمرته، أو لم ينو عن طواف الإفاضة فإنه لا يجزيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ، وهذا مبني على قول طائفة من أهل العلم في أن الأركان تحتاج إلى نية، فأركان الحج ينبغي أن يستحضر الحاج النية عند الابتداء بها، ومن أهل العلم من اختار أن الحج له نية واحدة تجزي عن سائر أفعاله، ولا يرى أن النية تتجدد بتجدد الأركان أو الواجبات، والأول أقوى وأجزم للأصل، ولا شك أن المسلم إذا التزم به أنه أبرأ لذمته وأورع له في عبادته، وبناء على هذا القول فلابد إذا أراد أن يطوف طواف الإفاضة أن ينوي، فلو لم ينو عند طوافه بالإفاضة لم يجزه ذلك الطواف عن الإفاضة، ولم يقع ركناً على الوجه المعتبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل اعتبار العبادة موقوفاً على وجود النية المعتبرة، فإذا لم ينوها فإننا لا نحكم باعتبار طوافه ولا باعتبار سعيه، ونحوها من الأركان اللازمة.

    حكم من ترك واجباً من واجبات الحج والعمرة


    قال المصنف: [ومن ترك واجباً فعليه دم]أي: أن من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة فعليه دم، والأصل في ذلك فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال بعض أهل العلم: الأصل في ذلك حديث كعب بن عجرة ، وهذا الحديث حاصله: أن كعب بن عجرة يوم الحديبية رضي الله عنه وأرضاه لما حُمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من على وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أُرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى، أتجد شاة؟ قال: قلت: لا، ثم نزلت آية الفدية) ، قالوا: فأمره بالدم أولاً، وكان هذا بمثابة الأصل، وهو أن الإخلالات أو الخروج من الواجبات أو الوقوع في المحظورات إنما يفتدى فيه بالدم، فنزلت آية الفدية استثناء من الأصل وبقي ما عداها من الواجبات اللازمة على الأصل الموجب لضمانها بالدم.
    ثم إن حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه، انتزع من آية التمتع وجوب الدم على من ترك الواجب، وتوجيه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أوجب على من جاء بالعمرة في أشهر الحج -وبقي بمكة ثم أحرم بالحج من مكة- إن كان آفاقياً أن يريق دماً، وبالإجماع على أن المتمتع يلزمه الدم بشروط التمتع المعروفة، على ظاهر آية البقرة في التمتع، قالوا: فوجب على الآفاقي إذا تمتع أن يريق دم التمتع، وهذا الدم إنما وجب عليه؛ لأنه كان الفرض عليه بعد انتهائه من عمرته أن يرجع ويحرم بالحج من ميقاته، فلما ترك هذا الواجب ألزمه الشرع بالدم ضماناً له، ويدل على هذا أن أهل مكة حينما يتمتعون من مكة يتمتعون بالحج والعمرة، فيوقعون العمرة في أشهر الحج ويهلون بالحج بعدها ولا يجب عليهم الدم؛ لأنهم أحرموا بالنسكين من الموضع المعتد به، وأما الآفاقي فإنه يلزم بالدم، فدل تفريق الشرع بين الآفاقي وبين المكي في الإلزام بالدم، أن ذلك مبني على وجود السفر من الآفاقي؛ والسبب في هذا السفر إنما هو الواجب عليه من كونه يحرم من الميقات، قالوا: وعلى هذا كانت فتواه المشهورة، ويروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح: (من ترك شيئاً من نسكه فليهرق دماً) .
    ثم قالوا أيضاً: إن الشرع أوجب على من كان به الأذى في رأسه، فهذا كعب بن عجرة يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض معذور من الشرع، قد دلت الأدلة على أن مثله يستحق أن يخفف عنه، ومع ذلك ألزمه الشرع بالفدية، قالوا: فإذا كان هذا المعذور عند تركه لهذا المحذور وحلق رأسه، أو أخل بالمحذور الذي ينبغي أن يلتزم تركه في إحرامه، ألزمه الشرع بالفدية التي فيها الدم، فمن باب أولى من يتعمد الإخلال، إذ لا يعقل أن تقول لإنسان يترك الواجب من دون عذر: لا شيء عليك، وتقول لمن هو معذور: يجب عليك واحد من ثلاثة: أن تطعم ستة مساكين، أو تصوم ثلاثة أيام، أو تذبح شاة، مع أن الله عذره وقال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا )[البقرة:196] قالوا: فأصول الشرع تقوي فتوى ابن عباس .
    ثم إننا وجدنا جماهير السلف رحمهم الله، ومنهم الأئمة الأربعة، وأتباع الأئمة الأربعة كلهم يفتون: أن من ترك الواجب فعليه دم، ولا شك أن مخالفة هذا السواد الأعظم من الأمة مع فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وعدم وجود من خالفه من الصحابة رضوان الله عليهم أمر لا يخلو من نظر، وعلى هذا درج جماهير السلف والخلف رحمهم الله على إلزام من ترك الواجب بالدم، وعليهم انعقدت فتاوى أئمة الإسلام، فقل أن تجد من أسقط الدم عمن ترك الواجب، وهو الذي اشتهر وذاعت الفتوى به، خاصة وأن له منتزعه من دليل الكتاب وظاهر حديث كعب بن عجرة الذي ذكرنا.
    فقوله: (ومن ترك واجباً فعليه دم) أي: يلزمه دم، والدم هنا نكرة، وليس المراد به كل دم، وإنما المراد الواجب عليه شاة، وهذه الشاة تذبح بمكة ولا تذبح بغيرها؛ لأنه دم واجب، كما أوجب الله في قتل الصيد الذي هو إخلال في النسك، أن يكون هدياً بالغ الكعبة، فيجب عليه أن يكون بمكة، وهذا الدم يسمونه: دم الجبران في الواجبات، والأصل في إيجابه أنه منتزع من آية التمتع، والمتمتع لا يصح منه أن يريق دمه خارج مكة، قال صلى الله عليه وسلم: (نحرت هاهنا وفجاج مكة وشعابها كلها منحر)، فدل هذا على أنه ينبغي أن يتقيد بهذا الدم بمكة، ويكون طعمة للمساكين فهو دم واجب عليه كالهدي الواجب في قتل الصيد.

    حكم من ترك سنة من مسنونات الحج والعمرة


    قال المصنف: [أو سنة فلا شيء عليه]
    أي: من ترك السنة فلا شيء عليه؛ ولكن بشرط: أن لا يتركها رغبة عنها، فإذا تركها -والعياذ بالله- زهداً فيها وانتقاصاً لها ورغبة عنها فإنه يستغفر ويتوب إلى الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل هذه الرغبة عن السنة مذمومة فقال: (من رغب عن سنتي فليس مني) والقاعدة في الأصول: أن الذم لا يستحق إلا على ترك واجب أو فعل محرم. فلما كانت الرغبة عن السنة محرمة قال صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي) أي: زهد فيها (فليس مني) أي: ليس على هديي الكامل).

    الأسئلة


    حكم من تجاوز الميقات

    السؤال: من تجاوز الميقات ناسياً أو جاهلاً، فوصل إلى مكة في وقت ضيق لا يمكنه معه العودة إلى الميقات، فهل يسقط عنه الدم؟ وإذا كان ليس لديه قدرة مالية على ذبح الدم فماذا عليه؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:
    ظاهر السؤال أنه تجاوز الميقات ناسياً، وعلى هذا ظاهره أنه لم يحرم، فإذا كان قد نسي ومضى وبلغ البيت وطاف وسعى فإنه ليس بمحرم أصلاً، وحينئذٍ لا تنعقد عمرته ولا ينعقد حجه. فإذا كان على هذا الوجه فإنه لم يحرم من الميقات؛ فالسؤال: ماذا يفعل إذا غلب على ظنه أنه لو رجع إلى الميقات يفوته الوقوف بعرفة؟
    مثال: لو أن إنساناً خرج من المدينة ومرَّ بالميقات ولم يلبِّ -نسي أن يحرم- ثم وصل إلى مكة فتذكر، وكانت بينه انتهاء وبين وقت الوقوف ساعة أو ساعتين، فلو قلنا له: ارجع إلى المدينة، فاته الوقوف بعرفة.
    فالحل في هذه الحالة: أن ينوي ويلبي ويعقد النية من موضعه، ثم يلزمه الدم؛ لفوات الواجب الذي ذكرناه. وعلى هذا فإن الإحرام من الميقات الإلزام به من جهة الحكم الوضعي، ويستوي فيه الناسي والمتعمد، فإن أمكنه أن يتدارك تدارك، وإن لم يمكنه التدارك فإنه يجبره بالدم، وفوات الواجب أهون من فوات الركن، وعليه فإنه يحرم من موضعه ثم يدرك الحج وعليه دم الجبران، وإلا صام عنه على الأصل الذي ذكرناه في ضمان دم الجبران بالصيام.
    وأما إذا كان جاهلاً وعلم فإنه يلزمه الرجوع ثم يحرم من الميقات أيضاً، ويعقد نيته المعتبرة من الميقات، فإن رجع على هذا الوجه ولم يحرم دون الميقات سقط عنه الدم؛ لأن من مرَّ بالميقات ثم ذكِّر أو علِّم ورجع إلى الميقات وأحرم منه سقط عنه الدم. وهذا على قول جماهير أهل العلم رحمهم الله؛ فإن كان جاهلاً وتعلم ورجع إلى الميقات وأحرم منه سقط عنه الدم، وإن كان جاهلاً وتعلم وأحرم من دون الميقات فحكمه حكم الناسي إذا أحرم من دون الميقات سواء بسواء، إلا أنه في حال الجهل والنسيان يسقط عنه الإثم؛ لوجود العذر -على الظاهر- وإن كان في الجاهل نظر؛ لأنه في هذا العصر يتيسر سؤال العلماء والرجوع إليهم، وأهل العلم ينصون على أن من تلبس بالعبادة يجب عليه سؤال أهل العلم عن كيفية تطبيقها، فإذا قصر في السؤال لم يخل من نظر موجب للتبعية من جهة هذا التقصير. والله تعالى أعلم.

    سبب اختيار ركنية الإحرام


    السؤال: لماذا جعل المصنف رحمه الله الإحرام ركناً للحج والعمرة، مع أن الإحرام هو نية، ومن المعلوم أن النية شرط وليست بركن؟

    الجواب: هذا إشكال معروف ذكره العلماء رحمهم الله، ويتناظرون فيه بين القولين المشهورين: من يرى أن النية من الواجبات، ومن يرى أنها ركن، ولكن لما توقف اعتبار العبادة عليها كانت أشبه بالركنية من هذا الوجه، خاصة وأن من يقول: إنها ليست بركن يقول: الركن ما تتوقف عليه ماهية الشيء، فالركن لا تتوقف عليه الماهية من حيث الوجوب كأركان البيع كما هو واضح ولا يخفى، فقالوا: إن النية من هذا الوجه أشبه بالواجبات والشروط منها بالأركان، والقول بكونها ركناً مبني على أن فواتها فوات للعبادة، والعبادة لا تقع أصلاً بدونها، وكانت شبهيتها بالركن من هذا الوجه، وكأنهم نزلوا الصورة الحكمية في الشرع منزلة الصورة الوجودية في النظر، وقولهم قوي من هذا الوجه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف، وإلا فهناك من أهل العلم من يرى أنها من الواجبات أو الشروط، لكن القول بالركنية له حظه من النظر الذي ذكرناه، وعليه فإنها تكون من الأركان لوجود الشبهية من جهة حكم الشرع بعدم الاعتداد بدونها، فنزل منزلة الفقد للاعتبار منزلة الفقد للوجود؛ فكانت أشبه بالركن، وتوقف الماهية عليها من هذا الوجه. والله تعالى أعلم.


    وصية لطالب العلم

    السؤال: تألمنا كثيراً لغيابك عنا، فنرجو أن لا تقطع تواصلك بنا. وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: الله يعلم إنا نحبكم كما تحبونا، ويعلم الله كم يحصل في النفس من شوق وحب للقائكم، ووالله إني لآتي في مشقة السفر وعنائه والله يعلم أنه يزول جميع ما بي حين أراكم، وأسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى كما جمعنا في هذا البيت الطيب الطاهر المبارك أن يجمعنا في دار كرامته، وأن يجعل كل لقاء من هذه اللقاءات اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا ولا منا ولا معنا أبداً شقياً ولا محروماً، ووالله إنه ليصيب الإنسان الهم والغم، ويجد من لأواء الفتن والمحن ما الله به عليم، ولم يبق سلوة إلا بذكر الله، والجلوس مع الأحبة والإخوان في الله، وأسأل الله العظيم أن يديم هذا التواصل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.
    وخير ما أوصي به: إرادة وجه الله العظيم، فإن الدنيا فانية، وكم من أحبة اجتمعوا وآلَ اجتماعهم إلى افتراق، وكم من أحبة تواصلوا وآلت صلتهم إلى فرقة وشتات؛ لأنها لم تقم على ذكر الله، والمحبة فيه، والتواصل في ذاته، ولقد وجبت محبة الله للمتزاورين والمتحابين والمتجالسين فيه، وتأذن الله لمن جلس مجلس ذكر لله وفي الله أن تغشاه السكينة، وأن تتنزل على هذه المجالس الرحمة، وأن يذكرها الله فيمن عنده.
    ومما ينبغي أن نتواصى به: شكر الله على نعمه، فإن الله عز وجل اختار الدنيا لمن أحب وكره، ومن أراد الدنيا صرفه الله إليها وفتح له من أبوابها وخيراتها وفتنها حتى لا يبالي به في أي أوديتها هلك -نسأل الله السلامة والعافية- ولكن الله لا يعطي الدين إلا لمن أحب، ومن أعظم الدين وأجله وأزكاه وأنفعه: العلم النافع، والجلوس في حلق الذكر، وغشيان حلق العلماء، وحبهم والتواصل معهم، وتكثير سواد مجالس الذكر لله وفي الله لا رياء ولا سمعة، ولكن لمرضاة الله عز وجل.
    ومما يوصى به طلاب العلم: شكر الله على نعمه وحمده سبحانه، فكل مجلس يمر عليك احمد الله على فضله، وقل: الحمد لله أنه لم يمر عليك هذا المجلس وأنت في صخب الدنيا ولغطها ولهوها وفتنها، الحمد لله أن اصطفاك واجتباك، وما يدريك فلعلك تقوم من هذا المجلس وقد بدلت سيئاتك حسنات، وما يدريك أنك بإخلاصك وإرادتك لوجه الله أن الله يقبل منك هذه النية الخالصة، فيغفر لك ما تقدم من ذنبك، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله غفر لعبد خطاء الكثير من الذنوب؛ لما مر على مجلس ذكر للصالحين فجلس معهم)، فنسأل الله العظيم أن يعيننا على هذا الخير، ويوفقنا لشكر نعمه، فإن من شكر الله زاده، وإذا زاد الله العبد في نعمته بارك له فيها.
    ومما يوصى به الأحبة في مثل هذه المجالس: إتباع العلم العمل، والحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تتعلم شيئاً إلا وعملت به ودللت الناس عليه.
    ومما نتواصى به حب الخير للمسلمين لنشر هذا العلم، وأن تكون قلوبنا مليئة بحب الخير لإخواننا المسلمين، فنتعلم هذا العلم، ونشهد الله من الآن أننا لا نريد به علواً في الأرض ولا فساداً، وإنما نريد به وجه الله وما عند الله من نفع المسلمين بدلالتهم على الخير، ومن نوى الخير فإن الله عز وجل تأذن له بأحد أمرين:
    الأول: إما أن يمتع عينه ويقرها في الدنيا قبل الآخرة برؤية الخير الذي نواه؛ فإذا نويت من الآن أن تحمل هذا العلم للأمة فتهدي ويهدى بك، وتدل الناس على الخير؛ ليأتين يوم يقر الله عينك لما نويت من الخير، وهذا مشهد لله -ولا نزكي أنفسنا في طلبنا للعلم- فما وجدنا الله إلا وفياً لعباده: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ )[التوبة:111] ، والله تعالى يقول: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ )[المائدة:12] فالله مع عباده عامة، وخاصتهم من أهل العلم وطلاب العلم.
    فيحرص الإنسان أن تكون نيته فيها نفع أبناء المسلمين، وأن لا يبخل على الناس بهذا العلم، فإما أن يريك الله بأم عينك أثر هذه النية الصالحة، ويأتي اليوم الذي تنعم فيه عينك بحمل العلم عنك، فتأمر فتجد الناس حين تفتيهم يأتمرون بأمرك وينتهون بنهيك؛ لأن الله هو الذي يقلب القلوب ويثبتها، فإذا علم الله منك النية الصالحة قلب القلوب على حبك والثقة بما تقول، والناس تشتري السمعة بالأموال، والله تعالى زكى أهل العلم ووضع لهم من الحب والود في قلوب عباده ما لو بذلوا له أموال الدنيا ما استطاعوا أن يصلوا إليه، وهذا كله بفضل الله.
    الثاني: أن يبلغك الله الأجر بنيتك، ويصرف عنك البلاء بالعلم؛ لحكمته وعلمه سبحانه، فيبلغك أجر هذا العلم وأجر ما نويت من نشر العلم بنيتك.
    فعلى الإنسان أن يجعل من هذه لمجالس عوناً له على طاعة الله، ومحبته؛ فالدنيا فانية. وكم جلسنا مع علماء قرت عيوننا برؤيتهم فأمسينا وأصبحنا كأن لم يكن شيء، وسيأتي يوم لا يرى الإنسان فيه من يراه:
    كأن شيئاً لم يكن إذا انقضى وما مضى مما مضى فقد مضى
    ومما يوصى به أيضاً: الحرص على اغتنام العلم، واغتنام وجود العلماء وحلق الذكر، والحرص على الجد والاجتهاد، لا أن يأتي الإنسان إلى مجلس الذكر لكي يشغل وقت فراغه؛ إنما يأتي لكي يعلَم ويعمل ويعلِّم، ويحس أنها أمانة ثقيلة، وأن الله معينه ومسدده. ووالله ثم والله ما صدقت مع الله إلا صدق الله معك، وليفتحن الله لك من أبواب الخير والرحمة ما لم يخطر لك على بال، فإن أساس هذا الدين وأساس هذه الملة قائم على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الدين والوحي الذي أوحى الله إلى نبيه، فإذا تجرد طلاب العلم لحمله وصدقوا مع الله صدق الله معهم، وجعل فيهم الخير للأمة، ونفع بهم الإسلام والمسلمين، ووالله ما حملت علماً صادقاً تريد به وجه الله إلا بلغه الله عنك، والله عز وجل على كل شيء قدير.
    المهم أن هذه القلوب -التي تتقلب على العبد آناء الليل وأطراف النهار- تستشعر قيمة هذا العلم. وقد كان السلف لا يشتكون من شيء مثل قلوبهم، وقال سفيان رحمه الله: ما رأيت مثل قلبي -وفي رواية: ما رأيت مثل نيتي- إنها تتقلب عليَّ. والله عز وجل لا ينظر إلى عبده على كمال وجلال مثلما ينظر إليه وهو عالم عامل قائم بحجة الله عز وجل على خلقه، فهؤلاء هم ورثة الرسل والأنبياء (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم)، فيشهد الله أن هذا التواصل نريد به وجه الله، ولا نزكي أنفسنا على الله، ولكن نتمنى من طلاب العلم ونحب لهم ما نحب لأنفسنا من الإحساس بهذه النعمة، والحرص على ضبط هذا العلم، وكل طالب علم شعر أن هذا العلم عزيز، وأعطاه ما ينبغي أن يُعطاه من الإجلال والمحبة فسوف ينفعه الله عز وجل به عاجلاً أم آجلاً.
    فإن الرجل إذا رأيته يعطي الشيء العزيز وهو يشعر بعزته فيحتضنه ويكتنفه، كانت العقبى بعزته ورفعته، فكم من أنفس زهقت في دفاع عن الأموال لما عزت على أصحابها، وكم من أنفس ذهبت في دفاع عن الأعراض لما عزت الأعراض على أهلها، فإذا عز العلم على أهله وعز العلم عند أصحابه بذلوا له ما ينبغي أن يبذل.
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وأن يسددنا، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العلم حجة لنا لا علينا، وأن يغفر لنا ولكم ما يكون فيه من الزلل والخطأ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    حكم طواف الوداع لمن أصابه مرض ويخشى فوات رفقته


    السؤال: رجل انتهى من جميع أعمال الحج عدا طواف الوداع، ثم أصيب بمرض لا يستطيع معه الطواف إلا بمشقة كبيرة، ومعه رفقة ولا يستطيع أن يتأخر عنهم، فهل يسقط عنه الطواف؟

    الجواب: طواف الوداع واجب من واجبات الحج، أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة الحائض والنفساء، ولا يُجري كثير من أهل العلم القياس في هذا ولا يطرده، ويقولون: إن أمكنه أن يأتي به ولو ببعض المشقة أتى به، وإن كان لا يستطيع أثناء المرض ينتظر حتى يذهب ما به من المرض ثم يطوف إذا أمكنه التأخير، وأما إذا لم يمكنه وصدر مباشرة فإنه يلزمه الدم وإلا صام عنه عشرة أيام. والله تعالى أعلم.

    حكم التنفل بالسعي بين الصفا والمروة


    السؤال: هل يشرع التنفل بالسعي بين الصفا والمروة كما يشرع التنفل بالطواف؟

    الجواب: قال بعض العلماء: إنه لا يشرع السعي بين الصفا والمروة إلا في الفرض، أي: في الحج والعمرة.
    وقال بعض العلماء: إنه يجوز أن يتنفل في سعيه بين الصفا والمروة؛ لعموم قوله تعالى: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ )[البقرة:158] ، وحكى بعض العلماء الإجماع عليه، لكنه لا يخلو من نظر في حكايته الإجماع، وقيل: إن مراده التنفل بالسعي أثناء الحج: أنه لا يتنفل كما أنه لا يتنفل بالطواف تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #242
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (242)

    صـــــ(1) إلى صــ(27)


    شرح زاد المستقنع باب الفوات والإحصار [1]





    لقد شرع الله عز وجل أحكاماً تخص من فاته الحج أو أحصر عنه بعدو أو مرض أو نحوه، وتشريع هذا دليل على رحمة الله عز وجل وتيسيره، والتي منها: قضاء الحج أو العمرة من قابل، وغيرها من الأحكام التي ذكرها الشيخ وفصل فيها، وهي أحكام تشمل الحج والعمرة جميعاً.
    الفوات والإحصار في الحج والعمرةبسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    فيقول المصنف رحمه الله: [باب الفوات والإحصار]
    هذا الباب فيه مناسبة لطيفة؛ فبعد أن بَيَّن المصنف رحمه الله صفة الحج والعمرة الكاملة، ذكر أن الفقيه محتاج إلى بيان مسألة مهمة، وهي: هب أن إنساناً نوى الحج، وتلبس بنسكه، وأحرم به، ثم فاته الحج، أو نوى به العمرة، ثم صد عن البيت، ولم يتمكن من الوصول إليه؛ فما حكم الأول، وما حكم الثاني؟
    وهذا ما يعبر عنه بالفوات والإحصار؛ فما موقف الشرع ممن فاته الحج، وما موقفه ممن أحصر عن حجه أو عمرته؟
    من هنا كان العلماء رحمهم الله يعتنون بعد بيان صفة العبادات ببيان فواتها؛ فيتكلمون عن أحكام قضاء العبادة بعد أن يتكلموا عن أحكام العبادة في مواقيتها، والحج يكون الكلام عنه في باب الفوات والإحصار.

    معنى الفوات والإحصار



    الفوات مأخوذ من قولهم: فات الشيء، إذا ذهب ولم يستطع الإنسان أن يدركه.
    والإحصار مأخوذ من الحصر، وأصل الحصر: المنع، يقال: حصر عن الشيء، إذا منع منه، والحصر والقصر كلٌّ منهما فيه معنى الحبس عن الشيء والمنع منه. ومعلوم أن المكلف مطالب -في الأصل- بإتمام عبادة الحج والعمرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بذلك فقال: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )[البقرة:196] ، ثم قال سبحانه: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )[البقرة:196]، فقسم الله عز وجل العباد إلى قسمين: قسم يتم عبادة الحج والعمرة، وقسم يحصر عن حجه وعمرته، ومن هنا لزم بيان أحكام الفوات والإحصار.
    أما الفوات فمسائله متعلقة بالحج فقط، وأما العمرة فلا يقال: فيها فوات، إلا في حق من حج قارناً، فقرن حجه مع عمرته؛ لأن العمرة في حق القارن تكون داخلة في حجه، وحينئذٍ يقال: فاتته العمرة.
    فالفوات في الأصل يكون في الحج؛ والسبب في تعلق الفوات بالحج: أن العمرة يجوز إيقاعها في سائر أيام العام ولياليه، بخلاف الحج فله ميقات معين وزمان محدد، كما أخبر الله جل وعلا عنه بقوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ )[البقرة:197]، ومعلوم أن كل معين محدد أو مؤقت بزمان لا يتمكن كل المكلفين من إيقاعه في الزمان المعتبر له؛ كالصلاة، فإن الله جعل لصلاة الفجر مثلاً ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وليس كل الناس يتمكن من إيقاعها في هذا الزمان، فلربما نام عنها شخص ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، وحينئذٍ يرد السؤال: ما حكم من فاتته عبادة الصلاة على هذا الوجه؟ وكذلك يرد السؤال: ما حكم من أحرم بالحج ولم يستطع الوصول إلى عرفة قبل فجر يوم النحر، وإنما وصلها بعد طلوع الفجر؟ وحينئذٍ يحكم بفوات حجه.
    يقول المصنف رحمه الله: (باب الفوات والإحصار).
    وكأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل الشرعية والأحكام المتعلقة بمن فاته الحج أو أحصر عن الحج والعمرة.
    أحكام ومسائل تتعلق بالفواتبسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    فيقول المصنف رحمه الله: [باب الفوات والإحصار]
    هذا الباب فيه مناسبة لطيفة؛ فبعد أن بَيَّن المصنف رحمه الله صفة الحج والعمرة الكاملة، ذكر أن الفقيه محتاج إلى بيان مسألة مهمة، وهي: هب أن إنساناً نوى الحج، وتلبس بنسكه، وأحرم به، ثم فاته الحج، أو نوى به العمرة، ثم صد عن البيت، ولم يتمكن من الوصول إليه؛ فما حكم الأول، وما حكم الثاني؟
    وهذا ما يعبر عنه بالفوات والإحصار؛ فما موقف الشرع ممن فاته الحج، وما موقفه ممن أحصر عن حجه أو عمرته؟
    من هنا كان العلماء رحمهم الله يعتنون بعد بيان صفة العبادات ببيان فواتها؛ فيتكلمون عن أحكام قضاء العبادة بعد أن يتكلموا عن أحكام العبادة في مواقيتها، والحج يكون الكلام عنه في باب الفوات والإحصار.

    حكم من فاته الوقوف بعرفة



    قال رحمه الله: [من فاته الوقوف فاته الحج وتحلل بعمرة].
    قوله: (من فاته الوقوف) أي: الوقوف بعرفة، و(أل) هنا للعهد، والمراد به العهد الذهني، أي: الوقوف المعروف الذي هو ركن الحج؛ فقد فاته الحج.
    والوقوف ينتهي بطلوع الفجر الصادق من صبيحة يوم النحر، وعلى هذا يكون مراد المصنف بقوله: (من فاته الوقوف) أي: أن الشخص إذا لم يدرك الوقوف بعرفة ولو لحظة يسيرة قبل طلوع الفجر الصادق يوم النحر؛ فحينئذٍ يكون قد فاته الحج، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)، وعلى هذا أفتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه أمر أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه لما فاته الوقوف بعرفة أن يتحلل بعمرة، وقال له: (إن كنت قد سقت الهدي فانحره، ثم تحلل بعمرة)، وجاءه هبار بن الأسود في صبيحة يوم النحر فقال: يا أمير المؤمنين! ظننت أن هذا اليوم يوم عرفة، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ابق كما أنت، وائت البيت وطف واسع، ثم حج من قابل، واهد إلى البيت).
    فهذا يدل على أن من فاته الوقوف بعرفة أنه يحكم بفوات حجه، ويؤمر بالانصراف إلى العمرة، وأن يتحلل من الحج بالعمرة، وهذا بإجماع العلماء؛ فمن طلع عليه الفجر الصادق من صبيحة يوم العيد -يوم النحر- ولم يدرك ولو لحظة من الوقوف بعرفة، فإنه يتحلل بالعمرة وقد فاته الحج.
    ما يجب على من فاته الحج


    قال رحمه الله: [ويقضي].
    فلو كان حجه نافلة ألزم بالقضاء، وكذا إن كان فريضة من باب أولى.
    وقوله: (ويقضي) أي: يلزمه أن يقضي هذا الحج؛ لقوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )[البقرة:196]، فلما أحرم بالحج -ولو كان نافلة- لزمه الإتمام، وحيث لم يحج ولم يؤد الحج كما فرض الله عليه؛ لزمه أن يقضيه من عامه القادم إذا تيسر له الحج من العام القادم، وأما إذا لم يتيسر له أن يحج في العام الذي يلي العام الذي فاته فيه الحج وحبس عن البيت لمرض أو عذر، ثم حج بعد عام ثانٍ أو ثالث أو رابع؛ فإنها تجزيه حجته عن تلك التي حبس عنها؛ فيستوي أن يحج في العام الذي يليه أو في العام الذي بعده على الفور، ولا يجوز له أن يؤخر إلا أن يكون عنده عذر.
    قال المصنف رحمه الله: [ويهدي؛ إن لم يكن اشترط].
    قوله: (ويهدي) أي: إلى البيت؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر هباراً أن يهدي.
    وقوله: (إن لم يكن اشترط) أي: إذا كان اشترط عند إحرامه أن محله حيث حبسه الحابس؛ فإنه يسقط عنه القضاء والدم، وهذا قول لبعض العلماء رحمهم الله: أن الاشتراط يسري على مثل هذه الحالة.
    والقول الآخر: بأن الاشتراط يتقيد بالصورة الواردة في حديث ضباعة رضي الله عنها، وهي المرض؛ فإن كان الإنسان مريضاً واشترط ذلك صح اشتراطه، وما عداها فإنه يبقى على الأصل، وقد بيّنا هذا القول، وبيّنا من خالفه، ودليل كلٍّ منهما، وبيّنا الراجح في مسألة الاشتراط، وأن الظاهر هو الاكتفاء بالوارد في صورة حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها.

    الإحصار وما يتعلق به من مسائل



    قال المصنف رحمه الله: [ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حلَّ].
    قوله: (ومن صده عدو عن البيت) هذا يسمى بالإحصار، وصورته: أن يريد شخص الحج ثم يحصر ويمنع من الوصول إلى البيت بعدو، كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية؛ فإنه عليه الصلاة والسلام حصره المشركون عن عمرته، ومنعوه من الوصول إلى البيت، واشترطوا عليه أن يرجع من هذا العام وأن يأتي من العام القادم؛ فتحلل عليه الصلاة والسلام، ثم نحر هديه ورجع إلى المدينة.
    وللعلماء في تحديد صور الحصر أقوال:
    فمنهم من يقول: الحصر يتقيد بالعدو ذي القوة والغلبة والقهر، بحيث لا يستطيع الشخص الوصول إلى البيت؛ كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية.
    ومنهم من يقول: يلتحق بحصر العدو كل ما في معناه، ثم قاسوا على ذلك مسائل:
    منها: أن يحصر بمرض؛ كأن يكسر، أو يصيبه عرج، أو يكون مريضاً ويفوته الوقوف بعرفة بسبب هذا المرض الذي لم يستطع أن يدرك معه هذا الركن، فيأخذ حكم المحصر.
    فلو أن إنساناً نوى الحج ثم خرج، فلما صار في الطريق أصابته الحمى، أو كسرت يده أو رجله، واحتاج للعلاج، وقيل له: لا يمكن لك أن تبرح هذا المكان قبل يومين أو ثلاثة، وليس بينه وبين عرفة إلا يوم واحد، ويلزمه الطبيب العدل أو أهل الخبرة من الأطباء بالبقاء، وأنه لا يمكنه العلاج إلا في هذا الموضع؛ فحينئذٍ يكون محصراً عند هؤلاء.
    ويدخل في حكم المحصر من أصابه المرض المعدي -كالكوليرا ونحوها- بحيث لو مشى بين الحجاج أهلك الناس وأضر بهم؛ فإن من حق ولي الأمر أن يحجر عليه، وقد ذكر العلماء رحمهم الله هذه المسألة تحت القاعدة المشهورة: إذا تعارضت مفسدتان روعي ارتكاب أخفهما دفعاً لأعظمهما. واستدلوا لذلك بالأدلة الصحيحة الكثيرة: منها: كسر السفينة من الخضر عليه الصلاة والسلام دفعاً لضرر أعظم. قالوا: فيجوز الحجر على هذا الحاج ومنعه من إتمام نسكه.
    وقد ذكر العلماء -من أئمة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة- جواز الحجر على من عنده مرض معدٍ، ومنعه من الخروج للقاء الناس، واعتبروها من مسائل الحجر على المريض، وذلك أن العدوى بقول الأطباء تقبل فيها شهادتهم، وينظر إلى الغالب، فمثل هذا يعتبر في حكم الحصر.
    ثم قالوا: يقاس على المحصور بالعدو من كان عنده عذر يحول بينه وبين بلوغ البيت؛ كذهاب النفقة، أو سرقة ماله وهو في الطريق، ولم يستطع أن يكتري ولا أن يستأجر أو أن يمشي على قدميه حتى يصل إلى عرفات ليدرك الحج، فهو في حكم المحصر، ويتحلل.
    ومثله أيضاً العاجز حسياً، وهو مثل العذر الشرعي، فيكون أيضاً في حكم الإحصار، ومثلوا لذلك بالمرأة التي مات محرمها في طريقها للحج، أو مرض أو انكسر ولا يستطيع أن يتم معها مناسك الحج، وهي على مسافة قصر بينها وبين مكة، فإذا بقيت مع محرمها فإن الحج يفوتها، فقالوا: إن هذا عذر شرعي؛ لأن المرأة لا يجوز لها أن تسافر بدون محرم، فينزّل العجز الشرعي منزلة العجز الحسي.
    ومن العجز الشرعي أيضاً: إذا توفي زوج المرأة؛ فإنه يلزمها الإحداد، وللعلماء في المرأة التي تبلغها وفاة زوجها أثناء الحج أو أثناء العمرة وجهان:
    الأول: منهم من يرى أنها إذا أحرمت بالحج أو بالعمرة ودخلت في النسك، ثم جاءها الخبر، فإنها تتم الحج والعمرة ولا ترجع، وقد قضى بهذا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تفتي به، وهو الصحيح؛ فإن المرأة إذا أحرمت بالحج أو العمرة وبلغتها وفاة زوجها؛ لزمها إتمام الحج والعمرة، ولا يعتبر هذا بمثابة الإحصار، وإنما تبقى في نسكها؛ لتعارض الواجبين، الأول: ما يمكن تداركه، والثاني: ما لا يمكن تداركه، فيقدم ما لا يمكن تداركه على الذي يمكن تداركه عند ازدحام الفرضين والواجبين، فنقول لها: امضي وأتمي النسك، ثم ارجعي واعتدي عن بعلك عدة الوفاة.
    وقد اختلف في المرض، والقول باعتباره عذراً في الحج من القوة بمكان، ويقول به جمع من أهل العلم، كما هو موجود في مذهب الحنفية والحنابلة وغيرهم رحمة الله على الجميع.
    وقد جعل الله تعالى الإحصار رحمة للعباد، فإن الإنسان إذا حيل بينه وبين البيت وفاته الحج، فإنه لا يمكنه أن يتداركه، فلو أن الشرع ألزمك إذا أحصرت عن البيت أن تبقى بإحرامك حتى تحج من السنة القادمة، فيبقى الإنسان محرماً سنة كاملة محرمة عليه محظورات الإحرام، فلا شك أن هذا من العسر بمكان، فمن رحمة الله تعالى أن شرع هذا الأمر وهو الإحصار، فهو من دلائل يسر الشريعة، وصدق الله عز وجل إذ يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )[الأنبياء:107] .
    إذا ثبت أن الحصر بالعدو يعتبر موجباً للرخصة، فهنا مسألة، وهي: أن من شرط هذا الحصر: ألَّا يتمكن الإنسان من طريق بديل، فلو كان لمكة أكثر من طريق، وحصر من طريق، وأمكنه أن يذهب من طريق ثانٍ ففيه تفصيل:
    قال بعض العلماء: إذا كان الطريق الثاني فيه مشقة، أو أنه يحتاج إلى نفقة أكثر من النفقة التي معه، أو فيه ضرر عليه؛ فإنه يكون في حكم المحصر.
    وقال بعض العلماء: إذا وجد طريقاً بديلاً يلزمه أن يسلكه ولو كانت نفقته لا تكفي، ولو كانت فيه مشقة عليه؛ لأنه من باب ارتكاب أخف الضررين، فإن فوات هذه العبادة أعظم من المشقة الطارئة على هذا الوجه، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الحج بكونه جهاداً، فلا يرون وجود المشقة على هذا الوجه موجبة للرخصة. وقولهم ألزم للأصل كما لا يخفى.
    أحكام ذبح الهدي للمحصر


    قال رحمه الله: [ومن صده عدو عن البيت أهدى ثم حلّ]
    قوله رحمه الله: (أهدى ثم حلّ) أي: يهدي ويذبح ما معه من الهدي، كما قال تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )[البقرة:196]، والأصل في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية نحر هديه وتحلل حينما صد عن عمرته، فأوجب الله عز وجل الهدي بظاهر القرآن، وكذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
    وقد اختلف العلماء: هل يلزمك أن تبعث بالهدي إلى مكة ليذبح فيها إذا تيسر لك ذلك، أم أنك تذبحه في الموضع الذي أحصرت فيه؟ على وجهين مشهورين، أصحهما: أنه يذبح الهدي وينحره في الموضع الذي أحصر فيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحصر عن البيت ولم يكن بينه وبين حدود الحرم إلا خطوات، وذلك في الحديبية -وهي التي تسمى اليوم بالشميسي- وكان يمكنه أن يدخل ويصلي داخل حدود الحرم، ومع ذلك لم يتكلف أن ينحر هديه داخل حدود مكة، والله تعالى يقول: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ )[الفتح:25] ، فقال: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي: عن بلوغ محله، ومحله هو البيت العتيق -أعني: حدود الحرم- فدل على أنه لا يلزم المحصر بأن يبعث هديه إلى الحرم، وإذا تيسر له بعثه فإنه يبعثه، خروجاً من خلاف العلماء رحمهم الله.
    ثم قال رحمه الله: [فإن فقده صام عشرة أيام ثم حلّ] أي: إن فقد هديه فإنه يصوم عشرة أيام بدلاً عن هذا الدم. وقد طرد العلماء هذا الأصل في الدماء الواجبة، فقالوا: من وجب عليه دم التمتع ودم القران، أوجب الله عليه -إذا لم يجده- أن يصوم عشرة أيام، فكل دم واجب إذا لم يستطعه الإنسان صام بدلاً عنه عشرة أيام، وعلى هذا قالوا في المحصر: إذا لم يستطع ولم يتيسر له الهدي فإنه يصوم العشرة الأيام؛ على ظاهر آية البقرة؛ لشمولها للمتمتع والمحصر.


    حكم المحصور عن عرفة



    قال رحمه الله: [وإن صد عن عرفة تحلل بعمرة].
    أي أنه إذا كان قد بلغ البيت، ولكنه صد عن عرفة؛ فإنه يتحلل بعمرة بعد ذهاب وقت الوقوف، فلو صد ورجا أن يتمكن من الوقوف؛ فإنه ينتظر إلى آخر الأمد الذي يتمكن معه من الوقوف، ثم إذا خالف ظنه وتبين أنه لا يتمكن وطلع الفجر؛ مضى إلى مكة وتحلل بالعمرة، وذلك أشبه بفسخ الحج بعمرة، مثلما فسخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حجهم بعمرة، ولذلك لا يرى بعض العلماء أن هذه الصورة من صور الإحصار؛ لأنه يراه فسخاً للحج بعمرة، كما هو القول عند الحنابلة رحمهم الله وطائفة من السلف؛ فإنهم يرون أن من منع من الوقوف بعرفة فإنه يمكنه أن يفسخ حجه بعمرة، ويتحلل بالعمرة على هذا الوجه الذي أشار إليه المصنف رحمه الله.
    وقوله: (تحلل)، ولم يوجب عليه الدم، فدل على أنه ليس بمحصر، كما اختاره المصنف.
    وهناك من أهل العلم من يقول: يتحلل بعمرة وعليه دم.

    فالفرق بين القولين: أن المصنف لا يراه محصراً، فإن قلت: لا أراه محصراً، فحينئذٍ لا يلزمه دم، وإن قلت: إنه يعتبر في حكم المحصر؛ أخذ حكم المحصر، وكان تحلله بالعمرة موجباً للدم؛ كما هو قول بعض العلماء رحمهم الله.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #243
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي


    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (243)

    صـــــ(1) إلى صــ(27)


    شرح زاد المستقنع باب الفوات والإحصار [2]



    استكمل الشيخ حفظه الله ما بقي من أحكام الفوات والإحصار، فذكر أحكام المحصر بمرض أو ما في حكمه من المسائل المعاصرة، ثم ذكر أحكام المحصر بذهاب نفقته، وختم حديثه ببيان مسألة الاشتراط في النسك.

    حكم المحصر عن الحج والعمرة بمرض وما في حكمه



    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد:
    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن أحصره مرض].
    ذكر المصنف رحمه الله مسائل الفوات والإحصار؛ فبين حكم من فاته الحج، وحكم من أحصر عن الوصول إلى البيت؛ سواء كان الإحصار في الحج أو العمرة، ولما فرغ رحمه الله من بيان أحكام المحصر شرع في بيان من أصابه المرض، وكان عليه شديداً؛ بحيث لا يستطيع أن يصل إلى البيت فيدرك الحج أو يأتي بالعمرة أثناء المرض، فهل يجوز له أن يتحلل مباشرة، فيكون حكمه حكم المحصر -كما تقدم- أم أنه ينتظر حتى يبرأ من مرضه أو يقوى على المسير إلى البيت فيؤدي نسك الحج إن أدركه وإلا تحلل بعمرة؟
    وقد كثر في هذا الزمان وجود الحوادث التي تقع في الطريق، وهي في حكم المرض؛ فلو أن إنساناً أراد الحج ثم حصل له حادث في الطريق، فأصابه كسر أو مرض في جسده، فلم يستطع أن يخرج، أو كان تحت عناية في علاجه، بحيث يقرر الأطباء أنه لا يخرج قبل الحج، أو أنه لا يمكنه أن يقوم بمناسك الحج حتى فات وقت الحج، فما حكمه؟
    قال رحمه الله: [يبقى محرماً] أي: أن من أصابه المرض فلا يحكم بكونه محصراً، وإنما يبقى بإحرامه حتى يبرأ من المرض؛ فإذا برئ من المرض فلا يخلو من حالتين:
    الحالة الأولى: أن يكون شفاؤه وبرؤه قبل الوقوف بعرفة؛ بحيث يمكنه أن يذهب ويتم مناسك حجه، فالحكم حينئذٍ: أن يمضي ويتم مناسك الحج.
    الحالة الثانية: إذا كان برؤه وشفاؤه بعد فوات الوقوف بعرفة؛ فإنه يتحلل بعمرة، ثم يلزمه الهدي، ويكون هذا الهدي بسبب فوات الحج، ثم يأتي بحجة من العام القادم؛ سواء كانت حجته لفرض أو لنافلة.
    والعمرة التي يأتي بها يقصد منها أن يتحلل من نسك الحج؛ وذلك لأن الحج قد فاته، فيتحلل منه بعمرة، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر من فاته الحج أن يتحلل منه بعمرة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يفسخوا حجهم بعمرة.
    ثم عليه أن يهدي لفوات الحج، وعليه كذلك الحج من قابل؛ فهو في حكم من كان معذوراً بالمرض وفاته الحج لعذر آخر.
    وكان من الأعذار المشهورة قديماً: أن يظن الحاج أن الوقوف بعرفة يوم السبت، ويكون الوقوف يوم الجمعة، فيأتي إلى عرفة يوم السبت وقد فرغ الناس من الوقوف، ولا يمكنه أن يدرك الوقوف، فحينئذٍ يكون في حكم المريض، فيمضي إلى البيت ويطوف ويسعى ويتحلل بعمرة، ثم عليه الهدي والحج من قابل.
    وفي حكمه أيضاً: من نام عن الوقوف بعرفة؛ كرجل مشى إلى عرفات، ثم قبل أن يصل إليها وبسبب الإجهاد والتعب أراد أن ينام، فنام حتى ذهب وقت الوقوف، ولم يمكنه إدراكه، فحينئذٍ يكون حكمه حكم المريض أيضاً، فيبقى محرماً، ثم يمضي إلى البيت ويأتي بعمرة كاملة يتحلل بها من الحج؛ لأن الحج قد فاته، وقد قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك لما جاءه هبار بن الأسود فقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت أظن أن اليوم يوم عرفة -وكان اليوم الذي جاء فيه يوم النحر- فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ابق كما أنت -أي: بإحرامك- ثم ائت البيت وطف واسع، وتحلل بعمرة، ثم اهد وعليك الحج من قابل).
    قال العلماء: في هذا دليل على أنه لما أحرم بالحج فإنه يفسخ هذا الحج بالعمرة؛ لأنه لا يمكنه أن يصبر إلى السنة القادمة وهو محرم، فلو أن إنساناً أحرم بحج، ومرض أو أصابه عذر ولم يمكنه أن يدرك عرفة، فقلنا له: ابق بإحرامك إلى العام القادم؛ فإن هذا فيه حرج ومشقة عظيمة؛ لأنه سيبقى مجتنباً لمحظورات الإحرام وممتنعاً عنها شأنه شأن المحرم، فلذلك خفف الله عز وجل عن عباده.
    ومضت الفتوى عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بأنه يتحلل بعمرة، وهذه الفتوى لها أصل شرعي؛ فمن فقه أمير المؤمنين -الذي أمرنا باتباع سنته- أنه انتزع هذه الفتوى من فسخ النبي صلى الله عليه وسلم حج أصحابه بعمرة، فأمر من لم يسق الهدي أن يتحلل بعمرة، ولذلك قالوا: ينصرف من حجه إلى عمرته؛ كأنه فسخ، لا أنه حقيقة قد فسخ حجه بعمرة، بدليل لزوم القضاء عليه من قابل.
    وقوله رحمه الله: (ومن أحصر بمرض)، هذا القول الذي اختاره المصنف هو مذهب جمهور العلماء، وهذا المذهب يقوم على أن المرض لا يعتبر الإنسان فيه محصراً، ولذلك قال رحمه الله: (بقي محرماً)، ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله قال: إن من أحصر بالمرض فحكمه حكم المحصر. وحينئذٍ فحكم المحصر بالمرض: أن يتحلل في مكانه، ويهدي إن كان معه الهدي، وإذا لم يكن معه الهدي صام، ثم يكون حكمه حكم من أحصر بالعدو ونحوه كما تقدم تفصيله.
    وقال الجمهور: إن الإحصار يتقيد بالحصر بالعدو -كما تقدم- لقوله تعالى: (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )[البقرة:196] ، فجعل الله سبحانه وتعالى الأمن مرتباً على الحصر؛ فدل على أن الإحصار ليس مطلقاً، وإنما هو مختص بالحصر بالعدو، على التفصيل الذي تقدم بيانه.
    وقوله: (بقي محرماً) فإذا كان الشخص قد أصيب بمرض، ثم انتهى به هذا المرض إلى الموت؛ فإنه يكون محرماً عند الجمهور، وحكمه حكم المحرم عندهم، كما يحدث -نسأل الله السلامة والعافية لنا ولكم ولجميع المسلمين- في مسألة موت الدماغ، كأن ينقلب مثلاً في حادث، أو تأتيه ضربة في رأسه، ويصبح في عداد الموتى، ثم ينتهي به الأمر إلى الموت، أو يصاب بمرض يؤدي به إلى الوفاة، فللعلماء رحمهم الله تفصيل في هذا:
    فمنهم من قال: إن المريض يعتبر في حكم المحصر، فحينئذٍ لا إشكال في أنه يأخذ حكم المحصر ويتحلل، أما إذا قلنا: إن المريض لا يأخذ حكم المحصر، وإنما يبقى بإحرامه، ونحكم بكونه محرماً، فإنه إذا مات يعامل معاملة الميت الذي وقصته دابته، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس ، فيغسل ويكفن ولا يطيب، ويأخذ حكم المحرم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، فيأخذ حكم المحرم.
    ومنهم من قال: إذا أصيب بمرض ينتهي به إلى الوفاة، وتوفي بعد الوقوف بعرفة؛ فحينئذٍ إذا تأملت حاله، وجدت أن الحج قد فاته، فبعض العلماء يرى أن عليه دم الفوات في هذه الحالة.
    وقال بعض العلماء: لا يجب عليه شيء، وإنما يغسل ويكفن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه)، ثم لم يأمر أهله بإتمام الحج عنه ولا بقضائه، وإنما أعطاه حكماً خاصاً، فمن هنا استثنوه من الأصل الذي ذكرناه.

    حكم المحصر بذهاب نفقته


    قال رحمه الله: [أو ذهاب نفقة]. هذا نوع آخر من أنواع الحصر، وذهاب النفقة يأتي على صور:
    منها: أن يسرق ماله، أو تذهب نفقته، بمعنى: أن يكون ظنه أن الحج يكفي له ألف ريال، ثم طرأت له أمور تستلزم منه النفقة، فأنفق حتى ذهبت نفقته قبل أن يصل إلى مكة وقبل أن يقف بعرفة.
    مثال ذلك: لو أن إنساناً عادته أن يكفيه لحجه ألف ريال، فلما مضى في طريقه تعطلت سيارته واحتاج أن ينفق عليها، فأنفق ثلاثة أرباع النفقة أو جلها لإصلاح سيارته من أجل أن يصل عليها، ولكنه لم يتيسر له ذلك، فهذا الذي ذهبت نفقته فيه تفصيل:
    إن كان قادراً مليئاً في بلده وأمكنه أن يستدين ويتم حجه، لزمه ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن الله قد أوجب عليه إتمام الحج، فقال سبحانه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ )[البقرة:196] ، فلما ألزمه الله بإتمام الحج وأمكنه أن يتم الحج دون حرج عليه وذلك بالاستدانة؛ فإنه يتم حجه ويستدين، قال بعض العلماء: بشرط أن لا يقع في حرج ومهانة ومذلة لا تليق بمثله. وأما إذا كان هذا الشخص لا يجد المال، وأمكنه أن يمشي على قدميه حتى يبلغ مكة، فقال بعض العلماء: إن الراجل يجب عليه الحج كما يجب على الراكب، بشرط أن يطيق المشي؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا )[الحج:27]، فذكر الراجل فيمن يأتي بالحج، وقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ )[الحج:27] على سبيل الوجوب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا)، فهذا الذي فرضه الله من إتيان بيته والحج إليه قال الله فيه: (رجالاً)، فقدم الراجل على الراكب، قالوا: فإن أطاق المشي، ولم يكن فيه حرج؛ فإنه يلزمه أن يمضي ويتم الحج، أما لو لم يستطع المشي، ولم يمكنه أن يستدين؛ فإنه يبقى بإحرامه، فإذا تيسر له من ينجده ويتفضل عليه، وأمكنه أن يذهب ويدرك الحج، فلا إشكال في ذلك، وأما إذا حبس ولم يمكنه أن يدرك الحج حتى ذهب يوم عرفة، فحينئذٍ يبقى بإحرامه حتى لو رجع إلى بلده ليأخذ النفقة ثم يأتي بعمرة يتحلل بها من حجه، وحكمه حكم من فاته الحج.
    إذاً: من ذهبت عنه النفقة يفصل فيه بهذا التفصيل: إما أن يمكنه أن يستدين ولا يقع في حرج، وذلك بأن يستطيع سداد ذلك الدين دون حصول الحرج عليه فيلزمه ذلك؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإما أن لا يمكنه أن يستدين، ويمكنه أن يمشي ويطيق المشي ويدرك بمشيه الحج؛ فيلزمه المشي إلى مكة وإتيان المشاعر، وإما أن لا يمكنه المشي ولا يمكنه الاستدانة، ولا يتيسر له أحد يأخذه معه حتى فاته الحج؛ فإنه يبقى محرماً، حتى ولو عاد إلى بلده لكي يأخذ النفقة التي يبلغ بها، ثم يتحلل بعمرة، وعليه الدم والحج من قابل.

    الاشتراط في الحج والعمرة


    قال رحمه الله: [بقي محرماً إن لم يكن اشترط].الاشتراط في الحج سبق بيانه، وأنه قد ثبت به الدليل في حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها حين قالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية -أي: مريضة؛ لأن المريض يشتكي ما به؛ أي: يغالبه- فقال صلى الله عليه وسلم: أهلي -أي: ادخلي في النسك- واشترطي: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن لك على ربك ما اشترطت) ، قال العلماء: في هذا دليل على مسائل:
    المسألة الأولى: أنه يشرع الاشتراط في الحج إذا كان الإنسان مريضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها به.
    المسألة الثانية: أن العمرة تأخذ حكم الحج؛ لأن العمرة هي الحج الأصغر، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها بذلك، ومن المعلوم أن الحج قد يكون تمتعاً وقد يكون قراناً، فدل على استواء الحكم في الحج والعمرة، وليس هذا من خصوصيات الحج.
    المسألة الثالثة: أن المرأة -وهي ضباعة - كانت مريضة، فقال بعض العلماء: يختص الحكم بمن كان مريضاً قبل الحج، كأنْ لما أصيب بالمرض وألزم نفسه بالحج، تحمل المشقة؛ فخفف عنه الشرع؛ لأنه التزم بما لا يلزمه، ولذلك قالوا: خفف عنه من هذا الوجه.
    وقال بعض العلماء: الحكم عام، سواء كان به المرض، أو خاف المرض، أو لم يكن به مرض لكن اشترط هكذا وهو صحيح، وهذا لا يخلو من نظر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتى ضباعة بهذا وهي بالمدينة قبل أن تهلّ، ثم لما بلغ الميقات لم يأمر الصحابة أن يشترطوا ولم يشترط في إحرامه، فدل ذلك على أن هذا الحكم يكون في حق من كان في حكم ضباعة وصورته صورة ضباعة ؛ لأن القاعدة في الأصول: أن ما خرج عن الأصل يتقيد بصورة النص. وعلى هذا فلو اشترط أن محله حيث حبس، فإنه لا يخلو من أحوال ذكرها العلماء رحمهم الله:
    فتارة يشترط إن حبسه الحابس أن يهدي ويتحلل، فيلزم نفسه الإهداء، ويكون في حكم المحصر؛ فإن كان قد ألزم نفسه أن تحلله يكون بالهدي؛ فحينئذٍ يتحلل بهديه، كما اختاره جمع من العلماء، وهو مذهب الشافعية وبعض أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لك على ربك ما اشترطت) ، وقد اشترط على نفسه أن يتحلل بالدم كالمحصر؛ وذلك لطلب الفضيلة والأجر، وتشبهاً بالمحصر، فقالوا: لا بأس، وحينئذٍ يكون تحلله بالخروج من النسك مباشرة، ويلزمه أن يهدي؛ لأنه التزم ذلك، فكان في حكم من نذر.
    أما لو أنه قال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، دون أن يقيد؛ فإنه يتحلل بمجرد أن يصعب عليه المرض ويشق عليه الذهاب، وليس له التحلل بمجرد المرض، وذلك أنه قيد نفسه فقال: إن حسبني حابس، فقال العلماء: يتقيد هذا بأن يكون المرض شديداً بحيث لا يمكنه أن يتم، أما لو كان المرض خفيفاً ويمكنه الإتمام، فإنه ليس بحابس ذي بال؛ لأن ضباعة رضي الله عنها أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط إذا ضاق عليها الأمر، وهذا يفهم منه: أنها لا تحتبس إلا إذا اشتد عليها المرض وضاق بها الحال.
    والاشتراط لا يخلو من ثلاثة أحوال:
    إما أن يشترط قبل أن يهل، وإما أن يشترط مقارناً لإهلاله، وإما أن يشترط بعد إهلاله.
    الحالة الأولى: إن وقع الشرط قبل الإهلال، وكان الفاصل مؤثراً، سقط اعتباره. مثال ذلك: لو أنه خرج من المدينة إلى ميقات ذي الحليفة، وبين المدينة وبين الميقات ما لا يقل عن عشرة كيلو مترات، فقال في المدينة: أشترط إن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني الحابس -وهو مريض- ثم مضى وانقطع بوجود الفاصل المؤثر من المسافة والزمن، ثم بعد ذلك لبى بحجه أو بعمرته، فإن هذا الفاصل مؤثر، ويسقط الاشتراط الأول ما لم يكن قد اشترط أثناء الإحرام، فلا بد في الاشتراط أن يكون مصاحباً للإحرام أو قريباً منه.
    الحالة الثانية: أن يصحب الاشتراط الإحرام، وذلك بأن يقول: لبيك حجاً أو لبيك عمرة، ثم يشترط، فحينئذٍ لا إشكال فيه، وهو صورة النص، كما جاء في رواية أبي داود وغيره من أصحاب السنن، وفيه ذكر التلبية مع الاشتراط، وهذا بالإجماع عند من يقول باعتبار الاشتراط، وهم الشافعية والحنابلة، يقولون: إنه مؤثر.
    الحالة الثالثة: أن يهل ويدخل في النسك، وبعد تمام الإهلال يشترط، فحينئذٍ يلغى اشتراطه، ويلزم بما يلزم به من أهلّ بدون اشتراط.
    وقوله: (إلا أن يكون قد اشتراط)، فالمشترط يتحلل مباشرة ولا يلزمه دم، وليس عليه شيء إذا ضاق به المرض وأضرّ به.

    الأسئلة



    حكم المغمى عليه إذا أحضر إلى عرفة ولم يفق إلا بعد الوقوف


    السؤال: امرأة أغمي عليها إلى ما بعد الوقوف بعرفة، إلا أن أهلها حملوها وهي مغمىً عليها إلى عرفة، وبعدما أفاقت أكملت شعائر حجها، فهل حجها صحيح، أثابكم الله؟

    الجواب: هذه المسألة تنبني على مسألة: هل المغمى عليه مكلف، أو غير مكلف؟
    فبعض العلماء يرى أن المغمى عليه كالنائم، وفي هذه الحالة لا يسقط عنه التكليف إلا في ضمانات النائم ووجود الإخلالات بالتروكات، أما مسألة صحة العبادة واعتبار العبادة فيرون أنها تأخذ حكم المكلف ولا تأخذ حكم المجنون.
    وقال بعض العلماء: الإغماء كالجنون؛ والسبب في هذا: أن المغمى عليه فيه شبه من الجنون، وشبه من النوم.
    فإذا شبه بالمجنون فإن هذا يوجب فساد الحج عند من يقول: إن المجنون لا يصح حجه. وأما إذا شبه بالنائم فإنه يصح حجه خاصة على القول الذي لا يرى النية للوقوف، وإنما يرى أن الركن يتحقق بوجود الجسد حتى ولو كان الإنسان نائماً، فقالوا: لو حمل وهو نائم أو مغمى عليه، فهي مسألة فيها الخلاف على هذا الوجه، وأنا كثيراً ما أتوقف في مسائل الإغماء؛ سواء من جهة العبادة وقضاء الصلوات إذا أغمي عليه شهوراً أو سنوات، ولكنني أقول: إن القول بالإجزاء من القوة بمكان، وأتوقف عن الترجيح. والله تعالى أعلم.

    الحكم فيما إذا حاضت المرأة قبل التحلل من العمرة

    السؤال: قمت بأداء عمرة عن أبي رحمه الله، وبعد الانتهاء منها نسيت أن أتحلل من إحرامي، وبعد عدة ساعات جاءني الحيض، وفي خلال هذه الساعات حدث مني بعض المحظورات، كل هذا وأنا ناسية أني محرمة، ولم أتذكر إلا بعد مجيء الحيض، فهل عليَّ دم، أم ماذا أفعل، أثابكم الله؟

    الجواب: أما بالنسبة لاعتمارك وأدائك النسك عن والدك فأسأل الله أن يثيبك عليه؛ لأن هذا من البر، وإذا توفي الوالد أو الوالدة ولم يحجا ولم يعتمرا وحج عنهما الولد، فهذا من أبلغ البر وأحسنه، فأسأل الله أن يحسن إليك كما أحسنت إلى والدك بهذا البر.

    أما المسألة الثانية: وهي وقوع الدم بعد انتهاء العمرة وقبل التحلل؛ فإن العمرة صحيحة، ولا يضر ورود الدم بعد الطواف، فإذا ورد الدم على المرأة بعد تمام طوافها فإنه لا يؤثر، حتى ولو كان أثناء السعي؛ لأن السعي لا تشترط له الطهارة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين لما حاضت: (اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت)، فحظر عليها الطواف بالبيت، ومن هنا إذا وقع حيضها بعد تمام الطواف بالبيت صحت عمرتها وأجزأتها.
    وأما بالنسبة لوقوع المحظورات نسياناً؛ فلا تخلو المحظورات من حالتين:
    الحالة الأولى: أن تكون محظورات يمكن التدارك فيها؛ كالطيب، فإنه يمكن غسله، وتغطيه الوجه في غير وجود الأجانب، فإنه يمكن إزالته -إزالة الغطاء- فهذه المحظورات التي يمكن تلافيها لا شيء عليك بالنسيان إذا أزلتِ المحظور عند الذكر.
    الحالة الثانية: إذا كان المحظور مما لا يمكن التدارك فيه؛ كتقليم الأظفار، وقص الشعر؛ فإنه تلزم فيه الفدية، فالعمد فيه والنسيان سواء، إلا أن النسيان يسقط الإثم دون العمد، فتلزمك فيه الكفارة أو الفدية، وعليه فينظر في هذا المحظور الذي وقع منك قبل التحلل.
    وأما بالنسبة لتحللك بعد فهو تحلل صحيح؛ لكن من أهل العلم من يشترط في التحلل وقوعه في الحرم، فإذا حصل التحلل خارجاً عن حرم مكة فإنه يرى فيه الدم؛ لفوات التوقيت المعتبر من الشرع، كما هو قول طائفة من أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله. والله تعالى أعلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #244
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (244)

    صـــــ(1) إلى صــ(27)

    شرح زاد المستقنع باب الهدي والأضحية والعقيقة [1]



    الهدي والأضحية والعقيقة دماء مشروعة، تختلف في بعض أحكامها عن بعض وتتفق في البعض الآخر، وكلها جاءت به الأدلة الشرعية الدالة على وجوبها أو على استحبابها، وهناك عيوب إذا وجدت في الذبيحة منعت من إجزائها، وكلها مبينة واضحة فيما ذكره الشيخ.
    أحكام الهدي والأضحية والعقيقة

    قال المصنف رحمه الله: [باب الهدي والأضحية والعقيقة].

    تعريف الهدي


    قوله رحمه الله: (باب الهدي) الهدي: مأخوذ من الهدية، وهو ما يهدى إلى البيت الحرام، والله سبحانه وتعالى وصف ما يساق إلى البيت بأنه هدياً، فقال سبحانه وتعالى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ )[المائدة:95].
    أقسام الهدي

    الهدي يكون واجباً ويكون مندوباً؛ فأما الواجب: فإنه يكون في جزاء ما قتل من النعم وهو محرم، كأن يقتل بقر الوحش فيهدي إلى البيت بقرة من بهيمة الأنعام، أو يقتل نعامة فيهدي إلى البيت ناقة، ونحو ذلك. وأما غير الواجب، فهو في حكم الهدي الواجب؛ كأن ينذر ويقول: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت، فإذا نذر فلا يخلو نذره من أحوال:
    الحالة الأولى: أن يقيد الهدي ويبين نوعه، وحينئذٍ يكون الهدي مقيداً بما ذكر، كأن يقول: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت شاة، أو جذعاً من الضأن، أو ثنياً من المعز، أو تبيعاً، أو مسنة، أو نحو ذلك، فإذا عين وحدد فإنه يلزمه ما التزم به من التحديد.
    الحالة الثانية: أن يطلق فيقول: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت. فإذا أطلق فقد بعض العلماء: من أطلق في هديه وقال: لله عليَّ أن أهدي إلى البيت؛ فإنه لا يجزيه إلا ما يجزي أقل دم واجب، وذلك هو الثني من المعز، أو الجذع من الضأن، فإذا أرسل جذعاً من الضأن أو ثنياً من المعز أجزأه، ولا يجزي ما كان دون ذلك. وقال بعض العلماء: يجزيه أقل شيء، ولو أهدى إلى البيت بيضة، أو صاعاً من تمر أو بر؛ والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من راح في الساعة الأولى فكأنما أهدى بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما أهدى بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما أهدى كبشاً ..) إلى آخر الحديث، وفيه: (كأنما أهدى بيضة)، والرواية في الصحيح: (كأنما قرب)، قالوا: وعلى هذا فإنه يجزيه أقل ما يصدق عليه أنه هدية، حتى ولو كان يسيراً من الطعام فإنه يجزيه ولا شيء عليه. وإن كان القول الأول أقوى وأرجح إن شاء الله تعالى؛ لأن الله تعالى قال: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]، وخصص ذلك بقوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95] ، فخص الهدي ببهيمة الأنعام، وعلى هذا فإنه لا يجزيه إلا ما يجزي في الدماء الواجبة على التفصيل الذي ذكرناه.

    حكم الهدي

    وكان الهدي سنة قديمة، وكانوا في الجاهلية يهدون إلى البيت الحرام. والمراد بهدية البيت: أن يبعث الإنسان بإبله أو بقره أو غنمه؛ فتذبح في مكة وتكون طعمة للفقراء، وكانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء إذا رأوا هذا النوع من بهيمة الأنعام لا يتعرضون له؛ تعظيماً لحرمة هذا البيت، ولذلك قال الله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ [المائدة:2] ، فوصف الله عز وجل ما يهدى إلى البيت بأنه من شعائر الله، وشعائر الله كل ما أشعر الله بتعظيمه، ومن ذلك ما يهدى إلى بيت الله عز وجل، وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على مشروعية الهدي للبيت، وهذه السنة أضاعها كثير من الناس إلا من رحم الله، حتى إنها تكاد تكون غريبة في هذا الزمن، ويسن للإنسان ويشرع له أن يبعث إلى البيت ويهدي إليه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة وأهدى إلى البيت في حجته التي تخلف عنها حينما بعث أبا بكر رضي الله عنه وعلياً لينادي في الناس.
    تعريف الأضحية

    قال رحمه الله: (والأضحية).الأضحية واحدة الأضاحي، وهي مأخوذة من الضحى؛ والسبب في ذلك: أنها تذبح في ضحى يوم النحر، وهذا من باب تسمية الشيء بزمانه؛ لأن الشيء يسمى بزمانه ويسمى بسببه وبوقته، فيقال مثلاً بالزمان: أضحية، ويقال بالسبب: صلاة الاستسقاء، من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ لأن صلاة الاستسقاء سببها القحط وطلب السقيا، وصلاة الكسوف سببها كسوف الشمس وخسوف القمر.
    والأضحية سنة من سنن المرسلين، ولذلك ندب النبي صلى الله عليه وسلم إليها بقوله وبفعله، وأجمع المسلمون على شرعيتها، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في خطبته يوم النحر: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله).

    حكم الأضحية

    وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكمها: هل هي واجبة، أو ليست بواجبة؟ وذلك على قولين مشهورين:
    القول الأول: قال بعض العلماء: الأضحية واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله) ، فألزمه بالقضاء، فدل على وجوبها ولزومها.
    ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا) ، وهو حديث مختلف في إسناده، وإن كان العمل عند جمع من المحدثين على ضعفه.
    وكذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى، وضحى من بعده الخلفاء الراشدون، ولم يؤثر عن واحد منهم أنه ترك الأضحية، ولذلك حُكم بوجوبها.
    ولما سئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: هل الأضحية واجبة؟ قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى المسلمون، فقال له السائل: يا أبا عبد الرحمن ! إنما أسألك أهي واجبة؟ فرد عليه بقوله: أتعقل! ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى المسلمون)، أي: كيف تتركها وهي بهذه المثابة؟ ولم يرخص للرجل في تركها، وهذا يؤكد القول بوجوبها ولزومها.
    القول الثاني: قال جمهور العلماء بعدم وجوب الأضحية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحى بكبشين أملحين، وقال في أحدهما: اللهم هذا عمن لم يضح من أمة محمد)، وأجيب: بأن هذا الحديث يحتمل: (عمن لم يضح من أمة محمد) جبراً لنقصه، ويحتمل أن يكون المراد به: عمن لم يضح وهو مختار، ولذلك قالوا: إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال. وأيناً ما كان فلا ينبغي للمسلم أن يفرط في هذا الخير العظيم والثواب الكبير؛ فيترك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده القدرة على الأضحية.
    وإنما تكون الأضحية على من قدر عليها ووجد السعة لكي يضحي، وينبغي للمسلم أن يحرص على وجود هذه السنة في بيته يوم النحر، وليس بالمستحب أن يترك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخلو بيته من هذه الشعيرة، ولذلك ما زال المسلمون يجدون هذه الأضحية في بيوتهم يوم النحر، حتى كان بعض العلماء يقول: أستحب للحاج أن يترك أضحيته في بيته، ولما سئل عن ذلك قال: لأن صغار المسلمين إذا ألفوا هذه السنة في بيوتهم اعتادوها ونشئوا عليها، ولكنه إذا اعتاد الحج وضحى في حجه؛ خلا بيته عن هذه السنة.
    وقد استحب بعض مشايخنا رحمة الله عليهم أن من أراد أن يتفضل بالأضحية ويتصدق بها في غير بلده، فإنه يضحي عن نفسه في بيته، ثم إذا أراد أن يتصدق في خارج بلاده أو خارج مدينته، فإنه يجعل ذلك فضلاً عن أضحيته في بيته، ولا يجعل أضحية بيته صدقة خارجة عن بيته وبلده؛ والسبب في هذا كله: أن ينشأ أبناء المسلمين وبناتهم على هذه السنة وعلى هذه الشعيرة، فلا تخلو منها بيوت المسلمين، خاصة في هذا اليوم، ولذلك فإن عيد الأضحى يتميز بالأضحية، وقد سمي اليوم يوم النحر وعيد الأضحى لوجود هذه الشعيرة العظيمة التي لا ينبغي التفريط فيها.
    والأضحية لها سنن وآداب وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، واعتنى العلماء والفقهاء رحمهم الله ببيانها؛ فناسب أن يذكرها المصنف بعد الهدي؛ والسبب في هذا واضح: وهو أن الهدي يكون في الغالب في يوم النحر، ومتصل بالحج، فلما فرغ رحمه الله من أحكام الحج وأحكام الفوات والإحصار -وفي الفوات والإحصار الدم الواجب- ناسب أن يتكلم عن أحكام الهدي، وأن يبين ما الذي يجزي وما الذي لا يجزي في الهدي، ثم أتبع ذلك بالأضحية؛ لاشتراك الكل في الزمان، وأتبعه بالعقيقة؛ لوجود المناسبة من جهة تفصيل أحكام الدم في كلٍ.

    أحكام العقيقة


    قال رحمه الله: [والعقيقة].وهي ما يعق به عن المولود، ووصفت بذلك؛ لأن المولود يحلق شعره وتذبح عقيقته، والعقيقة: شعر المولود، فلما وجد الحلق لهذا الشعر وصفت بذلك وقيل لها: عقيقة، والعقيقة تعتبر أيضاً من سنن النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، فقد عق عن الحسن والحسين، وعق عن ولده صلوات الله وسلامه عليه، تشريعاً للأمة، وفيها نوع شكر لله عز وجل على نعمة الولد، وأن الله سبحانه وتعالى لم يقطع عن الإنسان الذرية، وفيها تضمن إثبات أنساب الناس، فإن الناس يعرفون الأنساب عن طريق العقيقة؛ إذ تذبح العقيقة ويدعى لها الناس، فيسألون: ما هذا المولد: أذكر أم أنثى؟ فيثبت للإنسان نسبه، ولكن إذا خلا هذا الاجتماع فإن الناس يتكاثرون ويتوالدون ولا تعرف أنسابهم، ولا تحفظ الذرية.
    كما أن فيها هذا المعنى العظيم الذي يشعر بالتفرقة بين السفاح والنكاح، فإن السفاح والزنا -والعياذ بالله- تكون ولادته خفية، وهي عار على من بلي به -نسأل الله السلامة والعافية- ولكن النكاح يشهر في ابتدائه، كما قال صلى الله عليه وسلم: لـعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه: (أولم ولو بشاة)، وكذلك جعل العقيقة عند وجود أثر النكاح من الولد، كل ذلك ليفرق بين ما شرع الله من النكاح وبين ما حرمه من الزنا والسفاح.
    وقول رحمه الله: (باب الهدي والأضحية والعقيقة)، كأنه يقول: سأذكر لك في هذا الموضع جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالهدي والأضحية والعقيقة.

    أفضل الذبائح

    قال المصنف رحمه الله: [أفضلها إبل، ثم بقر، ثم غنم].الأفضل: هو الأعظم ثواباً والأكثر أجراً، والتفضيل إنما يكون بدليل الشرع، فلا تَفْضُل عبادة على عبادة ولا طاعة على طاعة إلا بدليل من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة، وليس التفضيل بمحض الهوى واختيار الإنسان وحبه، وإنما هو من شرع الله عز وجل، ولذلك يتوقف في الفضائل، ولا يحكم بها إلا بدليل، وليس لأحد أن يحكم ويجزم بتفضيل طاعة على طاعة وقربة على أخرى إلا بدليل من الشرع، وعلى هذا ابتدأ المصنف رحمه الله ببيان أفضل الهدي وأفضل الأضحية وأفضل ما يعق به، فقال رحمه الله: (أفضلها) والضمير عائد إلى هذه الثلاث.
    قال: (أفضلها إبل) والدليل على تفضيل الإبل: أن الله سبحانه وتعالى امتنَّ بها على عباده، فقال سبحانه: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ )[الحج:36] ، فأخبر سبحانه أنها من شعائره، وهذا بسبب ما يكون فيها من الخير، كما قال تعالى: (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ )[الحج:36] ، والخير الموجود في الإبل يدل على فضلها؛ لأنها أعظم جسماً وأكثر لحماً، وهي عند الناس أعز وأشرف، ولذلك لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر فضل الدنيا وفضل ما يكون منها اختار منها حمر النعم؛ وهي الإبل الحمراء؛ لأنها عزيزة، ولما أراد الله سبحانه وتعالى أن يصف أهوال الآخرة وشدائد ما يكون في الرجفة بين يدي الساعة قال سبحانه: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ )[التكوير:4]، فالناقة العشراء الولود من أعز ما يكون على الإنسان، وعلى أهله.
    فالإبل هي أفضل بهيمة الأنعام من عدة وجوه: من جهة ما يكون منها من الخير في ركوبها، والوبر الذي يكون منها، وحمل الأثقال عليها: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ )[النحل:7]، وهي السيارة التي يسيرون عليها، وجعل الله فيها من الخصائص والمميزات -بقدرته وعظمته جل جلاله- ما تحار فيه العقول من جهة صبرها على السفر، وتحملها لمشقة الظمأ والعطش أياماً عديدة، فيجد الناس فيها من قضاء المصالح ما الله به عليم، وأعجب ما يكون أنك تراها مع عظم جثتها وضخامتها يقودها الولد الصغير! فهو يأخذ بخطامها فتسير معه حيث سار، وكل ذلك بفضل الله سبحانه وتعالى، فلولا تسخير الله عز وجل لها لم يستطع هذا الغلام أن يقود هذه الدابة، ولربما فتكت به في طرفة عين، فإن البعير إذا هاج ربما يذعر القرية بكاملها؛ لأنه يفتك بالإنسان ويقتله، ولربما قتل صاحبه إذا كان به غل عليه، ينتظر نومه أو غفلته فيبرك عليه فيقتله، ولربما يعضه حتى يقضي ما بيده، ولربما ينزف حتى يموت، ويفعل الأفاعيل التي قد يعجز عنها العدد الكثير من الناس، ففيه قوة وبطش وحنق وغيظ، ولكن الله سبحانه وتعالى يلطف بلطفه.
    فهذا النوع من بهيمة الأنعام لا إشكال في أنه الأفضل؛ لما جعل الله فيه من الخصائص والمميزات، ولأنه أعز ما يملكه الناس، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن: (أعظم الرقاب أجراً أنفسها وأغلاها عند أهلها) ، ثم إن الإبل أكثر ثمناً، والأغلى ثمناً أعظم أجراً؛ لأن فيه مشقة البذل ومشقة الصدق، ولذلك سميت الصدقة صدقة؛ لأن المسلم يصدق فيها، أو تدل على صدق محبته لله عز وجل، وإيثاره للآخرة على الدنيا.
    وأما الدليل الذي دل على تفضيل الإبل على البقر فصريح قوله عليه الصلاة والسلام: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في السعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً)، فجعل الساعة الأولى للإبل، والثانية للبقر، والثالثة للغنم، ومعلوم أن مشقة الساعة الأولى أعظم، ومن هنا دل هذا الحديث على تفضيل الإبل على البقر والغنم.
    وذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن الأفضل في الأضحية الجذع من الضأن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى به، ولا يختار الله لنبيه إلا الأفضل، ولحديث: (إن الجذع أفضل من الإبل)، وفيه أن الله تعالى اختاره فداء لنبيه إسحاق عليه السلام.
    فقالت المالكية: إن الضأن أفضل من الإبل في الأضحية فقط، وأما في الهدي فالإبل أفضل؛ فكأنهم رأوا خصوص ورود النص في الأضحية في الضأن. وهذا القول مرجوح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإبل أفضل من البقر والغنم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك الأفضل وهو يحبه -كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- شفقة على الأمة، ولذلك قال الجمهور: لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بالكبش لأنه أيسر على الناس، ولذلك ففيه الجذع، والجذع أقل سناً من الثني من الماعز ومن الثني من البقر ومن الثني من الإبل، فكأنه يريد الرفق بالأمة، ومن هنا قالوا: إن هذا لا يستلزم أنه أفضل.
    وأما تفضيل الضأن على الإبل بحديث الفداء، فحديث الفداء ضعيف سنداً ومتناً، أما سنداً: فلأنه من رواية إسحاق الحنيني، وهو ضعيف. وأما بالنسبة للمتن: فلأن فيه: (أن الله اختاره فداء لإسحاق)، والذبيح إنما هو إسماعيل وليس إسحاق عليهما السلام، على أصح قولي العلماء كما لا يخفى؛ والسبب في ذلك: أن التي كانت بمكة إنما هي هاجر، والولد ولدها، ولو كان الذبيح إسحاق لكان النص يعتني بإيراده من الشام إلى مكة، وهذا واضح وظاهر، ومن الأدلة التي تقوي أن الذبيح إسماعيل: أن الله تعالى يقول في نفس الآية: فَبَشَّرْنَاهَ بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ )[هود:71]، فكيف يبشره بأن إسحاق سيلي يعقوب، ثم يأمره بذبحه؟!! ولذلك قالوا: إن الذبيح إنما هو إسماعيل؛ لأن الله ذكر البشارة بإسحاق بعد إسماعيل، وهذا يدل على أن الذبيح إسماعيل، فذكر قصة الذبح لإسماعيل، ثم بعد ذلك أتبعها بالبشارة: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ )[الصافات:112]، ويدل عليه أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (أنا ابن الذبيحين)، وذلك واضح من جهة أبيه عبد الله وجده إسماعيل عليه الصلاة والسلام.
    وعلى هذا فالذي يظهر أن الأفضل في بهيمة الأنعام -سواء كانت هدياً أو أضحية- أن نقدم الإبل ثم البقر ثم الغنم؛ لثبوت السنة بالتفضيل.
    قال رحمه الله: (ثم بقر)؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للصحابة أن يشترك السبعة في البعير والبقرة، وضحى عليه الصلاة والسلام عن نسائه ببقرة، فجعل البقرة منزلة البعير من جهة الاشتراك، لكن البقرة دون البعير في الفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الساعة الأولى للإبل، والثانية للبقر، ولأن الإبل أوفر لحماً من البقر -كما لا يخفى- وأطيب عند الناس، وأفضل من لحم البقر، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن لحم البقر داء ولبنه شفاء)، وهذا صحيح، فإن لحم البقر خاصة في البلاد الحارة يضر بالبدن، وأما بالنسبة للحم الإبل فإنه أطيب، وليس فيه ما في لحم البقر.
    وقد ذكر الأطباء القدماء والمعاصرون هذا الكلام، فمما ذكره الأطباء القدماء: أن لحم البقر يثير السوداء، والسوداء: هي إحدى الخصائص الأربع الموجودة في البدن، فإذا هاجت في الإنسان فإنها تورث الوسوسة، وتؤثر في عقله، وفيها ضرر، فالأطباء لا يحمدون لحمه كما يحمد لحم الإبل، وفي لحم الإبل زهومة وقوة، ولذلك أمر بالوضوء منه؛ أو لما فيها من الشياطين، كما تقدم معنا في مباحث الوضوء ونواقضه.
    وقوله: (ثم غنم) يشمل الزوجين من الغنم: الماعز والضأن، والضأن هو الذي يسميه العامة (الطلي)، وقد اختلف العلماء هل الأفضل الضأن أو الماعز؟ والصحيح: أن الضأن أفضل؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاره من بين الغنم، ولأن لحم الضأن أطيب من لحم الماعز، ولذلك قالوا: إنه في الغنم يفضل الضأن على الماعز، مع أن سن الضأن دون سن الماعز؛ ولكنه فضل من جهة حب الناس له، وطيب لحمه، وقد يكون في كثير من الأحوال أوفر لحماً من الماعز.

    ما يجزئ ذبحه

    قال رحمه الله: [ولا يجزئ فيها إلا جذع ضأن وثني سواه].الجذع: هو الذي أتم ستة أشهر، ويختلف بحسب اختلاف المرعى، فبعضه يجذع بعد الستة الأشهر؛ لقوة المرعى، وبعضه لا يكون جذعاً إلا بعد ثلاثة أرباع الحول إلى ثمانية أشهر، وبعضه يكون جذعاً قريباً من السنة، وهذا يختلف -كما ذكر أهل الخبرة- باختلاف المرعى، ولكن الغالب أن الجذع إذا أتم ستة أشهر ودخل في أكثر السنة فإنه يكون جذعاً من الضأن، وأما بالنسبة للثني فهو ثني ما سوى الجذع من الضأن، فالمراد به: ما أتم سنة من الماعز ودخل في الثانية، وما أتم الثانية ودخل في الثالثة بالنسبة للبقر، وأما بالنسبة للإبل فهو ما أتم الرابعة وطعن في الخامسة، هذا هو الثني من الماعز والثني من البقر والثني من الإبل، ويسمى بالمسن، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) ، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تذبحوا إلا مسنة) يدل على أن الاعتبار بالمسنة إنما هو في الإبل والبقر والغنم، وكذلك أيضاً قوله: (إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) قالوا: إن الجذع من الضأن يوفي ما يوفي منه المسن فيما سواه.
    ثم يقول رحمه الله: [ فالإبل خمس، والبقر سنتان، والمعز سنة، والضأن نصفها].
    على ما ذكرناه، فستة أشهر فأكثر بالنسبة للضأن، وسنة كاملة بالنسبة للماعز، وسنتان بالنسبة للبقر، واستتمام الرابعة والدخول في الخامسة بالنسبة للإبل.
    قال رحمه الله: [وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة].
    قوله: (تجزئ الشاة عن واحد)، هذا فيه تفصيل: أما الأصل فإنها تجزئ عن الرجل وعن المرأة، ولكن تجزئ عن الرجل وأهل بيته أيضاً؛ لأن أبا أيوب رضي الله عنه ذكر أن الشاة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تجزئ عن الرجل وأهل بيته، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد)، فأدخل عليه الصلاة والسلام آله، ولذلك قالوا: تجزئ عن الرجل وأهل بيته، والمراد بأهل البيت: الزوجة والأولاد، وفي الأولاد تفصيل: فمن استقل من الأولاد بنفقته فلا يدخل، وتكون له أضحيته، فيضحي عن نفسه، وأما إذا كان تبعاً في البيت وكأنه واحد من أهل البيت، فحينئذٍ لا إشكال في دخوله، وإذا ملك القدرة فإنه يضحي عن نفسه، خروجاً من الخلاف.
    وقوله: (والبدنة والبقرة عن سبعة)؛ لحديث جابر رضي الله عنه كما روى مسلم في صحيحه، وقد وقع هذا في صلح الحديبية، فكانوا يشتركون السبعة في البعير، والسبعة في البقرة، وعلى هذا فإن البقرة تجزئ عن سبعة، والبدنة تجزئ عن سبعة، فلو اشترك السبعة في بقرة واحدة أو بعير واحد أجزأهم ذلك.


    أحكام عيوب الأضحية

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا تجزئ العوراء].شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالأضحية والهدي ونحوهما من الدماء الواجبة؛ حيث ابتدأ بهذه الجملة في بيان ما ينبغي أن تكون عليه البهيمة من السلامة من العيوب، فإذا أوجب الله على المكلف ذبحها؛ فينبغي أن تكون سالمة من العيوب. وقد نص رحمه الله على هذه الأحكام، وهي التي تسمى: أحكام عيوب الأضحية، ونص عليها بالأضحية لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على بيان العيوب التي تؤثر في الأضحية؛ ففي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: (أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عروها، والعرجاء البين ضلعها، والمريضة البين مرضها، والكسيرة -وفي رواية: الكبيرة- التي لا تنقي) ، فبيّن عليه الصلاة والسلام ما ينبغي أن تكون عليه البهيمة من السلامة من العيوب، سواء كانت من الغنم أو البقر أو الإبل، فلا بد من أن تكون سالمة من هذه العيوب الأربعة.
    ولما نص عليه الصلاة والسلام على هذه الأربع نبه على ما هو أولى منها وأشد، وذلك أنه حينما بين أن العوراء لا يجوز أن يضحى بها فمن باب أولى العمياء، ولما نص على أن العرجاء لا يضحى بها فمن باب أولى المشلولة.
    أقسام عيوب الأضحية

    وقد تكلم العلماء رحمهم الله عن هذه العيوب وفصلوا فيها؛ فقسمت إلى قسمين: القسم الأول: عيوب منصوص عليها، وهي العيوب التي بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء المذكور.
    القسم الثاني: مقيسة وملحقة بالمنصوص عليها، وهذا النوع المقيس والملحق إما أن يكون قياسه من باب أولى؛ كالعمياء والشلاء، وإما أن يكون قياسه عند تساوي العلة فيه، بمعنى: أن يكون العيب متحداً من جهة تأثيره في اللحم أو القيمة؛ على اختلاف بين العلماء في بيان تحقيق المناط في هذا القسم.

    العوراء

    قوله رحمه الله: (ولا تجزئ العوراء): المراد بالعور: ذهاب نور البصر في إحدى العينين، وأصل العور في لغة العرب: النقص، ولما نقص بصر البهيمة نقصت قيمتها. وأما كونه لا يجزئ أن يضحى بالأضحية إذا كانت عوراء، فذلك هو نص قوله عليه الصلاة والسلام: (العوراء البين عورها)، والشاهد: أنها إذا كانت عوراء فإما أن يذهب نور العين بالكلية، وإما أن يكون نور العين موجوداً ولكن بشكل ضعيف، فإن ذهب نور العين بالكلية بحيث لا تبصر ألبتة، ويعرف ذلك بطريقة ما، كأن تربط عينها المبصرة وتترك لتسير، فإن لم تسر كما كانت تسير، أو خبطت في مشيها، أو امتنعت وتوقفت؛ دل ذلك على أنها لا تبصر بعينها، فإذا كان بصرها قد ذهب في إحدى العينين فلا يجزئ أن يضحى بها.
    لكن العلماء رحمهم الله قسموا العوراء إلى قسمين:
    القسم الأول: ما كانت فيه العين قائمة.
    والقسم الثاني: ما كان تلف العين ظاهراً عليها.
    أما الذي تكون فيه العين قائمة؛ فإنك ترى البهيمة وكأنها مبصرة -وهي العين التي تسمى بالقائمة- ولا تستطيع أن تقول: إنها عوراء، أو أن بصرها قد ذهب. فهذا النوع يقول فيه بعض العلماء: إذا كانت العين قائمة فإنه يجوز أن يضحى بها؛ لأن قيام العين لا يمنع من الانتفاع من أكل العين، وكأن المنع من التضحية بالعوراء أنه لا ينتفع بالعين، وذلك عند طبخها وأكلها، فإنه يكون نقصاناً في خلقتها ونقصاناً في الانتفاع بها.
    وقال بعض العلماء: إنما أثر هذا العيب لكونها إذا كانت عوراء لم تستطع أن ترعى كأخواتها، فأضر ذلك برعيها وطعامها، ومن ثم تتضرر في لحمها، وينبني على ذلك مسائل:
    المسألة الأولى: الحكم في قوله عليه الصلاة والسلام: (العوراء البين عورها) يدل دلالة واضحة على أن البهيمة إذا كانت لا تبصر بإحدى العينين فإنه لا يجزئ أن يضحى بها، سواء كانت عينها موجودة أو غير موجودة، فإن قوله: (البين عورها) البين: من البيان، يقال: بان الشيء إذا اتضح، ومنه قولهم: بان الصبح، إذا اتضح وبدا ضوؤه، فقوله: (البين عورها) أي: التي يكون العور فيها مؤثراً، والمراد بذلك وجوده حقيقة، ومفهوم قوله: (البين عورها) أنها إذا كانت تبصر نوع إبصار ولو كان ضعيفاً، فإنه يجوز أن يضحى بها؛ لأن المراد بالعور ذهاب البصر، وهذا هو المقصود من قوله: (البين عورها)، سواء كانت العين موجودة أو غير موجودة.
    المسألة الثانية: إذا قلنا: إن العوراء لا يجوز أن يضحى بها، فما حكم العمياء؟
    جمهور أهل العلم رحمهم الله على أن العمياء لا يجوز أن يضحى بها؛ وذلك لأن العين مما يستطاب ويؤكل، فهي ناقصة لعضو من أعضائها، ولذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العوراء لذهاب جزء هذا العضو، فمن باب أولى إذا ذهب بالكلية.
    وقالت الظاهرية: الحكم يختص بالعوراء، والعمياء يجوز أن يضحى بها. وهو قول مرجوح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالأدنى على الأعلى، فلما قال لنا: إن العوراء لا يجوز أن يضحى بها -وهو صريح قوله في الحديث الصحيح- فإن هذا يدل دلالة واضحة على أن ذهاب البصر بالكلية يعتبر عيباً موجباً لعدم جواز التضحية.
    المسألة الثالثة: إذا كان بها بياض، أي: أن العينين قائمة وموجودة، ولكن فيها بياض يشينها، وتارة يضعف بصرها، فهل يجوز أن يضحى بهذا النوع من البهائم أم لا؟
    للعلماء تفصيل في ذلك: قالوا: إذا كان البياض قد غطى البصر حتى أذهبه؛ لم يجز أن يضحى بها، وإن كان البصر باقياً ولو كان ضعيفاً؛ جاز أن يضحى بها.
    المسألة الرابعة: إذا كانت الشاة لا تبصر بالليل ولكنها تبصر بالنهار -وهو العشي- فإذا كانت على هذا الوجه هل يجوز أن يضحى بها أم لا؟
    الصحيح: أنه إذا كانت تبصر بالنهار ولا تبصر بالليل فإنه يجوز أن يضحى بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على العوراء بقيد، وهو قوله: (البين عورها)، فإذا كان نقص البصر ليس ببين، بمعنى: أنه موجود في النهار وليس بموجود في الليل؛ فلا يؤثر.
    ومما يدل على أنها إذا كانت تبصر بالنهار ولا تبصر بالليل فإنه يجوز أن يضحى بها: أن الناظر في العلة في حال حياتها إنما هو لضعف أكلها ومرعاها، ومعلوم أن الرعي يكون بالنهار ولا يكون بالليل، فأصبحت العلة ضعيفة عن التأثير، وعلى هذا فإنه يجوز أن يضحى بالشاة إذا كانت تبصر بالنهار ولا تبصر بالليل؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد المنع بالبيان، وإذا كانت الشاة تبصر بالنهار فإن عورها وذهاب بصرها ليس ببين وواضح؛ فافتقد القيد المعتبر للحكم بالمنع.
    قال بعض العلماء في العوراء: إن العين مما يستطاب في اللحم، وربما أُكرم الضيف بإعطائه العين إكراماً له وإجلالاً، وربما خصوه باللسان، على عادات تختلف بحسب اختلاف أحوال الناس وأزمنتهم، فقالوا: إن العور يذهب هذا المقصود بعد ذبح الشاة وبعد نحر الإبل ونحو ذلك، فقالوا: إنه يعتبر عيباً مؤثراً؛ لأنه نقص في اللحم، ونقص في الانتفاع، وبهذا كان مؤثراً وموجباً لعدم جواز التضحية بهذا النوع من البهائم.
    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #245
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (245)

    صـــــ(1) إلى صــ(27)


    الهزيلة العجفاء

    قال رحمه الله: [والعجفاء].المراد بالعجفاء: الهزيلة، وهي كبيرة السن، وقد جاء تقييدها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (والكسيرة التي لا تنقي) والمراد بذلك أمور:
    أولاً: أنها كبر سنها ووهن عظمها حتى ذهب المخ الذي في عظامها، والمخ الذي في العظم مما يستطاب، وله فوائد، وقد كانوا يستحبونه في الأكل؛ فذهابه ذهاب لمادة العضو، ولذلك قالوا: إن هذا يعتبر نقصاناً في الخلقة ونقصاناً في المادة؛ لأن المقصود من ذبح الأضحية أن تؤكل، فإذا ذهب مخها -وهو من أفضل ما يستطاب فيها ومما فيه المنفعة- فإن ذلك يؤثر في إجزائها.
    ثانياً: أنها إذا كانت كبيرة ولا مخ فيها فإن لحمها لا يستطاب؛ وذلك لأن الكبيرة يتغير لحمها مع الكبر، وحينئذٍ تكون في هذه الحالة قد ذهب المقصود من ذبحها من استطابة أكلها، وانتفاع الناس بها بعد الذبح.
    ثالثاً: قوله: (والكبيرة -وفي رواية: والكسيرة- التي لا تنقي) فإن الشاة أو البقرة أو الناقة تكون هزيلة لأسباب:
    الأول: أن يكون هزالها بالكبر؛ فحينئذٍ لا إشكال في ذلك، وقد ورد النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونها لا تجزئ.
    الثاني: أن تكون هزيلة بسبب المرض؛ كأن تصاب بمرض ثم تضعف وتصير هزيلة لا مخ فيها، وهذه لا إشكال فيها أيضاً؛ لأنه قد اجتمعت فيها علتان: العلة الأولى: المرض، والعلة الثانية: ذهاب مخها ونقي عظامها.
    الثالث: أن تكون هزيلة الخلقة، فإذا كان هزالها من أجل أنها منذ أن وجدت وهي في الخلقة ضعيفة الجسم هزيلة ولكنها طيبة اللحم، بمعنى: أنها تطعم وتأكل المرعى، ولكنها لا تُقبل على الأكل كثيراً؛ فهي هزيلة في خلقتها، فمذهب طائفة من العلماء: أن هذا الهزال لا يؤثر، ويجوز أن يضحى بمثلها.
    الرابع: أن يكون الهزال بسبب الجوع وبسبب قلة الأكل والمرعى، كما يقع ذلك في السنين التي تكون شديدة على الناس، فقال بعض العلماء: إذا كانت هزيلة بسبب الجوع فإنه يجوز أن تذبح ويضحى بها؛ وذلك لأن هذا الهزال لا يؤثر في نقي عظامها.. صحيح أنه في بعض الأحيان يضعفه وقد ينقصه، ولكنه ليس ناشئاً عن داء ولا كبر؛ فيعتبر غير مؤثر ولا موجب لعدم الإجزاء.

    العرجاء غير المجزئة في النسك

    قال رحمه الله: [والعرجاء].وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (أربع لا تجوز في الأضاحي -وذكر منها-: العرجاء البين ضلعها)-يعني: عرجها-، والعرج ينقسم إلى قسمين:
    القسم الأول: أن يكون خفيفاً، ولا يستطيع الإنسان تمييزه إلا بدقة النظر؛ فهذا لا يؤثر، وجهاً واحداً عند العلماء.
    القسم الثاني: أن يكون عرجها قوياً ومؤثراً وواضحاً بيناً، فحينئذٍ لا يخلو من أحوال:
    فتارة يكون ملازماً لها؛ كأن يكون خلقة، أو كسرت منها يد فأصبحت تعرج بعد كسرها، أو رجل فأصبحت تعرج بعد كسرها، ونحو ذلك، فإن أصبح ملازماً لها فإنه يؤثر، وأما إذا كان عارضاً يزول بزوال علته؛ فإنه لا يؤثر، ولا يوجب مثله المنع، لكن قال بعض العلماء: لا يضحى بها حال العرج؛ لأنها ناقصة وقت الأضحية.
    والعرج منع منه لعلتين:
    الأولى: أنه يمنع الشاة من اللحوق بصويحباتها عند الرعي، فيفوتها الرعي، وتأتي على آخره ولا تصيب منه إلا القليل؛ فيؤثر في طيب لحمها، وهي مقصودة من أجل أكلها.
    الثانية: لأن العضو قد انتقص، وهو اليد أو الرجل؛ فيكون تنبيهاً من الشرع على أن كل نقص في الخلقة يوجب المنع.
    وفي قوله: (العرجاء) تنبيه على أنها إذا كانت معاقة -كأن تكون مثلاً مشلولة اليدين أو مشلولة اليد- فمن باب أولى وأحرى أن لا تجزئ؛ لأنه إذا كان العرج لا يجزئ، وهو نقصان العضو وليس بذهاب له كله؛ فإنه من باب أولى إذا كانت مشلولة اليد كاملة أو كانت مشلولة الرجل أنها لا تجزئ، ولا يصح أن يضحى بها.

    معنى الهتماء وعدم جواز النسك بها

    قال رحمه الله: [والهتماء].الهتماء: هي التي ذهبت ثناياها، وفيها وجهان للعلماء:
    الأول: إن ذهبت ثناياها ولم تستطع أن تأكل كصويحباتها، وأثر ذلك أيضاً في لحمها، فهو عيب ونقص أيضاً في عضو؛ لأن الأسنان من أعضاء البهيمة وأجزائها، فذهابها يعتبر مؤثراً وموجباً للمنع.
    الثاني: أن ذهاب ثناياها لا يمنع من رعيها وانتفاعها بالطعام، ثم إن هذا النقص للعضو لا يؤكل، وقالوا: إنه لا يؤثر؛ لأنه ليس بنقصان، وليس له تأثير على طيب اللحم كغيره من العيوب التي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها.
    وصحح غير واحد من أهل العلم رحمهم الله أنه يجوز أن يضحى بها، وفي النفس من هذا القول شيء، فالأولى والأحوط أن لا يفعل ذلك إلا إذا اضطر إليه.

    صفة الجداء التي لا يجوز النسك بها


    قال رحمه الله: [والجداء].الجداء: هي التي جف ضرعها ويبس عن اللبن، فإن التي لا تحلب وجف ضرعها ويبس قد انتقص من عضوها، قالوا: فلما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من التضحية بالعرجاء والعمياء وذلك كله نقصان في الخلقة، نفهم من هذا أن كل نقص لعضو من أعضاء البهيمة يوجب المنع من التضحية والإجزاء.

    المريضة

    قال رحمه الله: [والمريضة].كان الأولى به أن يقدم المريضة على الجداء والهتماء؛ لأنه منصوص عليها، فإن الإجماع قائم على أن المريضة البين مرضها لا تجزئ، والمرض يكون على أحوال:
    فتارة يكون على ظاهر البهيمة، وتارة يكون في باطن البهيمة، وما كان من المرض على ظاهر البهيمة فتارة يكون بعلامة بينة لا مجال للشك فيها كالجرباء، فإذا كانت الشاة أو الناقة أو البقرة جرباء لم يجز أن يضحى بها؛ لأنها مريضة بينة المرض، وأنت إذا رأيتها استبان لك مرضها، ولأنه لا يؤمن من الضرر عند أكل لحمها، ولذلك قالوا: إنه لا يجزئ أن يضحى بمثل هذه؛ لأن مرضها بين واضح.
    وتارة يكون بيان مرضها في داخلها.
    وتارة يكون مرضها بحصول أمارات تدل على وجود فساد في صحة البهيمة، وذلك بقول أهل الخبرة الذين لهم معرفة بالبهائم، فإذا قالوا: إن بها مرضاً، وهذا المرض مؤثر؛ فإنه حينئذٍ لا يضحى بها، أما لو قالوا: هذا شيء عارض وبسيط ولا يؤثر، كما لو أصيبت باستطلاق بطن، وهذا الاستطلاق يقول أهل الخبرة: لأنها أكلت نوعاً من الطعام، وسرعان ما تعود إلى طبيعتها ولا يؤثر؛ فهذا ليس مثله بموجب للمنع من الإجزاء.
    وعليه: فإن المرض إذا كان ظاهراً بيناً كالجرب ونحوه من الغدد المفسدة للحم، التي إذا ذكيت البهيمة ظهر فيها الخراج والغدد الواضحة التي تؤثر في لحمها، أو يرى الأطباء أنها مؤثرة في اللحم؛ فإنه لا يجزئ مثلها، وفي بعض الأحيان يكون مرض البهيمة سارياً إلى من يأكل لحمها، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالمريضة البين مرضها؛ لما في ذلك من أذية الناس في صحتهم، وهذا يدل على عناية الإسلام بمبدأ الوقاية ورعايته بالصحة، وهذا مما يعين المسلم على طاعة الله عز وجل، ويقويه على مرضاته؛ لأنه إذا سقم ومرض فلن يستطيع أن يذكر الله سبحانه وتعالى، حتى ربما منع ولم يستطع القيام بفريضة الله في الصلاة ونحوها من الطاعات، ولذلك منع من التضحية بالمريضة البيّن مرضها؛ لما فيها من أذية البدن بأكل لحمها، ومقصود الشرع إنما هو الإحسان إلى الناس لا الإساءة إليهم.
    والمرض ينقسم عند بعض العلماء إلى قسمين:
    القسم الأول: المرض الملازم المصاحب.
    والقسم الثاني: المرض العارض الذي يمكن أن تشفى منه البهيمة إذا مضت فترة يحددها أهل الخبرة جرت العادة بقدرة الله جل جلاله أنها تشفى في مثلها.
    فأما إذا كان المرض ملازماً فلا يجزئ أن يضحى بمثل هذا النوع، وأما إذا كان المرض عارضاً فقال بعض العلماء: ينتظر إلى أن تشفى، ولا يجوز أن يضحى بها أثناء مرضها.
    وقال بعض العلماء: يجوز أن يضحى بها أثناء المرض وبعد المرض؛ لأن هذا المرض ليس ببين، بمعنى: أنه ليس مؤثراً تأثيراً بيناً في البهيمة.
    والصحيح: أنه ينتظر إلى شفائها وطيبها.

    حكم العضباء في النسك


    قال رحمه الله: [والعضباء].قال طائفة من أهل العلم: إذا ذهب قرن البهيمة فإنه لا يضحى بها؛ لوجود نقص في عضو من أعضائها.
    وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يضحى بمقطوعة القرن، ومنهم من حَدَّه بالثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) ، ومنهم من حَدَّه بأكثر القرن إذا ذهب، وأما ما دون ذلك فإنه لا يؤثر، وورد عنه عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه أمره الصحابة أن يستشرفوا العين والأذن والقرن، قالوا: فهذا أصل يدل على أنه إذا ذهب القرن أو أكثره فلا يجوز أن يضحى بمثله.

    البتراء من النعم وحكمها في النسك

    قال رحمه الله: [بل البتراء خلقة].البتراء: هي مقطوعة الذنب، والأبتر: هو المقطوع، ولذلك كان الكفار في الجاهلية يذمونه عليه الصلاة والسلام بذلك، وقالت إحدى نسائهم للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه أبتر، قالوا: عنت أنه مقطوع لا ذرية له، وقيل: مقطوع عن دين قومه، فكأنهم بتروه وخرج عنهم، كما يقال: الصابئ، من قولهم: صبأ إذا خرج، فلما قالت ذلك قال الله عز وجل: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ )[الكوثر:3]، فرد الله عز وجل ما ذكروه من النقص والعيب، والبتر: القطع في الشيء.
    وقد قال بعض العلماء: لا تجزئ مقطوعة الذنب أن يضحى بها، وكذلك إذا كان الكبش مقطوع الإلية فلا يجوز أن يضحى به؛ وذلك لأنه نُقص عضو من أعضائه، والإلية تؤكل، ويستطاب أكلها، وينتفع بها، وقد تكون شفاء ودواء، ويحصل فيها من المنافع ما لا يخفى، قالوا: فإذا قطعت الإلية أو قطع أكثرها فإن هذا يعتبر عيباً مؤثراً وموجباً للحكم بعدم الإجزاء، ولأن هذا القطع يؤثر في البهيمة إذا أخرجت وأفضلت.
    وقال بعض العلماء -كما درج عليه المصنف-: إن البتراء تنقسم إلى قسمين:
    القسم الأول: إن كانت بتراء خلقة، فإن هذا لا يؤثر.
    القسم الثاني: إن كان قطع منها بالقصد بعد وجود ذلك في خلقتها، فإنه يعتبر عيباً مؤثراً. وهذا التفصيل على أنها تجزئ هو الأقوى والأصح.

    أحكام الجماء والصمعاء في النسك

    قال رحمه الله: [والجماء].الجماء: هي التي لا قرون لها، والبهيمة أو الشاة الجماء يجوز أن يضحى بها؛ لأنها خلقة قد ذهب قرنها، فليست كالتي يقطع أو يقص منها بعد وجوده، ففرق العلماء رحمهم الله بين كونها وجدت خلقة بهذه الطريقة، وبين كونها قطع منها ذلك.
    ثم قيس على هذه المسألة إذا ما ولدت الشاة لا أذن لها، فقال بعض العلماء: إذا كانت بدون أذن جاز أن يضحى بها، وهي الصمعاء، فقالوا: يجوز أن يضحى بها كالجماء، فإن ذهاب أكثر القرن لم يجزئ عندهم، وأما إذا كان خلقة غير موجود فإنه يجزئ، قالوا: فكذلك الأذن إذا قطع أكثرها أو كلها أثر، وأما إذا وجدت خلقة صمعاء لا أذن لها فإنه يجزئ أن يضحى بها.

    أحكام الخصي في النسك

    قال رحمه الله: [وخصي غير مجبوب].وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوءين، وقال العلماء: إن الوجاء يطيب اللحم، فإذا كان خصياً فإن هذا مما يزيد اللحم طيباً، ومن هنا قال العلماء: نقصان الخلقة ينقسم إلى قسمين:
    القسم الأول: أن يكون نقصاناً مؤثراً في الخلقة، كما ذكرنا في العوراء والعرجاء ونحوهما. فهذا يعتبر عيباً في أبواب الفقه، ويشمل ذلك باب الأضحية والبيوع، فلو باعه دابة ولم يخبره أنها عرجاء، فلما ركبها تبين عرجها؛ جاز له أن يردها، ويعتبر هذا عيباً مؤثراً.
    القسم الثاني: أن يكون النقص والعيب كمالاً؛ فهو في ظاهره نقص من الخلقة لكنه كمال فيها، كالخصى والوجاء، فإنه يعتبر مطيباً للحم؛ فحينئذٍ هو نقص من وجه وكمال من وجه آخر، فلا يعتبر موجباً للفساد والمنع في باب الأضحية، ولكنه قد يمنع ويوجب المنع في بيع الأرقاء في باب البيوع؛ وذلك لأنه قد يستفاد من إنجابه ونسله، وكذلك أيضاً يعتبر عيباً بالنسبة للبهيمة إذا بيعت من أجل الانتفاع بالفحل بالضراب، ثم تبين أنه موجوء؛ فإنه حينئذٍ يجوز له أن يرد المبيع ويبطل البيع ويفسخه.

    أحكام ما بأذنه أو قرنه قطع

    قال رحمه الله: [وما بأذنه أو قرنه قطع أقل من النصف].هذا حد لبعض العلماء، وبعضهم يحده بالثلث، وأثر عن الإمام أحمد رحمه الله قوله بالثلث أيضاً؛ لأنه إذا جاوز النصف فكأن الشيء قد ذهب؛ لأن أكثر الشيء غالباً ينزل منزلة الكل، فقالوا: إذا قطع أكثر القرن أو أكثر الأذن فإن ذلك كقطع الأذن كلها.



    الأسئلة

    حكم التضحية عن الميت

    السؤال: عندنا في عيد الأضحى نضحي عن الميت، فهل هذا له أصل من السنة، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد:
    فالتضحية عن الميت فيها قولان مشهوران:
    قول جمهور العلماء، وهم على جواز التضحية عن الأموات، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحى بالكبشين قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد)، قالوا: وفي آله الأحياء والأموات، وكذلك قال: (عمن لم يضح من أمة محمد)، فشمل أحياءهم وأمواتهم، وقد تكلم عن هذه المسألة شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر أن هذا جائز ولا حرج فيه، ولا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وهذه السنة تدل على مشروعية التضحية عن الميت، خاصة إذا وصى بذلك، فقال: ثلث مالي يضحى عني منه، فحينئذٍ تكون الأضحية واجبة؛ لأنها وصية، وإذا كان ثلثه يسع ذلك فإنه يلزم إنفاذ هذه الوصية.
    وخالف في هذه المسألة بعض فقهاء المالكية، واحتجوا بقوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى )[النجم:39] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) .
    أما الاستدلال الأول فقد أجاب عنه شيخ الإسلام رحمه الله بأجوبة عديدة، وذكر أن قوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى )[النجم:39] من جهة كونه يستحق الثواب على عمله، أي: أن عمله يتوقف عند موته من جهة كونه يحصل الثواب، أما لو أنه بعد وفاته تفضل عليه الغير بالاستغفار والترحم له، أو الصدقة عنه؛ فإن هذا لا يمتنع؛ بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وغيره لما قيل له: (يا رسول الله! إن أمي ماتت فجأة أفأتصدق عنها؟ قال: نعم)، ويدل له أيضاً حديث سعد رضي الله عنه في صحيح البخاري: أنه شكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم موت أمه فجأة، فقال: (يا رسول الله! أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قال: فجعل لها حائطاً بالمخراف) أي: تصدق عنها بمزرعة، فدل على أن قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى )[النجم:39] لا يعارض الصدقة عن الميت.
    وبناءً عليه فإن هذا لا يعتبر محظوراً شرعاً، بل هو جائز، خاصة وقد وردت السنة بجوازه.
    وأما بالنسبة لقوله عليه الصلاة والسلام: (صدقه جارية)، فقد قال فيه العلماء: إذا وصى بالتضحية عنه فإنها صدقة جارية؛ لأنه هو الذي تسبب فيها، وهذا من سعيه. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: لولا أن الإنسان مؤمن، ولولا أنه مسلم، لما تصدق عنه أحد ولما ضحى عنه أحد. فكأن سبب الأضحية هو الإيمان، والإيمان من سعي الإنسان، فلا يكون قوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى )[النجم:39] مآله من هذا الوجه، فيرى أن هذا من سعيه؛ إذ لولا الإيمان لما ترحم عليه المسلمون ولما دعوا له، وقد تكلم عن هذه المسألة بكلام طويل في مجموع الفتاوى، فحبذا لو يرجع إليه للاستفادة والاستزادة. والله تعالى أعلم.

    جواز تضحية المرأة عن نفسها


    السؤال: المرأة التي ليس لها قيّم هل تلزمها الأضحية؟ وهل تمسك عن شعرها وأظفارها، جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: إذا كان عند المرأة سعة فإنها تضحي، فالأضحية مشروعة للنساء كما هي مشروعة للرجال، وإذا وجدت المرأة القدرة فإنها تتقرب إلى الله عز وجل وتضحي كما يضحي الرجل، وتمسك عن قص شعرها وتقليم أظفارها كالرجل سواء بسواء. والله تعالى أعلم.

    عقيقة الخنثى المشكل


    السؤال: ما هي عقيقة الخنثى المشكل؟الجواب: أما بالنسبة للخنثى المشكل فهو مشكل، قال بعض العلماء: الأصل في الخنثى المشكل أنه امرأة، وهذا مبني على القاعدة الشرعية: اليقين لا يزول بالشك. فاليقين أنه في حكم النساء حتى يرتقي إلى درجة الذكورة والفحولة التي هي فوق الأنوثة، ولذلك قال تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى )[آل عمران:36] ، ومن هنا قالوا: إن الخنثى ينزل منزلة النساء، وعليه فإنه يأخذ حكم الأنثى سواء بسواء من جهة العقيقة، ومن جهة معاملته. والله تعالى أعلم.

    حكم العقيقة بالبدنة عن سبعة

    السؤال: ما حكم العقيقة بالبدنة؟ وهل تجزئ عن سبع من البنات، أثابكم الله؟

    الجواب: هذه المسألة مبنية على التداخل، والتداخل في الدماء الواجبة يقع في الهدي والأضاحي، وأما بالنسبة للعقيقة فإن مقصود الشرع أن يراق الدم عن المولود، وعلى هذا فإنه لا تداخل في العقيقة، بخلاف غيرها من الدماء، ولابد في العقيقة من وجود الدم المنفصل عن كل نفس بحسبها. والله تعالى أعلم.

    حكم أخذ الأحكام من الكتب دون الرجوع للعلماء


    السؤال: شخص حدثت له مسألة في الليل، ولا يستطيع سؤال أهل العلم، ثم فتح كتاباً من كتب المذاهب وأخذ بما فيه، فهل عليه شيء، أفتونا جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: أما بالنسبة للسؤال فينبغي أن يكون واقعياً، ويكون السؤال له حقيقة، فبالنسبة لمسائل الحج أنت ترى ونرى جميعاً توافر العلماء والدعاة والمشايخ، والكتب التي فيها توجيه للناس قد لا يحتاج إليها من كثرة ما يسمع من التوجيه والبيان، ولذلك فإن مسألة أن لا يتوافر عالم وهو يحج بين المسلمين هذا أشبه بقولهم: إذا لم تغب الشمس.. فينبغي أن يكون السؤال واقعياً، يعني أن هذه الأمة، والسواد الأعظم من أهل العلم، وما يسفر من وجود العلماء -وهي نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى- ووجود مراكب لتوجيه الحجاج، وبيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، ومع كل هذا يقال: أنه لا يوجد عالم! هذا لا يخلو من نظر، ولذلك فإن هذا السؤال فيه بعد، لكن لو طرأت مسائل على الإنسان قبل أن يأتي إلى الحج، أو أحرم بالحج، ثم وهو في الطريق طرأت عليه؛ فإن العامي والجاهل لا يفتي نفسه، وعلى هذا فإنه لا بد له من الرجوع إلى العلماء، والله تعالى يقول في كتابه: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )[النحل:43]، فأمرنا بالرجوع إلى العلماء وسؤالهم.
    قال بعض العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء) قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل قبض العلم بموت العلماء، ولم يذكر الكتب، ولذلك استنبط بعض العلماء أن العلم لا يؤخذ من الكتب وإنما يؤخذ من العلماء؛ لأن الكتب لا يؤمن فيها التصحيف ولا التحريف -تحريف الكاتب والمطبعة- ولا الفهم السقيم؛ فيكون الكلام له معنىً غير المعنى الذي فهمه، ولذلك لا تبرأ ذمته بصورة صحيحة إلا بسؤال أهل العلم والرجوع إليهم.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #246
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (246)

    صـــــ(1) إلى صــ(27)


    شرح زاد المستقنع باب الهدي والأضحية والعقيقة [2]

    شرع الله سبحانه وتعالى أحكاماً للذبح والنحر وهي ما يسمى بأحكام التذكية، فللتذكية طرق وشروط وسنن ينبغي على المذكي العلم والإحاطة بها، وللأضحية أيضاً وقت لا تجزئ إلا إذا ذبحت فيه، فلا يجوز تأخير ذبحها عن وقتها المحدد شرعاً.

    أحكام التذكية


    يقول المصنف رحمه الله: [والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى].لما فرغ رحمه الله من بيان الأحكام المتعلقة بالعيوب، كأنه قد هيأ لك البهيمة التي يجوز أن يضحى بها، وكأن سائلاً يسأل: إذا تمكنت من الأضحية، وكانت سليمة من هذه العيوب التي ذكرت، فما هي السنة وما هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذبح والنحر؟
    طرق التذكية الشرعية

    هناك طريقتان للتذكية الشرعية، والحيوان ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مستأنساً، وإما أن يكون متوحشاً.
    أما الحيوان المستأنس فكالإبل والبقر والغنم والطيور إذا أمسكتها، والدجاج الداجن، فهذه الحيوانات لها تذكية معينة، وهناك نوع ثان من التذكية الشرعية للحيوان الذي لا تقدر على إمساكه وأحلّ الله لك أكل لحمه، كالطير في الهواء، والوعل والظبي والغزال والريم ونحوها من صيد البر، فهذا النوع من الحيوانات له تذكية ثانية، ومن ثم اصطلح أهل العلم على تسمية الأول: بالمستأنس؛ لأنه يأنس بك وتأنس به، ولذلك فإن الشاة إذا جئت لتذبحها تكون في متناول يدك، وأما الحيوان الذي لا تستطيع إمساكه إلا بالغلبة وبالحيلة والقهر -وهو الصيد- فله تذكية خاصة؛ وذلك بأن ترميه بالسلاح في أي موضع من بدنه وتعقره، فإذا عقرته وأهلكته بهذه الرمية أو الطلقة من سلاحك فإنه حينئذٍ يكون حلالاً لك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، وقال له عدي : (يا رسول الله! إني أصيد بكلبي المعلم وبكلبي غير المعلم، وبهذه الباز، فما يحل لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، فجعل للصيد رخصة، وسنتكلم -إن شاء الله- عن مباحث ومسائل الصيد، وكيفية التذكية في هذا النوع الذي رخص الشرع فيه في باب أحكام الصيد، لكننا سنتكلم هنا عن كيفية هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحيوان المستأنس الذي يضحي به الإنسان من الإبل والبقر والغنم.
    فالحيوان المستأنس من الإبل والبقر والغنم تنقسم تذكيته الشرعية إلى قسمين:
    فإما أن تذكيه بالنحر، وإما أن تذكيه بالذبح.
    فأما النحر: فهو أن تطعن البعير في الوهدة التي في أسفل عنقه عند التقائه بالصدر -تسمى في اللغة الوهدة- فتطعن بالسكين أو الخنجر أو نحوه من السلاح الذي ينهر الدم، وهذا يسمى: نحر.
    وأما الذبح فإنه يكون بإضجاع البهيمة على جنبها ثم ذبحها، وذلك بإنهار دمها من جهة عنقها، ويكون ذلك بقطع المريء والحلقوم وأحد الودجين، وهما العرقان اللذان في الرقبة.

    السنة في تذكية الإبل

    والسنة في الإبل أن تنحر ولا تذبح، ولكن إن فعله أجزأه؛ وذلك لأنه إنهار للدم مع ذكر اسم الله عز وجل، وأما الشاة فإنها تذبح ولا تنحر؛ إذ ليس فيها موضع للنحر، وإنما هي من جنس ما يذبح وليس من جنس ما ينحر، وأما البقر ففيه الموضعان، فيمكن أن ينحر أو أن يذبح، وبكلٍ قال جمع من العلماء رحمهم الله، وكلٌ جائز إن ذبح أو نحر، وأياً ما كان فقال رحمه الله: (والسنة أن تنحر الإبل قائمة).فإذا قلنا: إن الإبل تنحر، فالنحر يكون على حالتين:
    الحالة الأولى: أن تكون قائمة.
    الحالة الثانية: أن تكون باركة.
    فأما إذا كان الإنسان يريد تذكيتها ذكاة شرعية على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته الكريمة؛ فإنه يبعثها قائمة، ويعقل يدها اليسرى، ثم بعد ذلك يطعن في وهدتها وينحرها حتى تسقط، ولذلك قال الله تعالى في الإبل: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا )[الحج:36]، أي: سقطت واستقرت على الأرض، يقال: وجب الشيء إذا سقط، ويقال: وجب الحائط إذا سقط، ومنه قول أبي بردة رضي الله عنه في الحديث: (والمغرب إذا وجبت)، أي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا سقط قرص الشمس وغاب ضوؤها.
    فالمقصود: أن الله عز وجل جعل البدن -وهي الإبل- من جنس ما ينحر وهو قائم، ولذا قال المصنف: (والسنة) أي: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تذكية الإبل نحرها قائمة.
    وقد مر عبد الله بن عمر رضي الله عنه على رجل يريد أن ينحر بعيره باركاً، فقال له: (ابعثها قائمة سنة نبيك صلى الله عليه وسلم). فقوله: (ابعثها قائمة)، أي: انحرها وهي قائمة، فإن ذلك هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وقوله: (معقولة يدها اليسرى) أي: تربط يدها اليسرى ولا تترك كما هي، ويذكر بعض الأطباء أن في هذا حكمة: وهي أن شرايين القلب في الجهة اليسرى تكون أقوى، وعندما تعقل اليد اليسرى يكون ضخ الدم عند النحر أقوى، فهو إخراج للدم الفاسد بصورة أبلغ، ولذلك حرم الله الميتة؛ لأن الدم ينحبس فيها فيكون فيها من الأضرار والمفاسد ما الله به عليم، ولذا كان إنهار الدم فيه حكمة عظيمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم)، أي: أجراه.
    قال رحمه الله: [فيطعنها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر].
    وهذا كما ذكرنا سابقاً؛ لأن هذا يسمى بالنحر، فيقول عند النحر: باسم الله، ويكبر، ثم يطعن في الوهدة، وينوي ما هو فيه من نسكه، كأن يكون دماً واجباً عليه في النسك، أو غير ذلك من الدماء الواجبة عليه، وقوله: (فيطعنها بالحربة)، ليس هذا الحكم خاصاً بالحربة، وإنما هو يشمل كل شفرة، حتى لو أخذ حجراً مدبباً مسنماً كالسكين وطعن به فإنه يجزيه، وهكذا لو أخذ حديدة وشحذها فإنها تجزيه؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها بحجر)، والمراد بذلك السكين، فسواء طعن بسكين، أو خنجر، أو حتى بحجر؛ لأنه ثبت في الحديث الصحيح: (أن امرأة كانت ترعى غنمها جهة سلع -وهو جبل غربي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة- فعدى الذئب على غنمها، فصاحت بالناس، فأدركوه قد بقر بطن الشاة، فقامت إلى حجر فكسرته وذكت الشاة)، وقد أخذ العلماء رحمهم الله من الحديث عدة فوائد:
    الفائدة الأولى: أنه يجزئ أن يضحى بكل شيء له نفوذ وتأثير بالقطع من كل محدّد، ولا يختص ذلك بالحديد، فلا نقول: إنه لا تصح التذكية إلا بالسكاكين، بل يصح أن تكون التذكية بالحجر المسنن، لكن لا يجوز أن يذكى بالعظم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناه وقال: (إلا السن فإنه مدى الحبشة)، وقوله: (مدى الحبشة) كأنه من باب المخالفة لأهل الكتاب، وعلى هذا فإن الحديث دل على جواز التذكية بكل ما يقطع ويفري.
    الفائدة الثانية: جواز تذكية المرأة، على خلاف ما يعتقده بعض الجهال اليوم من أن المرأة لا تذبح ولا تنحر، وأن البهيمة إذا ذبحتها المرأة فإنها ميتة، وهذا كله -والعياذ بالله- من بقايا الجاهلية، ومن فعل ذلك أو اعتقده ففيه بقايا الجاهلية -نسأل الله السلامة والعافية- فالمرأة كالرجل في هذا في حكم الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يأكلوا الشاة، وأحلها لهم.
    الفائدة الثالثة: وهي ما يسمى بالحياة المستعارة، وهي أن تكون البهيمة في آخر رمق، كأن تصدمها سيارة، أو تسقط من مكان عال، فتدركها قبل أن تموت، وهي في آخر رمق ترفس، ثم تنهر دمها، فقال بعض العلماء: إذا كانت في آخر رمق، فإن هذه التذكية لا تجزئ؛ لأن القاعدة عندهم في الحياة المستعارة أنها كالعدم، والسبب في هذا: أن نفسها فلتت بسبب الضربة الموجبة لتحريم أكلها؛ لأنها إذا ضربت بسيارة فهي في حكم المتردية، وإذا سقطت من على جبل فأدركتها وهي ترفس فقالوا: إنها متردية، وعلى هذا قالوا: لا يجوز تذكيتها.
    ولكن هذا الحديث قد يقوي القول بأنه يجزئ أن يؤكل مثل هذا؛ لأن الذئب بقر بطن الشاة، وإذا بقر بطنها فالغالب أنها لا تعيش، وإن قال بعض العلماء: يمكن أن ترد لها أمعاؤها وتعيش، وهذا يقع في الآدميين وفي البهائم، وأياً ما كان فالمسألة محتملة.
    وقد تفرعت عن هذه المسألة مسألة معاصرة في زماننا، وهي التي تسمى: بموت الدماغ، فإنها حياة مستعارة، فنظراً لوجود الحركة اللإإرادية جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحياة المستعارة عند إنفاذ المقاتل ووجود الدلائل على إقدام النفس على الموت جعلها تأخذ حكم الحياة المستقرة، وتوضيح ذلك: أن الشاة لما بقر الذئب بطنها فإنها ستموت قطعاً فلما جاءت تذكية المرأة جاءت وكأن الشاة نفسها مختلفة، فهذا الذي فيها من الحركة إما أن تقول: نفس مستقرة. فتنزل المعدوم منزلة الموجود. وإما أن تقول: نفس غير مستقرة، فالذكاة لاغية، فلما أعمل الذكاة ورآها مهمة ومعتبرة أعمل الحركة، وأبقى الحياة المستعارة مؤثرة، وعلى هذا فإنه يقوي قول من قال من العلماء المعاصرين: إن موت الدماغ ليس بموت، وهذا هو الصحيح، كما بيناه غير مرة، وذكرنا أنه هو الأصل، والأدلة تقوي هذا، وعليه فإن الحياة غير المستقرة تكون حياة ثابتة.
    إذاً: فالتذكية تكون بكل محدد ينهر الدم على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    السنة في تذكية البقر والغنم

    قال رحمه الله: [ويذبح غيرها، ويجوز عكسها].قوله: (ويذبح غيرها) يعني: غير الإبل، من البقر والغنم، فكأنه يرى أن السنة أن لا تنحر البقر، ويرى أن السنة في البقر الذبح، وهذا يختاره جمع من العلماء.
    وقال بعض العلماء: السنة في البقر النحر، ويجوز فيه الذبح.
    والصحيح: أنه يجوز فيه الأمران: الذبح، وفيه النحر.
    أما قوله: (ويجوز عكسها)، فلو أنه نحر البقر بدلاً من أن يذبحها، فإن هذا العكس يجزئ، ولو ذبح البعير بدلاً من أن ينحره؛ فإن هذا يجزئ.

    ما يقوله المذكي حال التذكية

    قال المصنف رحمه الله: [ويقول: باسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك ولك].قوله: (ويقول: باسم الله) وجوباً؛ لأن الله تعالى يقول: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا )[الحج:36]، فأمر الله سبحانه وتعالى بذكر اسمه عليها، وقال: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ )[الأنعام:121] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، هذا شرط، ومفهوم الشرط معتبر، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه)، وهذا شرط، ومفهوم الشرط معتبر، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، فقوله: (فكلْ) يدل ويؤكد على أن التسمية واجبة، وأنه إذا نسي التسمية أو تركها عمداً فأصح الأقوال: أنه لا تجزئ ذبيحته، ولا يجوز أكلها.
    وقوله: (اللهم هذا منك ولك)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم هذا منك، أنت الذي رزقتنا، وأنت الذي سخرته لنا)، ولا شك أن هذا من توحيد الله جل جلاله؛ أن يعترف المخلوق بنعمة الخالق عليه، والله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يثني عليه بنعمه الظاهرة والباطنة والدينية والدنيوية، فإذا تمكن من الشاة أو البقرة أو الناقة يريد أن يذكيها وقال: (اللهم هذا منك، أنت الذي رزقتنيه -فكم من فقير لا يجد السبيل إلى مثل هذا- وأنت الذي سخرته لي)، فلولا أن الله سخر له هذه البهيمة يذبحها وينحرها لما استطاع أن يذبح ولا أن ينحر، وقوله: (اللهم هذا منك ولك) أي: أن هذا الشيء تملكه، فاللام للملكية، (لك) أي: ملك لله سبحانه، فالله عز وجل مالك الملك وبيده ملكوت كل شيء، يطعم ولا يُطعم، ويرزق غيره ولا يرزق، سبحانه ذو القوة المتين.
    وما ألذ النعمة إذا كان الإنسان في ظاهره وباطنه يعتقد فيها الفضل لله جل جلاله، ولذلك يقول العلماء: شكر النعم يكون بالجنان واللسان والجوارح والأركان، فمن شكر النعمة بالجنان: أن تعتقد أن هذا من الله.
    وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا منك ولك) فيه توحيد وإيمان وتسليم لله جل جلاله، فليس هذا بحولنا ولا قوتنا، ولذلك لما رأى سليمان عليه السلام عرش بلقيس بين يديه قال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي )[النمل:40] أي: ليس بشيء أستوجبه على الله، فهذا هو حال أهل الكمال والفضل والإيمان والتوحيد؛ أنهم يسلمون لله جل وعلا؛ فيعتقدون أن الفضل كله لله سبحانه وتعالى في نعمه الظاهرة والباطنة، وقد أشار الله إلى هذا المعنى بقوله: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ )[النحل:53] أي: اعتقدوا أن الفضل فيها لله.
    ثم نطق عليه الصلاة والسلام بما اعتقد فقال: (اللهم هذا منك) أي: يا الله هذا الذي بين يدي من بهيمة الأنعام أتقرب به إليك.
    وقيل: (لك) أي: أذبحه لك، وهذا من توحيد العبادة، فلا يجوز أن يذبح إلا لله عز وجل، ولا يستغيث ولا يستجير ولا يستعيذ إلا بالله سبحانه وتعالى؛ لأن من توحيد الألوهية أن لا يذبح إلا لله، ولذلك لعن الله من ذبح لغير الله، قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من لعن والديه، لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من غيّر منار الأرض) ، فهذه الأمور ورد فيها الوعيد الشديد؛ لعظم كفر العبد فيها، فإنه إذا ذبح لغير الله فقد كفر نعمة الله عز وجل وصرف ما لله لغير الله.
    فقوله: (ولك) أي: توحيداً لله عز وجل، فالذبح لا يكون إلا الله، فلا يكون لنبي مرسل، ولا لملك مقرب، ولا لعبد ولو كان من أصلح عباد الله، قال الله عز وجل: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ )[الأنعام:162-163] أي: أمر فرضه الله عز وجل عليَّ، وقال الله عز وجل: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ )[الكوثر:2]، فلا يجوز الذبح ولا النحر إلا لله سبحانه وتعالى، ومن هنا قال العلماء: من ذبح لغير الله فقد أشرك؛ لأنه إذا ذبح لغير الله عبده، ولا يذبح لغير الله إلا رغبة أو رهبة أو هما معاً، فتجده يذبح للجن رهبة منهم وخوفاً، وإما أن يذبح رغبة في شيء يكون له؛ كذبحه على قبر ولي أو صالح أو نبي، وهذا لا شك أنه من الشرك؛ أن يذبح للنبي أو للولي من أجل أن تقضى حاجته أو تفرج -والعياذ بالله- كربته، ولا يقضي الحاجات ولا يفرج الكربات إلا فاطر الأرض والسماوات جل جلاله وتقدست أسماؤه، وصدق الله إذ يقول: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ )[النمل:62] .
    وإذا كان له آل بيت يقول: اللهم هذا عني وعن أهل بيتي، أو يبين إذا كان ذبحه هذا عن فريضة واجبة عليه أو عن دم في نسك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلفظ بنيته وقال: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد).

    استحباب تولي الذبح


    قال رحمه الله: [ويتولاها صاحبها، أو يوكل مسلماً ويشهدها ].قوله: (ويتولاها) أي: يقوم على ذبحها ونحرها (صاحبها)، وهذا الأفضل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر إبله بيده الشريفة بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ووكل علياً رضي الله عنه أن ينحر بقية المائة؛ لأنه نحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة ثم ترك سبعاً وثلاثين لـعلي رضي الله عنه، لأنه أهدى إلى البيت في حجة الوداع مائة من الإبل صلوات الله وسلامه عليه، فجمع بين الأمرين: بين الأصالة والوكالة، فدل على جواز التضحية وقيام الإنسان بالتذكية أصالة بنفسه، وعلى جواز توليته وتوكيله لغيره، فإذا قام بها بنفسه فهذا أفضل وأكمل وأعظم أجراً؛ لما فيه من الذلة لله سبحانه وتعالى، ولما فيه من التأسي برسول الأمة صلى الله عليه وسلم، والأكثر تعباً أعظم أجراً.
    فالأفضل له أن يليها بنفسه، ويجوز أن يوكل غيره؛ لكن يشترط إذا وكل غيره بالذبح أن يكون عالماً بطريقة الذبح المجزئة، فلا يوكل أي شخص، وإنما يوكل من له علم وإلمام بكيفية الذبح، ولا تبرأ ذمته إلا بمثل هذا، أي: من يعرف التذكية الشرعية، وإذا وكله فإنه يعهد إليه بما يلزم في أضحيته.
    ومعنى قوله: (ويشهدها) أي: يحضر ذبحها على الكمال، وإذا لم يحضر فلا بأس، فلو أراد الحج وترك أضحيته في البيت، وقال لأحد أبنائه: اذبح هذه الأضحية يوم النحر، ووكله أن يقوم بذبحها، فلا إشكال، فلا يستطيع أن يترك حجه ليحضر ذبحها.
    والشهادة تعني الحضور، كما قال الله تعالى: (وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ )[القصص:44] أي: من الحاضرين، يقال: شهد الشيء إذا حضره.
    وقوله: (يشهدها) أي: يحضرها -على الأفضل- لأنه إذا حضرها فإنه أبلغ أن تبرأ الذمة، وأن يكون محتاطاً في توزيعها والقيام عليها على أتم الوجوه.
    وكذلك الوكيل يشهدها؛ لأن من تمام الوكالة أن يقوم عليها، ولذلك وكل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً بذبح ما بقي من هديه وأمره أن يقوم عليها، وأن يتصدق بجلودها وأجلّتها، وأن لا يعطي الجزار منها شيئاً، فدل على أن الوكيل لا يعهد لغيره يذبحها، إنما يتابعها ويقوم بها؛ لأنه مؤتمن، ولا تبرأ ذمته إلا إذا أدى الأمانة على وجهها ونصح لصاحبها.
    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #247
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (247)

    صـــــ(1) إلى صــ(27)


    وقت ذبح الأضحية

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ووقت الذبح بعد صلاة العيد أو قدره إلى يومين بعده]. بيّن المصنف رحمه الله جملة من الأحكام المتعلقة بالأضحية، ثم شرع في بيان تأقيت الأضحية؛ والسبب في ذلك: أن النصوص التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بينت أن للأضحية ميقاتاً خاصاً ينبغي مراعاته عند ذبحها، فلا يقع الذبح قبل هذا الوقت المحدد من الشرع ولا بعده، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حينما خطب يوم النحر فقال صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله).
    وقوله عليه الصلاة والسلام: (من ذبح قبل الصلاة) المراد بالصلاة صلاة عيد الأضحى، والتي يسن إيقاعها بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، فالسنة في صلاة عيد الأضحى أن يخفف الإمام ويعجل؛ لأن الناس سيشتغلون بالأضحية، وهذا يحتاج إلى وقت لكي يصيبوا فضيلة إيقاع الذبح في ضحى يوم النحر، وما سميت الأضحية أضحية إلا لأنها تقع ضحى يوم النحر، ففضيلتها في هذا الوقت، والسنة أن يصلي بهم والشمس قيد رمح، أما في صلاة عيد الفطر فيوقعها والشمس قيد رمحين؛ لأن الناس يحتاجون إلى وقت أكثر قبل الصلاة من أجل إخراج زكاة الفطر، فاختلف الحكم بالنسبة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الأضحى وصلاة الفطر.
    وقد قالوا: إنه يوقع ذبح الأضحية بعد صلاة الإمام، والمراد بذلك الإمام الذي يصلي بالناس عيد الأضحى، فإذا تعددت المساجد ووجد أكثر من إمام؛ فبعض أهل العلم يرى تأقيت كل جماعة بإمامهم، فإذا كان في المدينة مصليان للعيد، فصلى مع الإمام بالناحية الشرقية أو الغربية فإنه -عند هؤلاء- يتقيد بالإمام، فإذا صلى مع إمامه انصرف وذبح أضحيته، وإذا كان مريضاً لم يتمكن من الخروج فإنه ينتظر فراغ إمامه من صلاة عيد الأضحى ثم يضحي.
    وقال بعض العلماء: يعتد بالأسبق منهما، حتى ولو كان غير إمامه؛ فلو كان هناك حيان، حي تقام فيه صلاة الأضحى في الشرق وحي في الغرب، والذي في الشرق من عادته أن يطول أو يتأخر، والذي في الغرب يبكر، فيعتد بصلاة المبكر منهما.
    فعلى هذا نخرج بحكم شرعي وهو: أن ذبح الأضحية ينبغي أن يكون بعد الصلاة لا قبلها.
    ولا يشترط انتظار فراغ الإمام من خطبة يوم النحر، بل العبرة بالصلاة وحدها، فإذا انتهت الصلاة وخرجت وذبحت أجزأك ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم)، أي: أن شاته لا تقع أضحية على السنة، وإنما تنقلب شاة لحم، إن شاء تصدق بها، وإن شاء أكلها، فليست بأضحية، وقال بعد ذلك: (ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فأذن بالذبح بعد الصلاة؛ لأن هذا الكلام وقع في خطبته وهي من بعد صلاة الأضحى إجماعاً، فبيّن رحمه الله أن وقت الأضحية يبتدئ بما بعد الصلاة.


    وقت انتهاء الذبح

    وللأضحية وقت انتهاء، فبعد هذا الوقت لا تقع شاته أضحية، وقد اختلف العلماء في وقت الانتهاء على قولين مشهورين:القول الأول: أن وقت الأضحية ينتهي بثالث أيام التشريق؛ فإذا غابت شمس يوم الثالث عشر فلا تقع أضحية وإنما تقع صدقة من الصدقات، أو شاة لحم، كما قال صلى الله عليه وسلم فيمن سبق الوقت المعتبر. وهذا هو مذهب الشافعية ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليهم، وكان يقول به أكثر من سبعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يقولون: إنه يجوز أن ينحر الإنسان ويذبح في اليوم الثالث عشر، وهو اليوم الأخير من أيام التشريق.
    القول الثاني: وهو أشبه بمذهب الجمهور، وهو أن وقت الذبح يوم العيد ويومان من بعده، فآخر وقت الذبح عندهم بمغيب شمس اليوم الثاني عشر.
    والخلاف فقط في اليوم الثالث عشر الذي هو آخر أيام التشريق؛ لأن أيام التشريق ثلاثة كما لا يخفى، فقال بعض العلماء: إن اليوم الثالث يعتبر من أيام الذبح، وقال بعضهم: إنه ليس من أيام الذبح، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (أيام منى أيام أكل ونحر) يدل على أنه يجزئ الذبح فيها، وهذا على ظاهر القرآن: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ )[الحج:28] ، فهذا نص عند العلماء في أن الذبح يتأقت بثلاثة أيام يدخل فيها اليوم الثالث عشر.
    وإخراج اليوم الثالث عشر لا يخلو من نظر؛ فإن جلّ الأحكام التي وقعت في أيام التشريق استوت فيها الأيام الثلاثة كلها، ولذلك فإن من ذبح هدي التمتع أو هدي القران فإنه يجزيه في أيام التشريق على القول بالتأقيت، وكذلك بالنسبة لمسائل الحاج، فإن الله جعل للحاج اليوم الثالث عشر كاليوم الثاني عشر، لكنه خفف بالتعجل في اليوم الثاني عشر، وهذا لا يسقط اعتباره إن تأخر.
    وعلى هذا فالذي يترجح: أن يوم العيد وثلاثة أيام من بعده هي أيام النحر والذبح.
    وإذا أراد الإنسان أن يذبح في الليل، فهل ليالي هذه الأيام كنهارها؟
    للعلماء في هذه المسألة قولان:
    القول الأول: قال جمهور أهل العلم: يجوز للإنسان أن يذبح أضحيته بالليل والنهار، ولا فرق بينهما، وإن كان الأفضل أن يذبح نهاراً، حتى يخرج من خلاف أهل العلم رحمة الله عليهم.
    القول الثاني: أن الذبح يختص بالنهار دون الليل، وأنه لا يذبح ليلاً، واليوم إذا أطلق في لغة العرب فالمراد به النهار دون الليل، ويحمل قوله عليه الصلاة والسلام: (أيام منى) على النهار دون الليل، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا )[الحاقة:7]، ففرق الله تعالى بين النهار وبين الليل.
    واحتج من قال: إن الليل والنهار سواء -كما هو مذهب الجمهور- بأن قوله تعالى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ )[الحاقة:7] من باب عطف الخاص على العام، والعرب تعطف الخاص على العام والعام على الخاص، فتقول: يدخل محمد والناس، ومرادك بذلك تشريف محمد وتكريمه، أو أن النهار كان أشد عذاباً من الليل، أو أن الليل أشد إيقاعاً وأشد ألماً وعذاباً، فلذلك خص بالذكر.
    وظاهر الدليل: أن الليل والنهار سواء، وأنه يذبح بالليل والنهار؛ لقوله تعالى: (فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ )[هود:65]، وقوله: (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) بالإجماع أن هذا التربص شامل لليل والنهار، ولذلك قالوا: الأصل في اليوم أنه يشمل الليل والنهار، إلا إذا خصه الدليل بالنهار دون الليل، ولا دليل يخص هاهنا.
    وعليه: فإنه يجوز أن يذبح في الليل كما يجوز أن يذبح في النهار، ولكن الأفضل والأكمل أن يذبح في النهار، لكن لو أراد أن يصل رحمه، أو أن يكرم الضعفاء؛ فرأى أن ظروفه لا تساعده إلا بالذبح ليلاً، أو كما يقع بين القرابة أنهم يترقبون مجيء بعضهم، فتقع قرعة الإنسان وحصته بالليل، فحينها لا بأس أن يذبح ليلاً، ولا حرج عليه في ذلك، وإن ذبح قبل غروب الشمس ثم بعد ذلك يطبخها ويقدمها لضيوفه ولو بعد العشاء، فهو الأفضل؛ خروجاً من الخلاف.


    حكم من فاته وقت الذبح

    قال رحمه الله: [ويكره في ليلتيهما، فإن فات قضى واجبه].بيّن رحمه الله بداية وقت ذبح الأضحية ونهاية وقت ذبحها، وما تخلل هذا الميقات الزماني من الذبح ليلاً، وعليه فإنه يرد السؤال: لو أن إنساناً فاتته أيام التشريق وأراد أن يذبح بعد أيام التشريق، فما الحكم؟
    إذا ذبح بعد اليوم الثالث عشر فشاته شاة لحم، ولكن يفصّل في هذا: فإن كان عينها فإنه يذبحها وتكون شاته شاة لحم، ولكنها تلزمه من جهة الإلزام، ولذلك قالوا: لو نذر وقال: لله عليَّ أن أذبح أضحية هذا العام، فإنه يذبح ولو بعد انتهاء أيام التشريق، ويأثم إذا قصر وتراخى فيها حتى خرج الوقت المعتبر.

    الأسئلة



    ضابط المرض الذي لا تجزئ به الأضحية

    السؤال: نرجو توضيح القول في المرض الذي يكون في باطن البهيمة من حيث المنع والإجزاء، أحسن الله إليكم؟
    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد:
    فقد حَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المرض البيّن، والأطباء يقولون: المرض: هو خروج الجسد عن حَدِّ الاعتدال، ففي كل جسد طبائع، وهذه الطبائع إذا استوت ولم يغلب بعضها على بعض فإن الصحة تكون مستقرة بإذن الله عز وجل ولطفه، فإذا بغت إحدى الطبائع على البقية أو على غيرها اعتلت الصحة، فيخرج البدن عن حَدِّ الاعتدال إلى المرض والسقم.
    وعلى هذا فإنه لا يحكم بكونها مريضة مرضاً بيّناً موجباً لعدم الإجزاء إلا بالرجوع لأهل الخبرة الذين لهم معرفة؛ سواء كان عن طريق تربية البهائم، أو كانت الخبرة عن طريق معالجة البهائم، فالأطباء البيطريون الموجودون الآن قولهم حجة في هذا، وكذلك أيضاً أهل البادية الذين يرعون ولهم معرفة وخبرة قولهم حجة ومعتد به، فلو قال أحدهم: إن هذا مرض مؤثر، فإنه يعتبر مؤثراً، وإذا قال: إن هذا شيء عارض، فيؤخذ بقوله وهو حجة؛ فإن التجارب جعلها الله عز وجل سنناً في الكون، وقد يكون الرجل الذي له خبرة ومعرفة شخصية أفضل من الطبيب في بعض الأحيان؛ لأنه تمر عليه أحوال قد لا يتيسر للطبيب أن يراها؛ لأنه قد لا يأتيه إلا بعض الحالات، لكن هذا يعايش ويجد، وقد يربي فيرى ويصاحب الألم في البهيمة ويعرف ما بها.
    فالمقصود: إذا قال أهل الخبرة من الأطباء وأهل المعرفة في السوق وتربية البهائم: إن هذا المرض يعتبر مرضاً مؤثراً، فإن هذه البهيمة لا تجزئ، ولا يضحى بها، وأما إذا قالوا: إنه شيء عارض سهل وبسيط؛ فإنه يجوز أن يضحى بمثلها.
    وهناك ضابط عند العلماء في الفتوى، فإنهم يقولون: لابد على الفقيه أن يبين القاعدة، فمثلاً حينما نقول: إنه يجوز للمريض أن يفطر. فهذا شيء يرجع إلى ضابط الأطباء للمرض المؤثر، وليس الكلام لنا نحن؛ لأن هذا ليس بعلمنا ولا بمعرفتنا، وإذا كنا نقول: إن هذا الشيء مؤثر، ويرجع في معرفة تأثيره إلى إنسان له خبرة؛ فينبغي أن نرجع إلى ذي الخبرة.
    ومما يدل على فقه العلماء الأولين رحمهم الله: أن الإمام النووي لما جاء إلى مسألة: إذا نام الإنسان وسال اللعاب من فمه، قال: قال بعض العلماء: إن اللعاب نجس، وعليه أن يغسل ما أصاب الوسادة التي نام عليها؛ لأن اللعاب يخرج من المعدة، وحكمه حكم القيء، وقال بعض العلماء: اللعاب طاهر؛ لأنه مستحلب من الفم، ثم قال هذا العالم الجليل الفقيه في هذه المسألة: يسأل عن هذا أهل الخبرة، وقد سألت الأطباء فقالوا: إنه مستحلب من الفم، وعليه فإنه طاهر، والآن الطب الحديث يقوي كلامه، وأن هناك غدة للعاب مختصة به، وأنها في الفم وليس لها صلة بالمعدة أصلاً.
    فالرجوع إلى أهل الخبرة وأهل المعرفة في المسائل التي لها ضوابط وقواعد هذا هو المعوّل عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (المريضة البيّن مرضها)، فنرجع إلى أهل الخبرة من الأطباء ونحوهم ممن لهم معرفة بالدواب والبهائم، فإذا قالوا: إن هذا مرض مؤثر ومؤذٍ ومضر؛ فإنه يعتبر حينئذٍ موجباً لعدم الإجزاء وإلا فلا. والله تعالى أعلم.

    حكم جِلد الأضحية والدماء الواجبة


    السؤال: عند القيام بسلخ الأضحية في المطبخ يأخذ السلاخ الجلد، فهل يجوز ذلك؟ وهل يعتبر من الأجرة أم لا، أفيدونا بارك الله فيكم؟

    الجواب: جلد الأضحية والدماء الواجبة يجب أن يتصدق به، ولا يجوز أن يعطى ضمن الأجرة، ولا يعطى للسلاخ، ولكن إذا كان السلاخ فقيراً أو محتاجاً وطلب هذا الجلد، فلا بأس بإعطائه، أما إذا كان قوياً أو قادراً، أو كان ليس بحاجة لهذا الجلد؛ فإنه لا يجوز إعطاؤه، وهو حرام عليه، ويكون أخذه من السحت، وينبغي عليه أن يصرفه للفقراء، فإذا أُخذ من الإنسان قهراً ثم بيع لمن يصنّع الجلد، فإن هذا من الظلم، ولا يجوز له، وماله حرام، وهو سحت -نسأل الله السلامة والعافية- لأنه إذا كانت البهيمة قد نذرها لله، فجميع أجزائها التي يسعه أن يتصدق بها صدقة، وجلدها مما ينتفع به، فينبغي أن يمكَّن من التصدق به على من يحتاجه.
    أما إذا كان هناك شركة تشتري الجلد في نفس المسلخ، وأعطيته الفقير، ثم ذهب الفقير وباعه لهذه الشركة أو لهذه المؤسسة، فلا بأس، أما أن يؤخذ من الإنسان في دم واجب فإنه لا يجوز ذلك، وماله حرام؛ لأنه لا يجوز صرف ما كان وقفاً أو صدقة إلا في جهته التي سُبّل عليها وأوقف عليها وتصدق به عليها، وهذا أصل مذكور ومقرر عند العلماء.
    هذا بالنسبة للجلود التي تكون في الدماء الواجبة؛ كدم الجبران ونحوها من الدماء الواجبة، فإنه لا يجوز أن تجعل في الأجرة، ولا يجوز للسلاخ أن يأخذها.
    بل قال العلماء رحمهم الله: لو كانت عند الإنسان شاة -ليست بأضحية ولا هدي- وأراد أن يذبحها للبيت، فقال للجزار: اذبحها ولك الجلد، فهذه المسألة تعرف بمسألة استئجار السلاخ بالجلد، وهي المشهورة عند الفقهاء في باب الإجارة بمسألة: قفيز الطحان، والمراد بها: أن تستأجر العامل بجزء من عمله، وهو نوع من الغرر؛ والسبب في هذا: أنك حينما تتعاقد معه قبل الذبح والسلخ فلا يُعلم هل الجلد جيد أو رديء؟ وهل هو خفيف أو ثخين؟ وهل يخرج سالماً دون أن يقدّه ويؤذيه أم لا؟ ثم إنه قد يحيف على الجلد خوفاً من قدّه فيضر الشاة أكثر، ولذلك قالوا: إنه لا يجوز أن يستأجر بالجلد، وفيها حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان) ، ولكنه حديث ضعيف، وقد تكلم العلماء عليه سنداً ومتناً، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى: أن هذا الحديث في متنه ما يدل على ضعفه؛ لأن القفيز لم يكن موجوداً في المدينة، ولا يعقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب أهل المدينة ومكة بما لم يعرفوه ولم يعهدوه مما هو في غير بلدهم، ولذلك لم يصح هذا الحديث لا سنداً ولا متناً.
    لكن بالنسبة لحكم المسألة: أن تستأجر السلاخ أو الجزار على أن يأخذ الجلد؛ فالصحيح أنه لا يجوز ذلك، وهو من باب الإجارة بجزء من العمل، ولا يحل للمسلم أن يتعاقد معه؛ لأنه من عقود الغرر، والشريعة تحرم عقود الغرر. والله تعالى أعلم.

    الفرق بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي


    السؤال: أشكل عليَّ قول الفقهاء رحمهم الله: إن الأحكام الوضعية يستوي فيها العامد والناسي، أرجو إيضاح ذلك، أثابكم الله؟

    الجواب: الحكم الشرعي ينقسم إلى: حكم تكليفي وحكم وضعي.
    فالحكم التكليفي يشمل: الواجب، والمندوب، والمباح، والمحرم، والمكروه، فهذه الخمسة الأحكام تكليفية، ويكلف بها الإنسان وهي في وسعه؛ لأن الشرع لا يرد بالتكليف إلا بما هو في وسع المكلف ومقدوره.
    أما الحكم الوضعي: فهي العلامات والأمارات التي نصبها الشرع وليس لك فيها دخل، فإن الشيء الذي أوجبه الشرع عليك يكون في وسعك، لكن الأمارات والعلامات، كزوال الشمس فإنه سبب في وجوب صلاة الظهر عليك، فهذا حكم وضعه الشرع، ومغيب الشمس جعله الشارع علامة على وجوب صلاة المغرب، ومغيب الشفق الأحمر علامة على وجوب صلاة العشاء. فهذا يسمى حكماً وضعياً ولا دخل للمكلف فيه، ولا يلتفت فيه إلى قدرة المكلف وعدمها.
    ففي بعض الأحيان يفرق العلماء في باب النسيان بين ما يكون من باب الأحكام التكليفية وبين ما يكون من باب الأحكام الوضعية، فمثلاً: لو أن إنساناً نسي أو أخطأ أو جهل، فتارة يجب عليه الضمان، مع أنه لم يقصد ولم يتعمد، وتارة تسقط عنه المؤاخذة، وتارة يجمع له بين الإسقاط والمؤاخذة، فمثلاً: لو أن إنساناً يريد أن يقول لامرأته: أنت طالعة، فقال: أنت طالقة، فأخطأ في اللفظ، فهذا لا يؤثر، ويسقط عنه، وإذا ظهرت قرائن المجلس وآماراته على أنه لا يريد الطلاق فليست بطالق.
    وأما كونه يجمع بين الإسقاط والمؤاخذة فمن أمثلته: إذا رأى صيداً وأطلق النار عليه فأصاب إنساناً وقتله، فإن هذا من باب قتل الخطأ، فنقول: إن خطأه يوجب سقوط الإثم عنه، فلا نؤاخذه، ولا نقول: إنه آثم، ولا نوجب القصاص عليه؛ لأنه لم يتعمد قتل أخيه، ولكن نوجب عليه الدية ضماناً لهذه النفس، ونوجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يخطئ فيقتل بالخطأ إلا وهو مقصر بعض التقصير، ومن هنا لو تحرى وتعاطى أسباب الحفظ لما وقع في الإخلال، فحينئذٍ أسقط عنه الشرع المؤاخذة فلم يقتص منه، وأوجب عليه المؤاخذة بوجوب الدية ووجود الضمان، ومباحث هذا مشهورة في كتب أصول الفقه.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    وصلى الله وسلم وبارك على محمد.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #248
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (248)

    صـــــ(1) إلى صــ(27)


    شرح زاد المستقنع باب الهدي والأضحية والعقيقة [3]



    من أحكام الهدي والأضحية: أنهما إذا تعينا لزمت فيهما أحكام، منها: عدم جواز بيعهما أو هبتهما، وعدم جز صوفهما إلا إذا كان أنفع لهما، وإن تعيبت المعينة فلها أحكام ينبغي معرفتها، وهناك أحكام متعلقة بحكم الأضحية وحكم التصدق بثمنها، والسنة في تقسيمها وتوزيعهما، وما يحرم على المضحي فعله إذا دخلت أيام العشر.. ونحوها.
    أحكام تعيين الأضحية

    قال المصنف رحمه الله: [فصل: ويتعينان بقوله: هذا هدي أو أضحية، لا بالنية].قوله: (يتعينان) تعين الشيء مأخوذ من العين، والعين في لغة العرب تطلق عدة معانٍ، منها: العين الجارية، ومنها: كقولك رأيت محمداً بعينه، أي: بذاته.
    والذي يشتري الأضحية له حالتان:
    الحالة الأولى: أن يشتري الأضحية وفي نيته أنها أضحية، وسوف يدعها في بيته أو حظيرته أو عند رجل، ثم بعد ذلك يذبحها، دون أن يقول: هذه أضحية، بل ينوي فقط، ولكنه لا يعينها، فقد تتغير نيته إلى ما هو أفضل منها، أو إلى ما هو دونها مما هو مجزئ، ففي هذه الحال إذا جاء وقت التضحية إن شاء ذبحها وإن شاء ذبح غيرها، أي: ليس بملزم بها بعينها؛ لأنه لم يلزم نفسه بذلك إلزاماً شرعياً، وهو التعيين.
    الحالة الثانية: قال بعض العلماء: إن اشتراها وفي نيته أنها أضحية تعينت.
    وهناك أحكام تترتب على قولنا: إنها تتعين، وقولنا: إنها لا تتعين.
    أولاً: إذا تعينت الأضحية، فحينئذٍ لو حدث بها عيب أو صار عليها عارض يمنع من إجزائها، فحينئذٍ يجوز أن يضحي بها مع كونها معيبة؛ وذلك لأنها تعينت ولزم ذبحها بعينها، بشرط: أن لا يكون ذلك بالتفريط، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
    ثانياً: لو حدث بها عيب، ويده يد أمانة وليست بيد ضمان، فإنه لا يلزمه البديل عنها، وهكذا لو ماتت، أو حصل لها عارض وماتت قدراً؛ فإنه لا يلزم بضمانها.
    وقوله رحمه الله: (ويتعينان) أي: الهدي والأضحية، فلو أن إنساناً قال: هذا هدي وهذه أضحية، واشترى شاة وقال لأبنائه: هذه أضحية، أو هذا هدي، فإنه قد تعيّن، بمعنى: أنه يلزم بذبحه هدياً، أو أضحية، وحينئذٍ اجتمع ظاهر الإنسان وباطنه؛ لأن التكاليف الشرعية يكون النظر فيها إما إلى باطن الإنسان ونيته، وإما أن ينظر إلى ظاهره الذي يتكلم به ويفعله، وإما أن يجمع بين الظاهر والباطن، فمثلاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن آخذ بظواهر الناس)، فلو قال رجل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فنقول: إنه قد دخل في الإسلام، ولو كان يقصد من ذلك الكذب والخداع، وقد يكون منافقاً، لكن نحن نقبل منه الظاهر، لكن لو أن إنساناً حمل المصحف، ثم فعل به فعلاً فيه إهانة للمصحف ولكتاب الله، ولكنه لم ينو ذلك ولم يقصده، فحينئذٍ نقول: إذا لم ينو لا يحكم بكفره، وإن كان ظاهر الفعل يوجب التكفير، لكن لما كان فعله متردداً بين قصده وعدم قصده فينظر إلى القصد؛ لأن الأصل عدم استباحة الدم إلا بيقين أو غالب ظن، ولما صار متردداً بين القصد المخلّ وغير المخلّ نظر إلى نيته.
    فلو كان رجل يتكلم مع زوجته في سياق مودة ومحبة، وكان قد ربطها، فقالت له: هل انفك الحبل أم لا؟ فقال: أنت طالق، فحينئذٍ دلالة المجلس تدل على أنه لا يريد الطلاق، فهذا اللفظ الظاهر نلغيه وننظر إلى نيته، وأنه لم يقصد الطلاق، وبعض الأحيان ننظر إلى لفظه ولا ننظر إلى نيته، فلو هزل معها وضحك وقال لها: أنت طالق، فإننا نؤاخذه بالظاهر، لحديث: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد)، فالشرع تارة ينظر إلى الظاهر، وتارة ينظر إلى الباطن، وتارة ينظر إليهما معاً.
    فلما اشترى الأضحية احتمل أن يكون اشتراها هدياً أو أضحية، ولو اشتراها أضحية احتمل أن يبدلها بغيرها، واحتمل أن يصرفها إلى نوع آخر، كأن يشتري إبلاً فيستبدلها بغنم، أو يشتري غنماً فيستبدلها بإبل، كأن يكون له مال قليل، وفي نيته لو وسع الله عليه قبل الذبح فسيشتري بعيراً وينحره، فهذا نقول له: إنها لا تتعين إلا بقولك: هذه أضحية، وهكذا الحال بالنسبة للهدي؛ فلابد من النية واللفظ.
    وقال بعض العلماء: تجزئ النية دون اللفظ، فلو اشتراها وفي نيته ذبحها فإن ذلك يجزيه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) .

    حكم بيع الأضحية وهبتها بعد التعيين


    قال رحمه الله: [وإذا تعينت لم يجز بيعها ولا هبتها].هذه المسألة فيها قولان:
    القول الأول: إذا قال: هذه أضحيتي، أو هذا هديي، لم يجز بيعها، والبيع أصله: مبادلة المال بالمال بالتراضي، سواء كان بنقد أو بغير نقد، فلو أتاه شخص وقال له: أبدل لي هذه الشاة بأخرى، والتي عنده ماعز وسيعطيه كبشاً بدلاً عنها، فحينئذٍ لا يجوز؛ لأنها تعيّنت أضحية، ولو قال له رجل: بكم اشتريت هذه الأضحية؟ فقال: بسبعمائة، فقال: سأشتريها منك بثمانمائة واذهب واشتر غيرها، فلا يجوز له أن يبيعها؛ لأن يده خلت عن ملكيتها وأصبحت لله عز وجل، وهذا كما لو أوقف وقفاً، فكأنه سبّلها لله عز وجل حينما قال: هذه أضحية.
    فمن فوائد التعيين: أنه لا يجوز بيعها، ولا هبتها؛ لأن يد الملكية خلت منه، كما لو أوقف المسجد فإن يده ترتفع عنه ولا يملكه. فلا يجوز أن يأخذ العوض عليها، ولا أن يصرفها في غير ما خصصها له، إلا في حالة واحدة، وهي: أن يبدلها بأفضل منها، وهذا على قولين:
    القول الأول: أنه إذا عيّنها وجب عليه أن يذبحها بعينها، فإذا أبدلها بما هو أفضل منها فإن الشرع في الأشياء التي ألزم الإنسان نفسه فيها صرفه إلى ما هو أفضل، ولذلك فمن نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز له أن يذهب إلى مكة ويعتكف بها؛ لأن مكة أفضل، وفضيلة الألف التي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يجدها في مكة أضعافاً، فلو أنه حددها وعينها أضحية صرفت إلى ما هو أفضل منها.
    القول الثاني: أنها إذا تعينت لم يجز أن تصرف إلى ما هو أفضل منها، وهذا القول من القوة بمكان، ولذلك يحتاط الإنسان إذا عينها فإنه لا يصرفها، ولو أراد أن يتصدق بما هو زائد فإنه يضحي بغيرها معها.

    حكم جز صوف الأضحية المعينة ونحوه


    قال رحمه الله: [ويجز صوفها ونحوه إن كان أنفع لها ويتصدق به].إذا تعينت الشاة فإن فيها بعض المسائل المشكلة، فإن اشتراها في وقت الذبح أو قبل وقت الذبح بيوم أو يومين فليست هناك مشكلة في الغالب، ولكن المشكلة فيما لو اشتراها في شوال مثلاً، وحينئذٍ يبقى السؤال في فوائدها وما ينشأ منها، وهي المنفعة التي تكون فيها، مثل الصوف واللبن، فإذا كان عليها صوف فإن كان بقاؤه فيه ضرر عليها فإنه يجز ويتصدق به، كما هو الحال في وجود الصوف على البهيمة زائداً على الحد المعروف، وبذلك يؤذيها ويضر بها من وجود الحشرات أو نحو ذلك، فحينئذٍ هذا شيء يختلف باختلاف الأحوال، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة، فإذا قالوا: إنه لو بقي بها هذا الصوف أضر بها، ولا تستطيع أن تصبر شهراً بهذا الحال؛ لأن المكان يصبح موبوءاً بالدود والجراثيم؛ فجز الصوف فيه مصلحة للبهيمة، وإذا جز فإنه يتصدق به.
    وقال بعض العلماء: إذا كان النفع في النقود باع الصوف وتصدق بثمنه.
    أما بالنسبة للبن؛ فإن كانت هذه الناقة أو البقرة حملت وقد نواها هدياً، فلما وضعت صار فيها لبن فإنه يكون لولدها، ولذلك قال علي رضي الله عنه وأرضاه: (اسقه ولدها، وما فضل فهو لك). فجعل الفضل الزائد له، وهذا مبني على مسألة لطيفة: وهي أن اللبن يختلف عن الصوف، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الرهن محلوب ومركوب بنفقته)؛ لأن الناقة ستكلفك طعامها وعلفها، فبما تقوم به من إعلافها والقيام عليها كان لك فضل في الانتفاع بلبنها، هكذا يخرّجه بعض العلماء، فكأنها مرهونة عندك حتى تخرج لله عز وجل هدياً أو أضحية.

    أجرة الجزار للأضحية


    قال رحمه الله: [ولا يعطي جازرها أجرته منها].فإذا استأجر المضحي إنساناً لذبح الأضحية، فالسنة أن لا يعطيه منها شيئاً. وأما الذي توكله وتقول له: اذبح هذه الشاة عني، أو انحر هذه الناقة عني -كابنك مثلاً- فإنه حينئذٍ وكيل بدون أجرة، ولا إشكال في هذه المسألة. أما إذا استأجرت من يقوم بالذبح أو النحر، فلا تعطيه شيئاً من الأضحية، ولذلك قال علي رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدنه، وأن أتصدق بجلودها وأجلّتها، وأن لا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا) أي: نعطيه نقوداً، وهذا يدل على أنه لا يجوز أن تصرف شيئاً من الأضحية للجزار، مع أن الجزار يقوم بتمام الطاعة والقربة من كونه ينحر ويذبح، والأفضل والأكمل أن تتولاها بنفسك؛ لما فيه من المشقة والتعب والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    حكم بيع شيء من الأضحية


    ثم قال رحمه الله: [ولا يبيع جلدها ولا شيئاً منها؛ بل ينتفع به].فلا يبيع جلد الأضحية، ولا حتى لحمها ولا عظمها، ولا حرج عليه في أن ينتفع به، أو أن يتصدق به، أو أن يهديه، أما أن يبيعه فلا يجوز، ولا يصح البيع؛ والسبب في ذلك: أنه لا يملك الأضحية؛ لأنه لما ذبحها لله عز وجل تصدق بها، وحينئذٍ فلا يجوز بيع جلدها ولا شيء من لحمها، وإنما يتصدق به أو يهديه أو يأكله، لكن لو أعطيت المسكين من الأضحية، فذهب أمامك وباعها لشخص وأنت ترى، فهل يصح هذا البيع؟
    الجواب: نعم؛ لأن هذا الفقير قد ملكها بالقبض، واختلفت اليد، فحرم عليك البيع وجاز له، ولذلك لما دخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين والقدر يغلي بلحم وهو يريد أن يطعمه، فقالت له أم المؤمنين: يا رسول الله! إنه لـبريرة أي: صدقة تصدق بها على بريرة ، وبريرة كانت أمة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصدقات، فقال عليه الصلاة والسلام: (هو لها صدقة، ولنا هدية) ؛ لأنه يأكل الهدية عليه الصلاة والسلام. وهذا هو ما يسمونه: اختلاف اليد، ولذلك أخبر عليه الصلاة والسلام: أن المال الواحد يهلك به جامعه وينجو به آخذه، فتجد الرجل يجمع الأموال من الحلال والحرام، ويكون أكثرها من الحرام ثم يموت عنها، فيخلّفه الله ذرية صالحة ويأخذ ولده المال ثم يتصدق به؛ فيدخل به ذاك النار ويدخل به هذا الجنة. فاليد هنا قد اختلفت، ولو أردت أن تبيعه لم يجز لك؛ لكن إذا أعطيت المسكين وأخذه بيده فقد ملك، وجاز له أن يبيع وأن يعاوض.
    وهكذا بالنسبة لزكاة الفطر، فإذا أعطيته زكاة الفطر وباعها فلا حرج؛ لأنه قد ملكها بالقبض، ثم بعد ذلك إن شاء أكلها وإن شاء باعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أغنوهم عن السؤال) ، فكونه يأخذها ليطعم غناء له عن السؤال، وكونه يبيعها أيضاً غناء له عن السؤال، فلا حرج في ذلك.

    أحكام الأضحية المعينة إن تعيبت


    قال رحمه الله: [وإن تعيبت ذبحها وأجزأته].أي: إن تعيبت الناقة أو البقرة أو الشاة التي عينها أضحية أو هدياً، صح وجاز له أن يضحي بها.
    قال: [إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين].
    فلو قال: لله عليَّ أن أضحي هذه السنة بشاة، فاشترى شاة، وقال: هذه أضحية -أي: عن النذر- فتعيبت، فحينئذٍ كونه يعينها للأضحية لا يسقط لزوم ذمته؛ لأن هذه الشاة التي يريد أن يضحي بها أو يريد أن يبرئ ذمته قد تعينت، فإنه ينصرف إلى غيرها؛ لأن ذمته مشغولة بالحق، أما لو اشتراها وقصدها وعينها بإذن الشرع وبإيجابه، فإنه في هذه الحالة إن عينها فلا إشكال أنها لو تعيبت لا يلزمه بديل عنها، أما لو كانت واجبة عليه من قبل، فإن عينها أو لم يعينها فذلك لا يؤثر في الأصل؛ لأن ذمته لا تبرأ إلا بكاملها، فليست مثل الأضحية التي كانت ذمته بريئة منها قبل التعيين، وحينئذٍ يقولون: يفرق بين كونها معينة فيما لا نذر ولا إلزام فيه، وبين كونها معينة بالنذر والإلزام.
    لكن بالنسبة لمسألة الضمان؛ فإن اليد في الشرع تنقسم إلى قسمين:
    فهناك يد تسمى في الشرع: يد الأمانة، وهناك يد تسمى: يد الضمان.
    فإذا أخذت شيئاً وهو للغير؛ فإما أن تكون يدك يد أمانة، فلا تلزم بضمان ذلك الشيء إن تلف، وإما أن تكون يدك يد ضمان فتلزم بكل حال، مثال ذلك: إذا قلت لشخص: أريد منك مائة ألف ديناً إلى نهاية السنة، فإذا قبضتها فيدك يد ضمان، بمعنى: أن هذه المائة ألف إن تلفت أو ربحت فأنت المسئول عنها، فلو أخذت المائة ألف ثم خرجت من عنده فسرقت، أو سقطت في نهر وغرقت المائة ألف وذهبت، فلا يضمن هو بل أنت الذي تضمن، ولو أنك اشتريت بها عمارة، ثم أصبحت قيمتها مليوناً، فأنت الذي تأخذ المليون، فكما أنك تربح فإنك كذلك تضمن الخسارة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان)، ويقول العلماء في هذه القاعدة المعروفة: الغنم بالغرم. أي: أنه يأخذ الربح والنتاج من الشيء من يضمنه، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، فإن الذي يتحمل مسئولية الشيء هو الذي ينبغي أن يأخذ مصلحته وثمرته ومنفعته، فصاحب البستان يبيع الثمرة بمائة ألف وبمائتي ألف، ولو احترق البستان لضمن هذا المال، فكما أنه يتحمل الخسارة يأخذ الربح.
    إذاً: هذا النوع من اليد يسمى يد الضمان، وسواء وقع التلف والضرر بيدك وبما هو في وسعك، أو وقع خارجاً عن إرادتك بالأقدار، ففي الجميع تضمن.
    النوع الثاني يسمى: يد الأمانة، أي: أن تأخذ الشيء ولا تلزم بضمانه إلا إذا فرّطت فيه أو قصرت، مثاله: جاءك رجل وقال: خذ هذه السيارة وضعها أمانة عندك، فوضعتها في مكان وحفظتها، ثم شاء الله أن تنزل عليها صاعقة تحرقها، أو تعطلت مكينتها دون أن يحركها أحد، فأنت هنا لا تضمن شيئاً؛ لأن يدك يد أمانة ويد حفظ، فلا تضمن إلا إذا قصّرت، أما لو أخذت هذه السيارة وقال لك: ضعها عندك، فأخذتها وقضيت بها حوائجك، فأي تلف يقع في السيارة فإنك تضمنه، ولو كان بآفة سماوية؛ لأن اليد أصبحت يد أمانة عندما قصر؛ ولذا ألزم بعاقبة التقصير.
    فهناك يدان: يد الأمانة، وهي لا تضمن، كما هو الحال في الودائع، كما لو جاءك شخص وقال لك: ضع هذه الشنطة وديعة عندك، فأخذتها ووضعتها في الخزانة، وعملت كل الأسباب لحفظها، ثم جاء سارق وسرقها بطريقة ذكية، فإنك لا تضمن؛ لأن يدك يد أمانة، وأما لو أخذت هذه الشنطة وفتحتها؛ ضمنت، بل قالوا: لو حل الرباط الذي على الكيس في الودائع فإنه يضمن؛ لأن يده خرجت عن الأمانة والحفظ وأصبحت يد ضمان.
    فالفرق بين يد الضمانة ويد الأمانة: أن يد الأمانة لا تضمن إلا إذا فرطت، ويد الضمان تضمن بكل حال، ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة واستعار من صفوان رضي الله عنه وأرضاه أدرعه وما يريده عليه الصلاة والسلام لجهاده، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (عارية مضمونة) ؛ لأنه سيستخدمها عليه الصلاة والسلام في الجهاد، فدل هذا على أن يد الأمانة لا تضمن إلا إذا فرطت.
    فهذه الشاة الأضحية قد أخرجها الشرع عن ملكه، وأصبحت كأنها منذورة لله عز وجل وتعينت، فلا يضمن إن تعيبت؛ لكن لو أنه فرط فيها فعرّضها للخطر حتى كسرت يدها، أو أصابها مرض، أو حصل بها ضرر؛ فأصبحت عرجاء بيّناً عرجها، أو مريضة بيّناً مرضها، أو أصبح فيها شيء من العيوب الأربعة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور -فإذا وقع بها واحد من العيوب المؤثرة فإنه يضمن؛ لأنه تعاطى أسباب الإضرار.
    فقوله عليه رحمة الله: (وإن تعيبت ذبحها وأجزأه) شرطه: أن لا يكون مقصراً، وأن لا يتعاطى أسباب الإضرار، فإن فعل ذلك فإنه يلزم وتكون مضمونة.


    مسائل متفرقة في الأضحية


    حكم الأضحية


    قال رحمه الله: [والأضحية سنة].الأضحية سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، على ما اختاره المصنف.
    وقال بعض العلماء: الأضحية واجبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فأمر عليه الصلاة والسلام بالذبح، ولحديث: (من وجد سعة فليضح ومن لم يضح فلا يقربن مصلانا)، واختلف في إسناده، وحسنه بعض العلماء.
    وقال المؤلف رحمه الله: إنها سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في إحدى الكبشين: (اللهم هذا عن محمد وعمن لم يضح من أمة محمد)، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عمن لم يضح، فلا يلزم الإنسان أن يضحي، وفعل الأضحية إنما هو سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.

    حكم التصدق بثمن الأضحية


    قال رحمه الله: [وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها].الأضحية فيها أمران:
    الأمر الأول: قيمتها، والأمر الثاني: عينها وذاتها، وعليه: فهل الأفضل أن يذبحها ويتصدق بجزء منها، أو يقدر قيمتها ثم يتصدق به؟
    جماهير العلماء على أن الأفضل أن يشتريها ويذبحها، ولذلك بيّن المصنف رحمه الله أن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها.
    وقال بعض العلماء: إذا كان الفقراء يحتاجون إلى المال أكثر، فإن هذا أفضل من التضحية بها، وهذا كله على القول بأنها سنة، أما لو قلنا: إنها واجبة؛ فلن نبحث عن الأفضل؛ لأنها واجبة عليه.
    والصحيح: أن الأفضل ذبحها، وهذا ما يقول عنه العلماء: إن التعيين للشيء الوارد في الشرع أفضل من المبهم غير الوارد في الشرع، فمثلاً: تلاوة القرآن في يوم الجمعة من حيث الأصل أفضل، لكن كون النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثروا عليَّ من الصلاة فيها) -صلى الله عليه وسلم- يدل على أن الأفضل يوم الجمعة أن يكثر الإنسان من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال بعض العلماء: الذكر الخاص في الزمان الخاص المندوب إليه أفضل من سائر الأفعال التي تأتي مطلقة، ومن هنا قال بعض العلماء: إن صلاة الظهر يوم التروية -الذي هو اليوم الثامن- بمنى أفضل من صلاتها في المسجد الحرام -على القول بأن المضاعفة تختص بالمسجد الحرام- لأنه إذا صلى الظهر بمنى أصاب السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونه في اليوم الثامن صلى الظهر بمنى ولم يصل بالمسجد الحرام دل على أنه أفضل؛ فكونه عليه الصلاة والسلام في يوم النحر يذبح ولا يتصدق بالثمن يدل على أن الذبح أفضل من التصدق بالقيمة، ولو كانت قيمتها باهضة؛ لأنك لو ذبحت الشاة فقد تتصدق بشيء يسير منها ويجزيك ذلك، لكن لو أخذت القيمة كلها وتصدقت بها فإن هذا من ناحية الرأي والاجتهاد قد يكون أن الأفضل القيمة، لكن كونك تأتسي برسول الأمة صلى الله عليه وسلم، وكون أولادك وأطفالك يوم النحر يفيقون على هذه السنة، ويرون أن هذا اليوم من بين أيام السنة كلها هو الذي يذبح فيه، فيشعرون بحلاوة هذا اليوم ولذته، ويشعرون بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فإذن هناك أمور كثيرة ترجح -حتى ولو قلنا بالسنية- أن الذبح أفضل؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    السنة في تقسيم الأضحية بعد الذبح


    قال رحمه الله: [ويسن أن يأكل، ويهدي، ويتصدق أثلاثاً]. اختلف العلماء في تقسيم الأضحية:
    فبعض العلماء يقول: الأفضل أن تقسمها نصفين، نصف لك ونصف تتصدق به؛ لأن الله تعالى يقول: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ )[الحج:28]، فجعلها نصفين تقسم بينه وبين الفقراء.
    وقال بعض العلماء: الأفضل أن تقسم ثلاثة أثلاث: ثلث لك ولأهل بيتك تفعل به ما تشاء، وثلث للفقراء، وثلث تهديه وتعطيه للأغنياء على سبيل المودة والمحبة، مثل أرحامك ومن ليسوا بحاجة، ولكنهم يأتون إليك يوم النحر من أجل أن يأكلوا عندك، أو تصل رحمك بها؛ لأن الله تعالى يقول: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ )[الحج:36]، فالقانع هو الغني، والمعتر هو السائل الذي يأتيك من أجل فقره وقلة ذات يده، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير) .
    وقال بعض العلماء: تقسمها أربعة أقسام؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا وتصدقوا وأهدوا وادخروا)، فجعلها أربعة أقسام: ربع لك، وربع تتصدق به، وربع تدخره، وربع تهديه وتعطيه للغير.
    والأمر في هذا واسع؛ لأنه ليس هناك تأقيت معين، لكن المهم أن تجعل منها قسماً للفقراء ولو كان شيئاً يسيراً، ولو جمعت الأرحام والقرابة وفيهم فقير أو ضعيف، ونويت أنه يصيب من أضحيتك لفقره، فلا بأس، وهكذا لو أخرجت منها قطعة من اللحم وأعطيتها لجار فقير أو مسكين فلا بأس.
    والأفضل إذا تصدق الإنسان بالأضحية أن يبتدئ بقرابته، وهم أحق من تصرف إليهم الصدقات، وهم أحق من ذكروا خاصة في هذا اليوم؛ لأن الناس إذا رأوا قريبك الفقير ربما امتنعوا من إعطائه لكونك غنياً، ولذلك ينبغي أن يتنبه الإنسان إذا فتح الله عليه بالغنى أن يصرف صدقاته ونوافله -حتى الزكاة- لقرابته الذين يجوز صرف الزكاة لهم؛ كالأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأعمام وأبناء الأعمام، وبنات الأخوال وأبناء الأخوال، فهؤلاء يقدمهم الإنسان في الزكاة والصدقات والبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ملكت حفصة رضي الله عنها رقبة، فأعتقتها -كما في الصحيحين- دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنها أعتقت هذه الرقبة تقرباً إلى الله، كما قال تعالى: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ )[البلد:11-13]، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (لو أنك أعطيتيها لأخوالك -يعني: قرابتك- لكان أعظم في أجرك)، فهذا يدل على أن القريب أفضل، وينبغي أن تصرف إليه الزكوات والصدقات؛ لأن الناس إذا رأوك ثرياً فإنهم لا ينظرون إلى قرابتك إذا كانوا فقراء أو محتاجين؛ لأن الكل يقول: إنك ستعطيهم، فحينئذٍ يبقى هذا القريب بين نارين؛ فقريبه لا يعطيه، والناس لا يعطونه.
    وعلى هذا فإنه يتصدق بها على قرابته، ففي يوم العيد لو دعا قرابته على اختلاف طبقاتهم ونوى بذلك الصدقة والهدية فإنه مأجور في صدقته بصلة الرحم وأجر الصدقة.
    قال رحمه الله: [وإن أكلها إلا أوقية تصدق بها جاز وإلا ضمنها].
    هذا قدر يستثنيه بعض العلماء: وهو أن يخرج منها ولو قدر الأوقية، فيخرجها ويتصدق بها والباقي يأكله، لكن إذا كان قد عينها ثم أكلها ضمن كلها؛ لأنه في هذه الحالة أخرجها عن الصدقات، ومما يقصد في ذبحها ونحرها أن يتصدق بجزء منها.
    وقوله رحمه الله: (ضمنها) يحتمل أمرين: يحتمل ضمان الأضحية، ويحتمل ضمان الأوقية، أي: أخرج قدراً كقدر الأوقية للفقراء؛ لأنه حق واجب عليه.


    ما يحرم على المضحي فعله


    قال رحمه الله: [ويحرم على من يضحي أن يأخذ في العشر من شعره أو بشرته شيئاً].قوله رحمه الله: (ويحرم على من يضحي)، أي: يحرم على الشخص الذي يريد أن يضحي أن يقص شعره، أو يقلم أظفاره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسن شيئاً من شعره ولا ظفره)، فنهى عليه الصلاة والسلام عن مس الشعر ومس الظفر، وفي هذا الحديث مسائل:
    المسألة الأولى: أن هذا النهي للتحريم.
    وقال بعض العلماء: بل هو للكراهة؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحرم على نفسه شيئاً إذا فتل قلائد هديه) .
    والصحيح: أن هناك فرقاً بين الأضحية والهدي، فمن أراد أن يضحي فلا يجوز له أن يمس شيئاً من الشعر ولا الأظفار حتى يضحي.
    المسألة الثانية: أن هذا الحكم يختص بالشخص نفسه، ولا يشمل الذين يراد أن يضحى عنهم، فأبناؤه وبناته وزوجته ونحوهم لا يمتنع عليهم أن يقصوا ويقلموا أظفارهم؛ والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي)، ولم يقل: أو يضحى عنه، وإنما خص الحكم بمن يضحي بعينه، فيختص الحكم بمن يضحي ولا يشمل قرابته وأهل بيته.
    المسألة الثالثة: يشمل هذا الحكم شعر البدن كله: شعر الرأس، واللحية، والإبطين، وشعر اليدين، والساعدين.
    المسألة الرابعة: يشمل هذا الحكم الرجل والمرأة، فالمرأة إذا أرادت أن تضحي فلا تمس شيئاً من شعرها ولا ظفرها؛ وللعلماء رحمهم الله في ذلك علل، قال بعض العلماء: لأنه إذا ذبح الأضحية كاملة أعتقه الله من النار كاملاً، وهو أمر غيبي يحتاج إلى نص، ولا أعرف فيه نصاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    والمراد بالعشر: عشر من ذي الحجة، فإذا أهلّ هلال عشر ذي الحجة فإنه يمتنع عما ذكر.
    وقال بعض العلماء: لا يمتنع من قص الشعر والظفر إلا إذا اشترى الأضحية، بمعنى: أنه عندما يشتري الأضحية ولو في اليوم السادس أو السابع فإنه يمتنع عليه قص الشعر والظفر من حين شراء الأضحية؛ لأنه لا يكون فعلاً مريداً للأضحية إلا إذا كان هناك أضحية حقيقية، وهذا قول مرجوح.
    والصحيح: أنه يمتنع من كل شيء ببداية ذي الحجة إذا نوى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل العشر وأراد أحدكم)، فقال: (أراد)، والإرادة معروفة، وهي: توجه قصد الإنسان للشيء، فإذا كانت عند الإنسان إرادة فإنه يمتنع، لكن لو كان فقيراً ودخل عليه هلال ذي الحجة وهو فقير أو مديون وليس عنده ما يشتري به الأضحية، فقال: لا أستطيع أن أضحي هذه السنة، فدخل اليوم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، ثم في اليوم السادس يسر الله له بمال يمكنه أن يشتري به الأضحية، فيمسك من اليوم السادس؛ لأنه لم يُرد الأضحية إلا حينما تيسرت له في ذلك اليوم.

    الأسئلة



    الراجح في حكم الأضحية

    السؤال: ذكرتم حفظكم الله خلاف العلماء رحمهم الله في الأضحية: هل هي واجبة، أم سنة؟ لكن ما هو القول الراجح، أثابكم الله؟
    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد:
    فقد سبق بيان هذه المسألة، وبيّنا أن أصح قولي العلماء القول بوجوبها؛ وذلك لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (فليذبح أخرى مكانها) إلزام، ولذلك لما قيل له: (يا رسول الله! ليس عندي إلا عناق، فقال صلى الله عليه وسلم: تجزيك ولا تجزي غيرك) ، فجعل الأمر فيه شيء من الإلزام، وقد كان بالإمكان أن يقول له: إن الأضحية ليست واجبة عليك، إن فعلتها فقد أحسنت، وإن تركتها فلا بأس، ولكنه قال: (تجزيك)، فكأن الأصل أنه ملزم بها، وقوله: (ولا تجزي غيرك) أي: أن غيرك إذا أراد أن يضحي فإنه ينبغي أن يتقيد بالسن المعتبر.
    وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم هذا عمن لم يضح من أمة محمد)، وكونه عليه الصلاة والسلام يضحي عمن لم يضح، فهذا يحتمل أن يراد به حصول الفضل والأجر لمن لم يضح من أمته صلوات الله وسلامه عليه، ولا يقوى لصرف الأمر عن ظاهره الذي يدل على اللزوم والإيجاب. والله تعالى أعلم.

    حكم ولد الأضحية المعينة

    السؤال: إذا عيّنت الأضحية وولدت، فما حكم المولود، أثابكم الله؟

    الجواب: قال بعض العلماء: إن الفرع تابع لأصله، فإذا كان قد عيّنها وهي حامل، فإن الجنين يكون تابعاً لأصله، وحينئذٍ فإنه يذبح، ولكن يبقى الإشكال: هل يذبح في عامه، أو ينتظر بلوغه إلى السن المعتبر؟
    قال بعض العلماء: إنه ينتظر ولا يذبح، فيكون متعيناً بنفسه أضحية إلى أن يصل إلى السن المعتبر ويذبح.
    وقال بعض العلماء: إنه لا يكون أضحية إلا الشاة نفسها، وأما فرعها فلا يتبعها.
    وأصول الشريعة تقتضي أن الفروع تابعة لأصولها، ولكن هناك مسألة مشهورة في الضمانات والمعاوضات، وهي: النماء المنفصل والمتصل. فيقولون: الفرع تابع لأصله ما لم يكن منفصلاً، فالجنين من الفرع المنفصل لا من الفرع المتصل، ولذلك قالوا: إن الأضحية إذا كانت بحال عند الشراء، ثم أحسن طعامها وعلفها والقيام عليها، فبدنت وكملت، فحالها من النماء المتصل بها تابع لها، لكن حينما تلد، ويخرج منها الشيء كاللبن ونحوه، فإن هذا النماء يعتبر نماء منفصلاً، ولا يلزم بذبحه أو نحره أضحية.
    وهذه المسألة مترددة بين كونه يتبع أو لا يتبع، وإن كان قد صحح غير واحد من العلماء رحمهم الله أنه لا يتبع، وأذكر من بعض مشايخنا رحمهم الله من قال: يفرق بين أن يقع التعيين قبل الحمل، وبين أن يقع التعيين بعد الحمل، فإذا عيّنها وهي حامل، فمعنى ذلك أن التعيين على الشاة وعلى ما في بطنها، كما لو قال له: أبيعك هذه الجارية وهي حامل، فإن البيع يكون للجارية وللجنين الذي في بطنها، وأما إذا كان قد عينها قبل أن تحمل ثم حملت، فإنه يكون نماءً منفصلاً.
    وأنا متوقف في الترجيح بين القولين، وكل منهما له حظه من النظر. والله تعالى أعلم.

    حكم من كان له أضحيتان


    السؤال: إذا كان عند الإنسان بيتان، كل بيت في حي من الأحياء، ويريد أن يضحي لكل بيت أضحية، فمتى يجوز له أن يأخذ من شعره وأظفاره: هل بعد ذبح الأضحية الأولى، أم لا بد أن ينتظر حتى يذبح الأضحية الثانية، علماً بأنه سوف يضحي لكل بيت في يوم غير اليوم الذي ضحى فيه للبيت الأول؟ أثابكم الله.

    الجواب: الذي ألزم به الشرع أضحية واحدة، وهذا الذي يلزم الإنسان في أضحيته، ولذلك يتقيد المنع بالأضحية الأولى، فإذا ضحى الأضحية الأولى فإنه حينئذٍ يجوز له أن يقصر وأن يحلق ويقلم.
    وقال بعض العلماء: إذا نذر أن يضحي مائة، فإنه لا يفتك من ذلك إلا بتمام أضحيته.
    والقول الأول أقوى. والله تعالى أعلم.

    حكم شراء لحم الهدي من الجزارين


    السؤال: في يوم النحر يقوم بعض الجزارين وغيرهم ببيع لحوم الهدي وغيره، فهل يجوز شراء تلك اللحوم؟ أفيدونا بارك الله فيكم.

    الجواب: ذكرنا أن الفقراء إذا أخذوا اللحوم وباعوها للجزار ثم باعها الجزار فلا بأس؛ لأن الفقير يملكها بأخذها منك، ثم إذا ملكها إن شاء أكلها وإن شاء أخذ ثمنها؛ لأن الله جعلها طعمة له، فإذا نظر أن مصلحته في الأكل أكل، وإذا نظر أن مصلحته في البيع باع؛ لكن لا ينبغي على الفقراء أن يتوسعوا أكثر من اللازم، فإنهم إذا توسعوا وأخذوا الأمر أكثر مما هو عليه، فوصل الواحد منهم إلى حد الغنى وزاد، فلا يخلو أن يكون ماله سحتاً من هذا الوجه -نسأل الله السلامة والعافية- لأنه لا يستحق الطعمة، أما لو كان فقيراً، وعنده ذرية وعيال، وأراد أن يأخذ هذا اللحم ويبيعه ويستفيد من ثمنه، فقد رخص جماعة من أهل العلم رحمهم الله في ذلك؛ لحديث بريرة السابق ذكره، وقد ذكرنا أن اليد تختلف، وأنه أخذ بيد وباع بيد أخرى، أخذ باستحقاقه كفقير فملك، فلما ملك جاز له أن يصرفها بدلاً ومعاوضة، وجاز له أن يصرفها على نفسه كأن يطبخها ويأكلها.
    ولكن في هذه المسألة شيء يسمى: العمل بالظاهر، فالجزار إذا اشترى من الفقراء وأعطاهم حقوقهم، ورضوا ببيعها له، فظاهر ذلك الحل، ولا داعي أن يوسوس الإنسان ويتشدد ويتنطع في هذه المسائل، فإن التشدد والتنطع لا خير فيه، فكونه يدقق ويجلس يفحص ويمحص، هذا لا ينبغي، بل إن الإنسان يعمل على الظاهر، فإذا كان ظاهر الحال أن الذين جاءوه فقراء، واشتهر ذلك، وعرف أنه لا يأتيه إلا المستحق الضعيف ويبيعه للجزار، واشترى منه الجزار وأعطاه حقه، وكل انصرف بحقه؛ فالظاهر أنها مملوكة للجزار. والله تعالى أعلم.

    متى يترخص المسافر برخص السفر


    السؤال: فضيلة الشيخ أثابكم الله! القاعدة الشرعية التي تقول: الغالب كالمحقق. هل يمكن أن نطبقها على من بداخل المطار وهو يريد السفر بحيث يستبيح رخص السفر من الجمع والقصر وغيره؛ لأن الغالب أنه مسافر، نرجو الإفادة، أثابكم الله؟

    الجواب: أولاً: المسائل تختلف، فالشخص الذي يريد أن يسافر بالطائرة، فإذا كان المطار خارج المدينة فإنه يقصر الصلاة بمجرد خروجه من المدينة، فإذا وصل إلى المطار فإنه يجوز أن يصلي الأربع ركعات ركعتين؛ وذلك لأنه مسافر، وقد تحقق سفره بخروجه من المدينة؛ لأنه قد أسفر، وهكذا لو أراد أن يركب الباخرة، فإذا وصل إلى الميناء في طرف المدينة أو بعيداً عن المدينة، فإنه قد انقطع، وهكذا لو كانت البواخر على الرصيف، فإن الرصيف يبعد عن عمران المدينة؛ وحينئذٍ بركوبه الباخرة يصلي الرباعية ركعتين، ويستبيح رخص السفر، ويفعل ما يفعل المسافر؛ لأنه قد سافر، وكونه قد تلغى الرحلة أو تتأخر، هذا لا يؤثر؛ لأن الغالب والذي يقع على الظاهر أنه مسافر، كما لو خرج بسيارته فإنه يحتمل أن تتعطل السيارة، ويحتمل أن يحصل للإنسان عائق يمنعه من السفر، وقد تتعطل السيارة بالكلية فلا يسافر، فإذاً هذه ظنون، والظنون ليست بمعتبرة ولا مؤثرة في الغالب، ولهذا يمكن تطبيق هذه القاعدة؛ لأن الغالب كالمحقق، وللإمام العز بن عبد السلام رحمه الله كلام نفيس في كتابه (قواعد الأحكام ومصالح الأنام)، بين فيه رحمه الله أن العمل على الغالب، وأن الظنون الضعيفة لا يلتفت إليها.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #249
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (249)

    صـــــ(1) إلى صــ(27)


    شرح زاد المستقنع باب الهدي والأضحية والعقيقة [4]



    نعم الله على عباده لا تحصى، والواجب هو شكر المنعم سبحانه، ومن تلك النعم: نعمة الأولاد، ومن شكر الله على هذه النعمة: ذبح العقيقة بعد الولادة، عن الذكر شاتان متكافئتان، وعن الأنثى شاة واحدة، تذبح عن المولود يوم سابعه، وبها يفك رهن المولود، وهي سنة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عق عليه الصلاة والسلام عن الحسن والحسين رضي الله عنهما، وهناك أمور مستحبة ينبغي فعلها عند ذبح العقيقة.

    أحكام العقيقة


    بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
    أما بعد:
    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: تسن العقيقة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة].
    شرع المصنف رحمه الله في بيان الأحكام المتعلقة بالعقيقة، ومناسبة هذا الفصل لما قبله: أن الهدي والأضحية تعتبر دماء مشروعة؛ شرعها الله سبحانه في مناسبات معينة وحالات مؤقتة، والعقيقة -وهي الشاة التي تذبح عن المولود ذكراً كان أم أنثى- إنما شرعت بسبب وجود الولد، فكأنها دم واجب بسبب معين، فأشبهت الهدي والأضحية، فكأن الهدي والأضحية والعقيقة تشترك في صفة معينة، وهي: كونها دماء شرعها الله سبحانه وتعالى في كتابه وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في مناسبات معينة.
    - فالهدي يكون في زمان معين، ويكون في حال مطلق، وحال مقيد.
    - والأضحية تكون في زمان معين.
    - والعقيقة تكون بسبب معين؛ فكلها دماء شرعت لأسباب مخصوصة.
    معنى العقيقة

    يقول رحمه الله: (تسن العقيقة)، أي: من هدي النبي صلى الله عليه وسلم العقيقة.والعقيقة أصلها: الشعر الذي يكون على المولود.
    ومنه قول الشاعر:
    أيا هند لا تنكحي بوهةً كأن عقيقته عليه أحسبا
    والمراد بذلك: الشعر الذي يولد به المولود، ولذلك ذهب بعض أئمة اللغة -وهم حجة في ذلك؛ خاصةً وأن البيت مشهور- إلى أن العقيقة مأخوذة من شعر المولود؛ لأنه يحلق في سابعه، وفي ذلك حكمة عظيمة، وقد قرر الأطباء في عصرنا الحاضر: أن حلق رأس المولود فيه نفع عظيم لخصائص الشعر، فإذا مُرَّ بالموسى على جلدة الشعر فإن ذلك ينشط الشعر ويقويه، إضافة إلى أنه يقتل كثيراً من الجراثيم التي قد توجد على جلدة الرأس أو بين الشعر، ومن هنا قالوا: وصفت بكونها عقيقة لوجود هذا المعنى، فشعر الرجل وشعر المرأة يقوى إذا حُلِق في حال الصغر بعد الولادة.

    حكم العقيقة

    وقوله رحمه الله: (تسن العقيقة) هذا الحكم بكونها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن ذبح العقيقة من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في حديث الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته؛ تذبح عنه يوم سابعه ويسمى)، فهذا يدل على مشروعية العقيقة. وقد اختلف العلماء هل هذه السنة واجبة أو مستحبة؟
    فذهب طائفة من العلماء إلى أنها سنة مستحبة، وبه يقول الأئمة الأربعة رحمهم الله برحمته الواسعة، وقال بعض فقهاء الظاهر وينسب القول لـداود إمام الظاهرية: إنها واجبة، ويلزم الإنسان الذبح عن مولوده؛ لحديث الحسن عن سمرة الذي رواه أصحاب السنن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته)، فقوله: (مرتهن)، المراد به: أنه مرهون، والمرهون هو المحبوس، ولذلك قالوا في قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ )[المدثر:38] أي: مرهونة، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، ورهينة بمعنى: محبوسة بما اكتسبت من الخير أو الشر، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل غلام مرتهن بعقيقته)، دلَّ هذا على أنها واجبة.
    والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن هذا الحديث من باب الإخبار لا الإنشاء، والأصل براءة الذمة عن الوجوب حتى يدل الدليل على وجوبها، والأفضل والأكمل أن تذبح العقيقة.

    الحكمة من مشروعية العقيقة

    ذهب بعض العلماء إلى أن العقيقة شرعها الله لحكمة عظيمة، ففي قوله عليه الصلاة والسلام: (كل غلام مرتهن بعقيقته) أنه محبوس بها، ومن ثم اختلفوا في هذا الحبس؛ فبعضهم يحمله على حبس الشيطان، وقيل عنه: حبس عن الخير ومكارم الأمور وفضائلها؛ فلا تتم له مكارم الأخلاق وفضائلها في الغالب إلا إذا عق عنه، وظاهر الحديث: أنه أخبر عن أنه مرتهن، وأمر ذلك إلى الله، حيث لم يأت ما يفسره، والأمر محتمل، ولذلك قال بعض العلماء: إن العقيقة يرتهن بها المولود، والله أعلم بكيفية هذا الرهن.وهناك حكمة أخرى: فهذه الشاة أو الشاتان اللتان تذبحان في اليوم السابع للمولود فيها حكم من الناحية الاجتماعية، فإن ذبح هذه الشاة وجمع الناس عليها، خاصة إذا طبخت وأصاب القرابة وغيرهم منها، أو فرق لحمها على الناس -هذا الأمر يثبت الأنساب، ويعرف الناس بعضهم ببعض، ولذلك فإن أنساب الناس تثبت عن طريق العقيقة، فتحفظ أنسابهم ولا تضيع، ومن هنا كان النكاح أمره مشتهراً ولم يكن بالسر، والسفاح على عكسه، فلما كان الولد ناشئاً عن النكاح الشرعي؛ شرع إظهار هذا الخير وهذه النعمة، والفرح والسرور بها، وكذلك يصل الناس بعضهم بعضاً بهذه العقيقة، فيهنأ والده وأمه وقرابته، وفي هذا لا شك مزيد بِرٍّ من الخير والصلة، فيتواصل الأرحام، ويشعر الناس بالمحبة والألفة، وزيادة الأخوة، وقوة الروابط الأسرية والاجتماعية، وفي ذلك خير كثير.

    انشغال ذمة الوالد بذبح العقيقة

    والمراد بقوله: (العقيقة) أي: جنس العقيقة، ولذلك فصل وقال: (عن الذكر شاتان وعن الأنثى شاة)، أي: يذبح عن الولد الذكر شاتان، وذلك أن الأصل في التكاليف الشرعية أنها توجه إلى الوالد حتى يدل الدليل على شغل ذمة الوالدة، والأصل أن الوالد هو القائم على البيت والمسئول عنه، والغنم بالغرم، قال تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ )[النساء:34]، ومن هنا وجب عليه الحق في تعلق الأمور التي تكون للأولاد به سلباً وإيجاباً، نعمة ونقمة، غرماً وغنماً.

    كراهة بعض العلماء تسمية العقيقة بهذا الاسم

    وقد كره بعض العلماء تسمية ما يذبح في السابع بالعقيقة، والصحيح جوازه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (كل غلام مرتهن بعقيقته)، بل ذهب بعض العلماء إلى تحريمه؛ لأن العقوق لا خير فيه، فكرهوا هذا الاسم.والصحيح أنه ما دام قد ثبت به النص فلا بأس بالتسمية ولا حرج فيها، وقال بعض العلماء: يقال لها: نسيكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انسك نسيكة) والجواب: أن هذا ورد في دم الفدية وليس في العقيقة، كما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة، والتسمية بالنسيكة -وهي فعيلة بمعنى مفعولة، أي: منسوكة- إنما هو من باب الذبح، أي: أنها شاة مذبوحة، وهذا الاسم مطلق وليس بمقيد.
    فالصحيح أنه يجوز تسميتها عقيقة، ويقول الرجل: عققت عن ولدي، وهل عققت عن ولدك؟ ونحو ذلك؛ وذلك لثبوت الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ما يذبح من العقيقة عن الغلام والجارية


    وقوله: (عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة؛ تذبح يوم سابعه).هذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى )[آل عمران:36]، فالنعمة بالذكر ليست كالأنثى، وهذا من تفضيل الشرع، ولا يستطيع الإنسان أن يقدم في ذلك أو يؤخر، وما عليه إلا أن يسلم، وإن كان في النساء خير كما أن في الرجال خيراً، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (إنما هن شقائق الرجال)، وقد فضل الله بين أنبيائه، ولم يكن لهذا التفضيل بين الأنبياء منقصة لمن هو مفضول، فكذلك تفضيل الرجل على الأنثى ليس فيه غضاضة أو حط لقدر النساء، كما يتذرع به بعض الجهلاء لذم الإسلام وأهله، إنما هو حكم الله الذي لا يسع المؤمن ولا المؤمنة إلا أن يسلم به ويرضى، وقد حمل الله عز وجل الرجال أحمالاً وأعباءً ثقيلة لم يحملها النساء، والله يحكم ولا معقب لحكمه.
    وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأحمال والأعباء متناسبة مع خلقته، ثم جعل للنساء ما جعل من اللين واللطف وحسن الرعاية والحلم والرقة ما جبر به كسر الرجل حينما يصيبه ما يصيبه بسبب ما هو فيه من قوة الشكيمة والبأس، فالله تعالى بحكمته جعل الخلق على هذا التفاوت لكي يكمل هذا نقص هذا، ويجبر هذا بإذن الله كسر هذا.
    وأياً ما كان فإن الأنثى يعق عنها بشاة، وأما الذكر فيعق عنه بشاتين؛ لحديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها -وقد حسنه غير واحد من أهل العلم- في التفريق بين الذكر والأنثى.
    وقال بعض العلماء: يعق عن الاثنين بشاة شاة، واستدلوا بحديث الحسن عن سمرة المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرتهن بعقيقته).
    والجواب: أن قوله: (بعقيتقه) إنما المراد به الجنس، أي: جنس العقيقة، بغض النظر عن العدد، وحينئذٍ فلا يقوى على الدلالة على أن الرجل يعق عنه بشاة واحدة، فالنعمة بالذكر ليست كالنعمة بالأنثى، ولذلك قال تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى )[آل عمران:36]، وقد ذكر هذا في سياق الامتنان بعد الولادة، فدل دلالة ظاهرة على أنهما ليسا بمتساويين، ولذلك فرق بينهما من هذا الوجه، كما هو الأصل في تفريق الشرع في كثير من الأحكام والمسائل.
    فيسن أن يعق عن الذكر بشاتين وعن الأنثى بشاة، ولا يدخل فيها التشريك، بل لابد أن تكون شاتين منفصلتين، وعلى هذا فلا يعق مثلاً عن ثلاثة من الذكور ببعير، وينوى أن يكون عن ست شياه؛ وذلك لأن العقيقة يقصد منها إراقة الدم، وذلك بالذبح، وعلى هذا فلابد فيها من خصوص الشاة دون الاشتراك.

    وقت ذبح العقيقة وتسمية المولود


    قوله رحمه الله: (تذبح يوم سابعه)، أي: تذبح هذه العقيقة في اليوم السابع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (تذبح عنه يوم سابعه)، وللعلماء في سابع الولادة وجهان: فمنهم من يقول: لا يحسب يوم الولادة، فإذا ولد في يوم الأحد فإنك تعتد بيوم الإثنين وما بعده، وحينئذٍ فيكون بعد تمام الثامن إذا حُسب يوم الولادة؛ لأنه هو يوم السابع حقيقة، فإذا جئت من حيث تمام السبع فتمام السابع بإلغاء يوم الولادة.
    وقال بعض العلماء: بل يوم الولادة محسوب فيها؛ لقوله: (يوم سابعه)، والإضافة تقتضي تقييد الحكم بالمضاف إليه، والمعنى: أن هذا اليوم وهو السابع مضاف إلى يوم الولادة، وعلى هذا فيكون يوم الولادة هو السابع.
    وفصلوا في هذا وقالوا: إذا كان مولوداً بالليل فإنه يحتسب من اليوم الذي بعده؛ حتى يتم السبع، وإن كان مولوداً بالنهار فكذلك، ولو كانت ولادته في آخر النهار فإنهم يعتدونه يوماً كاملاً على هذا المذهب، وكلا القولين له وجه، وإن كان القول الثاني أقوى، ومن عمل بأحدهما فإنه لا بأس ولا حرج عليه في ذلك.
    ثم قال رحمه الله: (فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين).
    فالعقيقة تذبح عن المولود في يوم سابعه، وتكون التسمية في اليوم السابع، ويحلق شعره في اليوم السابع، ويجوز أن يسميه في يوم ولادته، كما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى إبراهيم وقال: (لقد ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم)، فهذا يدل على مشروعية التسمية في يوم الولادة، ولا بأس أن تسمي قبل الولادة، كما يقع في الكنية، فيقال للرجل: يا أبا عبد الله، ولم يولد له بعد، ثم إذا ولد سماه عبد الله.
    والتسمية من حق الأب، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى؛ وفيه أسوة حسنة، وتسمي المرأة إذا كان لها مولود أو مولودة وأرادت أن تسميه.
    وكان من عادتهم في الجاهلية أن يغلظوا أسماء الرجال ويخففوا أسماء النساء والموالي، فقال رجل يتعصب من صنيعهم في الجاهلية: إنكم تسمون مواليكم بأسماء رقيقة، وتسمون بها النساء، وتمسون أنفسكم بالأسماء الغليظة، فقد كان الرجل يسمى: كلب، وصخر، وذئب، ونحو ذلك من الأسماء الخشنة، فقيل للعرب: لماذا تسمون أنفسكم بالأسماء الخشنة، وتسمون الموالي بالأسماء الرقيقة كيسار ونجاح ونحوهما؟
    فقال يجيبه: أسماؤنا لأعدائنا، وأسماء موالينا لنا. أي: إننا نتسمى بالأسماء الغليظة حتى تكون هيبة لأعدائنا، فإذا قيل: هذا ذئب، هابه العدو، وإذا قيل له: أسامة، هابه كذلك، ومثله: صخر وكلب ونحو ذلك.
    ثم إن الإسلام جاء بالهدي الأكمل والأفضل في التسمية، فخير الأسماء وأفضلها ما اشتمل على تمجيد الله عز وجل وتعظيمه وحمده سبحانه، كأن يسمي ابنه: عبد الله، أو عبد الرحمن أو عبد العزيز، ونحو ذلك من الأسماء الطيبة التي فيها تعبيد لله سبحانه وتعالى، ولا شك أن أفضلها عبد الله، ثم بعد ذلك التسمية بأسماء الأنبياء، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم)، فسماه باسم نبي، فاستحب العلماء التسمية بأسماء الأنبياء؛ كموسى وعيسى وزكريا ونحوهم من الأنبياء.
    ويستحب أيضاً التسمية بأسماء الصالحين، كما ثبت من حديث المغيرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانوا يسمون -أي: الذين من قبلكم- بأسماء أنبيائهم وصالحيهم)، والحكمة من ذلك: قالوا: لأنه إذا سمى بأسماء الأنبياء والصالحين؛ فإن المولود إذا شب وكبر وقرأ سيرة هذا النبي، أو هذا الإمام الصالح، أو العالم الفاضل؛ فإنه يتأثر به ويتخذه قدوة، وهذا شيء جبلي، وأفضل من يسمى به بعد أنبياء الله ورسله أسماء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فإنه إذا قرأ سيرة الصحابي أحب أن يكون مثله، وأن يقتدي به، فتكون في النفوس نوازع إلى الخير، وتكون الأسماء مدخلاً للخير.
    والعكس بالعكس، فإن التسمية بأسماء الأشرار والفسقة والفجار تحمل على الفساد.
    وأما التسمية بأسماء الكفار فإنها محرمة؛ لما فيها من التشبه بهم، وخاصة إذا لم يعرفها المسلمون، سواء كانت في الرجال أو النساء، فإن بعض النساء لا يحرصن على التسمية بأسماء أمهات المؤمنين، ولا شك أنها مصيبة عظيمة حينما عزف بعض النساء عن التسمية بأسماء أمهات المؤمنين، فتجد المرأة المسلمة التي تؤمن بالله واليوم الآخر يقول لها زوجها: نسميها بـفاطمة، وهي من أفضل نساء الجنة، وأحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقول لها: نسميها بـخديجة وعائشة ، فإذا بها تتمعر ويتغير وجهها، وتحس أنها منقصة إذا سمت بهذا الاسم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. مع أن هذه البنت لو أنها تسمت باسم من أسماء أمهات المؤمنين لرجت أن تكون مثلهن في الاقتداء بالخير، والاتساء بهن في الطاعة والبر، ولذلك ينبغي على المسلمة والمؤمنة أن تحرص على الأسماء الصالحة الطيبة؛ كمريم، وأسماء أمهات المؤمنين، ونحوها من الأسماء الفاضلة التي تشحذ الهمم، لعل الله أن يجعل فيها قدوة وأسوة بمن سبقها من الصالحات.
    ويحرم التسمية بالأسماء المحرمة التي فيها تعدٍ لحدود الله عز وجل، كالأسماء التي فيها تعالي وعظمة على الله تعالى، حتى إن البعض قد يسمى -والعياذ بالله- باسم الله عز وجل، وهذا لا يجوز، ومن هنا قالوا في تفسير قوله تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا )[مريم:65]، قيل: إنه هو اسم الله الذي لم يتسم به أحد، و(هل) هنا بمعنى: لا، فالمراد بقوله: (هل تعلم له سمياً) أي: لا تعلم له سمياً، والمراد بالسمي من الاسم قيل: من المساماة، وهي المشاكلة والمضاهاة. وأيهما كان فإنه ينبغي البعد عن هذا.
    كذلك الأسماء التي تشتمل على أمور محرمة من الخنا ونحو ذلك من الفحش، فإنه لا يجوز التسمي بها، ولا لمز الناس بها، فإن هذا محرم.
    إذاً: تكون التسمية في اليوم السابع، وإن سمى في اليوم الأول فلا حرج، وفي كل سنة، وإن كان الذي استحبه بعض العلماء أن تكون التسمية في أول يوم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عجل في تسمية ولده.
    وعند الخلاف في التسمية فإن مرد الخلاف إلى الأب، وينبغي على المرأة أن تتقي الله عز وجل، وأن تحسن إكرام بعلها، وتحسن الأدب معه؛ لأن هذا مطلوب من النساء مع الرجال؛ فلا تسترجل المرأة، ولا تحاول البغي على زوجها أو الاستهتار باسمه الذي يختاره أو ينتقيه لولدها، إلا إذا تضمن أمراً محظوراً، أو تضمن أمراً فيه إساءة إلى الولد؛ كالأسماء المستبشعة، أو التي تحمل نوعاً من المنقصة؛ كأن يسميه باسم يطابق الحالة التي جاء عليها؛ لأن البعض يستعجل في التسمية فيسمي ابنه بأسماء بشعة، وقد يقصد منها أنه جاء على حالته، فهذا كله لا ينبغي؛ لأنه يؤذي الولد ويضره، حتى قال بعض العلماء: إذا سمى الوالد ولده باسم مستبشع، فجميع ما يترتب عليه من الأذية والإساءة عليه وزره؛ لأنه أعان على ذلك، وهو السبب فيه، فمن حق الولد على والده أن يحسن اختيار ما يناسب لتسميته، كما يحب ذلك لنفسه.
    والله تعالى جبل الآباء على رحمة الأبناء، وجبل الأمهات على رحمة البنات، فالواجب الإحسان إليهم بهذه الأسماء الطيبة، خاصة أسماء الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين.
    وقوله رحمه الله: (تذبح يوم سابعه، فإن فات ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين).
    أي: تذبح العقيقة في سابع المولود، فإن فات السابع ففي رابع عشر، كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وقد تكلم العلماء في سنده وإن كان قد حسنه بعض أهل العلم، وهم يقولون: إنه تبع للإيتار، فيجعل السبع الأول، فإن لم يتيسر ففي السبع الثانية، أي: الرابع عشر، فإن لم يتيسر ففي إحدى وعشرين، وهذا قد استحبه بعض العلماء، ولا ينبغي للإنسان أن يفوت السنة عن السابع، وخاصة إذا لم يوجد موجب النسيان في ذلك، فالبعض ربما يؤخر عن السابع لموافقته لوسط الأسبوع؛ فيختار أن يكون يوم الخميس أو الجمعة، فيؤخر عن السابع ويفوت على نفسه السنة، بل ينبغي أن يحرص على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون ذبحها في اليوم السابع.

    صفة ذبح العقيقة


    قال رحمه الله: [وتنزع جدولاً]. المراد بقوله: (وتنزع جدولاً) أن يكون قطعها من المفاصل، فإذا أراد أن يقطع اليد ابتدأ بمفصل الكتف، ثم ينتقل بعد ذلك إلى مفصل الساق، وهكذا، ولا يكسر العظم.
    وهذا مبني على حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها، والعلماء رحمهم الله يستحبون هذا من باب الفأل؛ لأن هناك ما هو فأل، وهناك ما هو تطير وتشاؤم، والفأل مشروع، والتشاؤم محرم، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطيرة وقال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)، فهو إذا نزعها جدولاً كأنه يتفاءل بسلامة الولد، والفأل كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يحبه الله، والسبب في ذلك الفأل: أن تحسن الظن بالله عز وجل، فربما تكون في هم أو غم أو كرب، فإذا بك تسمع إنساناً يقرأ: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ )[الشرح:1]، أو تسمع قارئاً يقرأ: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي )[طه:25-26] فتتفاءل أن الأمر سيكون إلى خير.
    فإن كنت تخشى على شيء أن يصيبه ضرر فتسمع رجلاً ينادي رجلاً ويقول: يا صالح، فتتفاءل أن الله سيصلح لك ذلك الأمر، أو تكون في حالة تسمع رجلاً يقول كلمة تتناسب مع حالك مما هو خير، فهذا أمر مشروع؛ لأنه من حسن الظن بالله عز وجل، وقد جاء في الحديث كما في مسند أحمد وغيره -وأصله في الصحيحين- أن الله تعالى يقول: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، لكن هناك زيادة في المسند: (فمن ظن بي خيراً كان له، ومن ظن بي شراً كان له)، فقوله: (فمن ظن بي خيراً)، أي: تفاءل الخير، فإذا كنت تريد أن تخرج في سفر وسمعت رجلاً ينادي رجلاً بيسر أو سهل، فتحس بالسهالة، ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الحديبية لما أرسلت قريش من يتفاوض معه وكان ثالثهم سهيل بن عمرو قال: من؟ قالوا: سهيل بن عمرو، قال: (قد سهل أمركم) فتفاءل عليه الصلاة والسلام، وكان ما كان.
    وقد ذكر الإمام ابن القيم قصة عجيبة في هذا: وذلك أنه فقد أحد أولاده في موسم الحج، قال: فما زلت أسأل الله أن أدركه -ومعلوم كثرة الناس في الحج- قال: فإذا بي أطوف في البيت طواف الإفاضة -يوم النحر- وأنا أدعو الله أن يبلغني رؤية ولدي؛ فسمعت رجلاً يصيح بكلمة من الفأل فتفاءلت، فلم أدر أيهما أسرع صوت الولد وهو يصيح أم انتهاؤه من كلمته؟! فقد تفاءل بها خيراً، وأحسن الظن بالله، فإذا بولده يصيح، ولا شك أن هذا يزيد الإيمان؛ لأنه يحسن العقيدة في الله، بخلاف التشاؤم، فإنه -والعياذ بالله- يصرف العبد عن الله عز وجل، فتجده إذا أراد أن يخرج لعمل فرأى مشلولاً، أو ذا عاهة؛ تشاءم من ذلك اليوم وتطير منه، وإذا فتح باب دكانه للتجارة فجاءه إنسان مريض أو به عاهة؛ تشاءم وتطير، وقال: هذا يوم نحس، أو نحو ذلك، وهذا لا يجوز، وهو أمر محرم، وفيه شرك أصغر إذا اعتقد تأثير هذه الأشياء، وربما يصل به إلى الشرك الأكبر -والعياذ بالله- كما في حال ظن الغيب بزجر الطيور ونحوها، نسأل الله السلامة والعافية.
    إذاً: فنزع الكتف والمفاصل من الشاة من باب الفأل، ولا بأس به؛ لأن المقصود من العباد أن يخلصوا العبادة لله جل جلاله، ويوحِّدوا الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى إن أحسنت به الظن كان لك حسن الظن وفوقه مما لم يخطر لك على بال، فإذا أحسنت الظن بالله عز وجل فإن الله يلقيك من رحمته وفضله وإحسانه فوق ما ترجو وتأمل، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتفاءل بالخير، وأن يحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فإن هذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ثم قال رحمه الله: [ولا يكسر عظمها، وحكمها كالأضحية].
    قوله: (وحكمها كالأضحية)، أي: من حيث السن، فإنه يختارها بالسن المعروف في الأضحية، فلا يجزئ ما كان دون الثني، ويجوز أن يعق بالجذع من الضأن، وقد فصلنا هذه المسائل وبيناها في باب الأضحية، فإذا أراد أن يعق عن ابنه أو ابنته فإنه ينبغي أن يكون في الشاة التي تذبح شروط:
    أولاً: أن تكون بالسن المعتبرة.
    ثانياً: أن تكون سالمة من العيوب، فلا يذبحها إذا كانت معيبة، ولا تجزئ المعيبة، وذلك على التفصيل الذي ذكرناه في الأضحية.
    ثالثاً: أن لا تسبق العقيقةُ السبب، فالسبب هو الولادة، فلو ذبح العقيقة قبل الولادة لم يجزئ، كما لو ذبح الأضحية قبل صلاة يوم النحر فإنها لا تجزئ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فتتأقت العقيقة بالسبب، فلا يُذبح قبلها، كما لو قال له الأطباء: سيأتيك ذكر، فذبح قبل ولادته شاتين، أو قال: سأذبح هاتين الشاتين، فإن كان ذكراً فهما عنه، وإن كانت أنثى فالثانية صدقة؛ فإن ذلك لا يجزئه، فلابد أن يكون الذبح بعد الولادة.
    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #250
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (250)

    صـــــ(1) إلى صــ(27)

    حكم التشريك في دم العقيقة

    قال رحمه الله: [إلا أنه لا يجزئ فيها شرك في دم].قوله: (إلا أنه) استثناء، والقاعدة: أن الاستثناء إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ، فلما بين أن حكمها كحكم الأضحية، فإن الأضحية يشرع فيها التشريك، والتشريك مأخوذ من الشركة، يقال: شَرْكة وشُرْكة وشِرْكة، مثلث الشيء، والتشريك من الشركة وهي: الخلطة والاجتماع وضم الشيء إلى الشيء، والمراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز لأصحابه يوم الحديبية أن يذبحوا البعير عن السبعة، فاشترك في الجزور سبعة، كما في حديث جابر رضي الله عنه وغيره، ومن هنا قالوا: يجزئ في الأضحية أن يشتركوا، وهذا قد وقع في الإحصار، فهو يجزئ في الهدي والإحصار والدم الواجب، ولو أن إنساناً في الحج كانت عليه سبع واجبات في حج وعمرة؛ جاز له أن يذبح بعيراً ويجزيه عن الجميع، لكن في العقيقة لا يجزئه إلا أن يذبح شاتين متكافئتين، وينبغي له أن يراعي تساويهما على ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها، ولا تكون إحداهما أفضل من الأخرى.


    حكم الفرعة والعتيرة

    قال رحمه الله: [ولا تسن الفرعة، ولا العتيرة].الفرعة من عادات الجاهلية، فقد كانوا يعتقدون في المولود الأول من البهائم عقائد خاطئة، ولذلك كانوا يذبحونه، ولهم فيه أحكام، فلا يحملون عليه، ويخدمونه، وكل ذلك من أمور الجاهلية التي نهانا الله عز وجل عنها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لا فرع ولا عتيرة)، وهذا من باب رد أمور الجاهلية وإنكارها، فإن فعلهم هذا هو من تحريم ما أحل الله، فقد كانوا يحرمون أول النتاج مما أنتجته البهيمة، ولذلك عتب الله عليهم الافتراء عليه وتحريمهم لما أحل الله، واختلاقهم ذلك على الحنيفية ودين إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
    وقد كانوا يفعلون العتيرة في رجب.

    الأسئلة




    من ينوب عن الأب في ذبح العقيقة

    السؤال: إذا كانت العقيقة واجبة في حق الأب، فهل إذا كان ميتاً أو غائباً ينتقل الحق إلى الأم؟
    الجواب: اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا مات الأب: هل الأم هي التي تعق أو العصبة؟ والذي يظهر والله أعلم من ظاهر أحكام الشرع: أن العصبة ينزلون منزلة الأب والجد، فيقدم في هذا الجد، فإنه يعق عن ولد ولده، ولذلك عق عليه الصلاة والسلام عن الحسن والحسين، ثم يأتي في الترتيب أبو الجد ثم أبوه وإن علا، ثم بعد ذلك الإخوة الأشقاء، والإخوة لأب، وأبناء كلٍ، وينظر بعد ذلك إلى الأعمام وأبناء الأعمام كل على حسب قرابته، فيقدم بالجهات ثم بالقرب، فالعصبات أولى بالعقيقة، ولذلك نجد في أحكام الشريعة أن الغرم المالي متعلق بالعصبات، ومن هنا قال الله تعالى: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ )[البقرة:233]، فجعل الأمر راجعاً إلى العصبة، والعقيقة فيها شيء من الغرم، ومن هنا عندما تقع الجناية والقتل الخطأ فإن القرابة والعصبة من بني العم ونحوهم على حسب الرتب هم الذين يعقلون، كما هو قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتينا إن شاء الله في باب الديات.
    إذاً: هذا الأمر ليس مما تدخل فيه الأم، ولا يدخل فيه القرابة من جهة النساء والأرحام، وإنما هو مختص بالعصبة، كما هو الأصل في المواريث، ويكون من باب الغنم بالغرم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان)، والله تعالى أعلم.

    حكم التصدق بوزن شعر المولود ورقاً أو ذهباً


    السؤال: هل يجوز التصدق بوزن شعر المولود ورقاً أو ذهباً؟

    الجواب: نعم، لا بأس أن يتصدق بزنته ذهباً أو فضة، وقد نص عليه جماهير العلماء؛ وذلك لظاهر الخبر عنه عليه الصلاة والسلام، وقد تكلم العلماء في سند الحديث، ولكن استحب العلماء هذا الفعل، وجرى عليه فعل طائفة من السلف رحمهم الله، والله تعالى أعلم.

    الأفضل من ذبح العقيقة وطبخها أو التصدق بثمنها


    السؤال: هل الأفضل أن تذبح العقيقة ويفرق لحمها، أم تذبح وتطبخ ويدعى لها، وهل يجوز التصدق بثمنها؟

    الجواب: هذه المسألة يصعب فيها البت وأن يقال: الأفضل كذا، ولكن يقال: كل جائز، إن شاء ذبحها وقسمها على الفقراء والضعفاء، وهو على خير، وإن شاء طبخها وأطعمها ودعا إليها المسكين والمحتاج والقرابة وجمع بين الجميع.

    وبعض العلماء يفصل فيقول: إذا كان المسكين ينتفع بأخذ اللحم أكثر من حضوره فالأفضل أن تعطيه اللحم؛ لأنه يبقى عنده اليوم واليومين والثلاثة والأربعة، فهو أرفق بحاله وأصلح، ومن هنا يكون ذلك أعظم في الأجر، ومنهم من يقول: إن كان الأفضل العكس؛ كأن يصعب عليه طبخ الطعام، ويجد الكلفة والمؤنة؛ فالأفضل أن تدعوه إلى ذلك، ولكن هذا فيه صعوبة، فإن الإنسان لو نظر إلى طبخ العقيقة وإحسان الضيافة إليها، ودعوة القرابة، وجمع الشمل، وصلة الرحم، وأنسهم في البيت، وكونهم ضيوفاً على الإنسان، وما يحصل باجتماعهم من المحبة، بخلاف ما إذا بعث لكل إنسان بلحم؛ فإننا نجد أن دعوتهم إلى البيت أعظم وأكثر عناء، وأبلغ في الإكرام، وأدعى إلى المحبة والألفة، ومن هنا يقوى أن يقال: إن طبخها وتهيئتها للضيوف أعظم أجراً؛ لما فيه من المصالح خاصة القرابة.
    وبالنسبة للمساكين فالأمر قد لا يبعد أن يكون فيه تفصيل، والبت في هذه المسألة وأن يقال: الأفضل؛ أمر يحتاج إلى ضوابط معينة، وقد تكلم العلماء على ضوابط الأفضلية، ولكنها متداخلة هنا، فبالنسبة للفقراء الله أعلم بالأفضل، فقد يكون اختلاف الأحوال يدل على الأفضلية، بحيث يرغب المسكين أن يأخذها وأن يطعمها أولاده في الوقت الذي يشاء وبالطريقة التي يريد، فهذا قد يكون موجباً للقول بأن الأفضل أن تعطى للمسكين.
    والعكس بالعكس.. فمثلاً: لو كان من أناس لا يتيسر لهم أن يطبخوا ويكون عليهم في الطبخ مشقة وكلفة وعناء، فالحكم بالعكس، والله تعالى أعلم.

    حكم الزيادة عن الشاتين في العقيقة


    السؤال: هل له أن يزيد أكثر من شاتين، وهل له أن يعق ببقرة أو بدنة، أم أن الأمر لا يجزئ إلا بما ورد؟

    الجواب: بالنسبة لأكثر من شاتين فليس من السنة، ولا ينوي الإنسان العقيقة بأكثر من شاتين، ولكن لو دعوت القرابة فإنك تنوي الشاتين عقيقة، وتنوي البقية صلة رحم، وأجرك في صلة الرحم أعظم، فإذا نويت بها صلة الرحم فإن أجر صلة الرحم أعظم، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين لما كانت عندها جارية وأعتقتها: (لو أنك جعلتيها في أخوالك لكان أعظم لأجرك)، فلا شك أنه في هذه الحال يكون أعظم أجراً.
    فتختص العقيقة بشاتين، والزائد ينويه صدقة، أو ينويه صلة للرحم على حسب ما يتيسر له.
    أما إذا أراد أن ينحر جزوراً أو بقرة فإنه لا يدخل التشريك في العقيقة، إلا إذا كانت أنثى وأراد أن يذبح عنها بقرة، فقد رأى بعض العلماء التخفيف في ذلك، ورأوا أن هذا زيادة على الواجب، كما لو تصدق بصدقة أعظم من الصدقة الواجبة عليه، ولذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ففي الحديث الصحيح: (أنه بعث رجلاً على الصدقات ليأخذ الزكاة، فانطلق إلى رجل من الأنصار بجوار المدينة، فسأله الصدقة، فقال له: ليس عندي إلا ما هو أفضل، فقال: لا آخذه منك، إنما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ كذا وكذا -يعني: لم يأمرني أن آخذ هذا ولو أنه أفضل، فامتنع من أخذها- فانطلق الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى إليه، فأمر الساعي أن يأخذها)، قالوا: فهذا مال واجب، ومع ذلك تصدق بما زاد عن الواجب في الزكاة التي هي من الفرائض والأصول المعينة، والدماء والبهائم عينت وحددت أسنانها، أعني: الواجب منها، ومع ذلك رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الزائد، فدل هذا على جواز ذبح ما زاد في العقيقة ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.

    ضعف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن نفسه


    السؤال: هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن نفسه وهو كبير؟

    الجواب: لا أحفظ في هذا نصاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هناك أخبار ضعيفة لم يصح سندها، فلا أحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنداً صحيحاً أنه فعل ذلك أو أخبر عنه، وقد ذكر بعض أهل السير هذا الأمر، والسير فيها تسامح، وفيها أشياء لم توثق أخبارها، لكن لم يثبت شيئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا.

    عقيقة الخنثى


    السؤال: إذا كان المولود خنثى فهل يعق عنه بشاة أم بشاتين؟

    الجواب: الخنثى له حالتان:
    الحالة الأولى: أن يتميز حاله؛ فحينئذٍ يكون له حكم ما تميز، فإن تميز ذكراً فهو ذكر، وإن تميز أنثى فهو أنثى.
    الحالة الثانية: ألا يتميز؛ فإنه يحكم بكونه أنثى، وهذا أصل نص عليه جماهير العلماء رحمهم الله، فقد نصوا على أن الخنثى حكمه حكم الأنثى؛ لأن الأصل واليقين أنه أنثى حتى يستيقن ما هو أعلى، وهذا مبني على القاعدة الشرعية: اليقين لا يزول بالشك، ولذلك يقولون: يعطى الأقل؛ لأنه يقين، حتى يثبت ما هو أعلى، وهو أصل مطرد في كثير من المسائل، والله تعالى أعلم.

    حكم الاستدانة للعقيقة


    السؤال: هل للأب أن يستدين من أجل العقيقة؟

    الجواب: الاستدانة من أجل الأضحية والعقيقة لا بأس بها، لكن كونه واجباً عليه فهو ليس بواجب، أما إذا أراد أن يستدين ويتحمل الدين ثم بعد ذلك يقضيه، خاصة إذا وثق بوجود راتب أو صفقة، أو رجا مالاً يقضيه من دين له على إنسان ونحو ذلك، فإنه لا بأس، وأحب أن يصيب الخير والبر ويصل رحمه؛ فلا بأس في ذلك، والله تعالى أعلم.

    حكم ذبح الأضحية بعد اليوم الحادي والعشرين


    السؤال: إذا فات الذبح في السابع فإنه يذبح في رابع عشر، وإن فات ففي واحد وعشرين، فهل له أن يبني على ذلك سبعاً سبعاً أم في أي يوم بعد واحد وعشرين؟

    الجواب: اجتهد العلماء في هذه المسألة وليس فيها نص معين، وأنا لا أرى فيما بعد الواحد والعشرين حداً معيناً، أي: لا أحفظ فيه شيئاً مبنياً على أصل شرعي، ولذلك أتوقف في الحكم فيه حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، والله تعالى أعلم.

    حق تسمية المولود


    السؤال: هل تسمية المولود حق للأب أم للأم أم للكل؟

    الجواب: أما لو كان للكل فهذه مشكلة ومصيبة، ففي بعض الأحيان قد يسمى المولود باسمين، اسم داخل البيت واسم خارجه، فإن اشتجروا فيجعلون اسم الأم في البيت، واسم الأب خارج البيت، وهذا يقع في بعض الأعراف، فيجعلون اسم اللطف في داخل البيت خاص بالابن، ثم يكون له اسم في الخارج أمام الناس، هذا إذا كان قد حصل شيء من سوء التفاهم بين الزوج والزوجة.
    لكن الأصل أن المرأة تتأدب مع زوجها، وقد كان النساء يحسن الأدب مع الأزواج، وكان الرجل يشعر بقيوميته، والمرأة بلينها وحنانها وعطفها تشمل الرجل، ولم يعرف الاسترجال في النساء إلا من قريب حينما لقن بنات المسلمين أن تقف المرأة في وجه أبيها، فتراجعه في نكاحها، وتستطيل عليه في رأيها، وقد يسمون هذا من حقوق المرأة، وهذا فيه جر ويلات عظيمة، ولربما حصل الطلاق وتشتت الأسر بتعليم البنات الاسترجال، وحقوق المرأة.. المرأة لها حق لكن في داخل الإطار الشرعي، لذلك تقول المرأة الحكيمة لبنتها: كوني له أمة يكن لك عبداً. أي: أنك إذا أحسنت اللطف مع زوجك، وأصبحت كما أنت بفطرتك وجبلتك من اللين والرقة والأنوثة الكاملة الفاضلة المبنية على الحياء والخجل والاحتواء للرجل؛ فإن الرجل يشعر بكونه رجلاً، ويشعر أنه قائم على البيت، ولذلك فإن المرأة التي تسترجل على زوجها وتغالطه في الأمور، وتكثر التعنت عليه في المسائل، تأتي في زمان وتعض على أصابع الندم حين لا ينفعها الندم، وتتألم حين لا ينفعها الألم؛ ولذلك فإن المرأة لا يصلحها إلا كمال الحياء والخجل.
    وقد كانت النساء يوم كانت البيئات المسلمة محافظة بعيدة عن هذا الدخَل كانت المرأة ربما بلغت سن الخامسة عشرة فتتزوج ولا تعترض أبداً، ولا تفتح لها فماً على أبيها، وتزوج الرجل ابن أربعين سنة ولا تعترض على أبيها، ويجعل الله لها من الخير والبركة وحسن الذرية، وحسن العاقبة، فيجد ذلك الرجل كبير السن فيها خيراً عظيماً، وهذا -طبعاً- إذا أعطاها حقها، وأقام ببيته كما ينبغي، ونحن لا نقول هذا الكلام ويفهم منه ظلم النساء، وإنما نقول: في الحدود الشرعية، ونحكي شيئاً وقع وجرى، وكنا نألفه إلى عهد قريب؛ فما كانت المرأة تراجع أباها ولا تقف في وجهه، أما اليوم فإنها قد تقول له: أنت تتدخل في مستقبلي، وتدمر حياتي، وأنت وأنت... فتضيق عليه، وتؤذيه وتعنته، حتى ينزع الله البركة منها في أي زواج بعد ذلك، ولذلك تتدمر البيوت، وتتشتت الأسر باسترجال النساء، والمرأة الحكيمة العاقلة الفاضلة عندما تشعر بأنوثتها وبقوة الرجل، تحاول بحكمتها وعقلها وبما وضع الله فيها من البصيرة أن تكون المرأة الحكيمة التي تحسن التدخل في الأمور حيث يصلح التدخل، فتستقيم أمور البيوت، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المسترجلات، قال بعض العلماء: ومن الاسترجال كون المرأة تعنت الرجل وتقف معه في كل صغير وكبير، حتى إن بعض النساء يسألن أزواجهن عن كل دقيقة خارج البيت؛ بل بعضهن يتدخلن حتى في الأمور الخاصة التي تكون بين الرجال بعضهم مع بعض، وتبدي رأيها في هذه الأمور، وهذا كله استرجال وخروج بالمرأة عن المنهج السوي الكامل.
    إذاً: متى يختلف الرجل والمرأة؟
    يختلفون حينما لا تدري المرأة أين تضع لسانها، فتتدخل في الأمور، وتحاول أن تكون هي سيدة البيت، والقائمة عليه، وكذلك إذا أساء الرجل إلى المرأة، فأصبح يتدخل في أمورها، ويؤذيها ويضطهدها ويظلمها، فإن هذا ينشأ عنه أذية لها، فينبغي العدل والقسط الذي أمر الله عز وجل به.
    فإذا أراد الرجل أن يسمي ابنته رجع إلى زوجته وشاورها، وأدخل السرور عليها؛ وإذا كان الخلاف على شيء يسير تافه فيحتمل طيب خاطر زوجته، ويجعلها هي التي تسمي ابنته ويكرمها ويتم لها فرحتها، ويقدر منها أنها الوعاء الذي حمل، والثدي الذي سقى، والحجر الذي حوى، وأن منها العناء والمشقة، وبذلك يكون قد احتواها بحنانه ولطفه، وكان خير بعل لزوجته، وتذكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله)، فالأمور لا تستقيم إلا بالعدل الذي أمر الله به، فالرجل يبذل الحنان واللطف، والمرأة أيضاً تبدي من جانبها الضعف والانكسار أمام الرجل، أما أن تتعنت وتصبح واقفة في وجه زوجها حتى في الأسماء، فلا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فسميته باسم أبي إبراهيم)، فلم يشاور نساءه، ولم يأت إلى مارية ويقول لها: ماذا نسميه؟ مع أنها أمه.
    فهذا يدل على أن للرجال حقاً، وأن المرأة ينبغي أن تعرف أين مكانها، وإذا استقامت النساء على هذا الأساس واستقام الرجال على العطف والإحسان والإكرام للنساء والقيام بحقوقهن؛ فستستقيم بيوت المسلمين، أما إذا أصبحت المرأة تسترجل، وتدعي أن لها الحق في كل صغير وكبير حتى في الأسماء، وربما عيرت الرجل أمام أولاده وقرابته، فإن هذا لا ينبغي.
    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح أحوالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

    حكم ذبح الرجل العقيقة عن نفسه بعد الكبر


    السؤال: لم يعق والدي عني، فهل لي أن أعق عن نفسي بعد الكبر؟

    الجواب: يقول بعض العلماء: إن العقيقة تفوت إذا فات وقت ذبحها، وكما ذكرنا أنهم لا يرون ذلك بعد الواحد والعشرين، وبعض العلماء يرى أن للكبير أن يعق عن نفسه إذا علم أن والده لم يعق عنه؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام مرهون بعقيقته) قالوا: فيشرع له أن يفك رهنه، ولكلا القولين وجهه، والله تعالى أعلم.

    حكم من عق بشاة ثم ألحق بها أخرى


    السؤال: إذا لم تتوفر إلا شاة عن الذكر فإنه يؤديها، ولكن إذا توفرت فيما بعد أخرى فهل له أن يلحقها بالأولى؟

    الجواب: هذا فيه التفصيل الذي تقدم، فإن تيسر له الوجدان قبل استتمام العدد -عند من يحد بالزمان- فإنه يشرع له أن يذبحها؛ لأن المراد أن يحصل الذبح وإراقة الدم قربة لله عز وجل، فالمقصود يتحقق إذا كان داخل الزمان المعتبر، وأما إن جاوز الزمان المعتبر، فعند من يمنع بعد استمام الأمد فإنه تجزيه الشاة الأولى، وأما الثانية فهي صدقة من الصدقات، والله تعالى أعلم.

    حكم العق عن السقط


    السؤال: هل يعق عن السقط سواء نفخ فيه الروح أم لا؟

    الجواب: السقط إذا لم ينفخ فيه الروح فإنه لا يعامل معاملة الكامل، وأما إذا نفخت فيه الروح واستتم المدة، فقال بعض العلماء: يعق عنه، وقال بعضهم: لا يعق عنه إلا إذا ولد واستهل صارخاً؛ لأن الأصل أنه متعلق بالولادة، والقول الثاني هو الأقوى؛ لأن العبرة بولادته حياً، وأما إذا لم يولد حياً فإنه لا وجه للعق عنه، والله تعالى أعلم.

    صحة حديث (أعلنوا النكاح...)


    السؤال: جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف، واجعلوه في المساجد)، فهل هذا حديث صحيح؟

    الجواب: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بإعلان النكاح وإشهاره في أكثر من خبر، ففي رواية: (واضربوا عليه بالدفوف)، وفي رواية: (واضربوا عليه بالغربال)، والمراد بذلك: الدف المعروف الذي يكون من جلد البهيمة، ولا يكون بآلات العزف التي فيها الفتنة، ويتقيد بهذا النوع المعروف المشهور من (الطِّيران) ونحوها التي تكون من جلد البهيمة، وليس فيها فتنة بالضرب عليها كالزير ونحوه.

    وقصد الشرع من هذا: أن يفرق بين الحلال والحرام، والسفاح والنكاح، ومن هنا لم يجز أن يستكتم الشهود الخبر، فلا يجوز لأحد أن يقول لشهود النكاح: لا تخبروا أحداً، فإنه لو عقد على هذا الوجه فإنه يسمى: نكاح السر، وكان عمر رضي الله عنه إذا رفع له نكاح السر جلد الولي والشهود على ذلك؛ لأنهم يخالفون شرع الله من إعلان النكاح، والسنة في إعلان النكاح هو إشهاره وإظهاره حتى تثبت الأنساب، وتحفظ الحقوق، ويكون في ذلك جمع شمل الناس لحصول الوليمة، كما قال صلى الله عليه وسلم لـعبد الرحمن بن عوف : (أولم ولو بشاة)، والله تعالى أعلم.

    صيام الورثة عن الميت


    السؤال: إذا كان على الميت صيام شهرين، وذلك لقتله مسلماً خطأً، فهل يُلزَم الورثة بصيام هذين الشهرين؟ أثابكم الله.

    .
    الجواب: اختلف العلماء رحمهم الله في الصوم عن الميت:
    فقال بعض العلماء: لا يصوم الحي عن الميت مطلقاً.
    وقال جمهور العلماء: يصوم الحي عن الميت من حيث الجملة. وهو الصحيح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس في الصحيح لما سألت المرأةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمٍّ لها ماتت وعليها صوم نذر، فقالت: (يا رسول الله! أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دَين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدَين الله أحق أن يُقضى)، فأمرها عليه الصلاة والسلام بالقضاء، والصوم صوم نذر.
    واختلف العلماء الذين يقولون بالمشروعية:
    فمنهم من يقول: يختص القضاء بالنذر، ولا يقاس عليه غيره؛ لأنها عبادة بدنية، والأصل في العبادات البدنية ألا يقوم مكلف عن مكلف، وأنها تجب عيناً؛ كالصلاة، فإنه لا يصلي أحد عن أحد، ولو مات وعليه صلاة فلا تقبل عنه الصلوات؛ لأنها عبادة بدنية والصوم مثلها.
    وقال بعض العلماء: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء لهذه المرأة رُكِّب على علة، وهي قوله: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟)، فدل على أن العلة كون ذمة الميت شغلت بهذا الحق. وهذا هو الصحيح، وهو أن الصيام الواجب يُشرع قضاؤه من الورثة. والله تعالى أعلم.

    الحكم إذا نسي الإمام سجدة

    السؤال: إذا نسي الإمام السجدة الثانية ثم تشهد وسلم، ثم أُخبر بالنقص، فماذا يصنع الإمام في هذه الحالة؟ وماذا يصنع المسبوق؟

    الجواب: أما بالنسبة للإمام فإن فاتته السجدة الثانية من الركعة الأخيرة وتشهد ثم سلم ناسياً، وسبح له الناس أو نبهوه على الخطأ، وعلم أنه قد انتقص من الركعة الأخيرة سجدتها الأخيرة، فالحكم أنه يستقبل القبلة ويسجد السجدة الأخيرة، ثم يتشهد ثم يسلم ثم يسجد بعد السلام سجدتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر أنه سلم من اثنتين في الرباعية الظهر أو العصر، استقبل القبلة عليه الصلاة والسلام وأتم الركعتين ثم سلم ثم سجد بعد السلام.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #251
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (251)

    صـــــ(1) إلى صــ(6)

    شرح زاد المستقنع -** أسئلة وأجوبة في الحج
    **حكم من حج وهو صبي ثم بلغ


    **السؤال
    شخص حج وهو صغير، لكنه بعد البلوغ شك في حجه، هل هو صحيح أم لا، فهل يسقط عنه الحج بهذه الحجة أم يعيدها، أرجو التوضيح أثابكم الله؟


    **الجواب
    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فإن حج الصغير لا يجزيه عن حجة الإسلام، فإذا حج قبل أن يحتلم فإن حجه نافلة، ولا يجزئ عن حج الفريضة، ولذلك يطالب بإعادته بعد البلوغ.
    والله تعالى أعلم
    **جواز قراءة القرآن حال السعي والطواف

    **السؤال
    هل يجوز قراءة القرآن حال السعي بين الصفا والمروة والطواف بالكعبة، أثابكم الله؟


    **الجواب
    لا حرج في قراءة القرآن في الطواف والسعي، والسنة أن يدعو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا، فإن قرأ القرآن فلا حرج، ولكنه إذا دعا وسأل الله من فضله تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فذلك أبلغ في الاقتداء والائتساء.
    والله تعالى أعلم
    **جواز الحج عن الغير مع نية التجارة

    **السؤال
    إذا حججت عن امرأة متوفاة، وذلك مقابل مبلغٍ من المال، فما هي صيغة الدعاء لها؟ وهل يجوز لي أن أعمل بسيارتي بالإضافة للحج عنها، أثابكم الله؟


    **الجواب
    ليست هناك صيغة معينة للدعاء، فيدعو الإنسان للميت دعاءً مطلقاً، ويدخل في هذا الدعاء ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من سؤال الله العفو والمغفرة له (قال: يا رسول الله! هل بقي عليَّ من بري لوالدي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما).
    فالدعاء مطلق، وأما ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من دعائه أبي سلمة حينما دخل فسمع أهله يصيحون لما قضى، فقال: (لا تدعوا على أنفسكم فإن الملائكة يؤمنون، ثم قال: اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم أفسح له في قبره ونور له فيه)، فإذا دعا الإنسان لوالديه أو دعا للميت، فيقول: اللهم اغفر لفلان، اللهم اغفر لفلانة، اللهم ارفع درجتها في المهديين، اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفها في عقبها في الغابرين، واغفر لنا ولها يا رب العالمين، وأفسح لها في قبرها ونور لها فيه.
    فهذا الدعاء يثاب صاحبه؛ لأنه تأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أرجى للإجابة؛ لما فيه من الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم والائتساء به، وهكذا الدعاء له بالمغفرة العامة لذنوبه صغيرها وكبيرها، والتجاوز عنه ورفع درجته، إلى غير ذلك من الأدعية المطلقة، فلا حرج فيه، فإذا حج الإنسان عن ميت دعا له واستغفر له وترحم عليه، وخاصة في مواطن ومظان الإجابة.
    أما إذا حججت عن إنسان وأردت أن تعمل بسيارتك في الحج، فالصحيح أن الحج لا يمنع التجارة، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، فإنها نزلت فيمن يريد الحج والتجارة، وهذا يدل على أنه إذا كانت نية العبادة هي الأصل، ونية الدنيا تبعاً، فإن ذلك لا يؤثر، ومن أمثلتها: إذا درس الطالب على أساس أن يكون موظفاً وينتفع بدراسته، فإنه إذا نوى أن يطلب العلم لنفسه ثم بعد ذلك ينتفع بمصلحة الدنيا فلا حرج؛ لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، فجعل نية الدنيا تبعاً لنية الآخرة، ولم يؤثر في الحج أن يكون قصد من ورائه التجارة، وعلى هذا فإنه لو سأل الله الرزق بسيارته أو دابته أو بنفسه، أو اشتغل في حمل متاع أو نحو ذلك، فلا حرج عليه، وهكذا إذا صنع طعاماً، ولكن لا يشغله عن المقصود الأهم من ذكر الله عز وجل وإقامة شعائره في حجه.
    والله تعالى أعلم
    **معنى حديث: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)

    **السؤال
    نرجو توضيح قول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تقبل الله حجه: (رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) أثابكم الله؟


    **الجواب
    هذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن من حج ولم يرفث ولم يفسق، وكانت نيته خالصة لوجه الله عز وجل، وأعطى لهذه العبادة حقها، وأقام لها حقوقها، فإنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، بلا ذنب لا صغير ولا كبير، وهذا حديث عام، وقال بعض العلماء بالتخصيص، ولكنه ضعيف، والصحيح: أنه لا يبقى له ذنب لا صغير ولا كبير على ظاهر النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، قال العلماء: وهذا أمر عزيز، ولا شك أنه لا يمكن أن يكون إلا بجهد جهيد، وتوفيق من الله عظيم، والسبب في ذلك واضح، ولذلك قال تعالى: {فَلا رَفَثَ} [البقرة:197]، وفي الحديث: (من حج هذا البيت فلم يرفث)، وفي الحج تكون هناك من المناظر التي لا يستطيع الإنسان أن يحفظ بصره ويغضه إلا بخوف من الله شديد، ومراقبة لله سبحانه وتعالى، ويحفظ جوارحه؛ لأن الرفث يشمل كل ما يكون من دواعي الشهوة، فيشمل ذلك حركاته وسكناته وكلماته، وما يكون منه من أفعال، خاصة إذا كان معه أهله وزوجه، فإن هذا يحتاج إلى نوع من المجاهدة.
    والفسق هنا يشمل صغائر الذنوب وكبائرها، بمعنى: أنه لم تحدث منه أي زلة ولا خطيئة، إلا ما كان من اللمم الذي يغفره الله عز وجل بالصلوات الخمس، فإذا حفظ الإنسان نفسه، فحينئذٍ قالوا: إذا حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فهو نصٌ صحيح صريح لم يستثن شيئاً، ولذلك القول: بأنه تغفر له جميع الذنوب صغيرها وكبيرها قول صحيح.
    لكن بعض العلماء يقول: إن الحقوق التي للناس لا تغفر، والسبب في هذا أنه يشترط في التوبة رد المظالم، والجواب: أنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فهو ويمكن أن يجاب: بأن الله يتحمّل عنه حقوق عباده، إذا كان لم يستطع القيام بها، وهذا اختاره بعض العلماء والأئمة إعمالاً للنص على ظاهره، أي: أنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وما كان من حقوق للعباد خاصة إذا عجز عن وفائها وأدائها فالله عز وجل يتحملها عنه، وكان بعض العلماء يقول: قلّ أن يحج إنسان ويوفق للحج المبرور إلا وظهرت عليه دلائل التوبة النصوح، ووفقه الله عز وجل حتى للخروج من المظالم، وهذه من رحمة الله، فإن الله إذا أراد أن يعفو عن عبده ويغفر له هيأ له أسباب العفو والمغفرة، حتى إنه ربما تكون بينه وبين إنسان مظلمة، ولم ير هذا الإنسان منذ زمن بعيد، فيشاء الله أن يراه في ساعة لا يتوقع رؤيته فيها، كل ذلك من حبه سبحانه للعبد، فإذا أحب الله العبد ورأى منه صدق التوبة والإنابة هيأ له كل أسباب القبول، ووضع له أسباب الزيادة من البر والإحسان والخير والطاعة، كما قال سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين يعد عباده المهتدين: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].
    فالذي يصدق مع الله، ويقوم بالفرائض، ويؤديها على أتم الوجوه، يهيئ الله له من عنده بتيسيره وفضله ومنّه وكرمه ما يكون معونة له على القبول، وعلى حصول الخير المرجو من طاعته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولذلك يقول العلماء: لهذا القبول أثر وله حلاوة يعرفها من عرفها، ويجدها من وجدها.
    نسأل الله بأسمائه وصفاته أن لا يجعلنا من المحرومين، وأن يجعلنا من عباده المرحومين.
    والله تعالى أعلم

    **حكم من كان سريع النسيان فيقصر أو يترك من العبادات


    **السؤال
    من كان سريع النسيان وبه خلل عقلي، فهل يأثم على ما يتركه أو يقصر فيه، أثابكم الله؟


    **الجواب
    من كان سريع النسيان أو به خلل في عقله، فهذا بلاء، والله عز وجل يبتلي من يشاء، وقد يحب الله عبداً من عباده فيختار له منزلة ودرجة في الجنة لا يبلغها بكثير صلاة ولا صيام، وإنما يبلغها بالبلاء، فيبتليه، فيصبح أصماً أو يصبح أخرس، فلا يتكلم في أعراض الناس، ولا يقع في غيبة ولا نميمة، ويسلمه الله من هذه الشرور والآفات لرحمة يريدها له في الآخرة.
    وهكذا إذا كان سريع النسيان، فإنه سبحانه وتعالى قد يبتليه بهذا الابتلاء لرحمة يريدها به، فما عليه إلا أن يحمد الله على بلائه، وكما في الحديث الصحيح: (فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط).
    وكان السلف الصالح رحمة الله عليهم يحبون البلاء، فإذا نزل بهم البلاء رضوا عن الله، وهذا هو مقام الرضا؛ وهو من أشرف المقامات وأحبها؛ لأن من كمال التوحيد لله عز وجل أن ترضى بقضائه وقدره، وأن تسلم الأمر له سبحانه وتعالى، فلا تصيبك مصيبة في نفسك ولا أهلك ولا مالك ولا ولدك إلا تلقيتها منشرح الصدر مطمئن القلب، راضياً عن الله سبحانه وتعالى؛ لعلمك اليقيني أن الذي كتبها وقدرها وأوجدها -وهو الله سبحانه وتعالى- أنه قدّرها جل جلاله لطفاً بك، فإن رضيت فلك الرضا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا حب قوماً ابتلاهم)، وكان السلف الصالح يكرهون زوال البلاء، بمعنى: أنهم يتحسرون على فوات الأجر إذا زال عنهم البلاء، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله إذا أحب قوماً)، فتأمل قوله: (إذا أحب قوماً ابتلاهم)، فيبتلي الإنسان بالضيق والنسيان، ويبتليه بالهموم والغموم في نفسه، فانظر إلى رجل أصابه الهم في نفسه، أو جاءه كدر في نفسه فقال: الحمد لله، ورضي عن الله عز وجل، وأحسّ أن هذا ابتلاء، وكما أنه يتقرب إلى الله عز وجل بركوعه وسجوده، فينبغي أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالحمد والطمأنينة، وانشراح الصدر بما ابتلاه الله به، ويقول: الحمد لله، ذنوبي كثيرة، ولو عاقبني الله بما أنا أهله لما أبقاني على وجه الأرض، ثم يقول: الحمد لله الذي صرف عني ما هو أشد وأعظم، ثم قال: الحمد لله الذي أعلمني أن هذا بلاؤه وقدره، ثم يقول: الحمد لله الذي أنزل بي هذا البلاء، ولم يجعلني من الغافلين، إذاً: الذي يبتلى يصبر ويذكر ويشكر، ويحتسب عند الله عز وجل، والذي يعطى ولا يبتلى ربما يصيبه النسيان، وتصيبه الغفلة، فيكون في زلة قدم والعياذ بالله، وأمن من مكر الله عز وجل به.
    فالمقصود: إذا تلقى الإنسان هذه الأمور بالرضا؛ وجدته في أحسن الأحوال وأتمها، ولربما وجدت الرجل مشلولاً لا يستطيع أن يتحرك، ولربما تجده كفيف البصر، فتقول له كيف حالك؟ فيقول: الحمد لله، وإذا بصدره أوسع من الدنيا بما فيها؛ وذلك مما أفرغ الله في قلبه من الرضا (فمن رضي فله الرضا)، وانظر إلى كل بلاء ينزل بك، فمجرد ما تنزل المصيبة تتلقاها بنفس مطمئنة، وخاطر راضٍ غير منكسر لحق الله جل جلاله، وتتلقاها بمحبة وإقبال على الله عز وجل، فتجد كل يوم يمر بك وكل ساعة، بل كل لحظة تمر بك وأنت في أنس ولذة، وقد كان بعض العلماء يحب مثل هذه المقامات التي فيها قرب من الله عز وجل، ولذلك تجد في أيام المرض من حلاوة ذكر الله ما لا تجده أيام العافية، وتجد أيام الضر والنكبات من الأنس بالله ما لا تجده في أيام الصحة والعافية.
    فلذلك إذا تلقى الإنسان هذه البلايا بقلب مطمئن وصدر منشرح وسّع الله عليه الضيق، وأُثِر عن بعض العلماء أنه كان مهموماً في يومه، وكان الطلاب عنده، فلما كان المساء جاء أحد عبيده ومواليه فكلمه بكلام، فسرِّي عنه وانبسط وانشرح، فقال أحد طلابه: رأيت منك اليوم أمراً عجباً، رأيتك مهموماً مغموماً مكروباً، فما هو إلا أن أتاك عبدك وأخبرك فانشرحت نفسك، وتغيّر وجهك، فقال: إني أصبحت ولم أر في نفسي ولا أهلي ولا مالي مصيبة، فقلت: ما ذلك إلا لأن قدري عند الله نزل، ولو كان لي عند الله قدر لابتلاني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم)، فلما أمسيت جاءني العبد وزعم أن عبدي فلاناً قد مات، فحمدت الله عز وجل أنه لا يبتلي إلا من يحب.
    ولذلك تجد أن أحب الناس إلى الله عز وجل هم أقلهم مالاً، وهم الفقراء والضعفاء، وتجدهم أكثر ذكراً لله، وأكثر طاعة وقرباً من الله سبحانه وتعالى، وأكثر إقبالاً على الله، وخوفاً منه سبحانه، وتجد الغني الثري أكفر الناس لنعمة الله وأغفلهم عن الله، وأكثرهم إعراضاً عن الله عز وجل، ولذلك من نعم الله عز وجل أن يبتلي العبد، فإذا تلقى الإنسان الابتلاء وكان سريع النسيان فعليه أن يقول: الحمد لله، واعلم أن الله لا يبتليك بابتلاء إلا وفيه نعمة من جهة أخرى، فإن الذي ينسى تذهب عنه الهموم؛ لأنه إذا نزلت به المصائب ينساها بسرعة، فالله يبتلي في شيء ويرحم في شيء، والذي يحفظ تجده يحفظ الأذية، ولربما تبقى في قلبه سنوات، ويتحسر ويتألم بها، ويكون من الصعب اجتثاثها واقتلاعها من قلبه، نسأل الله السلامة والعافية.
    إذاً: من رحمة الله عز وجل أن الإنسان يحمد الله، فإن سلبك الله الحفظ فقد يعوضك العبادة، وقد يعوضك خيراً من ذلك؛ كالخشوع والذكر والدعاء.
    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا ما يكون عوناً على طاعته ومرضاته ومحبته، ونسأله أن يلطف بنا فيما ابتلانا به، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #252
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (252)

    صـــــ(1) إلى صــ(18)


    شرح زاد المستقنع -** مسائل في محظورات الإحرام
    من أحرم بالحج أو العمرة فقد حرمت عليه عدة محظورات، فلا يجوز له أن يفعل شيئاً منها، ومن ارتكب شيئاً منها فهناك أحكام وكفارات مترتبة على فعله ذلك
    **محظورات الإحرام
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فقد نظرت في مسائل الحج ومباحثها فوجدت فيها مسائل تعم بها البلوى، وكان البعض يقترح أن نتحدث عن صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنعم بها وأكرم من صفة! ولا شك أن الأجر بها أعظم، خاصة وأننا نتعرض لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها الأجر والمثوبة، وهي الخير كله.
    لكن لما نظرت وجدت أن صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم لا تخفى على كثير من طلاب العلم، ولكن هناك مسائل تعم بها البلوى، ويكثر السؤال عنها، وقد تجد طالب العلم يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتيه السائل ويقول له: تطيبت ناسياً تطيبت جاهلاً لبست ثوبي ناسياً لبست ثوبي جاهلاً بالحكم قتلت الصيد قتلت ذئباً قتلتُ حيةً فما الحكم؟ فمسائل محظورات الإحرام مسائل تعم بها البلوى، ولذلك آثرت أن يكون حديثنا -إن شاء الله- عن مسائل من محظورات الإحرام.
    وخاصةً أن محظورات الإحرام نحتاجها لأنفسنا لكي ننقذ أنفسنا من الضلال، ونبتعد عن الأمور المحرمة إذا تلبسنا بمناسك الحج والعمرة، وكذلك فيها النفع الكثير للناس
    **معنى محظورات الإحرام
    وسنتكلم عن محظورات الإحرام في أمور ومسائل: أولها: ما معنى قول العلماء: محظورات الإحرام؟ المحظورات: جمع محظور، يقال: حظرت الشيء عليك إذا منعتك منه، ولذلك سميّت الحظيرة حظيرة؛ لأنها تمنع الدواب من الخروج، فالحظر: التحريم والمنع، والمحظورات جمعها العلماء؛ لأنها ليست بواحدة وإنما هي متعددة، فجمعت لاختلاف أنواعها.
    والإحرام: نية أحد النسكين أو هما معاً، فإذا قال العلماء: الإحرام، أو قالوا: لا يجوز لمن أحرم، أو قالوا: يجب على من أحرم، فمرادهم من نوى النسكين: الحج والعمرة كالقارن، أو أحدهما كالحج مفرداً، أو العمرة وحدها، فإذا نوى الإنسان العمرة، أو نوى الحج، أو هما معاً؛ فقد دخل في الإحرام، ويقال: أحرم، ولا يلزم الإنسان بترك محظورات الإحرام بمجرد لبسه للإحرام كما يفهم العوام، إنما تحرم محظورات الإحرام بعد نيتك للنسك، فلو لبست الإحرام ولم تلب بالنسك ولم تنو، جاز لك أن تصيب هذه المحظورات، وإنما تحرم عليك بعد الدخول في النسك بالنية
    **لبس المخيط
    المسألة الثانية: ما هي محظورات الإحرام؟ المحظورات تسع: أولها: لبس المخيط، وثانيها: الطيب، وثالثها: تغطية الوجه، ورابعها: تغطية الرأس، ومنه الأذنان، وخامسها: حلق الشعر أو قصه أو نتفه، وسادسها: تقليم الأظفار، وسابعها: عقد النكاح، وثامنها: الجماع ومقدماته، وتاسعها: قتل الصيد.
    ومنهم من يقول: الصيد، ومنهم من يقول: إتلاف الصيد، والمعنى واحد، وإن كانت بعض التعبيرات أدق من بعض.
    أولاً: لبس المخيط، يقال: لبس الثوب إذا دخل فيه، والمخيط: يشمل المخيط المعتاد المفصل على الجسم، وما في حكمه؛ كالمحيط بالعضو كما سيأتي، قال بعض العلماء: يخرج من هذا الارتداء؛ كالقباء ونحوه، فاللبس: أن تدخل يديك، والارتداء: أن تضع الشيء على عاتقك دون إدخال، مثال ذلك: لو أخذت هذا البشت أو هذه العباءة ووضعتها على كتفيك وأنت محرم من شدة البرد، فإنه لا يصدق عليك أنك قد لبست، هذا إذا قلنا: إن اللبس لا بد فيه من الإدخال، أما إذا قيل بمطلق اللبس، فإنه يشمل من وضعه على كتفه سواءً أدخله أو لم يدخله، وهذا هو الفرق بين قولهم: الارتداء، واللبس.
    وهنا مسائل: أولاً: ماهو الدليل على أنه يحرم على الحاج والمعتمر أن يلبس المخيط؟ وثانياً: ما هي مسائل لبس المخيط؟ أما الدليل على تحريم لبس المخيط على المحرم سواءً كان بحجٍ أو عمرة، فقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عمر -وهو في الصحيحين-: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحدٌ لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين)، فالمخيط إما أن يستر أعلى البدن كالقميص، وفي حكمه ما يسمى الآن -وأنا أحب دائماً أن نمثل بالأشياء العصرية؛ لأن بعض طلاب العلم يسمع أسماء قديمة ثم ترد عليه مسائل عصرية فلا يحسن الجواب فيها؛ لأنه عرف القديم ولم يعرف تطبيقه على الجديد- فبعرفنا اليوم الفنيلة الموجودة الآن هذه سترٌ لأعلى البدن، والكوت سترٌ لأعلى البدن، فاللباس إما أن يكون ساتراً لأعلى البدن، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص)، أو يكون ساتراً لأسفل البدن: (ولا السراويلات)، ومثله البنطلون الموجود الآن، وسواءً كانت طويلة أو قصيرة، ثم قد يكون اللباس جامعاً بينهما كالثوب، قال عليه الصلاة والسلام: (ولا البرانس)، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أن الفقه أن تنظر إلى معاني الأحاديث، وأن لا تقتصر على ظاهر اللفظ فقط؛ فلو كان ظاهر اللفظ هو المراد فقط لكان عليه الصلاة والسلام ذكر لبساً معيناً وقال: لا تلبسه، ولكن كونه يحدد المواضع ويأتي بأمثله -لكل موضعٍ بما يجانسه- فإن هذا يدل على اعتبار الرأي، وفقه معاني النصوص.
    والبرنس يغطي أعلى البدن وأسفله، وبناءً على ذلك نقول: نص النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم ستر أعلى البدن بالقميص، وستر أسفله بالسروال، وستر جميعه بالبرنس، فلو سألك سائل عن الثوب الموجود الآن، فنقول: يحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على تحريم البرنس والقميص والسروال، والثوب أشد من القميص والسروال، وهو في حكم البرنس، وإن كان لا يغطي الرأس.
    الدليل الثاني على تحريم لبس المخيط: حديث الأعرابي، وهو في الجعرّانة أو الجعرَانة، لغتان، وذلك لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم الطائف اعتمر من الجعرّانة، فجاءه أعرابي عليه جبة، فقال: (يا رسول الله! ما ترى في رجلٍ أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فقال عليه الصلاة والسلام: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)، فحرم عليه لبس المخيط، وبهذه النصوص الصحيحة الصريحة نص العلماء على تحريم لبس المخيط، ويستوي في ذلك كما قلنا: أن يكون لأعلى البدن، أو لأسفله أو لجميعه
    **ما يحرم على الرجال والنساء من المخيط
    المسألة الثالثة: إنما يحرم لبس المخيط على الرجل، أما المرأة فإنها تلبس المخيط، ويكون إحرامها في وجهها وكفيها، ويكون المحظور عليها من اللباس أن تنتقب أو تلبس القفازين؛ لما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)، فثبت في هذا النص أن إحرام المرأة في الوجه والكفين، ولكن إن مرّ عليها أجانب أو اشتد عليها برد أو لفحتها ريح فسدلت خمارها -والسدل أن يكون غطاء للوجه دون أن يمس بشرة الوجه- فلا حرج ولا فدية عليها؛ بشرط عدم مماسة الغطاء لبشرة الوجه، وذلك لحديث أسماء، ويروى عن عائشة وقد تُكلم في سنده، ولكن الصحيح عن أسماء أنها قالت: (كنا إذا مر بنا الركب سدلت إحدانا خمارها، حتى إذا جاوزنا كشفت)، وهذا يدل على مشروعية السدل عند رؤية الرجال الأجانب.
    أما بالنسبة للرجال، فكما يحرم عليهم لبس المخيط في أعالي البدن، كذلك أيضاً يحرم عليهم ستر القدمين، ولذلك لا يلبس المحرم الخف ولا البلغة ولا نحوها من الأحذية التي تغطي أغلب القدم، أو تغطي الأصابع، والأصل في ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين: (ولا الخفاف -أي: لا تلبس الخفاف- إلا أحدٌ لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين)، فدل هذا الحديث الصحيح على أنه لا يجوز للمحرم أن يلبس حذاءً يغطي قدمه أو أغلب قدمه، بل يلبس الحذاء الذي لا يغطي أغلب القدم، وإذا كان الحذاء يغطي جزءاً من القدم فإنه ينبغي أن تكون أصابعه مكشوفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليقطعهما أسفل من الكعبين)، وبناءً على ذلك تكون الأصابع مكشوفة، وعلى هذا فلو كان الحذاء يغطي رءوس أصابع القدمين فإنه لا يجوز لبسه، كالبلغة التي تكون مستورةً أول القدم، فهذه لا تلبس، وهكذا الشراريب لا تلبس، قالوا: وعلى هذا لو نام المحرم فلا يغطي قدميه؛ لأنه أُمِرَ بكشفهما، فنهيه عليه الصلاة والسلام عن لبس الخفين يدل على أن مقصود الشرع إظهار القدمين، وعلى هذا الفتوى عند الجماهير رحمة الله عليهم
    **حكم من لم يجد ثياب الإحرام
    بقيت مسألة: وهي لو لم يجد الإنسان الإحرام أو الرداء والإزار، واحتاج إلى لبس السروال، أو لم يجد نعلين واحتاج إلى لبس الخفين، فكما قال صلى الله عليه وسلم: (السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين)، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: (إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين).
    وبناءً على ذلك: لو أن إنساناً في طائرة -كحالنا اليوم- مر بالميقات وعليه ثيابه، ولكن ليس عنده إحرام يأتزر به، أو ليس عنده حتى شال يأتزر به، فحينئذٍ إذا لم يجد من الثياب ما يأتزر به فإنه يجوز له لبس السروال والبنطال، لكن لا يجوز له أن يلبس تحت السروال والبنطال لباساً، وإن لبس لزمت عليه الفدية، ثم أعالي البدن يستره بأي ساتر ويعتبر محرماً، فإن نزل إلى المطار وأمكنه أن يشتري اللباس جاز له أن يترخص بقدر الحاجة، فإن تأخر عن الشراء مع القدرة عليه لزمته الفدية
    **تشبيك لباس الإحرام بالشوك أو الأزرار
    وهناك مسألة: وهي تحليق العضو، وهي ما يسمى: حكم المخيط، فقالوا: لو لبس الرداء فلا يشبكه؛ لأنه إذا شبك الرداء كان بمثابة الملبوس، وأصبح لابساً له وداخلاً فيه، وعلى هذا قالوا: لا يضع المشبك في ردائه، وهذا أمر يقع فيه كثير من العوام، فقد كانوا في القديم يشبكون بشوك الشجر، فكانوا يضعونها حتى لا ينكشف الإزار، فنهى عنه العلماء رحمة الله عليهم، وفي زماننا هذا وضع المشابك البيضاء الصغيرة أو ما يماثلها، كل ذلك مما ينهى عنه.
    كذلك أيضاً: من المصائب العظيمة الآن تفصيل بعض الإحرامات ولها ما يسمى في عرف العامة: (الطقطق)، هذا الذي يكون فيه بمثابة الأزرار، فمجرد ما يضعها على كتفه يزررها بهذه الأزرار، وهذا عينُ الملبوس، وتلزمه الفدية، ومن رأى منكم حاجاً أو معتمراً بهذا فلينصحه، وليبين له أن هذا لم يأذن به الله عز وجل، ولذلك لما سئل ابن عمر رضي الله عنه عن عقد الرداء نهى عنه.
    وعلى هذا: فلا يجوز لبس مثل هذه الإحرامات، بل لا يجوز بيعها؛ لأنه معونة على ارتكاب المحظور، فكثير من الناس يجهل الحكم، فإذا باعها الإنسان أوقع الناس في المحظور، فعلى هذا ينبه الناس عليها.
    كذلك أيضاً: المحيط بالعضو كالسيور، فقد قالوا: السيور لا توضع في الإحرام، واختلف فيها: فبعضهم أجازها، وهو قول بعض الصحابة، فقد أجازوا أن يلبس الكمر وهو الهميان، فقد كان يسمى في القديم بالهميان، وهو الذي يضع يضع فيه الحاج نقوده، فقالوا: لا حرج فيه لمكان الحاجة، لكن لو كان يريده لشد الإحرام فلا يجوز؛ لأنه يكون كعقد الإحرام، ولذلك فإن مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم: أنه لا يشد السير، وقد فرقوا بين الهميان وبين السيور، قالوا: لأن السيور يقصد بها العقد، فكانت في ضمن ما نهى عنه السلف رحمة الله عليهم، ومنهم ابن عمر، أما لو كانت لوضع النقود، أو وضع الحوائج الشخصية من بطاقةٍ ونحو ذلك مما يحتاجه الإنسان للتنقل ونحوه فلا حرج، وقالوا أيضاً: ما يكون في حكم السوار للرجل يمنع منه، فلو شد على يده خرقة لزمت عليه الفدية، وهذا يكاد يكون وجهاً واحداً أنه لو شد الخرقة على يده فغطى جزءاً منها كالجبائر ونحوها لزمته الفدية، قالوا: وكذلك الأسورة، وفي حكمها الساعة الآن، فإنها تحيط بالعضو، ولذلك لا يضعها.
    وعلى هذا قالوا: إن المحرم يتجرد؛ لأن مقصود الشرع خروج المحرم متجرداً من دنياه، وقد أمر بأن ينزع ثيابه حتى يتذكر الآخرة، ويكون أبلغ في الذلة لله سبحانه وتعالى، واستشعار سفره للآخرة، ولهذا قالوا: إن الحج فيه معانٍ تذكر بالآخرة، ومنها: التجرد عن المخيط، وفيه أيضاً حكم، منها: أن الإنسان يقوى على نفسه، حيث إن سر الإنسان في قوته أن يجعل نفسه طائعةً له ولا يكون طائعاً لها، فإذا أصبح الإنسان تطيعه نفسه ولا يطيع نفسه؛ سلِم من كثير من المعاصي والذنوب بسبب كونه قاهراً للنفس، وليست النفس له قاهرة، وهذا واضح جلي، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، فمعنى ذلك: أن نفسه تحته، يأمرها وينهاها، يأمرها بطاعة الله وينهاها عن معصية الله، ولذلك نجد أن أوامر الشرع دائماً تجعل النفس طوعاً للعبد، فلذة النوم، ولذة الطعام والشراب، ولذة النكاح، ولذة اللباس، ولذة الوطن والأهل، كلها جاء في مقابلها عبادات، فلذة اللباس يقال لك في مقابلها في الحج: انزع عنك هذا المخيط، ولذة الطعام والشراب والنكاح، يقال لك في مقابلها: لا تأكل ولا تشرب ولا تنكح أهلك شهراً كاملاً، فإذا امتنعت من الطعام والشراب المباح كان ذلك أدعى إذا قيل لك بعدها: إن هذا الكسب حرام، أن تمتنع، وإذا قيل لك: إن هذا المنكح محرم، أن تمتنع؛ لأنك قد امتنعت عن الحلال فمن باب أولى أن تمتنع عن الحرام وتصبح نفسك طائعةً لك، وأما لذة الأوطان، فتجد أن الحج يخرج الرجل من بلده وأهله متغرباً لله عز وجل، ضاحياً لله في حجٍ أو عمرة، ولذلك قالوا: إن الحج جهاد من هذا الوجه، وكذا لذة الطيب، تجد الرجل يمتنع في حجه عن الطيب، وكذلك يمتنع عن اللباس المألوف، ويخرج بهذا اللباس على صورة معينة، مع ما في هذا الأمر -أي عدم لبس المخيط- من حكم أخرى، ككون الناس يجتمعون على وتيرة واحدة، لا يميز بين غنيهم وفقيرهم، وسوقتهم وجليلهم، وذليلهم وحقيرهم، فالمقصود: أن هذا الأمر فيه حكم عظيمة
    **الطيب

    المحظور الثاني: الطيب.

    يقال: طاب الشيء إذا لذّ، وأطيب كل شيء أفضله، وسمي الطيب طيباً؛ لأنه أطيب ما يشم، ولذلك يقولون: المال الحلال طيب؛ لأنه أطيب الكسب، والطيب معروف، ويكون منه الجامد والسائل والمبخر الذي يكون دخاناً وبخوراً، وكل ذلك داخل في اسم الطيب.
    وأما كون الطيب محظوراً فلما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فقوله: (الزعفران ولا الورس) نهي عن الطيب.
    وحديث الأعرابي الذي ذكرناه: أنه اعتمر وعليه جبة فيها أثر الصفرة -وهو حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه عند مسلم في صحيحه- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب)، فقوله: (اغسل عنك أثر الطيب) يدل على أن الطيب محظور من محظورات الإحرام.
    ومن الأدلة على أن الطيب محظور: قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماء وسدر، ولا تمسوه بطيب، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فنهى عن مسه بالطيب، وهذا يدل على أن الطيب محظور من محظورات الإحرام

    **أقسام الطيب المحرم على المحرم ووقت تحريمه عليه

    والطيب يشمل أن يكون مائعاً، كأن يجعله في يده أو في جسمه أو في صدره أو في أي موضع من مواضع بدنه، أو يكون مشموماً ودخاناً يتبخر به، وفرق الإمام أبو حنيفة بين المبخر وبين غيره، والصحيح: أن البخور وغيره كله محظور على مذهب جماهير العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تمسوه بطيب)، والطيب عام، وقد كانوا يجمّرون أكفان الميت، فقوله: (ولا تمسوه بطيب)، يدل على أن البخور داخل في هذا، وأنه لا فرق بين السائل والجامد والبخور الذي يكون هواءً وله رائحة.
    المسألة الأولى: بعد أن عرفنا أن الطيب محظور، فليعلم أن هذا المحظور يشمل الرجال والنساء.
    المسألة الثانية: أن هذا الحظر يكون بعد الإحرام، بعد نية النسك، فلو اغتسلت للإحرام وقبل أن تنوي أردت أن تتطيب، فهل يجوز ذلك، أو لا يجوز؟ وجهان: قال بعض العلماء: من اغتسل للإحرام فإنه لا يضع الطيب إلى أن يتحلل، وهذا مذهب الحنفية والمالكية.
    وقال بعض العلماء: إذا اغتسل فإنه يجوز له أن يتطيب في بدنه، وأن يشم الطيب، ما لم يحرم.
    واستدل الذين قالوا بجواز ذلك بحديث أم المؤمنين عائشة في صحيح مسلم: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت)، وهذا الحديث صحيح، وقولها: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه) أي: بعد اغتساله وقبل إحرامه، (ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت) أي: بعد رميه وتحلله عليه الصلاة والسلام، وقبل أن يطوف طواف الإفاضة: وهذا أصح القولين.
    ولكن هنا إشكال: وهو أن الطيب يمنع عن الإنسان سواءً كان في البدن أو في الثياب، ولذلك لو أن الإنسان أخذ إحرامه ووضعه على البخور وبخره ثم لبس هذا الإحرام؛ لزمته الفدية؛ لأنه قد مسه بالطيب، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي كان على ثيابه أثر الطيب: (اغسل عنك أثر الطيب)، فدل على أن الأثر مؤثر، وأن وجود الأثر يؤثر؛ لكن الإشكال: أننا لو أجزنا لك أن تتطيب بعد الغسل وقبل الإحرام، فإنك إذا لبست الإحرام ستعلق الرائحة في الإحرام، وبناءً على ذلك: إذا وضع الإنسان في إبطيه وصدره العود، ثم لبس الإحرام فعلقت به الرائحة، فإن ذهبت مادة العود بحيث تبقى الرائحة فقط وتعلق، فهذا حالة، والحالة الثانية: أن تعلق مادة العود، بحيث ترى حمرة وصفرة الطيب في الإحرام، فحينئذٍ يلزمك غسلها؛ لأنه إنما رخص لك فيما قبل الإحرام أن يكون في بدنك، وهذا في ثيابك، كما لو طيبت الإحرام بنفسه، فيستوي أن تكون مطيباً بالوضع، وأن تكون مطيباً بالقصد، وعلى هذا فبعض الإخوة أصلحهم الله عن حسن نية يتطيب ثم يضع الإحرام مباشرة، فتعلق مادة الطيب في الإحرام، حتى إنك لو نظرت إلى إحرامه لوجدت أثر الطيب ولونه ورائحته، وهذا يؤثر؛ بل ينبغي عليه غسل الطيب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فهذا نص يدل على أن الإحرام لو مسه الطيب حرم استعماله.
    لكن لو علقت به الرائحة فبقيت رائحة العود أو الورد مثلاً، فقالوا: إذا كان لابساً للإحرام حتى انتهى من عمرته وحجه فلا إشكال، لكن لو نزع إحرامه وأراد أن يلبسه ثانيةً لزمته الفدية، ففرقوا بين الاستدامة وبين الابتداء، فقالوا: إذا لبسه على حاله وعلقت به الرائحة كانت بإذن الشرع؛ لأنه تطيب عليه الصلاة والسلام بعد اغتساله، لكن لو أراد أن ينام فنزع الرداء وأخذ البطانية -مثلاً- والتحف بها، ثم لما قام أراد أن يلبس الرداء فقد لبس مطيباً، وبناءً على ذلك قالوا: إنه يفرق بين الاستدامة وبين الابتداء.
    إذاً: هذا حاصل ما يقال في الطيب، لكن هنا مسائل متفرعة منها

    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #253
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (253)

    صـــــ(1) إلى صــ(18)





    **حكم الطيب الموجود في الطعام والأدهان ونحوها
    لو كان الطيب مما يؤكل، أو كان دهناً يدهن به الشعر وهنا ننبه على أن الصابون والشامبو كله يعتبر من محظورات الإحرام، وقد ذكرت أننا ننبه بأشياء موجودة حتى يكون طالب العلم أوعى، فالصابون مقيد: فإذا كان من الصابون الذي له رائحة وطيب، حرم على المحرم بالحج والعمرة أن يغتسل به؛ لأنه مطيب، والطيب محظور عليه أن يترفه به، والنص فيه واضح، وهذا بالإجماع، لكن لو كان من الصابون الزيتي الذي لا رائحة له، فيجوز له أن يغسل به يديه ولا حرج، أما الشامبو فلو أراد أن يغسل به بدنه فإنه لا يجوز إذا كان مطيباً، والغالب أن فيه الطيب، وبناء على ذلك: فلا يغتسل بشيء فيه الطيب، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تطيب المحرم فقال: (لا تمسوه بطيب، اغسلوه بماء وسدر).
    لكن السؤال الآن: لو كان الطيب في الطعام؟ فإن الزعفران يمكن أن يوضع في القهوة، ويمكن أن يوضع في الطعام بعض البهارات التي فيها شيء من الطيب، فإذا كان يوضع شيء من الأدهان المطيبة في الطعام، فما حكم الطعام الذي فيه طيب؟ نقول: الطعام الذي فيه طيب على قسمين: إما أن يكون الطعام قد استنفذ رائحة الطيب حتى امتزج وذهبت رائحته في الطعام، فهذا يجوز أكله، ويكاد أن يكون قول الجماهير، فلو طبخت الزعفران في طعام وذهبت رائحة الزعفران، بحيث لو أكلت الطعام لم تجدها، فيكاد أن يكون القول بالجواز قولاً واحداً؛ لأنه خرج عن كونه زعفران وعن كونه طيباً إلى مادة مستهلكة، ولذلك يعتبر تابعاً لغيره، ويجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل.
    الحالة الثانية: أن تكون رائحة الزعفران أو أثر الزعفران موجوداً، فللعلماء قولان: الحنفية والمالكية: على أنك إذا طبخت الطيب جاز لك أكله.
    والشافعية والحنابلة: على أنه لا يجوز، وهذا هو الصحيح؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وهذا طيب، ولأنه إذا أراد أن يأكل فقد مس الطيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يمس المحرم بالطيب، وبناء على ذلك لا إشكال في كونه مؤثراً، فلو وضع في القهوة فإنه لا يشربه؛ لأنه في حكم الارتفاق والترفه بالطيب الذي نهي عنه.
    بقيت مسألة ثانية: وهي الدهان.
    من المعلوم أن الأدهنة والزيوت تنقسم إلى قسمين: زيوت فيها طيب، وزيوت لا طيب فيها، والزيوت التي فيها الطيب، كالتي تكون فيها رائحة الورد، أو رائحة أي طيب آخر من الأطيبة، فهل يجوز لك أن تدهن بهذا الزيت، سواءً تدهن به الرأس أو تدهن به الجسد؟

    **الجواب
    إذا كان في الدهن طيب فقول جماهير العلماء: أنه لا يجوز لك أن تدهن به، لا في الرأس، ولا في أي عضو من أعضاء البدن؛ لأنه مس للطيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم أن يمس بالطيب، وعلى هذا جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، فإن داود الظاهري رحمة الله عليه يرى أن الدهن الذي فيه الطيب كالطيب بنفسه.
    أما لو كان هذا الدهن لا طيب فيه كزيت الزيتون والسمن، فالزيت غير المطيب يقع في موضعين: إما أن يقع في شعر الرأس، وإما أن يقع في بقية الجسد، فإن وقع في بقية الجسد، فيكاد أن يكون قول الجماهير، وحكى بعض العلماء كـ ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لو دهن غير الرأس بالدهن غير المطيب أنه لا حرج عليه، كزيت الخردل المعروف أو زيت الزيتون، فلو أخذه ودهن به رجليه وساقيه، فقالوا: لا حرج عليه، لكن عند المالكية تفصيل يستثنى من هذا الإجماع، فقد فصلوا بين الأعضاء الظاهرة والأعضاء الباطنة، وكأنهم يرون أن دهن الأعضاء الظاهرة فيه زينة وترفه، فيخرج عن مقصود الحج، والأعضاء الباطنة الخفية التي تستر كالصدر والظهر فقالوا: لا حرج عليه في ذلك.
    أما بالنسبة لو كان الدهن في شعر الرأس، فللعلماء قولان: فبعض العلماء يقول: لا يجوز للمحرم أن يدهن رأسه.
    وبعضهم يقول بالجواز.
    ويكاد أن يكون قول الجمهور: أنه لا يجوز له أن يدهن شعر رأسه؛ لما فيه من الترفه، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يأمر أهل مكة أن يهلوا بالحج لهلال ذي الحجة؛ والسبب في ذلك: أنه قال: (ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين، أهلوا لهلال ذي الحجة)، فكان يأمر أهل مكة أن يحرموا لأول ذي الحجة، وقد أحسن وأصاب، ومراده رضي الله عنه: كيف يأتي الناس شعثاً غبراً في الحج ويأتي أهل مكة مدهنين؟! لأنهم لا يحرمون إلا في اليوم الثامن، فتكون شعورهم نظيفة وتكون هيئتهم ظاهرة بارزة، فقال رضي الله عنه: (ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين، أهلوا لهلال ذي الحجة)، وهذا ليس بواجب، وإنما هو رأي عمر رضي الله عنه واجتهاد منه، والجماهير على أنهم يهلون من اليوم الثامن
    **تغطية الوجه
    المحظور الثالث: تغطية الوجه.

    والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام في الذي وقصته دابته: (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه)، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر أنه قال: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)، فلا يجوز للمحرم أن يغطي وجهه، وهل يجوز له إذا وجد رائحةً منتنة أو مؤذية أن يضع على أنفه الغطاء فيتقيها؟ وجهان: مذهب طائفة من العلماء: أنه لا يضع كالنقاب؛ لأن المرأة أمرت بكشف وجهها، فلما قال: (ولا تنتقب)، دل على أن النقاب مؤثر، وبناءً على ذلك فتغطية بعض الوجه كتغطية كله، والذي يظهر أن الإنسان لا يغطي، ولو وجد الرائحة المنتنة فإنه يضع يده، وإذا أضرته غطى وافتدى، وعلى هذا فالكمام الموجود الآن الذي يضعونه لاتقاء بعض الروائح يجري فيه ما ذكرناه؛ ولأنه في حكم المحيط بالعضو، كما لو وضع لصقة ثم أدارها على رأسه، ولذلك يضعونه ثم يشدونه، وعلى هذا يكون في حكم الإحاطة بالعضو، فيتقى ويمنع منه الحاج وأيضاً المعتمر
    **تغطية الرأس
    المحظور الرابع: تغطية الرأس.

    ودليل تحريم تغطية الرأس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم)، فإن العمامة غطاءٌ للرأس، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم المحرم أن يغطي رأسه، وقوله: (ولا البرانس)؛ لأن البرنس فيه غطاء الرأس كما هو معلوم، والبرانس إلى الآن موجودة، تلبس في أيام، ويلبسها بعض أهل المغرب، وهو الثوب الذي فيه غطاء الرأس، وقد كان موجوداً في القديم، فلذلك حظر عليهم لبس البرانس ولبس العمامة، وعلى هذا فلا يجوز للمحرم أن يضع الغطاء سواءً كان عمامة أو كان طاقية ونحوها، فإنه يحرم عليه أن يغطي رأسه، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته دابته: (ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً).
    وهنا مسألة: لو أن الإنسان جلس تحت مظلة أو ركب محملاً؛ فإنهم في القديم كانوا يركبون المحامل، وفي العصر الحديث السيارات، فاختلف في المحمل في القديم وفي حكم السيارة الآن، هل يعتبر غطاءً أم لا؟ فمذهب جماهير العلماء: أنه لا حرج في ركوب السيارة وكذلك الأماكن التي لها أغطية، فلو أصابك حر الشمس فلا بأس أن تأتي تحت مظلة، واستدلوا بما ثبت في الحديث قال الراوي: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة ومعه بلال والفضل أحدهما يستره بثوب)، وهذا الحديث في الحقيقة محل إشكال، وقد اعترض عليه، فالذين يقولون -وهو قول لبعض السلف-: لا يجوز الدخول في المحامل، ولا هودج المرأة بالنسبة للرجل، ولا الجلوس تحت شجرة، حتى لو وضعت على الشجرة رداءً فلا يجوز أن تأتي تحتها، وفي حكمها -مثل ما ذكرنا- السيارات، يقولون: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يغطي الحاج رأسه يوم الأضحى، ويقولون عن هذا الحديث: (إن حديث بلال والفضل كان في اليوم الثاني، وليس في اليوم الأول وهو يوم العيد، فهذا ضعيف؛ لأن الحديث: (يرمي جمرة العقبة)، قالوا: وجمرة العقبة رميت صباحاً، فالشمس ليست بشديدة، ولذلك لا حاجة إلى الغطاء.
    وهذا قول مردود، وقد ذكر المحققون ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: أن جمرة العقبة رماها النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد وقد ارتفعت الشمس؛ لأنه دفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس، وما بين المزدلفة إلى أن يصل جمرة العقبة مسافة طويلة، فلا شك أنه ما بلغها إلا وقد صار للشمس وهيجٌ وحر، ولذلك لا إشكال في مشروعية أن يأتي الحاج تحت غطاء كسيارة ونحو ذلك

    **حلق الشعر أو قصه أو نتفه
    المحظور الخامس: حلق الشعر أو قصه أو نتفه.

    والأصل فيه قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، وقد عبّر القرآن بحلق الرأس؛ لأنه الغالب، وهو من باب التنبيه على النتف والقص، ودليلنا على أن القص محظور: أن الله عز وجل جعله موجباً للتحلل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم المحلقين، ثم قال في الثالثة أو الرابعة: والمقصرين)، فدل على أن التقصير يعتبر من المحظورات.
    فيحرم على المحرم أن يحلق رأسه أو يقص شعره.
    وفي حكم حلق الرأس حلق شعر بقية الأعضاء، فلا يجوز له أن يحلق الشعر من الإبطين ولا من العانة ولا من غيرهما من مواضع البدن، وعلى هذا فلو قص أو حلق فالحكم واحد، وهو أنه تلزمه الفدية؛ والسبب في هذا: أن الحلق والتقصير كلاهما يعتبر خروجاً من النسك، ولذلك قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، ولذلك لا يكون تقصير الشعر ولا حلقه إلا في هذا الأمد بالنسبة للحاج وفي حكمه المعتمر، وعلى هذا فالأصل أن تحلق، فلو أنه -مثلاً- احتاج لحجامته أن يحلق قفا شعر رأسه، فحينئذٍ يحلق ويفتدي، لكن لو أنه أصيب بعاهة أو جرح، فاحتاج إلى إزالة جلد من يده أو من ساقه، وفي الجلد شعر، فإنه لا تلزمه الفدية، إنما تلزمه الفدية بالحلق أو التقصير أو النتف، لكن لو أزال الجلد وفي الجلد شعر، فإنه لا تلزمه الفدية؛ لأنه لم يحلق ولم ينتف ولم يقصر.
    وهذه المسألة يسميها العلماء: حكم التابع، فهناك فرق بين الشيء أصالة وبين كونه تبعاً، وهذا يقع في العبادات والمعاملات، ففي العبادات مثلاً: الصلاة عن الميت لا تجوز قصداً، لكنها تجوز تبعاً، ألا ترى أنك لو حججت عن ميت أو اعتمرت عن ميت وطفت فإنك تصلي ركعتين، وهذه واقعة عن ميت، لكنها وقعت تبعاً لا أصلاً، وكذلك لو أن إنساناً -والعياذ بالله- اعتدى على غيره، فقلع الشعر الأسفل من العين، وهي الرموش السفلى؛ وجب فيها ربع دية، ثم لو قلع العليا وجبت عليه نصف الدية في الاثنتين، لكن لو أنه أزال الجفن وفيه الشعر فإنه يلزم بربع دية، مع أن أصل التقدير يقتضي أن الجفن له ربع وللشعر أيضاً ربع، لكن قالوا: الشعر وقع تبعاً له ولم يقع أصلاً، وهكذا بالنسبة للمسائل الأخرى المتفرعة على مسألة التابع، ولها نظائر؛ ولذلك قالوا: إنه هنا إذا قلع الجلد وفيه شعر لم تلزم عليه الفدية؛ لأنه لم يحلق ولم يقصر ولم ينتف، وهذا صحيح، ولذلك لا شيء عليه في هذا، إنما عليه الفدية إذا حلق أو قصر أو نتف
    **تقليم الأظافر
    المحظور السادس: تقليم الأظفار.

    وتقليم الأظفار محظور في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأنه إزالة للتفث، ويحظر عليه أن يقص الظفر بكماله أو بعضه، ولكن لو كان في أصابعه ألمٌ من الظفر، كأن يكون انكسر ظفره -سواءً كان ظفر رجل أو يد- فأصبح يؤلمه، جاز له أن يقصه، ولا فدية عليه؛ لأن الأذى في نفس الظفر، بخلاف ما إذا كان الأذى في غير الظفر، ويكون الظفر محلاً للأذى، أو يكون الأذى في غير الشعر ويكون الشعر محلاً للأذى كالقمل؛ ولذلك فإن كعب بن عجرة لم يكن أذاه في الشعر، وإنما في شيءٍ في الشعر، فأزال الشعر لإزالة الأذى الموجود تحته، وليس لعين الشعر، ولهذا قالوا: إذا نبت في عينه شعر، أو نزل شعر حاجبه حتى آذاه في عينه، جاز له أن يقصه؛ وهذا لوجود الضرر، ولا يعتبر هذا من الإزالة التي يقصد بها الترفه، ولا شيء عليه فيها
    **الجماع ومقدماته
    المحظور السابع: الجماع ومقدماته.

    قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فحرم الله عز وجل على المحرم الرفث، والرفث يكون بالكلام وهو تهييج النساء، ولو كانت محرماً له، ولو كانت حلالاً له كزوجه، فتهييج المرأة بالكلام أو بالفعل أو بالجماع نفسه كل ذلك محظور بالإجماع، فلا يجوز للمحرم بالحج والعمرة أن يقع في شيء من هذا، فإن جامع حينئذٍ وقع في المحظور، ولو نظر إلى امرأة سواء كانت محرماً أو غير محرم، كأن ينظر بشهوة إلى زوجته فينزل، فحينئذ وقع في المحظور، وكل منها له حكم، ونحن لم ندخل في مسائل الفدية حتى لا نشوش على طلاب العلم، إنما نتكلم عن المحظور فقط، أما باب الفدية، وما الذي يلزم على من أخلّ بهذه الأشياء؟ فهذا له باب آخر، ولكن أحببنا أن يكون الضبط للمحظور حتى يسهل بعد ذلك ضبط مسائل الفدية وما يتبعها.
    وعلى هذا: فإنه لا يجوز له النظر إلى ما يثير شهوته، ولا اللمس بما يثير الشهوة له أو لزوجه، وهكذا الجماع، سواءً وقع لحية أو ميتة، لحلال أو حرام، كل ذلك محظور على الحاج
    **عقد النكاح
    المحظور الثامن: عقد النكاح.

    وعقد النكاح محظور في قول جماهير العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، يقولون: لا يجوز للمحرم أن يَنكح أو يُنكح أو يَخطب، أن يَنكح إذا كان رجلاً، أو يُنكح إذا كان امرأة، أو يَخطب أي: خطبة النكاح؛ وذلك لما ثبت في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم أن ينَكح أو يُنكح أو يَخطِب)، قالوا: فهذا نصٌ صحيح يدل على التحريم.
    وذهب الحنفية إلى أنه يجوز للمحرم أن يعقد النكاح ولا يدخل، ويجوز له أن يخطب المرأة وأن يعقد عليها، ولكن لا يدخل بها، ويعتبر الإحرام مانعاً كالحيض والنفاس، فإنه يجوز له أن يعقد على الحائض والنفساء، ولكن لا يجوز له أن يطأها، واحتجوا بحديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بمكة وهو محرم)، وهذا الحديث فيه إشكال كبير عند العلماء، والصحيح: مذهب الجمهور، ويقدم حديث الجمهور من وجوه: الوجه الأول: أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح قُدّم الحاظر على المبيح، فحديث الجمهور حاظر، وحديث أبي حنيفة مبيح، فيقدم حديث الجمهور.
    الوجه الثاني: أنه إذا تعارض القول والفعل، قدم القول على الفعل؛ لأنه تشريعٌ للأمة، والفعل يحتمل الخصوص.
    الوجه الثالث: أن قول ابن عباس: (وهو محرم) أي: في حرم مكة؛ لأن العرب تسمي من كان في الحرم مُحرِماً، ومنه قول حسان بن ثابت: قتلوا الخليفة ابن عفان بالمدينة محرماً.
    ومعلوم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن محرماً لا بحج ولا بعمرة، وإنما قتل في حرم المدينة، وفي الأشهر الحرم، وبناءً على ذلك وصفه بكونه محرماً، فالعرب تسمي من دخل في الحرمات الزمانية والمكانية محرماً، فكأن ابن عباس يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على ميمونة في حرم مكة، وهذا من فقه ابن عباس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك مكة مهاجراً، والمهاجر لا يجوز له أن يرجع إلى البلد الذي تركه هجرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكن البائس سعد بن خولة)، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، فإذا ترك مكة هجرةً فكيف يعقد النكاح فيها؛ لأن عقد النكاح فيها بمثابة الإقامة؟!! فكأن ابن عباس أراد أن ينفي هذا المعنى، فقال: (تزوجها وهو محرم)، يعني: في داخل حرم مكة، وإن كان البناء قد وقع في سرف وهي المعروفة بالنوارية.
    فالمقصود: أن هذا الحديث يحمل على أن قوله: (وهو محرم) يعني: في الأشهر الحرم، أو في حرم مكة، والقاعدة: أنه إذا تعارض المحتمل والصريح قدم الصريح على المحتمل.
    الوجه الرابع: أنه إذا كان حديث ميمونة فيه معارضة لحديث ابن عباس، فقد روى أبو رافع وميمونة نفسها: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وهو حلال، وابن عباس يقول: (تزوجها وهو محرم)، فـ ميمونة صاحبة القصة، وأبو رافع هو السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة، فأيهم يقدم؟ لا شك أن صاحب البيت أدرى بما فيه، فـ ميمونة هي التي عقد عليها، ويروى عنها أنه كان حلالاً، وكذلك أبو رافع يروي أنه كان حلالاً، وعلى هذا: فإنه يقدم مذهب الجمهور.
    أضف إلى ذلك أنه إذا قيل بالتعارض هنا فقد تعارضت رواية أصاغر الصحابة وأكابر الصحابة، والقاعدة: أنه إذا تعارض المروي عن أكابر الصحابة وأصاغرهم قدم المروي عن الأكابر على المروي عن الأصاغر؛ لاحتمال أن يكون ابن عباس رواه بواسطة، خاصة وأنه في ذلك الزمان لم يبلغ الحلم رضي الله عنه وأرضاه
    **قتل الصيد
    المحظور الأخير: قتل الصيد.

    والصيد: هو الحيوان المتوحش المأكول اللحم، والصيد نوعان: صيد بر، وصيد بحر، أما صيد البحر فبالإجماع أنه يجوز للمحرم أن يصيد السمك والحوت ونحوها من صيد البحر، ولكن المحرم عليه هو صيد البر؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96].
    والدليل الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2]، فمفهوم ذلك: إذا لم تحلوا فلا تصطادوا.
    وكذلك أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95].
    فهذه الأدلة تدل على أن المحرم لا يجوز له قتل الصيد، ولا أن يعين على الصيد، لا بالإشارة ولا بالدلالة، فلو كان معه إنسان حلال ولم ير الصيد، فلا يقول له: اذهب وصد كذا، أو انتبه هذه فريسة، أو هذا صيد.
    إذاً: لا يجوز له أن يصيد، ولا أن يشير للصيد، ولا أن ينبه الحلال على الصيد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي قتادة: (هل أحد منكم أشار إليه أو أعانه؟ قالوا: لا، قال: فكلوا)، فدل على أن المحرم لا يصيد، ولا يأمر بالصيد، ولا يشير، ولا يعين على الصيد، فلو كنت محرماً وعندك حلال يصيد وسقط سلاحه، فلا يجوز أن تناوله، حتى لو قال لك: ناولني، ولا يجوز لك قتل الصيد، ولا كسر جناحه، ولا كسر بيضه، ولا التعرض، له بالإثارة، إنما تمتنع عن ذلك كله؛ وهذا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل أحد منكم أشار إليه؟ هل أحد منكم أعانه؟)، ولا تأكل الصيد إذا صدته، أو صيد من أجلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أهدى له الصعب بن جثامة رضي الله عنه حمار وحش فرده، فلما رده تغير وجه الصعب، فلما تغير وجهه قال له النبي صلى الله عليه وسلم يطيب خاطره: إنا لم نرده عليك إلا أنّا حُرم)، فدل على أنه إذا كان الإنسان محرماً وصيد الصيد من أجله أنه لا يأكل ذلك
    الصيد
    **أقسام الصيد بالنسبة للمحرم

    المسألة الأخيرة في الصيد، وهي: ما هو الشيء الذي يحرم على الإنسان أن يصيده؟ وللإجابة نقول: الحيوانات على قسمين: مستأنسة ومتوحشة، فالمستأنس: كالإبل والبقر والغنم والدجاج ونحوها، فهذا يجوز للمحرم أن يقتله، فلو ذبحت شاة أو نحرت بعيراً أو بقرة جاز بالإجماع، لكن المحظور هو صيد المتوحش، والمتوحش: هو الذي ينفر منك، سواءً كان من صيد الطيور، أو من صيد البراري الزاحفة أو الدابة، وهذا الصيد الذي في البر ينقسم إلى قسمين: فإما أن يكون مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم، فمأكول اللحم: كالظباء والريم والغزال وبقر الوحش وحمار الوحش وتيس الجبل، فهذه كلها متوحشة، والطيور: كالحمام والحباري والقماري ونحوها، وهذا كله يحرم صيده، هذا إذا كان مأكول اللحم.
    أما الدواب المتوحشة التي لا يؤكل لحمها فهل يجوز قتلها؟ نقول: إن الدواب المتوحشة تنقسم إلى ثلاثة أقسام في القتل: فمنها: ما يضر وينفع.
    ومنها: ما يضر ولا ينفع.
    ومنها: ما لا ينفع ولا يضر.
    فما يضر وينفع مثل الأسد، فإنه يضرك بالعدو عليك، وينفعك لو اتخذته وسيلة للصيد، والصقر يضرك، فيمكن أن يهجم على لحمك، أو يهجم على طفل صغير يؤذيه، وقد يهجم على الدواب أحياناً، وكذلك النسر والشاهين والباشق، فهذه تضر وتنفع، وقد قال العلماء فيها: لا يستحب قتلها ولا يكره، فلو قتلتها فلا حرج عليك.
    النوع الثاني: الذي يضر ولا ينفع؛ كالذئب والدب، فيجوز لك أن تقتله، بل قد يستحب إذا كان يضر ولا ينفع.
    النوع الثالث: الذي لا يضر ولا ينفع، مثل النمل فإنه لا يضرك ولا ينفعك، إلا أنه قد يضر أحياناً بالقرص، وكذلك مثل الهدهد فإنه لا يضر ولا ينفع ونحوها، فهل تقتل؟ قال بعض العلماء: لا تقتل، إلا من حاجة، فالنمل لا يقتل إلا إذا آذى، وهكذا الذباب والبعوض، قالوا: إذا آذت قتلت، فالحيوانات التي لا يؤكل لحمها يفصل في قتلها على هذه الصورة.
    فإذا تقرر أن الحيوان إذا كان بحرياً يجوز صيده، وإذا كان برياً يحرم صيده، فما حكم البرمائي، الذي يعيش في البر والبحر، مثل: الضفادع والتمساح، هل يجوز قتله للمحرم؟

    **الجواب
    الذي يكون برمائياً ينقسم إلى قسمين: فإن كان غالب عيشه في البر فهو بري، ولو كان يأوي إلى البحر، وإن كان غالب عيشه في البحر فهو بحري، بمعنى: إذا كان تكاثره ووجوده في البحر فهو بحري، وإذا كان تكاثره ووجوده في البر فهو بري، وبهذا يحكم على البرمائيات.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #254
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (254)

    صـــــ(1) إلى صــ(16)

    شرح زاد المستقنع -** كتاب الجهاد [1]
    شرع الله الجهاد لتبقى كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وهذا يكون الجهاد في بعض الأحيان فرضاً عاماً دون تعيين، وتارة يتعين على بعض الأشخاص، بحسب الحاجة والمصلحة، وهذا كله مبين في النصوص الشرعية بضوابطه وقيوده
    **تعريف الجهاد وأهميته ومشروعيته
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجهاد] الجهاد في اللغة: مأخوذ من مادة جَهَد، وأصل الجَهْد: بذل الوسع والطاقة في تحصيل الأمر، ولا يقال ذلك إلا لأمرٍ عظيم، فيقال: اجتَهَدَ في حمل الصخرة، ولا يقال: اجتهد في رفع الخردلة، فلا يكون الجهاد إلا في الأمر العظيم الذي يحتاج إلى مشقة وعناء.
    وأما في الاصطلاح: فهو بذل الوسع واستفراغه في قتال أعداء الله؛ لإعلاء كلمة الله عز وجل.
    وهذه الشعيرة من أعظم شعائر الإسلام، وهي ذروة سنام الإسلام كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الآيات والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين فضل هذه الشعيرة، وما أعد الله لأهلها من ثواب في الدنيا والآخرة.
    وقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجهاد] أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بشعيرة الجهاد
    **مناسبة وقوع كتاب الجهاد بين كتابي الحج والبيوع
    لعل سائلاً يسأل: ما هي مناسبة كتاب الجهاد لكتاب الحج؟
    و
    **الجواب
    أنك إذا تأملت كتاب الحج وجدته كتاباً متعلقاً بالعبادة فيما بين الإنسان وربه.
    وأما بالنسبة للجهاد فإنه عبادة؛ ولكنه يشتمل على شيء من المعاملة.
    ولذلك يرد

    **السؤال
    ما وجه ذكر المصنف لكتاب الجهاد بعد الحج؟ والجواب: أن المناسبة في ذلك منتزعة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سألته أم المؤمنين عائشة، فقالت: (يا رسول الله، هل على النساء من جهاد؟ قال: نعم.
    عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة).
    فلما فرغ من الحج -وهو العبادة التي تشتمل على المعاني العظيمة من الجهاد- ناسب أن يتبعه بالجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لاشتمال هاتين العبادتين على بذل الوسع واستفراغه في طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى، فهما عبادتان بالنفس وبالمال؛ ولكن الجهاد من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله، وهو أفضل من الحج، ولذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إيمان بالله، ثم جهاد في سبيله، ثم حج مبرور) فجعل منزلة الحج بعد منزلة الجهاد في سبيل الله عز وجل.
    فلما فرغ -رحمه الله- من بيان مسائل الحج ناسب أن يعتني ببيان مسائل الجهاد.
    ثم انظر -رحمك الله! - إلى دقة هذا العالم الجليل، وفقهه، وحسن ترتيبه للأبواب، فإنه ذكر كتاب البيع بعد كتاب الجهاد، ومن تأمل كتاب البيع وجده مشتملاً على المعاملة المحضة؛ لأنه يتعلق ببذل السلع، سواءً كانت من المثمونات، أو من الأثمان بعضها ببعض، فهو معاملة محضة، والحج عبادة محضة، فلو أنه ذكر كتاب البيع بعد كتاب الحج، لكان البون شاسعاً بين البابين، فمن الصعوبة بمكان أن تنتقل من باب يتعلق بالعبادة المحضة إلى باب يتعلق بالمعاملة المحضة -لأن أمور البيع تتعلق بالدنيا كما لا يخفى، ولذلك لا يكون البيع قُربة إلا إذا قصد الإنسان الطاعة فيه والامتثال- فناسب أن يدخل بين الحج وبين البيع باباً متوسطاً، وهو باب الجهاد حيث إن فيه وجهاً من التعبد وفيه وجهاً من المعاملة، فينتقل الفقيه من العبادة المحضة إلى المعاملة المحضة بوسيط بينهما، وبعض العلماء يدخل باب النكاح لكي يكون رابطاً بين أبواب العبادات وأبواب المعاملات، ولكلٍ وجهة؛ ولكن إدخال كتاب الجهاد أنسب وأفضل، خاصة وأن السنة قد أشارت للترابط بين الحج وبين الجهاد
    **فرضية الجهاد
    يقول رحمه الله: [كتاب الجهاد] هذه الشعيرة شَرَعَها الله سبحانه وتعالى لحكمٍ عظيمة، وأسرارٍ جليلةٍ كريمة، وبيَّن سبحانه وتعالى هذه الشعيرة ودعا إليها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على أن الجهاد يعتبر شعيرةً من أعظم شعائر الإسلام، وأحبِّها إلى الله سبحانه وتعالى، وشَرَعَ الله عز وجل الجهاد في المدينة، أما عندما كان المسلمون بمكة فلم يُفرض الجهاد عليهم، ولكنهم لما انتقلوا إلى المدينة فرض الله عليهم الجهاد، وإنما لم يوجب الله عزَّ وجلَّ عليهم الجهاد بمكة لضعفهم وعدم تمكُّنهم من ذلك، وإنما يكلف الله عز وجل العباد ما في وسعهم، والشريعة شريعة رحمة، وتيسير، وليست بشريعة عنت ولا تعسير، ولذلك لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة -دار الهجرة- وآزره ونصره الأنصار، واستقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة، أذن الله له بالجهاد في سبيله، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فكتب الله عز وجل الجهاد والقتال، فقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وهي آية من سورة البقرة المدنية، والسبب في ذلك أن الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ممتنع عن الإسلام للشُّبَه والعوارض المتعلقة بفكره، فهذا يحتاج إلى قوة الحجة، وبيان السبيل والمحجة، فتكفل الله عز وجل ببيان ذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وجهاد أمثال هؤلاء -غالباً- يتعلق بالعلماء وطلاب العلم؛ فعليهم أن يبينوا لهم سبيل الله عز وجل، ويبينوا لهم ما في الإسلام مِن سماحة ومِن يسر، وأن يزيلوا عنهم الشبه، حتى تطمئن قلوبهم لدين الله، وتنشرح صدورهم لكلمة الله، فينالوا سعادة الدنيا والآخرة.
    وأما القسم الثاني من الممتنعين عن الإسلام: فهم أقوام تغريهم المادة، يحتاجون إلى الدنيا ويطمعون فيها، فإذا أُغْرُوا بالمال أحبوا الإسلام وأقبلوا عليه، فبعدها إذا رأوا قوته وصدقه اطمأنت قلوبهم بدون الدنيا، وهؤلاء هم المؤلفة قلوبهم، وقد أعطاهم الله عز وجل حظاً في الزكاة، وجعل لهم سهماً من سهامها، وفعل ذلك نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه -بأبي هو وأمي- يوم حنين، فأعطى عطاءَ مَن لا يخشى الفقر، فاطمأنت قلوب المؤلفة قلوبهم حتى وثقوا بدين الله، واستسلموا لشرع الله عز وجل.
    وأما القسم الثالث: فهم الذين يعاندون ولهم منعة وقوة، فيحتاجون إلى كسر الشوكة، وإرغام الأنوف، فإذا أرغمت أنوفهم على الإسلام ورأوا قوة الإسلام، أذعنوا وذلوا لله واستسلموا، فهذا القسم يحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى قوة وتضحية، وبيع للأنفس في سبيل الله عز وجل، وهي التجارة التي لا يبور أصحابها، وقد تكفَّل الله لمن خرج لها: إما أن ينال الشهادة فتقر عينه بجنة عرضُها كعرض السماء والأرض، وبما تكفَّل الله له به من رضوان مقيم، وهو أكبر من ذلك النعيم، وتكفَّل الله له بالفضائل في برزخه، وفي حشره ونشره، فينال بذلك البيع سعادةَ الدنيا والآخرة.
    وإما أن يرجع إلى أهله سالماً، نائلاً ما نال من الغنيمة وسهم الدنيا العادل، مع ما ينتظره عند الله سبحانه وتعالى من الأجر.
    وقد جاهد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، وجاهد الخلفاء الراشدون، وجاهد السلف الصالح من هذه الأمة، ولم تزل هذه الشعيرة باقية، ولا تزال إلى يوم القيامة، ليجاهدوا مَن كفر بالله ورسوله، حتى يدين بدين الحق، و {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39].
    والإسلام دين سماحة ويسر؛ ولكن السماحة واليسر إذا وضعت في غير موضعها كانت جُبناً وخَوَراً، ولذلك هو دين رحمة ويسر وسماحة لمن يستحق الرحمة ولمن هو أهل أن يُرْأَف به، وأما من كفر بالله ورسوله وعادى الله ورسوله، وأعلن البراءة من دين الله، فقد كفر نعمة الله عز وجل عليه، واعتدى على حدود الله، وخرج عن الأصل الشرعي الذي من أجله أوجده الله في هذا الوجود، وهو توحيدُ الله وإفرادُه بالعبادة، فاستحق أن يُزال من هذا الوجود، لتبقى كلمة الله هي العليا.
    وفي هذا الجهاد حِكَمٌ عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فإن المسلمين إذا لم يغزوا أعداء الله غزاهم أعداء الله، فإن القلوب فيها حنق وغيظ على هذا الدين، وأصحاب الحق على مر الزمان وتعاقبه وتتابع الدهور لا يمكن أن يسلَموا من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك جعل الله عزة هذه الأمة في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وجعل كرامتها في إقامة هذه الشعيرة العظيمة، ومَن تأمل حال المسلمين وجد أنهم إذا قاموا بهذا الأمر العظيم قام لهم أمر الدين والدنيا والآخرة، ونالوا سعادة الدنيا والآخرة، وأعزهم الله وقذف الرعب في قلوب أعدائهم، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر -وفي رواية-: مسيرة شهرين) قال العلماء: إن هذا الرعب الذي يقذفه الله في قلوب أعداء الإسلام، هو للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، فمن استقام على دين الله واستسلم لله ظاهراً وباطناً، فإن الله يُعِزُّه ويَرْفَعُ شأنَه، ويُعْظِمُ شأوَه، ويجعل له كرامةَ الدنيا والآخرة
    **أقسام الجهاد
    والجهاد منقسم إلى أقسام: الأول: يكون بالجَنان.
    الثاني: ويكون باللسان.
    الثالث: ويكون بالجوارح والأركان.

    فأما جهاد الجَنان: فهو بغضهم في الله، وعداوتهم في الله عز وجل، فمَن أحب في الله وعادى في الله فقد ذاق طعم الإيمان وحلاوته، ولا يمكن أن ينال العبد ولاية الله سبحانه حتى يحب بحب الله، ويبغص ببغض الله، فإذا فعل ذلك فإنه ينال حلاوة الإيمان، ويجد طعم الإسلام الذي أسلم به لله عز وجل ظاهراً وباطناً.
    وأما الأمر الثاني: فهو جهاد اللسان، وهذا أعظم ما يكون وأكمل ما يكون من العلماء العاملين والأئمة الصديقين، الذين هم هداةٌ مهتدون، يقولون {بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159] {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} [الأحزاب:39]، فأعداء الله يحتاجون إلى جهاد الكلمة، ومما يدخل في جهاد الكلمة جهادُ الشعراء وقولُ الشعر، وتأليفُه ونَظْمُه لنصرة دين الله وإعزازه، ورفع كلمة الله عز وجل، وشحذ الهمم إلى مرضاة الله، وتقوية الإيمان في القلوب، وقد أثنى الله عز وجل على هذا الصنف، كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (لما نزل قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] جاء كعب بن مالك وحسان بن ثابت رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد علمتَ ما أنزل الله في الشعراء، فأنزل الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227]) فاستثنى الله عز وجل هؤلاء؛ لأن هذا من جهاد الكلمة.
    وأما النوع الثالث: فهو جهاد الجوارح والأركان، وهذا هو المقصود هنا بقول الفقهاء: (كتاب الجهاد)، فإنهم يبينون الأحكام التي ينبغي للمسلم أن يلم بها إذا أراد القيام بهذه الشعيرة.
    فالجهاد في سبيل الله عز وجل له ترتيبه، وله ضوابطه، وله أحكامه ومسائله، وقد بيَّن الله عز وجل هذه المسائل والأحكام في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيَّن السلف الصالح ومَن بعدهم أحكامَ الجهاد، وفصَّلوها في كتبهم
    **حكم الجهاد
    يقول رحمه الله: [كتاب الجهاد]: أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بشعيرة الجهاد
    **الجهاد فرض كفاية
    [وهو فرض كفاية] (وهو) الضمير عائد على الجهاد، وأما حكمه (فرض كفاية).
    أما كونه فرضاً: فلأن الله أمر به، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9]، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اغزوا في سبيل الله)، والعلماء -رحمهم الله- مجمعون على فرضية الجهاد من حيث الجملة، وجماهيرهم على أنه فرض كفاية؛ ولكن ذهب بعض السلف إلى أنه فرض عين، وهذا القول احتج أصحابه بعموم الآيات التي فيها الأمر بالجهاد في سبيل الله عز وجل، والتي فيها الأمر بالنفير، وقتال أعداء الله عز وجل؛ ولكن هذا القول يعتبر مرجوحاً؛ لأن النصوص دالة على أن الجهاد ليس بفرض عين، وإنما هو فرضٌ على الكفاية، والدليل على ذلك ما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن- أنه ذكر آيات النفير التي في سورة التوبة -وهي أقوى الحجج لمَن قال بفرضية العين، ويقول به أفراد من العلماء وبعضُ السلف، وهم قلة جداً- وقال: نسخها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122] فإن هذه الآية الكريمة التي هي في آخر سورة التوبة قد بيَّن الله سبحانه وتعالى فيها أن الجهاد ليس بفرض عين، حيث قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122]، ولو قلنا بظاهر قوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] ونحو ذلك من الآيات الموجبة للجهاد، فإن معنى ذلك أن ينفر المسلمون كافة، ولذلك قال ابن عباس: نسخها قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] فجعل النفير مختصاً بالبعض دون البعض، ولذلك ذهب جماهير الأمة من السلف والخلف إلى أن الجهاد يعتبر فرضاً على الكفاية، بمعنى: أنه لو قام به البعض سقط الإثم عن الباقين.
    وعلى هذا: فإن المعتبر به قيام مَن تنسد به الحاجة، وإنما يتعين الجهاد في أحوال ثلاث، وهذه الأحوال وردت النصوص في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيِّن فرضية الجهاد فيها على العين، وأن مَن كان مِن أهلها تعين عليه أن يجاهد، وسيأتي بيانها ويذكرها المصنف رحمه الله.
    قوله رحمه الله: (وهو فرض كفاية)، ابتدأ ببيان حكم الجهاد وأنه واجب على الكفاية أي: إذا وجد مَن يسد الثغر ويقوم به، سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثم الكل.
    قوله: [ويجب إذا حضره، أو حصر بلده عدوٌّ، أو استنفره الإمام] قال رحمه الله: (ويجب إذا حضره) قوله: (ويجب) أي: يتعين.
    قبل أن ندخل في تفصيلات المسائل، يحسن بنا أن نبين على مَن يجب الجهاد؟
    **الشروط التي يجب بها الجهاد
    يجب الجهاد ويفرض على من توفرت فيه الشروط التالية: أولها: الإسلام: لأن الله عز وجل خاطب به المسلمين دون غيرهم.
    وثانيها: البلوغ: فإن الصبيان لا يجب عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله عز وجل، ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر عن الغزو لصغر سنه، ففي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: (عُرِضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فلم يجزني -وفي رواية للبيهقي: ولم يرني قد بلغت- وعُرِضت عليه يوم الخندق، فأجازني.
    وفي رواية: ورآني قد بلغتُ) ولقد أخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الجهاد لا يجب على الصبيان؛ ولأن الأحكام والتكاليف إنما تجب على من بلغ الحلم، قال عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة.
    -وذكر منهم- وعن الصبي حتى يحتلم) فدل على أن الصبي لا يتعين عليه فعل الواجبات ولا يجب عليه الجهاد، ولكن لو تطوع الصبي ودخل إلى المعركة، أو احتيج إليه فدخل فيها، فهذا لا بأس به؛ لكن أن يؤمر بذلك أو يُحمل عليه، فهذا تحميل له لما لا يطيقه، وهو من المستضعفين الذين استثناهم الله عز وجل وعذرهم في كتابه.
    الشرط الثالث: العقل: فلا يجب الجهاد على مجنون، فإن المجنون لا يستطيع أن يحصل مصلحة نفسه، فكيف بالقيام بالجهاد في سبيل الله، وإذا سقط التكليف عن المجنون بالإجماع وبقوله عليه الصلاة والسلام في الثلاثة الذين رفع عنهم القلم كما في الحديث الصحيح: (وعن المجنون حتى يفيق)، فبالإجماع لا يجب الجهاد على مجنون.
    الشرط الرابع: أن يكون ذكراً: وأما النساء فلا يجب عليهن الجهاد، ولا يقاتلن؛ ولكن إذا خرجن لنفع المجاهدين، بسقي العطشى، ومداواة الجرحى والمرضى بالضوابط الشرعية فلا بأس، ففي الحديث الصحيح عن أم عطية رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نداوي الجرحى، ونسقي المرضى) ولذلك قال العلماء: إن المرأة تداوي الرجل في مثل هذه الحالة؛ لأنه من شدة الألم ووجود الجرح، يعزب عنه رشده، ويذهب عنه إدراكه، فيكون منشغلاً بالألم عن الفتنة، ومن هنا كان من مرونة الشريعة إباحة ذلك لوجود الحاجة، وتعلق ما يقصده الشرع من جلب المصلحة ودرء المفسدة بوجودها، كذلك أيضاً: ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما جُرِح، وشُجَّ -بأبي هو وأمي- يوم أحد، وجَعَل الدم ينزف، جاءت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فكانت تصب من الدرقة عليه صلوات الله وسلامه عليه والجرح ينزف، حتى أخذت حصيراً فأحرقته ثم سدت به الجرح فاندمل ووقف الدم، فهذا يدل على أنه لا بأس بشهود النساء الغزو لمصلحة، مع أمن الفتنة والمحافظة على الضوابط الشرعية.
    الشرط الخامس: الحرية: فالعبيد والإماء لا يجب عليهم الجهاد لانشغالهم بخدمة أسيادهم.
    الشرط السادس والأخير: القدرة على الجهاد في سبيل الله عز وجل:- فأما مَن كان مريضاً أو كان شيخاً كبيراً في السن، فأمثال هؤلاء لا يجب عليهم الجهاد، وهكذا إذا احتيج في الجهاد إلى مركب، وليس عنده مركب، ولا يستطيع أن يمشي على رجليه، {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]، فكان الصحابة -رضوان الله عليهم- فقراء الأيدي؛ ولكنهم أغنياء في قلوبهم بالله عز وجل، وكان الرجل منهم قد لا يجد إلا لباسه الذي يواري به سوأته وعورته، وقد يمر عليه اليوم واليومان ولا يجد طعاماً، ولا يجد إلا قدر كفايته، فكان الرجل منهم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله أن يخرج إلى الجهاد، فيعتذر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يجد مركباً يُرْكِبُه عليه، فمن قوة إيمانه وحبه لله ورسوله وحبه لهذا الدين وحبه للشهادة في سبيل الله عز وجل يبكي بكاءً شديداً {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} [التوبة:92]، فجمع الله لهم في هذه الآية بين أمرين: بين حزن القلب.
    وحزن القالب.
    فحزن القلب في قوله: (حَزَناً)، وحزن القالب في إفاضة العين من الدمع، يقال: فاض الوادي إذا كثر ماؤه، فقال الله عز وجل: (تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ) ولم يقل: تدمع، وإنما قال: (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)، فهذا يدل على كمال حبهم لله عز وجل، وإيثارهم لمرضاة الله سبحانه وتعالى على حظوظ النفس.
    فإذا كان الرجل لا يجد الطاقة والقوة على أن يغزو راجلاً، ولم يجد ما يركبه، فإنه حينئذٍ يعتبر معذوراً، فإن خرج من لا يجب عليه الغزو، كشيخ كبير أو مريض، أو خرج مَن لا يجد المركب، فمشى على قدميه، فهذا فضل منه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
    فهذه الشروط ينبغي توفرها للحكم بفرضية الجهاد، فلا يجب الجهاد إلا إذا توفرت هذه الشروط، ولا يصير على الإنسان فرضاً إلا إذا استجمع هذه الشروط المعتبرة لفرضيته
    **الحالات التي يصير الجهاد فيها فرض عين
    وقوله رحمه الله: (ويجب إذا حضره) يقال: حضر الشيء إذا شهده، وهناك أحوال للجهاد في سبيل الله: منها حالة الخروج للجهاد.
    ومنها حالة شهود الوقعة
    **إذا التقى الصفان وتقابل الزحفان

    فأما الحالات التي يصير الجهاد فيها فرض عين: أولها: أن يشهد الوقعة، ويكون حاضراً فيها، وهذا يعبر عنه العلماء رحمهم الله بجمل مختلفة: فمنهم مَن يقول: (يجب إذا حضره)، أي: حضر الوقعة، كما عبر به المصنف رحمه الله.
    ومنهم مَن يقول: (إذا التقى الصفان).
    ومنهم مَن يقول: (إذا تقابل الزحفان).
    والمعنى واحد، وهو: أن يحضر الوقعة، ويقابل العدو، فإذا لقي العدو فإنه لا يجوز له أن يتولى، وهذا من التولي يوم الزحف، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16]، فحرم الله عز وجل على مَن لقي العدو أن ينكص على عقبيه، فإذا نكص على عقبيه فقد خسر الدنيا والآخرة، إلا فيما استثناه الله عز وجل.
    قال العلماء: إن هذه الآية الكريمة نصٌّ في وجوب الجهاد ووجوب القتال على من قابل العدو ولقيه، فما عليه إلا أن يصبر، وأن يتوكل على الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45]، فأمر الله بأمرين: الأمر الأول: يتعلق بالقلوب: وهو ما عناه سبحانه بقوله: (فَاثْبُتُوا).
    وأما الأمر الثاني: فما يجمع بين القلب والقالب (وَاذْكُرُوا اللَّهَ) فإن رأيتم عظَمةً من عدو الله فاعلموا أن الله أعظم، وإن كبُر في أعينكم فالله أكبر وأجل سبحانه وتعالى، يَغلِب ولا يُغلَب وهو القوي العزيز.
    فإذا تقابل الزحفان، فإنه يتعين الجهاد بإجماع العلماء، وفي هذه الحالة إذا فر الإنسان أو عَدَل عن الجهاد، أو انخذل -والعياذ بالله- إلا فيما استثنى الله عز وجل -المتحرف للقتال، أو المتحيز إلى فئة- فإنه يبوء بغضب من الله، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجتنبوا السبع الموبقات -أي: المهلكات، نسأل الله السلامة والعافية! فإنها تهلك صاحبها- وذكر منها: والتولي يوم الزحف)، فالتولي يوم الزحف فيه غضب الله وسخطه، قال العلماء: لأنه يدل على الخوف من أعداء الله، وخذلان دين الله؛ لأن العدو ينظر للإسلام بمن حظر الوقعة، فإذا كان أهل الإسلام على ثبات وقوة كان ذلك أرضى لله سبحانه وتعالى، وأعلى لدينه، وأقوى شكيمةً في وجه العدو، وأقوى بأساً في طاعة الله عز وجل ومرضاته، والله يحب الذين يجاهدون ويُظْهِرون القوة والجَلَدة في جهادهم، فإذا أظهر الخذلان، ونكص على عقبيه، فإن هذا -نسأل الله السلامة والعافية- خذلان لدين الله وخذلان لعباد الله، فإنه إذا تولى خذَّل غيره، وإذا جبُن فإنه يُضعِف غيره، بخلاف ما إذا ثبت، وذكر الله سبحانه وتعالى وقويت عزيمته على الخير وطاعة الله ومرضاته، فإنها تقوى عزائم مَن معه، وإذا تولى وكان قدوة للغير فالأمر أعظم وأشد: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] نسأل الله السلامة والعافية! والعكس بالعكس، فإذا ثبت وثبت الناس بثباته، وقووا بقوته وصبره وجَلَده، فإنه ينال أجره وأجر من كان معه.
    فهذه هي الحالة الأولى التي يتعين الجهاد: إذا تقابل الزحفان والتقى الصفان، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.
    وفي هذه الحالة لا يجوز له أن ينسحب أو يترك اللقاء إلا بإذن خاص من الإمام، فإذا كانت للإمام أو القائد مصلحة في أن يبعثه في طلب غوثٍ، أو نجدةٍِ، أو يبعثه في أمر يتعلق بمصلحة الجيش أو نحو ذلك، فإنه لا بأس أن يتخلف عن شهود هذه الوقعة والله يكتب له أجرها؛ لأنه تخلف لعذر، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العسرة التي هي من أشد الغزوات على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت في شدة الحر، وابتلى الله عز وجل فيها المسلمين بلاءً شديداً، فلما قطعوا المسافات الشاسعة وابتعدوا عن المدينة، ووصلوا إلى تخوم الشام، إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بالمدينة رجالاً، ما سلكتم شِعباً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم وشاركوكم الأجر، قالوا: يا رسول الله! كيف وهم في المدينة؟ قال: حبسهم العذر) فمن حُبِس عن وقعةٍ لعذر فأجره كامل
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #255
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (255)

    صـــــ(1) إلى صــ(16)


    **إذا دهم العدو بلاد المسلمين
    قوله: [أو حصر بلده عدوٌّ] وهذه هي الحالة التي يسميها بعض العلماء: (حالة الهجوم) أن يهجم العدو على بلد أو على قرية أو على مدينة، فكل من في هذه المدينة يجب عليه أن يقاتل، وأن يدافع عن نفسه، فيقاتل الرجال وتقاتل النساء، ولا بأس عليهن في ذلك -إذا كن يحسنَّ القتال والنكاية بالعدو- أن يقاتلن، ويحمين حوزة الإسلام ويحفظن ثغره.
    وهذه الحالة هي حالة دهم العدو على البلد.
    ففي الحالة الأولى والثانية، وفي الحالة الثالثة التي سيذكرها المصنف، لا يستأذن الإنسان والديه، ولا المدين من دائنه، ولا العبد من سيده، ولا المرأة من زوجها، بل يدفع كلٌّ على قدر وسعه، وطاقته، وتكون هذه الحالة حالة ابتلاء، وهي من الأحوال المستثناة كما ذكرنا، ويكون الجهاد والقتال فرض عين كالصلاة، فكما أن الصلاة تجب على المسلم بعينه، فيجب عليه أن يقاتل كيفما استطاع وهذا كله من حكمة الشرع، فإن الأحوال تختلف، ولكل حالة حكمها.
    فلو قلنا في هذه الحالة: يستأذن والديه، لانعدمت ثغورٌ، وهلكت أنفسٌ، وفنيت الأرواحُ والأجسادُ، وكان ذلك أعظم ما يكون بلاءً على المسلمين، ولذلك يسقط الاستئذان في هذه الحالة، حتى أن الله سبحانه وتعالى أسقط عن المكلفين أركان الصلاة كالركوع والسجود في هذه الحالة، وهي حالة احتدام القتال وحالات الهجوم، فقال العلماء: إذا حاصر العدوُّ بلداً -سواءً حاصر، أو هجم على البلد وقاتل- ففي هذه الأحوال كلها يتعين على مَن في تلك البلدة أن يقاتل، وأن يدفع على قدر استطاعته، وعلى قدر وسعه: و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
    فإذا قال العلماء: (يتعين ويجب) فإنه يسقط -كما ذكرنا- استئذان الوالدين، واستئذان المدين من دائنه.
    والأصل في هذه الحالة، -إذا هجم العدو على البلد، أو حاصر مدينة- أنها في حكم تقابل الصفين، والتقاء الزحفين، فكما نصت الآيات على أن تقابُلَ الزحفين والتقاء الصفين يتعين فيه الجهاد على مَن شهد، كذلك إذا حاصر العدو بلداً، فإن الحصار مقابلةٌ من العدو للمسلمين، وهي بلا إشكال في حكم التقاء الصفين، وتقابل الزحفين
    **من استنفره الإمام للخروج للجهاد في سبيل الله
    قال رحمه الله: [أو استنفره الإمام] السين، والتاء: للطلب، والنفير: طلب الخروج، والمراد هنا: طلب الخروج الخاص وهو الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل.
    وهذه هي الحالة الثالثة التي يصير الجهاد فيها فرض عين، وهي: أن يطلب ولي الأمر من المسلمين الخروج للجهاد، فيجب عليهم أن يخرجوا، ويتعين على كل من أطاق القتال أن يخرج، فيخرج بدون إذن والديه، ويخرج أيضاً بدون إذن دائنه ومَن له حقٌّ عليه، ويخرج كل من أطاق القتال على الصورة التي ذكرناها في الحالتين السابقتين.
    ولا يستنفر الإمام إلا في أحوال مستثناة، وهي الأحوال التي يكون الخطر على الأمة، أو الخطر على جماعة، ولذلك لا يستنفر، إلا لمصالح عظيمة، أو درء مفاسد أعظم، ولذلك تكون هذه الحالة من الأحوال التي يتعين فيها الجهاد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] وهذا الاستفهام استفهام إنكاري، ولذلك يقول العلماء: إنه من القرائن والدلائل التي تدل على حرمة الفعل، فمن استُنْفِر للجهاد في سبيل الله وامتنع فإنه يعتبر مخالفاً لأمر الله عز وجل، مرتكباً لما حرم الله، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (لا هجرة بعد الفتح؛ ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا).
    وفي حكم الاستنفار مَن رُتِّب للقتال، فجاء الأمر بخروجه، فإنه يتعين على جميع الأفراد أن يقاتلوا، ولا يجوز لهم أن يتخلفوا، ولا أن يحتالوا بالامتناع عن الخروج، ويأثمون إن فعلوا ذلك.
    فيصير الجهاد في هذه الأحوال فرض عين، يأثَم الإنسانُ بتركه، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله
    **الرباط ومدته وفضائله
    قال رحمه الله: [وتمام الرباط أربعون يوماً] الرباط في سبيل الله هو: حراسة الثغور، والثغور هي التي تكون بين المسلمين وبين أعداء الإسلام وتحتاج إلى حفظ؛ لأن العدو لا يؤمَن غدرُه، ولا يؤمَن ضررُه، ولذلك لا بد من السهر في حماية الثغور، وهذا العمل من أجلِّ الأعمال وأحبِّها إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه)، أي: فيما سوى الثغر؛ لأن المرابط في سبيل الله عينه تحرس المسلمين، وتحرس عوراتهم وأعراضهم وأموالهم ودماءهم، فهو قائم على ثغر عظيم من ثغور الإسلام، فإذا سَهِرَت عينُه على هذا الثغر، فإن الله يحرِّمها على النار؛ فإن العين التي تسهر في حراسة الثغور، تُعْتَبر ساهرةً في مرضاة الله عز وجل، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل العيون باكية -أو دامعة- يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضَّت عن محارم الله)، قال العلماء: (كل العيون باكية، أو دامعة): إشارةٌ إلى بلائها وحزنها، (إلا ثلاثة أعين): إشارة إلى نجاتها وعظيم ما أعد الله لها من الثواب، فلا تبكي يوم القيامة ولا تحزن، وهذا يدل على أنه ينتظرها من الله مِن عظيم الثواب وعظيم الجزاء الخير الكثير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها).
    وإنما يكون هذا الفضل الذي أعده الله للمرابط -وكذلك الفضائل التي وردت في الشهادة في سبيل الله عز وجل- لمن أراد وجه الله عز وجل، فلم يخرج من بيته للجهاد رياءً ولا سمعةً ولا تفاخراً، ولا حميةً عن نفسه، ولا عن أهله، ولا عن داره وبلده، وإنما خرج لله وفي الله، (قالوا: يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليُرَى مكانَه، والرجل يقاتل للمغنم، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ -أي: أيُّهم يكون له الفضل الذي ذكرته للمجاهد في سبيل الله؟ - فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فخص قوله: (في سبيل الله) بقصد وجه الله سبحانه وتعالى.
    فإذا ذكر الرباط وفضله، وما فيه من الخير والأجر والثواب، فإنما هو لمن أخلص، وأراد وجه الله سبحانه وتعالى، وأما مَن فعل ذلك حميةً، أو من أجل أن يُرَى مكانَه، أو ليثني عليه الناس، فإنه يتعجل حظَّه في الدنيا، فإذا وافى الله عز وجل، لم يوافِه بشيء، وفي الحديث: (أن العبد إذا أتى يوم القيامة بحسناته، قال الله عز وجل له: اذهب وخذ أجرك ممن عملت له) فالله سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، وفي الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي غيري، تركته وشركه)، وقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].
    فالرباط له هذا الفضل العظيم، إذا أخلص الإنسان فيه النية.
    وإذا تأمل المسلمُ الرباطَ، وجد فيه حفظ الثغور، ولذلك قال بعض العلماء فتفاضل أنواع الجهاد، حتى إن بعضهم يقول: إن حراسة الأنفس وتأمين السبل، قد يفضُل على جهاد الطلب؛ لأن
    الجهاد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: جهاد الطلب.
    والقسم الثاني: جهاد الدفع.

    فأما جهاد الطلب: فهو الذي يُطْلَب فيه العدو في أرضه، ويغزو المسلمون فيه الكفارَ في أرضهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعَلَ الصحابة مِن بعده، والسلف الصالح مِن بعدهم.
    وأما جهاد الدفع: فهو أن يدهم العدو بلاد المسلمين فيدفعونه، وهذا يسمى جهاد الدفع.
    فالرباط يعين على جهاد الدفع، وقد وردت فيه الفضائل، حتى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن المرابط إذا مات في رباطه أجرى الله عز وجل عليه الأجر إلى أن تقوم الساعة) فله أجره وثوابه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وهذا لعظيم بلائه، ومن هنا قال العلماء: من سعى في حراسة المسلمين أثناء نومهم وحرس أعراضهم أو كان يعس في الليل، فإنه لا يبعُد أن ينال من الأجر ما هو قريب من الرباط؛ لأن مثل هذه الثغرات التي يخاف الناس فيها على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم بلاؤها عظيم، ومن هنا كان بعض السلف ويُروَى عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه كان يرى أن تأمين السبل للحجاج والمسافرين خوفاً ممن يقطع الطريق عليهم أفضل من جهاد الطلب وذلك لعظيم البلاء فيه.
    وقوله: (وتمام الرباط) الرباط ينقسم إلى قسمين: الرباط الكامل والتام: وهو أربعون يوماً، وقد جاء فيه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تمام الرباط أربعون يوماً) فمن رابط أربعين يوماً فقد تم رباطه، وينال فضائل الرباط التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث حسنه بعض العلماء رحمهم الله.
    و (تمام الرباط أربعون يوماً)، أي: أنه إذا رابط في الثغور أربعين يوماً، فإنه ينال هذه الفضيلة -أعني: فضيلة الرباط- فإذا زاد فوق ذلك فإنه يكون فضلاً وزيادةً له في الأجر، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من مات مرابطاً في سبيل الله عز وجل، فإن الله يؤمِّنه من الفتان، أي: أنه يؤمَّن من فتنة القبر، وهذا من أعظم ما أعد الله عز وجل له حيث يحفظ من فتنة القبر، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الشهيد: (هل يفتن في قبره؟ فقال -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه: كفى ببارقة السيوف فتنة له) أي: كفى أنه قتل في ذات الله جل جلاله، فإن هذا من أعظم الشهادة له بأنه مؤمن بالله عز وجل واليوم الآخر؛ لأنه باع نفسه لله وآثر ما عند الله على الدنيا
    **استئذان الوالدين في الجهاد إذا كان فرض كفاية
    قال رحمه الله: [وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما] شرع -رحمه الله- في بيان المسائل التي يجب فيها الاستئذان قبل الخروج إلى الجهاد، وهذه المسائل وردت بها النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز للمسلم أن يخرج للجهاد إذا كان أبواه موجودين إلا بإذنهما، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أتيت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحيٌّ والداك؟ قال: نعم.
    قال: ففيهما فجاهد) فدل هذا الحديث الصحيح على أن جهاد مَن له والدان، أو أحدهما هو البر به، وذلك هو جهاده، والسبب في ذلك أن للوالدين حقاً عظيماً على الولد، وأن الله وصى الولد بوالديه إحساناً، وأن الخروج للجهاد في سبيل الله فجيعةٌ لهما، وتعرضٌ للهلاك، فقد يهلك الوالدان بسببه إذا أصابهما الجزع والسخط على قضاء الله وقدره، فينجوَ الولد ويهلك الوالدان.
    والسبب في هذا أن الله قذف في الوالدين رحمة -وهي في قلب الوالد والوالدة- لا يستطيع أحدهما أن يملك نفسَه معها، أما الوالد فقد قص الله علينا في كتابه وبيَّن لنا ما يجده في نفسه لولده، وذلك في قصة يعقوب مع ابنه يوسف عليهما السلام، فإن هذه القصة لما ذكرها الله سبحانه وتعالى وبيَّنها في كتابه قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] فأخبر أنها عبرة، فتحتاج إلى شيء من التأمل.
    فانظر -رحمك الله- إلى نبي من أنبياء الله، لما فقد ابنه يوسف -وهو يعلم أنه سيعود إليه- حزن حزناً شديداً وابيضت عيناه من الحزن وفقد بصره، حتى قالوا له: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:85 - 86] أي: أنه يجد لوعة الفراق وألم الفراق، ومع أنه يعلم أن يوسف سيعود إليه، ومع أنه نبي ومِن أولي العزم، ومِن أهل الصبر والقوة، ومع ذلك لم يتحمل فراقه مع ثقته بعودته إليه، وقال {إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:96].
    فهذا يدل على أن في قلب الوالد لولده من الحنان والشفقة ما لا يملكه الولد، ومن هنا كان مِن الخطأ أن يظن الشاب أن قضية استئذان الوالدين لحاجة الوالدين، وأنه إذا وُجِد من يقوم مقامه أن ذلك يكفي، وهذا من الرأي في مقابل النص، ومن عدم التأمل والفقه عن الله ورسوله؛ لأن الأمر راجع إلى الرحمة، فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن في قلب الوالد لولده رحمة، فعندما دمعت عيناه لفراق ابنه إبراهيم: (قالوا: يا رسول الله! ما هذا؟ قال: رحمة أسكنها الله في قلوب عباده)، فهذه رحمة أسكنها الله في قلب الوالد لولده، فمنهم مَن يتجلد ويقوى إيمانه ويصبر فيأذن لابنه، فإذا أذن لابنه فلا إشكال، فهو أدعى أن يصبر إذا فُجِع به؛ ولكن إذا خرج الابن من دون إذنه، فُجِع الأب به، وتعذَّب بفراقه، وتألم لذلك الفراق، فكأن الابن يتسبب في أذيته والإضرار به، شعر أو لم يشعر، فهذا راجع إلى ما أسكنه الله في قلب الوالد لولده.
    أما الأم فأمرها أشد، وحنانها أعظم، ورحمتها أكبر، ولذلك لما أراد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم أن يضرب المثل في رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، ويبين عظيم ما أعد الله لعباده من الرحمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا.
    قال: لَلَّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها!).
    ففي الأم من الحنان والشفقة والرحمة ما الله به عليم، فإذا كان الأب وهو رجل، تفيض عيناه من الدمع، وقد يصاب بالعمى كيعقوب عليه السلام حين فقد بصره، فما بالك بالأم.
    ومن هنا يُعلم أن الأمر راجع إلى الرحمة، وكان فقه السلف على هذا، ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان هلال بن أمية -أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة العسرة وتاب الله عليه، وهو هلال بن أمية رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -كان له ابن اسمه: أمية، وكان أمية من أبر الناس بأبيه، وأكثرهم عطفاً عليه، فلما جاءت الفتوحات أيام عمر خرج للجهاد في سبيل الله، فبكى عليه هلال رضي الله عنه، حتى كُفَّ بصرُه من كثرة البكاء، واشتاق وحنَّ إليه حنيناً عظيماً، وبلغ الخبر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فكتب إلى أبي عبيدة: (إذا بلغك كتابي هذا فابعث إليَّ بـ أمية بن هلال، فما هو إلا أن جاءه أمية رحمه الله، ووقف عليه، ولم يعلم بخبره إلا عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا أمية! ما حالك مع أبيك؟) فذكر له من البر شيئاً عظيماً، فقال: (اجلس ولا يعلم أحد بمكانك)، ثم دعا أباه، -وهو هلال رضي الله عنه- فجاء وهو شيخ حُطَمَة، قد كُفَّ بصرُه وخارت قواه، ثم جلس فقال: (يا هلال! ما بلغ بر ابنك بك؟) فذكر له بره، ثم أمر ابنه أمية أن يحلب له الناقة، فلما جيء له بالشراب، وأدنى الإناء إلى فمه، قال رضي الله عنه: (والله يا أمير المؤمنين، إني لأجد ريح أمية في الإناء)، وهذا كما أخبر الله عز وجل عن نبيه يعقوب: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94].
    فهذه رحمة سكنت في القلوب، فليس الأمر باجتهاد، ولا برأي، ولا بمقابلة النصوص، ولا بعاطفة؛ ولكنه أمر يرجع إلى حكم الله، فالذي أمر بالجهاد هو الذي أمر ببر الوالدين، والذي نهى عن التخلف عن الجهاد في سبيل الله ينهى عن عقوق الوالدين، وعن التسبب في أذيتهم، والإضرار بهم.
    فيجب على المسلم أن يستأذن والديه في غير الأحوال التي يتعين فيها الجهاد في سبيل الله عز وجل، ويشمل ذلك الوالد والوالدة، وإذا أذِنَ أحدهما وامتنع الآخر، فإنه لا يكفي ذلك، ويجب عليه أن يبقى، وأمرُ الأم أشد من أمر الأب.
    وقد بينا أن هذا الأمر دلت عليه النصوص، ونص الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية -رحم الله الجميع- على أنه يجب على الولد أن يستأذن والديه قبل الجهاد في سبيل الله عز وجل ما لم يتعين عليه الجهاد
    **اسئذان الوالدين الكافرين
    وظاهر العبارة التي ذكرها المصنف: (وإذا كان أبواه مسلمين)، مفهومها أنهما إذا كانا كافرين لا يستأذنهما.
    والواقع أن هذا الحكم فيه تفصيل: فالوالدان يجب استئذانهما، سواءً كانا كافرَين أو مسلمَين، وهذا مبني على حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه لما جاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! إني أقبلت من اليمن، أبايعك على الهجرة والجهاد، قال: أحيٌ والداك؟ قال: نعم.
    قال: ففيهما فجاهد) أخذ جمهور العلماء من هذا الحديث دليلاً على أن الكافر والمسلم من الوالدَين يستأذن؛ لأن القاعدة في الأصول: (أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال)، فإنه قد أقبل من اليمن، وكانت اليمن لم تفتح بعد، ومن هنا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل هل كان أبواه مسلمين أو كافرين؟ بل ترك الاستفصال، ثم إن سر المسألة مبني على البر، والبر يستوي فيه الكافر مع المسلم، ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15].
    لكن استثنى العلماء منعَ الوالدين الكافرين لابنهما إذا كان ذلك على سبيل الكراهية للإسلام، والحنق على الإسلام، فإنه لا يعتد بمنعهما، فهذا هو الذي استثناه العلماء من استئذان الأبوَين الكافرَين، وإلا فالحكم أنه يجب استئذان الكافر والمسلم، وأجمع العلماء على أنه إذا كان أبواه كافرين شيخين كبيرين في السن، وهما بحاجة إليه أنه يجب عليه البقاء معهما، والإحسان إليهما، وذلك لعموم النصوص التي نصت على وجوب البر، فإنها نصوص قطعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يقوى تخصيصها بالرأي والاجتهاد، ولذلك قال العلماء: إنه في هذه الحالة يجب عليه ويتعين أن يبدأ بالبر، وقد بينت النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البر أفضل من الجهاد، وذلك فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال -والحديث في الصحيحين-: (قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال عبد الله: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني) فدل على أن بر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل، والسبب في ذلك: أنه ما من قربة أعظم ولا أجل عند الله سبحانه وتعالى بعد توحيد الله والقيام بحقه من بر الوالدين، ولذلك قرنه الله مع التوحيد، فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36]، وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] فقرن الله سبحانه وتعالى حق الوالدين بحقه، ونبه على فضل البر وما فيه من عظيم العاقبة الحسنة في الدين والدنيا والآخرة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة.
    فالمقصود: أنه يجب عليه الاستئذان
    **كيفية استئذان الوالدين
    تبقى المسألة الأخيرة: وهي كيفية الاستئذان؟ الاستئذان ضابطه عند العلماء أن يكون عن طواعية ورغبة، ولا يكون بكُره وتعنيف وأذية وإصرار، فإن الولد إذا أصر على والده، أو أصر على والدته، لم يمتنع الوالد والوالدة عن الإذن؛ لأنهما يحرصان على إدخال السرور على الولد ولو على حسابهما، ولو رأيت المرأة وهي في الطَّلْق تنازع الموت، لو قيل لها: تبقين أو يبقى الولد؟ لقالت: يبقى الولد وأهلك، وهذا من عظيم ما جعل الله في قلب الأم من الحنان، فإذا خُيِّرت بين حياتها وحياة ابنها لاختارت حياة ابنها على حياتها، وكذلك الوالد في كثير من الأحوال، فإنه يؤثر ابنه ويحب ابنه ويحب له الخير، ولذلك جعل الله عز وجل أمر الاستئذان فريضة.
    فلا بد في الإذن من مراعاة مشاعر الوالدين، فلا يصر الولد على والديه، أو يضغط عليهما، أو يضيق عليهما، أو يريهما الكره والتسخط إذا لم يأذنا له، ويعنفهما، ويوبخهما، ويتهمهما بعدم الحب للإسلام، وعدم الغيرة على أهله، كل ذلك مما يخالف شرع الله، وليس من الإذن المعتبر في شيء، ونص على ذلك العلماء: أنه إذا أكره الوالدين -وهم يعلمون حنان الوالدين، وشفقتهما على الولد- وضغط عليهما للإذن، فهذا الإذن وجوده وعدمه على حد سواء.
    ومن غرائب ما وقع أنه اتفق لبعضهم أنه سألني عن بر الوالدين، وهو يريد الخروج للجهاد، فقلت له: يا أخي! تريَّث، ولا تعجل على والديك، وعليك أن تتقي الله في برهما حينما تطلب الإذن، فما كان منه إلا أن استأذن والده، فأذن له والده، وجاءني فسألته عن كيفية الإذن، فإذا فيها دلائل واضحة على أنه شبه مستكرِه لوالده، فلما كان اليوم الذي يريد الخروج فيه جاء لأبيه وقال: عن رضا، قال له الأب: عن رضا، فخرج فبعد أن جاوز المدينة بما لا يقل عن خمسين كيلو، تذكر شيئاً احتاجه، قال: فرجعتُ إلى البيت فوجدتُ أبي في حالة يرثى لها من البكاء والحزن وشدة التوجع والألم، فقلت له: يا أبت! ألم تأذن لي؟ قال: يا بني! رأيتك تحب هذا الشيء وترغب فيه، وليس لي أن أمنعك مما ترغب، فإن جلستَ عندي جلستَ وأنت كاره للجلوس، فرأيت أن أؤثرك بالخروج، وإلا فعن نفسي فوالله ما طابت نفسي بذلك، فعلم أن والده لم يأذن بذلك طيبة به نفسه.

    فمثل هذه الأحوال يتقي الإنسان فيها ربه، فلعل الله له حكمة في أن يؤخره لشهادة أفضل، وما اتقى الله عبدٌ إلا جعل له فرجاً ومخرجاً.

    وهناك فرقٌ بين مَن يحب الجهاد للجهاد، وبين مَن يحب الجهاد ليبيع نفسه لله ليشتري مرضاة الله، فإن الإنسان إذا هوي شيئاً وأحبه كأن يهوى أن يجاهد ويهوى أن يستشهد -وهذا هوى تبعٌ لما جاء به رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، وهو هوى في الخير- لكن إذا عارضه إلزام شرعي حينئذ يأتي الامتحان والابتلاء، ويكون في علم الله عز وجل أنه سيتعرض لفتنة في هذا الخروج، وقد يؤخره لخيرٍ وطاعةٍ وبرٍّ وأجرٍ عظيم، فيبتليه بعدم إذن الوالدين، فإذا سلَّم وأخذ الأمر عن طواعية لله ورسوله اطمأن قلبه، وعلم أن الذي تشترى مرضاته في الجهاد هو الذي تشترى مرضاته في بر الوالدين، وأن بقاءه للبر رفعةٌ في الدرجة، وعظمة في الأجر، وغنيمةٌ له عند الله سبحانه وتعالى.
    فينبغي على المسلم أن يأخذ هذا الأمر بالنصوص الشرعية، ولا يأخذه بالهوى والعاطفة، وإذا كان الإنسان يسير بهواه على وفق الشرع، فإن الله عز وجل يسدده، ويوفقه، ويجعل له من أمره رشداً.
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وعلى آله وصحبه

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #256
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الجهاد)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (256)

    صـــــ(1) إلى صــ(20)





    شرح زاد المستقنع -** كتاب الجهاد [2]
    الجهاد عمل جماعي تقوم به جماعة المسلمين، ومثل هذه الأعمال الجماعية لابد فيها من وجود مرجعية تنظم هذا العمل وترتبه حتى لا يحصل الخلل والاضطراب، ولهذا كان من الواجب طاعة الإمام والصبر معه، وكان من واجبه إزالة جميع أسباب الخلل والاضطراب في هذا العمل العظيم
    **آداب المسير إلى الجهاد
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويتفقد الإمامُ جيشَه عند المسير] شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بآداب المسير للجهاد في سبيل الله عز وجل
    **تفقد الإمام لجيشه
    فقال رحمه الله: (ويتفقد الإمام) أي: يتفقد الجيش عند الغزو، وهذا التفقد المراد به النظر في مصلحتهم، فما كان من نقص كمله، وما كان من خلل سده، فإن الله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين أن يعدوا العدة للجهاد في سبيل الله عز وجل، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فأمر سبحانه وتعالى بالإعداد، ومِن الإعداد: تفقد الجيش قبل الغزو في سبيل الله عز وجل.
    وكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فكان يتفقد أصحابه قبل الخروج.
    وكانت هذه سنة للخلفاء الراشدين من بعده، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما بعث جيش أسامة رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج أبو بكر يشيع أسامة وهو على فرسه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّره على ذلك الجيش، فقال أسامة: (يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم اركب، فقال: إني أريد أن أغبر قدمي في سبيل الله عز وجل)، فكانت سنة لمن بَعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفقد المجاهدين في سبيل الله، وهذا التفقد -كما ذكرنا- تشحذ به الهمم لطاعة الله ومرضاته، فيوصي الإمام بالوصايا الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، حتى يخرج المجاهدون وهم على بصيرة من طاعة الله عز وجل ومرضاته، وما ينبغي أن يُتَّقى من سخطه وغضبه.
    وكان عليه الصلاة والسلام يوصي أمير الجيش في خاصته بتقوى الله عز وجل، التي هي جماع كل خير، وأساس كل فلاح وصلاح في الدنيا والآخرة، ويأمر أفراد الجيش أن يغزوا باسم الله ليقاتلوا مَن عادى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الوصايا تقوي من همم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشحذ عزائمهم على الخير.
    فيتفقد الإمام الجيش قبل المسير، فإذا رأى أخطاءً أو رأى نقصاً فإنه يقوم بسد ذلك النقص، وتصويب ذلك الخطأ، ومن هذا أنه إذا رأى مَن لا يصلح للخروج منعه، كصغار السن الذين لا حاجة إلى خروجهم، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعرض الصحابة يوم الخندق، ويوم أحد، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعن أبيه: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) فقوله: (عرضت) يدل على أن المجاهدين يُعرَضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأى من لا يصلح للغزو؛ لضعفٍ، أو لصغر سنٍّ، أو جنونٍ، أو نحو ذلك من الآفات والموانع، فإنه يمنعه، ويجب على ذلك الرجل أن يمتنع طاعةً لله وطاعةً لرسوله صلى الله عليه وسلم وطاعةً لأولي الأمر، فإنه لا صلاح للأمور إلا بذلك؛ لأنه إذا كُسِر أمام العدو قوَّى من عزمهم على المسلمين، فيمنع أمثال هؤلاء الضعاف، وإذا وجد إنساناً ضعيفاً في زاده، أو غير مستعد، أمره بأخذ العدة، وأوصاه كذلك بما فيه الخير له في دينه ودنياه وآخرته
    **منع المخذلين والمرجفين من الخروج إلى الجهاد
    قال رحمه الله: [ويَمْنَع المخذِّل والمرجف] [ويمنع المخذِّل] التخذيل: من أعظم الآفات في الجهاد في سبيل الله عز وجل، والتخذيل هو شأن أهل النفاق -نسأل الله السلامة والعافية- فتجدهم يُضْعِفون عزائم المسلمين لجهاد أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيهوِّنون الأمر، ويجعلونه أمراً يسيراً لا يحتاج إلى قوة وإعداد، فأمثال هؤلاء يُمْنَعون؛ لأن المصلحة في عدم خروجهم، والمفسدة في خروجهم، والشرع جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47] والإيضاع: ضرب من السير، وهذا يدل على أنهم يريدون الشر والبلاء بالمسلمين، فمن عرف أنه يخذل عن الجهاد في سبيل الله، فهذا مريض القلب ضعيف الإيمان، لم يتشرب الإيمان في قلبه، فمثل هذا لا مصلحة في خروجه، وقد منع الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يأذن لأمثال هؤلاء، {قُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوَّاً} [التوبة:83].
    وأما النوع الثاني فهم المرجفون: وهم الذين إذا سمعوا الأخبار أرجفوا بها، فإذا سمعوا قوة العدو، أخذوا ينشرون بين المسلمين تلك الأخبار، فيجعلون المسلمين في قلق وخوف وفزع، فيفقدون الإعداد المعنوي؛ لأن الجهاد في سبيل الله عز وجل -كما ذكر العلماء- يحتاج إلى نوعين من الإعداد: النوع الأول: الإعداد الروحي.
    والنوع الثاني: الإعداد الحسي.
    فأما الإعداد الروحي فهو: قوة الإيمان، وقوة الشكيمة والعزيمة، وحب الشهادة في سبيل الله عز وجل، وجعل الآخرة أحب إليه من الدنيا، ولذلك كان أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم يخرجون وقلوبُهم متلهفة للشهادة، وكان يقول قائلهم: (إنها لحياةٌ طويلةٌ إن عشتُ حتى آكل هذه التمرات)، فيرمي بها حتى يقتل في سبيل الله عز وجل، فإذا خرج الإنسان بهذه الروح المعنوية، فإنه تقوى عزيمته للجهاد في سبيل الله، ويقوى كَلَبه على أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، وحق لمثله أن يشهد ساحة الوغى، فللوغى رجاله، وللقتال في سبيل الله أهله، وليس كل إنسان يستطيع أن يصبر ويصابر ويرابط على طاعة الله ومرضاته في مثل هذه المواقف العظيمة، ولذلك وصف الله يوم الخندق فقال: {وإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11].
    فلا بد من الإعداد المعنوي، والإعداد المعنوي -كما قلنا- يحتاج إلى شيء من العلم والبصيرة بما أعد الله من الثواب، وحسن العاقبة والمآب إذا فاز الإنسان بالشهادة في سبيل الله عز وجل، وقد سطر التاريخ الإسلامي للسلف الصالح لهذه الأمة مواقف عظيمة تدل على كمال إعدادهم روحياً، وبذلك كسروا أعداء الله وانتصروا عليهم بقوة النفس وقوة الإيمان بالله عز وجل، وكان الرجل إذا رجع من الغزو ولم يقتل بكى، فكان يُفْجَع بعدم القتل أكثر من فجيعته بأن يُقْتَل أو يؤذَى في سبيل الله عز وجل.
    فالإعداد المعنوي هو الذي أشار الله إليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45]، فأمر الله بالثبات، ولا يمكن للمسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله عز وجل وقلوبهم خاوية، ونفوسهم ضعيفة، فهذا الإعداد المعنوي يفسده المخذِّل والمرجف، فكل منهما يحطم معنوية المجاهد، ويخذِّله عن لقاء العدو، ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله أنه يجب على الأئمة ونحوهم إذا أرادوا الغزو في سبيل الله عز وجل أن يمنعوا هذين الصنفين من الناس، فلا خير في خروجهم، ولا مصلحة في شهودهم للغزو في سبيل الله عز وجل.
    وأما الإعداد الحسي فهذا ما يتعلق بأخذ القوة من الرمي ومعرفة أساليب القتال والجهاد في سبيل الله عز وجل.
    فلا بد من الأمرين، وقد أشار القرآن إلى أساس الإعداد المعنوي فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45]، وقال سبحانه أيضاً: {وحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84]، فالتحريض إعداد معنوي؛ ويفسده ما يشتت القلوب، وهو النزاع والخلاف في الرأي، فهذا يفسد الإعداد المعنوي؛ لأن اتحاد وجهة الناس واتحاد هدفهم ومقصودهم يقوي شكيمتهم على الأعداء، وتكسر به شوكة الأعداء أيضاً، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، فقوله سبحانه: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46] يدل على أن الأصل أن يكون الناس على وجهة واحدة، فإذا جاء المخذِّل والمرجف فإنهم يجعلون الناس أشتاتاً، فقسم منهم يقول: العدو أقوى منا، ولا نستطيع قتاله، وقسم منهم يقول: العدو ضعيف، ونحن بإذن الله غالبون، و: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] كما قص الله علينا ذلك في كتابه.
    فهؤلاء المرجفون يفسدون ولا يصلحون للجهاد في سبيل الله، فيُمنَعون، والمصلحة في عدم شهودهم للغزو، ولذلك قال المصنف: (ويمنَع المخذِّل والمرجف)، وكلا الوصفين -التخذيل والإرجاف- لا خير فيه حتى في حال السِّلم، لما يُحدِث من الفتنة، وشتات القلوب، وتفريق الصفوف.
    وهذا الإرجاف غالباً ما يكون في المصالح العامة للمسلمين، وقد يقع في النيل من أئمة المسلمين وولاتهم والطعن فيهم، وكذلك الطعن فيمن يلي أمرهم، وتتبع العثرات والعورات، كل ذلك بقصد تشتيت شمل المسلمين وزعزعة الثقة بينهم، وقد يفعل البعض ذلك عن جهل وعدم قصد؛ ولكنه يفضي إلى ما لا تحمد عقباه.
    ولذلك لا خير في المرجف والمخذِّل، وإنما على المسلم أن يتوكل على الله، وأن يحسن الظن بعباد الله، وأن تقوى عزيمته على الخير، ولذلك كان سفيان الثوري رحمه الله يقول: (إذا سمعتم بالعائبة أو الفضيحة التي تكون فلا تنشروها؛ فإنها ثلمة في الإسلام)، فنشر مثل هذه الأمور يجعل الناس في شيء من الشتات والضيعة.
    ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف أمام الأحزاب، وهم فوق العشرة آلاف -على خلاف بين أهل السيَر في عددهم يوم الخندق- وكانت غزوة الأحزاب من أشد الغزوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فلما رأى عليه الصلاة والسلام، ورأى المسلمون ما عليه أعداء الله من العدد والعدة، واجتماع كلمتهم على رمي الإسلام بقوس واحدة، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني قريظة قد خانوا العهد ونكثوه، فازداد البلاء على المسلمين، حيث إنهم لم يصابوا بمواجهة العدو بقوة فقط، بل إنهم أيضاً يُطعنون من الخلف من يهود بني قريظة، عَظُم الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل نعيم بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، لكي يتتبع الخبر، فكان من وصيته له، أنه أمره إذا وجد الخبر صحيحاً ألَاّ يصرِّح بما أقدم عليه يهود بني قريظة من نكث العهد، فقال له: (إن كان القوم كما زعموا، فالحن لي لحناً، ولا تفت في عَضُدنا)، فقوله: (فالحن لي لحناً) أي: قل لي كلاماً أفهم منه أنهم قد غدروا ونكثوا، (ولا تفت في عضدنا).
    فإذا كان الإنسان في جماعة المسلمين في سلم أو حرب فعليه أن يتقي الله عز وجل فيهم، فبعضُ الأمورِ نشرُها والإرجافُ بها وحملُها والتحدثُ بها يُحدِث شتات الشمل، وفرقة الصفوف، وهذا من أعظم ما يكسبه أعداء الإسلام من المسلمين.
    وكان علماء الإسلام يوصون الناس بعدم تفرق كلمتهم فيما بينهم، خوفاً من طمع العدو فيهم، فكلما كان المجاهدون في سبيل الله على قلب واحد، وعلى رأي واحد، كلما استقامت الأمور، وهذا هو هدي السلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم ورحمهم أجمعين من الصحابة ومن تَبِعهم، فإن عمر رضي الله عنه لما اختلف مع أبي بكر في قتال مانعي الزكاة وكان عنده نص وعند أبي بكر نص، فما كان منه إلا أن سمع وأطاع لـ أبي بكر، فجعل الله الخير في رأي أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، مع أن لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه دليله وحجته، ولكن استقامة الكلمة واتحاد الصفوف في وجه أعداء الله أمرٌ مطلوب.

    والإرجاف كما يكون بالأقوال يكون بالأفعال.

    فإرجاف الأقوال: كنقل الأخبار، وأعظمَ ما يكون الإرجاف -كما ذكر العلماء وهو أشد ما يكون ذنباً على الإنسان- أن لا يكون على بينة من نقلها فينقلها، دون تَرَوٍّ فيها ولا تثبُّت.
    وإرجاف الفعل: كالاضطراب والخوف والقلق وظهور علامات الفزع، فهذا من إرجاف الفعل.
    ولذا يُمنَع هذا الصنف من الناس لمصلحة الجهاد في سبيل الله عز وجل
    **النفل أحكامه وأنواعه
    قال رحمه الله: [وله أن ينفِّل في بدايته الربع بعد الخمس] (وله) أي: للإمام.
    (أن ينفِّل) شرع رحمه الله بهذه الجملة في بيان الأحكام المتعلقة بالغنيمة.
    فإن الجهاد في سبيل الله عز وجل وعد الله أهله بإحدى الحسنيين: - إما الشهادة في سبيل الله عز وجل.
    - وإما الغنيمة ونيل ما نالوا من أجر الدنيا.
    وقد ثبت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (ما مِن سرية تغزوا في سبيل الله ويغنموا، إلا كان هذا فيه نقص لأجرهم) أي: أن أجر الدنيا يُنقِص عظيم ثواب الآخرة؛ لأن الأعظم والأكمل لهم ثواباً أن يُقتَلوا ويستشهدوا في سبيل الله عز وجل، فإذا خرج المجاهدون وأصابوا العدو فإنه يَرِد السؤال عن حكم الغنائم التي تُكْتَسب من الجهاد في سبيل الله عز وجل.
    وهذا من ترتيب الأفكار، فبعد أن بيَّن رحمه الله على مَن يجب الجهاد، وما الذي ينبغي من الإعداد المعنوي للجهاد في سبيل الله عز وجل، كأن سائلاً سأل: لو وقع الجهاد في سبيل الله وغنم المسلمون فماذا يُفعَل بما غنموه؟
    **أقسام الغنائم
    والجواب أن الغنائم تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: المنقولات.
    والقسم الثاني: العقارات.

    فما يناله المسلمون من الأعداء: - إما أن يكون أرضاً ودوراً ونحوها، فهذه تسمى: العقارات.
    - وإما أن يكون من الأموال كالذهب، والفضة، والدواب، والسلاح، والكراع، ونحو ذلك، فهذا يسمى بالمنقول.
    فأما العقارات كالأراضي والدور، والمزارع، وغيرها، -كما لو دخلوا بلاد العدو وغنموها، وفتحوها- فلها حكم بينته السنة، وكان له هدي عليه الصلاة والسلام في ذلك، وكذلك عن الخلفاء الراشدين مِن بعده.
    وأما النوع الثاني: وهو المنقولات من الذهب، والفضة، والسلاح، والكراع، والدواب ونحوها مما يُغْنَم، فشرع المصنف رحمه الله في بيانه
    **أقسام التنفيل
    فيُعطى الإمامُ أو القائد أو مَن له النظر في مصلحة الغنائم، والمنهج المعتبر في تقسيمها أنها تكون على أحوال: - قسم منها يكون سَلَباً، ويُستَحق لمن قتل قتيلاً ومعه بينة على ذلك.
    - وقسم منها يكون رضخاً وعطاءً، ويعطيه القائد على حسب المصلحة التي يقصدها من وراء العطاء.
    - وقسم منها يستحق بالشرط، كأن يشترط القائد ويقول: مَن فعل كذا وكذا فأعطيه كذا وكذا مَن فتح الباب، ومَن كسر كذا أو مَن أحدث الثغرة الفلانية، فإن له كذا وكذا، فهذا يسمى الاستحقاق بالشرط.
    وبطبيعة الحال أنه إذا غزا المجاهدون في سبيل الله، فالأحوال تختلف: فتارة يغزو الجيش بكامله، ويدخل بلاد العدو، أو يواجه العدو بقوته الكاملة، فحينئذ يواجه المسلمون الأعداء بيدٍ واحدة، وتكون الغنيمة لا نَفَلَ فيها للسرايا، أي: ليست هناك سرايا تُبعَث، وإنما يقابل الجيشُ الأعداء مرةً واحدةً.
    وتارة يبعث الإمامُ بعوثاً ويرسل سرايا، أو يرسل العيون لأخذ الأخبار، ثم يرسل بعدها السرايا، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يبعث السرايا للجهاد في سبيل الله عز وجل
    **كيفية تنفيل السرايا
    والسرايا تنقسم إلى قسمين: السرية القبلية: أي: ما يكون قبل القتال، والجهاد، وقبل إتيان العدو، وهذا النوع من السرايا يمهد الطريق للجيش، ويستطلع حال الأعداء، ويستكشف أمرهم.
    السرية البعدية: وهي التي تكون بعد خروج الجيش، وانتهاء المعركة.
    فما كان مِن السرايا قَبْلُ فهذا بلاؤه أعظم، والضرر الذي يتعرض له والخطر أشد؛ لأنه يذهب في قوة العدو، فحينئذ قد يواجه جيش العدو، ولذلك يكون حظه من النَّفَل أكثر من حظ الذي يُبعَث بعد خروج المسلمين أو رجوعهم.
    أما السرية البَعْدية فهي التي يبعثها الإمام للاطمئنان من أن العدو قد كُسِرت شوكته، وأنه ليس له ظهير، وأنه قد انقطع أمرُه بانتهاء القتال؛ لأنه لا يأمن في بعض الأحيان أن يكون هناك كمين، يفاجئ المسلمين من حيث لا يشعرون.
    فلذلك فُرِّق بين السرية القَبْلية والسرية البَعْدية، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاًّ من الأمرين، فكان يبعث السرايا القَبْلية ويبعث السرايا البَعْدية، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث حبيب بن مسلمة: (أنه كان ينفِّل الربع والثلث) فيعطي ربع الغنيمة أو ثلثها للسرية القَبْلية، لعظيم بلائها كما ذكرنا، والعلماء رحمهم الله يقولون: إعطاء الثلث والربع يرجع إلى نظر الإمام واجتهاده وعلى حسب بلاء السرية، فإذا -بفضل الله عز وجل ثم بهذه السرية- فعلت فعلاً تمكن به المسلمون من كسر العدو ربما زادهم، حتى أوصلهم إلى الثلث، وإذا كانت مهمة السرية يسيرة، فله أن يعطيهم الربع، وهذا أمر يرجع إلى اجتهاد الإمام.
    وقد جاء في حديث حبيب بن مسلمة رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه عند أحمد وأبي داود في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نفَّل الثلث والخمس، فكان إذا أرسل السرية قَبْلُ نفَّلها الثلث -يعني: قبل القتال- وإذا أرسل بَعْدُ نفَّلها الخمس) وهذا كله -كما ذكرنا- راجع إلى نظر الإمام ومعرفته بعظيم بلاء هذه السرايا
    **تنفيل القاتل سلب قتيله
    وقوله: (أن ينفِّل) النَّفَل في اللغة: الزيادة، فإذا زاد الشيء على الأصل فإنه يقال: هذا نافلة، أي: شيء زائد، ومنه سميت نافلة الصلوات؛ لأنها زائدة على الفريضة التي أوجب الله، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سأله الأعرابي: (هل عليَّ غيرها -أي: غير الخمس- قال: لا.
    إلا أن تطَّوَّع) أي: تتنفل، ولذلك يسمى الحفيد بالنافلة، كما قال سبحانه وتعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72] فالنافلة تقال لولد الولد؛ والأصل أن الوَلَدَ للإنسان، وأما وَلَدُ وَلَدِه فزيادة.
    فالنَّفَل هو: زيادة على حظ الإنسان في الغنيمة، فإذا غزا المجاهدون في سبيل الله عز وجل، فلهم سهم من الغنيمة، وهذا القسم قد بينته السنة: للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، والأصل في الغنائم أن الإمام يفعل بها ما يلي: إذا انتهت المعركة واستقر الأمر، يقوم الإمام بأخذ الأسلاب، وإعطائها لأصحابها.
    وهذا النوع الأول مما يؤخذ من الغنيمة، وهو وأول ما يُفْعَل فيها، أي: أن يعطي سَلَب المقتول لقاتله، ومسألة سَلَب المقتول صورتها أو حقيقتها: أن كل مَن قتل رجلاً بعينه فإنه يستحق سَلَبه، والسَّلَب: هو ما هو عليه من سلاح -سلاحه الشخصي- وكذلك ثيابه ودابته، وكل ما عليه، فهذا الشيء يستحقه، وله أخذه، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه)؛ لكن بعض العلماء -رحمهم الله- يقولون: سَلَب المقتول يُستَحق إذا أعطاه الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل الغزوة: (مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه) فإن لم يقل ذلك فإنه لا يستحقه، وبعضهم يقول: يُستَحق السَّلَب مطلقاً؛ لكن يُفَرَّق بين الجيش الذي له عطاء -وهو الذي يُسمَّى بالراتب- والجيش الذي لا عطاء له، فالجيش الذي له عطاء قالوا: لا سَلَب له، وليس له شيء لا من السلب ولا من الغنيمة؛ لأن عطاءه يرجع للإمام، وأما الجيش الذي لا عطاء له، وهم المتطوعون، فهؤلاء هم الذين فيهم الخلاف بين العلماء رحمهم الله، وللعلماء فيهم الوجهان اللذان ذكرناهما.
    فإذا قتل قتيلاً وله عليه علامة أي: بينة، فإن من حقه أن يأخذ سلبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفَّل السَّلَب
    **إخراج كلفة النقل من الغنيمة
    أما النوع الثاني من النَّفَل: فيكون لنوع خاص فبعد أن ينتهي الإمام من إعطاء السَّلَب للقاتل، يقوم بعد ذلك بسحب أموال الغنائم من أرض المعركة، فيأمر الحمَّالين ونحوهم أن يقوموا بجمع الغنائم وحيازتها وحفظها ورعايتها، فإذا قام بذلك يقوم قبل قسمتها وقبل الرضخ منها بإعطاء أجرة أو تكاليف هذه الحيازة، وهذا نص عليه العلماء وذكروه: أنها لا تقسم الغنائم حتى يؤخذ منها كُلفَةُ حيازتها
    **تنفيل أهل البلاء في القتال
    بعد حيازة الغنيمة يقوم الإمام بالنظر فيمن له بلاء أثناء المعركة، وهم الأقوام الذي أبلوا إما بالشرط، وإما بدون شرط.
    فالنوع الأول: الذين أبلوا بشرط: كأن يقول الإمام -كما مَثَّل العلماء في القديم- فيما لو أن العدو تحصَّن من وراء كثبان رمل، أو من وراء سور فقال: مَن نَقَب هذا السور أو فَجَّر هذا السور فله كذا وكذا، فهذا يسمى العطاء المستحق بالشرط، فحينئذ يعطي مَن وعده عطاءً معيناً ذلك العطاء الذي وعده، سواءً تعين ذلك العطاء أو كان العطاء مبهماً بالنسبة، كأن يقول: لك الربع، لك الثمن،.
    إلخ، ومِن هذا: إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم سواري كسرى لـ أبي معبد رضي الله عنه وأرضاه.
    فإذا أبلى إنسان معين فمن حق القائد أو الولي أن يخصه بعطاء معين، وهذا هو النوع الثالث من النَّفَل.
    فأصبح عندنا ثلاثة أشياء: - أولاً: سَلَب المقتول وهو لقاتله.
    - ثانياً: مَن كان مستحقاً بالشرط، وهو الذي اشترط له الإمام فعلاً فقام به.
    - والثالث: مَن له بلاء أثناء المعركة، كإنسان أثناء المعركة فَعَل فعلاً دمر به العدو، أو كسر به شوكته، أو فتح به ثغرة كانت سبباً في نصر المسلمين، فهذا يُعْظِم له الجزاء ويخصه بعطية معينة

    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #257
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الجهاد)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (257)

    صـــــ(1) إلى صــ(20)




    **الأدلة على تقسيم الأنفال وكيفية توزيعها
    وهذه الثلاثة لها أصول: فالنوع الأول الأصل فيه: قوله عليه الصلاة والسلام: (مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه).
    وأما النوع الثاني -وهو الاستحقاق لعظيم البلاء- فالأصل فيه: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه -وكان من أرمى الصحابة- فإنه في يوم ذي قَرَد -كما ثبت في الصحيحين- أبلى بلاءً عظيماً، فنفَّله النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أبلى بلاءً حسناً في جهاده، فنفَّله أبو بكر رضي الله عنه أمةً من الإماء، وأعطاه إياها لعظيم بلائه، فهذا يُستحق بدون شرط.
    فهذه ثلاثة أنواع.
    النوع الرابع مما يؤخذ من الغنيمة أو يقوم الإمام بأخذه: كلفة وأجرة حمل الغنيمة، وهذا ذكرناه في الأول.
    بعد هذا يقوم بقسم الغنائم بالصورة التي سيذكرها المصنف رحمه الله: (للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم).
    وأما مكان قسمة الغنائم للعلماء فيها قولان: - بعض العلماء يقول: تقسم في أرض المعركة، ولا بأس أن تقسم في أرض العدو.
    - وقال بعض العلماء: إنما تقسم بعد الحيازة -أي: بعد أخذها- ولا تقسم في دار الحرب، والسبب في هذا هو خشية أن يهجم الأعداء على المسلمين، وكأنهم يرون أنها لا تُستَحق ولا تُملَك إلا بعد رجوعهم إلى ديار المسلمين.
    والصحيح مذهب الجمهور: أنه يجوز للإمام أن يقسم الغنيمة في أرض المعركة، ولا بأس أن يقسمها حتى في أرض العدو؛ لأن النصوص دالة على ذلك، كما ثبت من هدية صلى الله عليه وسلم.
    قول: (وله أن ينفِّل في بدايته الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده) كان الحكم بالنسبة لأهل الكتاب ومَن قبلنا أنهم لا يأخذون الغنيمة، وإنما كانوا يجمعون غنائم الحرب، ثم يرسل الله عليها ناراً من السماء، فإن كانت مقبولة حُرِقت، وإن كانت غير مقبولة لا تُحرق، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (غزا نبي من أنبياء الله.
    وفيه: ثم جمعوا الغنيمة فأتت النار ولم تحرقها فقال: فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعه من كل قبيلة رجل، فلصقت يد أحدهم بيده، فقال: فيكم الغلول، ليبايعني من كل بطن منكم رجل، فلصقت يده بيد رجلين منهما، فأمر بهما فأحرق رحلهما)، فصارت سنة في إحراق الرحل، وقالوا: إن الغلول لما وقع، كان من العقوبة لهم حرق الغنيمة.
    والثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خص هذه الأمة بالغنائم، فقال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، وهذا من رحمة الله بهذه الأمة، ومن تيسيره لها، ومن عظيم فضله وإحسانه إليها، فإن الله سبحانه اختصها بالخصائص التي منها: وضع الآصار عنهم.
    فالغنائم كانت لا تقسم، وإنما كانت تحرق، كما كان في بني إسرائيل وغيرهم من أهل الكتاب ممن مضوا
    **لزوم طاعة ولي الأمر
    قال رحمه الله: [ويلزم الجيش طاعته والصبر معه] أي: يلزمهم أن يطيعوا إمامهم، والسمع والطاعة لولاة الأمور أصل وقاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة، فلا بد للمسلم أن يكون مع جماعة المسلمين وإمامهم، وألا يشذ عنهم، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وعظ الصحابة وذكرهم بالله عز وجل قال: (عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي) فأمرهم وألزمهم بالسمع والطاعة؛ لأن الله أوجب ذلك على عباده المؤمنين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] يقول العلماء: إن الله ناداهم باسم الإيمان؛ لأن الذي يطيع الله ورسوله إنما هم المؤمنون، والذين يستجيبون لأمر الله ورسوله إنما هم المؤمنون السعداء الموفقون، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فقرن سبحانه وتعالى طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل طاعة ولاة الأمر تابعة لطاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام.
    وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني -وفي رواية-: من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني).
    والسبب في ذلك: أن مصالح المسلمين تفتقر لمن يقوم بالنظر فيها، وهذا هو الذي جعل الحكمة في الشرع أن يكون لهم من ينظر في مصالحهم، فيرعى تلك المصالح، ويدرأ عنهم المفاسد، فإذا اجتمعت الكلمة عليه، فإنه يجب على المسلم أن يسمع ويطيع لولي أمره، في غزوٍ أو غير غزو؛ لأن الله أوجب عليه ذلك، وفرضه عليه، وإنما تكون السمع والطاعة في المعروف أي: فيما وأمر الله به أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا سمع ولا طاعة إذا أُمِر عبدٌ بمعصية الله عز وجل.
    فنبه المصنف رحمه الله على لزوم طاعة أمير الجيش، فإنه لا يستقيم أمر الجهاد في سبيل الله إلا بطاعته، فإذا أصبح الجند يتفرقون عنه، وكل له رأيه، وكل له قوله، فإن أمرهم إلى ضياع وإلى خذلان، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أن السنة قضت بلزوم الجماعة خوفاً من المفاسد والشرور، فقد يرى بعض الناس رأياً يختلف به مع جماعته، فإذا خالفهم وانفرد برأيه، وأصر عليه، فإنه مظنة أن يشتت الأمر، ويفرق الجماعة؛ لكنه إذا دخل في جماعة المسلمين وسمع وأطاع، فإن الله يثيبه على رأيه إن كان صواباً، وإن كان خطأً دفع عن المسلمين شر رأيه، وإلا جمع بين السوأتين: الخروج عن الجماعة، وفساد الرأي.
    ولذلك عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمر السمع والطاعة، وأخبر أن صلاح الأمة في السمع والطاعة؛ خوفاً مما يترتب على الخروج والفرقة من البلاء العظيم.
    ولذلك لما قال الصحابة: (أفلا نناجزهم) وذلك عندما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفساد الأئمة، قال عليه الصلاة والسلام: (لا.
    ما أقاموا فيكم الصلاة، لا.
    ما أقاموا فيكم الصلاة) فهذا نص صحيح صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم الخروج عن الأئمة، حتى ولو كان الإنسان في سفر مع رفقة وفيهم أمير، فلا يخرج إذ من السنة أن كل ثلاثة في سفر ينصبون أميراً عليهم، وهذا يدل على حرص الإسلام على الكلمة الواحدة، وعلى الجماعة الواحدة، وما دخلت الشرور على الأمة إلا بتفرق الكلمة ووجود الحزبيات وتفرق الآراء والجماعات.
    وكلما فُتِح باب النقد فُتِحَت أبواب الأهواء على الناس، وذهبت مكانة أئمتهم، ومكانة علمائهم، ومكانة ذوي الرأي والوجاهة فيهم، فإذا وجدت الناس على كلمة واحدة يحترمون أهل العلم، ومن له الأمر، وجدتهم على خير، وعلى استقامة وبر؛ ولكن إذا دخلت الدواخل، تَشَتَّتَ الشملُ وعظُمت الفتنة، حتى يصبح الإنسان حائراً لا يدري ما الذي يفعل.
    فالمقصود: أنهم إذا خرجوا للجهاد في سبيل الله في جماعتهم فلا يجوز أن يخرجوا عن القائد، أو يعصوا أمره؛ لأن هذا يُذْهِب هيبته، ويذهب قوة المسلمين على عدوهم.
    وتنبيهه رحمه الله على لزوم الطاعة يعتبرونه من آداب الجهاد في سبيل الله، وهذا من الأدب الواجب، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة للأمير وإن جلد الظهر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام (اسمع وأطع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقد ورد عن الصحابة أنهم قالوا: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأثرة علينا) فبين الصحابة رضوان الله عليهم أن بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت على المنشط والمكره، أي: على ما يحبون وما يكرهون، ولذلك أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على من هذا حاله، فقال: (طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه، إن قيل: في المقدمة ففي المقدمة، وإن قيل: في الساقة ففي الساقة) وهذا الحديث فيه حكمة عظيمة، توضيحها: أن هذا الرجل استحق الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومه للسمع والطاعة، فقال عليه الصلاة والسلام: (طوبى) قيل: هي الجنة، وقيل: شجرة في الجنة لو سار الراكب تحتها مائة سنة ما قطعها، (طوبى لعبد آخذٍِ بعنان فرسه) هذا في الجهاد في سبيل الله، (إن قيل: في المقدمة) المقدمة: مظنة الخوف، ومظنة الهلاك، فلو قال له الإمام: تقدم، وقال له: كن في المقدمة، فإنها أماكن القتل، وأماكن الهلاك، فيتقدم ولا يتأخر، (وإن قيل: في الساقة ففي الساقة) فقد يكون شجاعاً، فلو قيل له: في الساقة، يتألم؛ لأنه يريد الشهادة، ويريد أن ينكي بالعدو، ومع ذلك لا يقول: أنت لا تفقه أو لا تعلم أو كان ينبغي أن يضعني في الأمام، أو يجلس مع أصحابه لكي يخذِّل في رأي القائد، ويكون بذلك نزع الثقة من قلوبهم، وأفسد ما في نفوسهم، وحينئذ يتشتت شملُهم، وتذهب قوتهم.
    فالمقصود أنه لا بد من السمع والطاعة إذا كانت بالمعروف، لما فيها من صلاح أمور الناس في دينهم ودنياهم
    **لزوم الصبر مع القائد والصبر عليه
    (ويلزم الجيش طاعته) طاعة القائد والوالي وولي أمره.
    (والصبر معه) لأن الجهاد في سبيل الله يقع فيه امتحان وابتلاء للناس، ولذلك وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء، فإن الصحابة يوم حنين ابتلوا ابتلاءً عظيماً، ومن ذلك ما ابتلي به الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، فإن من تأمل غزوة حنين، وجد كيف أن الله ابتلى أنصار رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على حكم الشرع، فعندما انتهت غزوة حنين قسم عليه الصلاة والسلام الغنائم، فأعطى أبا سفيان مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة كذلك، فقال بعض الأنصار: (أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم) أي: نحن الذين قاتلنا، ونحن الذين أبلينا، ثم يذهب ويعطي هؤلاء؟! فـ أبو سفيان حديث عهد بالإسلام، وكذلك الأقرع بن حابس، فكأنهم وجدوا في أنفسهم شيئاً، فانتشرت الأخبار حتى بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل بلغ ببعضهم -والعياذ بالله- وهو رأس الخوارج أن قال: (إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله).
    نسأل الله السلامة والعافية! أي: إن هذه القسمة حابى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاشاه! فلما قال هذه الكلمة، وبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فلما كثر كلامهم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وقال له: (ما مقالة بلغتني عنكم؟ -أي: عن الأنصار، وكانوا لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! أما أهل الحلم والعلم منا فلم يقولوا إلا خيراً، وأما سفهاؤنا -أي: الشباب أحداث السن- فقالوا: يعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم -أي: نحن الذين أبلينا وكان ينبغي أن يكون العطاء لنا-، فقال عليه الصلاة والسلام: أين أنت يا سعد؟ -هنا الابتلاء، إذا كان قومك قالوا هذا القول، فأين أنت؟ فما كان ليكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: المرء مع قومه) وهذا من كمال الأدب، فلم يقل: ضدك، أو لست معك، وإنما قال: (المرء مع قومه)، وجاء بقاعدة عامة، يحتمل أن يكون قائلاً بها، أو ليس بقائل؛ لكن السياق دال على أنه يجد في نفسه، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن جمعهم في القصة المشهورة.
    إلى آخرها.
    فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وصحابته كيف ابتلوا! ففي الجهاد تقع أشياء من الابتلاءات والتمحيص، ليهلك مَن هلك عن بينة، ويحيا مَن حَيَّ عن بينة، ويظهر مَن أراد الله والدار الآخرة، ويظهر مَن يريد الدنيا، يقول الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، والله سبحانه وتعالى يبتلي في مثل هذه المواقف، فالمجاهد في سبيل الله عز وجل ينبغي عليه أن يصبر على مَن ولاه الله أمره، وإذا صبر عظم أجره، وحسن بلاؤه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: (إنكم ستجدون بعدي أثرة، قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: اصبروا وإني فرطكم على الحوض) لأن الإمام ربما اجتهد في شيء، فحمَّلك أن تقوم به، فلا تقل: كان ينبغي أن يأمر غيري وكان ينبغي أن يقوم به غيري.
    أو يعطي غيرك ويمنعك، فلا تقل: لماذا أعطى غيري ومنعني؟ إنما عليك أن تصبر؛ لأنك تريد الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فلا بد من الصبر.
    ومراده بـ (الصبر معه) أي: في حال الابتلاء، وقد يأمر الأمير بأمر ثقيل، فتصبر وتتحمل؛ لأن هذا من كمال الإيمان، وهذا من قوة إيمان الإنسان، أنه يصبر على أميره، ويسمع له ويطيع، وإذا طلب منه أمراً قام به على أتم الوجوه وأكملها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الحق الذي لكم).
    فلابد من الصبر مع الأمير على الجهاد في سبيل الله عز وجل، وما يكون منه من النظر والاجتهاد، قال صلى الله عليه وسلم: (يصلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم).
    قال رحمه الله: [ولا يجوز الغزو إلا بإذنه] أي: بإذن الأمير، فلا بد من السمع والطاعة لولي الأمر وللأمير، فإذا قال له: اغزُ، غزا، وإذا قال له: لا تخرج، يسمع ويطيع، فلا يخرج بدون إذنه، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله: أن الغزو لا يكون لكل من هب ودب، بل ينبغي أن يكون تحت راية الإمام وبإذنه.
    قال رحمه الله: [إلا أن يفجأهم عدوٌ يخافون كَلَبَه] (إلا) أداة استثناء، والاستثناء: إخراجٌ لبعض ما يتناوله اللفظ، فلما بيَّن رحمه الله أن السمع والطاعة لازمان شرع في بيان الأحوال المستثناة، التي يجوز للإنسان أن يجاهد فيها ولا ينتظر الإذن، وهذه الأحوال ذكر العلماء منها: أن يفجأ عدوُّ يخافون كَلَبَه، فلو أن العدو هجم بغتة، فلا ينتظر حتى يأمره الإمام بالجهاد؛ وإنما يجاهدهم ويقاتلهم مباشرة، وهذه الأحوال المستثناة سبق الكلام عليها، وهي إحدى الحالات الثلاث التي يصير فيها الجهاد فرض عين، فيقاتل الرجلُ وتقاتل المرأةُ ويقاتل الصغيرُ، ويقاتل الكبيرُ.
    (يخافون كَلَبَه) الكَلَب بالفتح: هو الشر والضر.
    ومراده بـ (يخافون كَلَبه) أي: شرَّه وضرَّه، بمعنى: أن يكون قوياً ويغلب على ظنهم أنهم إذا لم يقاتلوه الآن، فإنه سيحصل بلاء وأن العدو سيفتك بهم، فحينئذ يجوز لهم أن يقاتلوه مباشرة ولا ينتظروا الإذن من الإمام

    **الأسئلة
    **معنى قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ)


    **السؤال
    إذا مر قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فهل المقصود به الجهاد؟


    **الجواب
    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
    أما بعد: فـ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إذا أطلق في الكتاب والسنة، فيراد به أحد معنيين: - إما أن يراد به المعنى الخاص، وهو الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا هو الشائع والأكثر.
    - وإما أن يراد به عموم الخير والطاعة والبر، فتقول للإنسان: أنفق مالك في سبيل الله، أي: في طاعته ومرضاته؛ لأن السبيل المراد به: طريق الله، فالذي ينفق ماله في تفريج كربات المسلمين وستر عورات المعسرين والمحتاجين، فإن هذا السبيل الذي طرقه في إنفاق ماله هو سبيل الله؛ لأن الله يحبه، ودعا إليه، وهدى إليه، ورغَّب فيه، فتقول: هذا أنفق ماله في سبيل الله، ومن أمثلة ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (مَن أنفق زوجين في سبيل الله، نودي يوم القيامة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من باب الصلاة نودي من باب الصلاة) إلى آخر الحديث.
    والأكثر والأشهر أن يُطلق سبيل الله ويراد به الجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى أن العلماء رحمهم الله يقولون: من فوائد الجهاد: أن الله سبحانه وتعالى سَمَّى الجهاد سبيلاً له، لما فيه من عظيم المكرُمات، وجزيل الفضائل والحسنات، فجعله بهذه المثابة، ولذلك وصف القرآن بأنه طريقه فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، قال جمعٌ مِن السلف مِن الصحابة ومَن بعدَهم: إن قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} [الأنعام:153] يعني: القرآن، ووصف القرآن بأنه هو صراطه، وأنه هو الصراط المستقيم، تعظيماً للقرآن، ووصف الجهاد بكونه سبيلاً لله عز وجل؛ لأنه الطريق الذي ينتهي بصاحبه إلى الله سبحانه وتعالى.
    ومن هنا: إذا أطلق (سبيل الله) فالمراد به: الجهاد في سبيل الله، وهذا هو السبب الذي اختلف من أجله العلماء في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] فإن قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة وعلى أن المراد بهذا الصنف السابع إنما هم المجاهدون في سبيل الله، أي: أن الزكاة تصرف في الجهاد في سبيل الله.
    وقال طائفة من العلماء: إن المراد بقوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ): أوجه الخير والبر، وهذا ضعيف من وجهين: الوجه الأول: أن العرب لا تعطف العام على الخاص، ويليه بعد ذلك الخاص، وإنما تعطف العام على الخاص أو الخاص على العام، أي: تأتي بالعام أولاً ثم تخصص، لمزية في هذا الخاص، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر:4]، فإن الروح -وهو جبريل- يعتبر خاصاً، فحينئذ ذكره على الخصوصية تفضيلاً له وتشريفاً.
    وإما أن تذكر الخاص أولاً، فتقول: ليأتني محمد والناس، فحينئذ يكون ذكرك لمحمد من باب التفضيل له، أو تقول لابنك: اعزم خالك وعمك وسائر القرابة، فلما ذكرت الخال والعم بينت أن لهما مزيةً وفضلاً، أو تقول: اعزم الناس وخالك وعمك، كأنك تؤكد عليه أن الخال والعم له حق آكد من الناس، فالعرب إما أن تقدم العام وتعطف الخاص عليه، أو تقدم الخاص وتعطف العام عليه؛ ولكن لا تدخل عاماً بين خاصين، فلو كان المراد بقوله: (في سبيل الله)، العموم لقال الله تعالى: (إنما الصدقات في سبيل الله للفقراء والمساكين ... ) إلى آخره، فيعطف الخاص على العام، وإما أن يقول: إنما الصدقات للفقراء والمساكين.
    إلى قوله:.
    وابن السبيل وفي سبيل الله)، هذا هو المعروف من سياق القرآن ومن لغة العرب؛ لكن أن تدخل العام بين خاصين، فهذا خلاف الأصل، ولا فائدة من هذا؛ لأنه يكون فيه شيء من اللغو الذي ينزه عنه القرآن، ففيه ركاكة في التعبير، كأن تقول: ليأتي محمد وعلي والناس وزيد وعمرو، وهذا لا يستقيم، إذاً: لا بد من ذكر الخاص قبل العام، أو العام قبل الخاص.
    الوجه الثاني: أنه لو كان المراد بقوله تعالى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60] العموم، لكان قال الله عز وجل: (إنما الصدقات في سبيل الله)، وما الفائدة أن يخص الأصناف الثمانية؟ قالوا: إنما خصت لأنها تنفرد من المعنى العام لسبيل الله، أي: تنفرد من سبل الخير، حتى تتميز الصدقة الواجبة عن الصدقة النافلة، فالصدقة النافلة تكون في أوجه البر والطاعة عموماً؛ ولكن الصدقة الواجبة تكون لأقوام مخصوصين، ولذلك لم يكل الله قسمة الزكاة لِمَلَك مقرب ولا لنبي مرسل، إنما قسمها من فوق سبع سماوات سبحانه وتعالى: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57].
    فالمقصود أن (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) المراد به: - إما الجهاد.
    - وإما عموم الخير والطاعة والبر.
    ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (مَن صام يوماً في سبيل الله).
    قال بعض العلماء: (يوماً في سبيل الله) المراد به: في الجهاد.
    وقال بعض العلماء: (يوماً في سبيل الله): أي: أنه يصومه في غير فرض، تنفلاً وبراً، ولهذا يختلف العلماء في المسائل التي ذكرناها؛ لأن معنى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يتردد بين هذين المعنيين، والأصل حمله على الجهاد كما ذكرنا؛ لأن الله شرف هذه العبادة وفضلها.
    والله تعالى أعلم
    **التعزير بالمال

    **السؤال
    هل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحراق رحل من غل دليل على جواز التعزير بإتلاف مال المعزَّر المذنب؟


    **الجواب
    استدل به من قال بجواز التعزير بأخذ المال، وقال: يجوز أن توضع الغرامة والعقوبة المالية من باب التعزير، واستدلوا على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) وتحريق البيوت إتلاف لها، وهذا تعزير بإتلاف المال.
    كذلك أيضاً استدلوا بما جاء عنه عليه الصلاة والسلام فيمن منع الزكاة، قال عليه الصلاة والسلام: (إنا آخِذوها وشطرَ مالِه) فعزره بالمال، وذلك لتضييعه الحق الواجب.
    وكذلك حرَّق عليه الصلاة والسلام على سبيل التعزير وذكر التحريق فيمَن قبلَنا وأقر، وشرع مَن قبلَنا شرعٌ لنا على سبيل التعزير.
    فقالوا: إن هذا يعتبر أصلاً في جواز التعزير بإتلاف المال.
    والله تعالى أعلم
    **أنواع الرباط

    **السؤال
    ذُكِر النوع الأول من الرباط فما النوع الثاني؟


    **الجواب
    هناك نوعان من الرباط: - الأكمل: أن يكون أربعين يوماً.
    - ودون الأكمل: أن يكون دون الأربعين.
    لكن الذي دون الأربعين: - إما أن يكون لحاجة، فانتهت الحاجة دون الأربعين، فصاحبه على فضل.
    - وإما أن يكون من الشخص نفسه، فإذا كان من الشخص نفسه فإنه يحرم الأجر.
    وأما تقسيم الرباط من حيث الضدين: - فهناك رباط في الثغر.
    - ورباط في غير الثغر، الذي هو في داخل المدن.
    فالرباط الذي يكون في الثغر: هو الذي يكون على الحد بين المسلمين والكفار.
    والرباط الذي يكون داخل المدن، أو على أسوار المدن كما كان في القديم، يدخل في هذا الفضل.
    وكل ذلك يعتبر من الرباط في سبيل الله، ويتفاوت أجره على حسب تفاوت البلاء؛ لأن الأكثر تعباً أعظم أجراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثوابُكِ على قَدْر نَصَبُكِ)
    **معرفة حال العدو في الجهاد والمصلحة في ذلك

    **السؤال
    هل معرفة أعداد العدو وعتاده يعتبر من الإرجاف، فقد أشكل علي كون النبي صلى الله عليه وسلم سأل غلمان المشركين عن عددهم يوم بدر؟


    **الجواب
    أما بالنسبة لمعرفة حال العدو فهذا أمر يرجع إلى ولي الأمر، ومن يلي قيادة الجيش في الجهاد في سبيل الله عز وجل، فإن كان من المصلحة أن يُطْلع الناس على ذلك لكي تقوى عزائمهم أن العدو ضعيف، وأنه لا عداد له ولا عدة، أخبرهم بذلك، وأما إذا كان عددهم كبيراً، أو أن لهم قوة وشكيمة، وأن إخبارهم بذلك سيضر بمصلحة الجهاد، فإنه لا يخبرهم، ويمنع من نقل هذه الأخبار، تحقيقاً للمصلحة أو درءاً للمفسدة.
    والله تعالى أعلم

    **معنى قوله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ)


    **السؤال
    في قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] هل قوله: (فَعَلَيْكُمُ) يدل على الوجوب العيني؟


    **الجواب
    ( فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ): عليك كذا، أي: يلزمك، ومنه قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وفي قراءة بعض العلماء يقف عند قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام:151] ويقولون: إن (عَلَيْكُمْ) تدل على الإلزام، عليك كذا، بمعنى: أنه يلزمك.
    وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] أي: يلزمكم النصر، وهذا في حال وجود حاجة إلى المسلمين، وتكون النصرة واجبة على المسلمين عموماً، وليست عينية، وإنما ذكر العلماء الواجب العيني في النصرة في حال الاستنفار، أي: إذا توقف إنقاذ إنسان على نصرتك له، بحيث لا يحتمل التأخير، فيلزمك أن تنصره دون أن تحتاج إلى إذن، وهناك أحوال مستثناة ذكرها العلماء، وإلا فالأصل أن مواجهة الأعداء إنما تكون راجعة إلى نظر الإمام فيما يراه من المصلحة، إذ لو فتح هذا الباب فإنه ربما أقدم إنسان على عدو فأضر بفرد منهم، فحمل العدو على جماعة المسلمين وأضروا بهم، ولذلك ينظر الإمام إلى ما فيه المصلحة، فإن كانت المصلحة لجماعة المسلمين أن يسكتوا عن العدو أمَدَهم، فإنه يسكتهم، حتى يرى الفرصة سانحةً للقيام بأمر الله وأداء الواجب الذي فرض الله، فيقوم بذلك على وجهه.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #258
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الجهاد)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (258)

    صـــــ(1) إلى صــ(21)





    شرح زاد المستقنع -** كتاب الجهاد [3]
    الغنائم ثمرة من ثمار الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهي خصيصة من خصائص هذه الأمة، فإنها لم تحل لأحد قبلها.
    وقد جاء الشرع ببيان هذه الغنائم من حيث كيفية تقسيمها، ومن هم الذين يستحقونها، وما هي مصارفها، وما هي المخالفات التي ينبغي اجتنابها فيها، والعقوبات المترتبة على هذه المخالفات، وهكذا الحال في الأموال التي تؤخذ من المشركين كالجزية والعشر والفيء
    **أحكام الغنيمة
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال فيُخِرج الخمس] من عادة العلماء -رحمهم الله- أنهم إذا تكلموا على مسائل الجهاد، بينوا الأحكام المترتبة على الجهاد في سبيل الله عز وجل، ومن ذلك: ما يتعلق بالغنيمة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الغنيمة حقاً للغازين في سبيله، وللغنيمة جملة من الأحكام والمسائل، ولذلك يعتني العلماء بذكرها في باب الجهاد، وبينا فيما تقدم من هم الذين يستحقون أن يقسم لهم من الغنيمة، وهم: الذين شهدوا الوقعة من المقاتلين الذين أبلوا، ويستوي في هذه الغنيمة الشجاع والجبان، على حد سواء ثم بين -رحمه الله- أن الغنيمة يخرج منها الخمس.
    فالحكم الشرعي أنه إذا انتهت الوقعة يقوم الإمام بجمع الغنائم، فيأمر المكلفين بجمعها وحيازتها، فإذا حيزت وضمت وجمعت قام أولاً بدفع تكاليف حمل الغنيمة وجمعها وما يلزم من حفظها وحراستها ورعايتها، إلى غير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها لحفظ هذه الغنائم.
    الأمر الثاني: أن يقوم بعد ذلك بإعطاء الأسلاب والأنفال، وقد بينا أحكام الأنفال وقلنا: تعطي الأسلاب لمن قتل قتيلاً وله علامته، ثم بعد ذلك يقوم الإمام بإعطاء الأنفال، فيعطي بالشرط، كأن يقول: من فعل كذا أعطيه كذا، ويعطي أيضاً من باب التشجيع، ويعطي أيضاً تنفيل السرايا
    **متى تملك الغنيمة
    قال رحمه الله: [وتُمْلَك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب] (وتُمْلك الغنيمة): بالجهاد في سبيل الله.
    (بالاستيلاء عليها في دار الحرب) وهذه مسألة خلافية: إذا غنم المسلمون في الجهاد في سبيل الله، فهل يشترط في قسمة الغنيمة حيازتها، أم أن الغنيمة تقسم في أرض العدو؟ وجهان للعلماء: فالجمهور على جواز قسمتها بأرض العدو، والحنفية على أنه لا بد من حيازتها، والصحيح مذهب الجمهور لثبوت السنة به
    **المستحقون للغنيمة
    قال رحمه الله: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال] (وهي) أي: الغنيمة.
    (لمن شهد): (اللام) للاختصاص، أو للمِلْك؛ ولكن الظاهر أنها للاختصاص، أي: وهي مختصة بمن شهد الوقعة.
    (لمن شهد الوقعة): أي: شَهِد القتال، وهذا له أصل في السنة، حيث دلت عليه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تُكُلِّم في بعضها.
    وعلى هذا: فإنه لا يستحق من الغنيمة المريض الذي تخلَّف ولم يشهد الوقعة، حتى ولو كان تخلفُه لمرضٍ أو كِبَر سن، مع أن نيته أنه لو كان صحيحاً لغزا؛ ولكنه مرض فامتنع من الغزو، فإنه لا يستحق، ووجود عُذْر لا يوجب أخذه للغنيمة، ولذلك يقول العلماء: مِن المواطن التي يفترق فيها أجر الآخرة والدنيا -أي: غنيمة الدنيا وأجر الآخرة- في الجهاد في سبيل الله: هذا الموطن، فإن المريض أجره في الآخرة كامل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً، ما سلكتم شِعباً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم، وشاركوكم الأجر) فهم في أجر الآخرة يشاركون الغازين؛ ولكنهم في أجر الدنيا -وهو الغنيمة- لا يأخذون منه، فالغنيمة مختصة بمن شهد الوقعة، إلا إذا كان هذا المريض له بلاء، كأن يكون خطط للمعركة، أو خطط للجهاد في سبيل الله، أو استعان به القائد، فأشار عليه برأي، فللإمام أن يكافئه وأن يدخله في الغنيمة؛ لأنه كالمجاهد، إذ برأيه وبمشورته كان له هذا البلاء.
    وكذلك النساء لا يأخذن من الغنيمة، فلا حق لهن فيها؛ وإنما يرضخ لهن، والرضخ: أن يأخذ الإمام شيئاً من الغنيمة ويعطيه لهن، إذا داوين الجرحى، وعالجن المرضى.
    كذلك أيضاً: المجنون والصبي، فإنهما لا يستحقان من الغنيمة، ولو شهدا الوقعة.
    فالمرأة، والصبي، والمجنون، هؤلاء الثلاثة لو شهدوا الوقعة فإنهم لا يأخذون سهماً من الغنيمة.
    وأما من تخلف عنها لعذر كما لو قال القائد لرجل: اذهب وانظر لي كذا وكذا، فأرسله لمهمة، وبسببها تعطل عن شهود المعركة أو شهود الوقعة، فإنه يأخذ من الغنيمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب سهماً لـ عثمان رضي الله عنه في بدر؛ لأنه تغيب لعذر وثبت عنه عليه الصلاة والسلام إعطاؤه الحق للغائب بعذر، فقال العلماء: إن مَن تخلف بعذر من الإمام، كأن يرسله عيناً يتحسس الأخبار، أو يرسله لكي يحضر زاداً، أو يحضر عتاداً، أو يحضر الذخيرة، أو نحو ذلك مما يستعان به على الجهاد في سبيل الله، فهؤلاء في حكم من شهد الوقعة، ويأخذون من الغنيمة، فيعتبرون مستثنَون من الاختصاص في قوله: (لمن شهد الوقعة).
    اختصاراً: لا يعطى من الغنيمة: - النساء على أن لهن سهماً معيناً، وإنما يُعْطَين رضخاً.
    - ولا يعطى منها الصبيان.
    - ولا يعطى منها المجانين.

    - ولا يعطى منها كذلك المرضى، إلا مَن أرسل في حاجة لمصلحة الجهاد والقتال، أو في مصلحة الجيش، أو كان مريضاً وكان هناك نفعٌ من رأيه ومشورته، فهؤلاء لهم حق بالصفة التي ذكرنا
    **الخمس ومن يستحقه
    ثم بعد أن ينتهي من هذه الأمور، يقسم الغنيمة إلى خمسة أقسام، أو خمسة أجزاء متساوية، وهذا ما يسمى (بالتخميس) والخمس هو الواحد من الخمسة، وأول ما يبدأ به هو أن يحوز الخمس الذي لله ولرسوله ولليتامى والمساكين وابن السبيل ولذي القربى، فلو فرضنا أن الغنيمة بلغت مليوناً، فإن خمسها يساوي مائتي ألف، وتبقى ثمانمائة ألف، وهذه هي حظ المجاهدين، وهذا في المنقولات، أي: الحق المنقول؛ لأن الغنيمة في الغزو تنقسم إلى قسمين: إما عقار، وإما منقول، فالمنقول هو الذي نتكلم فيه الآن، أما العقار فسيأتي حكمه، فيقوم بضم الخمس ويقسمه كالآتي: 1 - الخمس الذي لله وللرسول: والمراد بالخمس الذي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: أن يوضع في مصالح المسلمين، وتهيئة المجاهدين في سبيل الله عز وجل، ويصرف في مصالحهم في الطرقات والأطعمة والمستشفيات، ونحوها مما يحتاج إليه من مصالح المسلمين العامة.
    2 - ثم الخمس الثاني: لذي القربى، وهم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فيشمل ذلك بني هاشم وبني المطلب على التفصيل الذي بيناه في كتاب الزكاة، وقد بينا فروعهم وأصولهم ومَن الذين يستحقون الخمس، وهم الذين لا يأخذون من الزكاة، وفصلنا هذه الأحكام في موضعها، وذكرنا نصوص الكتاب والسنة التي تدل على هذه المسائل.
    3 - وخمس لليتامى.
    4 - وخمسٌ للمساكين.
    5 - وخمسٌ لابن السبيل.
    وقد بينا هذه الأصناف كلها في كتاب الزكاة، فبينا مَن هم الفقراء؟ ومَن هم المساكين، ومَن هو ابن السبيل، وبيَّنَّا ضوابط كلٍّ، فيعطى هذا الخمس للأصناف التي نص الكتاب على قسمتها عليهم.
    وفي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]: اختلف العلماء في قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]: قيل: إن قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، المراد به: الاستفتاح، فالله عز وجل مالك كل شيء، وإنما استفتح الله عز وجل بنفسه تشريفاً وتكريماً.
    وقيل: إن المراد بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]: هو السهم الواحد، الذي هو خمس الخمس.
    (وَلِذِي الْقُرْبَى) وهم آل البيت.
    (وَالْيَتَامَى) اليتيم هو: الذي فقد أباه وهو دون سن البلوغ، أما إذا فَقَدَ أباه بعد البلوغ فلا يسمى يتيماً، ويُعطى هؤلاء اليتامى على تفصيلٍِ عند العلماء: بعض العلماء يقول: يستوي في ذلك غنيهم وفقيرهم.
    ومنهم من يقول: يختص بفقراء اليتامى، فيشترط في اليتيم: - أن يكون دون البلوغ حين يفقد أباه.
    - وأن يكون محتاجاً، أي: فقيراً أو مسكيناً.
    وَالْمَسَاكِينِ ) وقد بينا أن المسكين هو الذي لا يجد تمام كفايته، وأن الفقير أشد منه حالاً، وعلى هذا يمكن صرف هذا السهم للفقراء؛ لأنه إذا أعطي المسكين فمن باب أولى الفقير؛ لأن الفقير فيه وصف المسكنة، ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يحييه مسكيناً، واستعاذ بالله من الفقر؛ لأن الفقر أشد من المسكنة، فيمكن أن تصف الإنسان بكونه مسكيناً مع أنه يملك، كما قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79].
    (وَابْنِ السَّبِيلِ) ابن السبيل: هو المسافر المنقطع، واختلف العلماء في ضابطه -كما بيناه في باب الزكاة- هل يشترط أن يكون معدِماً في سفره وفي بلده، أم أنه يُعطى ولو كان غنياً في بلده؟ ذكرنا هذين الوجهين
    **كيفية توزيع الغنائم على المقاتلين
    بعد هذا يقوم الإمام بصرف الأربعة الأخماس وتوزيعها على المجاهدين أو المقاتلين، وهذا ينبني على ما ذكره المصنف: [للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم].
    والفارس: هو الذي يقاتل على الفرس، ويكون له ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح من حديث ابن عمر وغيره (أنه أعطى الفارس ثلاثة أسهم، وأعطى الراجل سهماً واحداً) وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وقضى به عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وكذلك قال به من أئمة التابعين: محمد بن سيرين والحسن البصري، وقضى به الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، والصاحبَين، وأهل الحديث، أن للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، وأن للراجل سهماً واحداً؛ ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: إنه يكون له سهمان: سهم له، وسهم لفرسه، واحتج بحديث ضعيف.
    والصحيح: مذهب الجمهور؛ لدلالة السنة عليه.
    فإذا قلنا: للراجل سهم، ولكل فارس ثلاثة أسهم، فمن ناحيةٍ عقلية لا يخلو الجيش من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون جميعهم فرساناً، فحينئذ تكون القسمة قسمة الفرسان، بمعنى أن تحسب عدد رءوس المقاتلين، فلو فرضنا أنهم ألف، فتضربهم في ثلاثة، فحينئذ يكون المجموع ثلاثة آلاف، فلو أن الغنيمة تسعمائة ألف، فمعنى ذلك أنك تقسمها على ثلاثة آلاف، فيكون كل سهم تسعمائة ريال، فتعطي كل واحد منهم ثلاثة أضعافها، فتضرب التسعمائة في ثلاثة، فيصير المجموع (3×900=2700)، فتصبح ألفين وسبعمائة لكل واحد منهم.
    وهذا القسم ثابت دلت عليه السنة.
    الحالة الثانية: العكس؛ أن يكون جميعهم من الرجَّالة، وهذه غالباً ما تقع في الدفاع عن الحصون، فإذا كانوا رجَّالةً وقاتلوا فإن الغنيمة تقسم على عدد الرءوس، فلو فرضنا أن الغنيمة بلغت مليوناً، وهم ألف مقاتل، فمعنى ذلك أن سهم كل واحد منهم يكون ألفاً.
    الحالة الثالثة: أن يكون فيهم من يقاتل على فرسه وفيهم من يقاتل راجلاً، ففي هذه الحالة يحسب عدد الرجالة ويُحسب عدد الفرسان، ثم تضرب عدد الفرسان في ثلاثة، فلو كانوا ألفاً نصفهم رجَّالة ونصفهم فرسان، فمعنى ذلك أن الفرسان خمسمائة، فتضرب الخمسمائة في ثلاثة؛ فيصبح المجموع ألفاً وخمسمائة، ثم تضيف عدد الرجَّالة فيصبح المجموع ألفين، فتقسم الغنيمة على ألفين، والناتج من ذلك تعطي الفارس ثلاثة أضعافه، وتعطي الراجل عين الناتج، فلو فرضنا أنهم غنموا مليوناً، فالمليون تقسمها على ألفين، فيكون الناتج خمسمائة، يكون منها للفارس ألفاً وخمسمائة، ويكون للراجل خمسمائة.
    وقد ذكر العلماء هذه المسائل وبينوها في كتاب الجهاد في الكتب المطولة، والمصنف -رحمه الله- بيَّن تراكيب قسمة الغنائم لتعلقها بكتاب الجهاد كما ذكرنا.
    فالمجاهد على فرسه، إن كان الفرس له، فقال بعض العلماء: يستحق للفرس.
    فلو كان معه فرساً ثانياً؟ فبعض العلماء يرى أنه لا يعطى لأكثر من فرس.
    ومنهم من يرى أن الحد فَرَسان، فإن زاد عليهما لا يعطى، والسبب في هذا: أنه يقاتل على فرس، ويحمل متاعه وسلاحه على فرس آخر، فقالوا: إنه يعطى في حدود الفرسين، وفي هذا حديث تكلم العلماء رحمهم الله فيه، وعلى القول بثبوته فإنه يُعطى لكل إنسان في حدود الفرسَين، فإن كان عنده ثلاثة أو أربعة أفراس أو أكثر فلا يعطى عليها.
    وقوله ثم يقسم باقي الغنيمة؛ للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه) هذا يستوي فيه الشجاع والجبان، ما دام أنه حضر القتال وقاتل، وفي زماننا إذا أعطي المجاهد راتبه فإنه لا يكون له حظ من الغنيمة؛ لأن هذا يسمونه (المرتب)، فإذا رُتِّب له عطاء فهو أشبه بالإجارة، وحينئذ لا يُستَحق، وتكون الغنيمة لبيت مال المسلمين إلا ما يكون منها رضخاً أو نَفَلاً، ولذلك يقولون: يشترط ألَاّ يكون الأجناد مرتبين، فإذا كانوا مرتبين فحينئذ لا إشكال، فتكون غنيمته لبيت مال المسلمين، وتصرف في مصالحهم.
    قال رحمه الله تعالى: [ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت، ويشاركونه فيما غنم] هذا من السنة، وهو مذهب الجمهور، فجماهير العلماء رحمهم الله يقولون: إن الجيش إذا بعثت منه سرية لأمر، كأن يبعث السرية لطلب أو لنجدة من يحتاجون إلى من ينجدهم ويسعفهم، أو يجعلونها كميناً للعدو، ثم فوجئوا بالعدو أمامهم، فلم تشهد السرية الوقعة -والأصل في الغنيمة أن تكون لمن شهد الوقعة- فحينئذ تشارك السريةُ الجيشَ في الغنيمة، فكأنهم حضروا؛ لأنهم غابوا فيما يعين على الوقعة، وفيما يقصد به حماية الجيش، والعكس، فلو أن هذه السرية ذهبت وقاتلت وغنمت، فإن الغنائم توزع على الجيش جميعاً، فيشارك الجيشُ سراياه، والسرايا تشارك الجيش فيما غنم
    **الغلول وأحكامه
    قال رحمه الله: [والغال من الغنيمة يُحرق رحلُه كلُّه، إلا السلاح والمصحف وما فيه روح] الغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، وهو أشبه بالسرقة والعياذ بالله! فبعد أن بيَّن رحمه الله أحكام الغنائم؛ لأنها مترتبة على الجهاد، شرع في بيان الأخطاء التي تقع فيها، ومن ذلك الغلول، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] والغلول من كبائر الذنوب، فإنه -والعياذ بالله- ما غل عبدٌ شيئاً إلا اشتعل عليه ناراً في قبره -نسأل الله السلامة والعافية- وعذبه الله به في برزخه، وفضحه به على رءوس الأشهاد، ويأتي يوم القيامة يحمل على ظهره ما غل، ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره بعيرٌ له رغاء، فيقول: يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً)، (يا محمد!) أي: كن لي، واشفع لي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أملك لك من الله شيئاً) أي: إنني أعذرت وبينت أن هذا لا يجوز، وأن هذا خيانة لله ولرسوله ولعامة المسلمين ولأئمتهم، ولذلك يُعَد الغلول من كبائر الذنوب، ونص العلماء رحمهم الله على فسق صاحبه، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قُتِل رجل يوم خيبر، هنأه بعض الصحابة بالشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم (كلا والله! والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلَّها يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً) فهذا يدل على فظاعة أمر الغلول، نسأل الله السلامة والعافية! واستَشْكل العلماء رحمهم الله مسألةَ أن الشهيد يغفر له كل شيء، ومع ذلك تشتعل عليه الشملة؟ قيل: إنه ترجم بهذا الأخذ عن قصده للدنيا، فتكون شهادته ناقصة وفيها شبهة؛ لأنه إنسان مريض القلب، وحظه الدنيا دون الآخرة، وقال بعض العلماء: لا تعارض بين عام وخاص، فالغلول له عقوبة خاصة، ولذلك يعتبر مستثنىً من الأصل، أنه يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدين
    **إحراق رحل الغال إلا ما استثني
    قوله: (يُحرَق رحلُه كلُّه إلا السلاح والمصحف وما فيه روح) هذا الفعل يسمى بالتعزير، والغال -والعياذ بالله- له حالتان: الحالة الأولى: أن ينكشف غلوله في الدنيا، فحينئذ يعاقب بالعقوبات التالية: أولاً: يجب عليه ضمان ما غل.
    ثانياً: أنه يُحرق رحلُه.
    ثالثاً: يعزره الإمام بما يردعه ويردع غيره عن فعله.
    أما العقوبة الثانية: وهي حرق الرحل، فقد جاءت به السنة، واختُلِف في رفعِ الحديث ووقفِه، ولكن ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما أحرقا متاع الغال، وهذا يسميه العلماء: العقوبة بالمال، أو التعزير بالمال، ومن الغرامات المالية ما ورد في السنة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تحريق بيوت المتخلفين عن الصلاة، وأخذه عليه الصلاة والسلام لضعفي الزكاة ممن منعها، فهذا كله يسمى بالعقوبات المالية، وهي تفعل لمن خالف، أو فعل أمراً فيه معصية، أو فيه تعريض لنفسه أو لغيره للخطر، وهذا يراه ويختاره جمع من الأئمة، ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله، والإمام ابن القيم في الطرق الحكمية، وغيرهم من العلماء، ذكروا أن السنة ثابتة بجواز التعزير بالمال، ومنه: إحراق رحل الغال من الغنيمة؛ وهذا الإحراق من باب الترهيب والمنع للغير أن يسلك سبيله، أو يرتكب جريمته.
    (إلا السلاح والمصحف، وما فيه روح) (إلا السلاح) للحاجة إليه في الجهاد في سبيل الله، فلا يُحرق.
    (والمصحف) لأن له حرمة، فلا يحرق كتاب الله عز وجل، وبعض العلماء يجعل في حكم المصحف كتب العلم فلا تحرق؛ لأن إحراقها فيه ضرر؛ لأنه يفوت العلم الذي فيها.
    (وما فيه روح) فلا تُحرق دوابُّه، أي: ما كان في رحله من الدواب، ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان، فلا يجوز قتل الحيوان بالحرق
    **أحكام الخراج
    قال رحمه الله: (وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف، خُيِّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين) قال رحمه الله: (وإذا غنموا أرضاً).
    هذه الجملة قَصَد المصنف منها أن يبين أحكام الخراج، أي: الأراضي التي تُمْلَك بعد الجهاد في سبيل الله، وقد قلنا: إن الغنيمة تنقسم إلى قسمين: الأول: إما أن تكون منقولات، كالذهب، والفضة، والدواب، والأسلحة، والأطعمة ونحوها مما يكون في الجهاد في سبيل الله.
    النوع الثاني: العقارات، فإذا دخل المسلمون بلاد الكفار، فإنهم يغنمون أموالهم وديارهم، ولذلك أورث الله الصحابة وامتنَّ عليهم في كتابه بأنه أورثهم أموال بني قريظة وديارهم.
    فهذه الغنيمة التي غنموها وهي أراضي الكفار، تحتاج إلى نظر، فإن المسلمين قد قاتلوا العدو فاستحقوا هذه الأرض، فيرد

    **السؤال
    هل نقسم هذه الأرض بين المجاهدين في سبيل الله الذين شهدوا الوقعة فقط، مثلما نقسم الأموال العينية؟ أم أن هذه الأرض تبقى وتُسْتَصْلح ويقام عليها العدو من أجل أن يعمرها ويقوم عليها من باب الإجارة، فهل يجوز أن نبقيها في يده، ثم نأخذ مصالحها، ونضعها في بيت مال المسلمين؟ هذا هو الذي يبحثه العلماء في مسائل الخراج، والأرض الخراجية
    **أقسام الخراج
    قال رحمه الله: [وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف، خُيِّر الإمام] قوله: (خُيِّر الإمام) التخيير: النظر في خيري الأمرين، أن ينظر الإنسان في الشيء طلباً لخيري الأمرين فيه، والتخيير للإمام، أي: أن الإمام والقائد ينظر المصلحة، فإن كانت المصلحة أن يبقي الكفار في هذه الأرض لكي يستصلحوها ويزرعوها، ويكون نتاجها للمسلمين، ويعطيهم أجرتهم، فعل ذلك، وحينئذ تكون الأرض خراجية بالمقاسمة؛ لأن الخراج ينقسم إلى قسمين: النوع الأول: خراج المقاسمة وهو أن يقول لهم: ابقوا في هذه الأرض، وازرعوها، وقوموا عليها؛ لأنهم قد يكونون أعلم بمصلحة هذه الأرض، فيزرعونها ويقومون عليها، على أن لهم النصف وللمسلمين النصف، والأصل في هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر بشطر مما يخرج من أرضها) وهو أشبه بالمساقاة، ولذلك بعض العلماء يعتبره أصلاً في المساقاة، ويُعْتَبر أيضاً إجارةً، ويعتبر خراجاً بالمقاسمة، فتُقسم الأرض أي: نتاج الأرض، أما الأرض بذاتها فتصبح ملكاً للمسلمين، فحينئذ ما ينتج منها يقسم نصفين، نصفها لهم ونصفها للمسلمين، وهذا هو الذي كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر، وقد أخبرهم كما في كتاب العقد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يبقيهم فيها ما شاء الله، فلما جاء عمر أجلاهم عنها رضي الله عنه وأرضاه، فدل على أن الأرض ملك لبيت مال المسلمين، ففي هذه الحالة تكون الأرض ملكاً لبيت مال المسلمين، ويُبقي الإمامُ الكفارَ يعملون فيها لمصلحة بيت مال المسلمين، ويأخذون أجرة ما يقومون به من عمل، وهذا يحتاج إلى الرجوع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم في كل سنة يبعث إليهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، من أجل أن يخرص نخل خيبر، وينظر كم فيه، ثم يفرض عليهم النصف، فيأخذه إلى بيت مال المسلمين، وهذا هو الذي يسميه العلماء رحمهم الله: خراج المقاسمة.
    النوع الثاني: خراج الوظيفة: وهو أن يقال له: تبقى الأرضُ بيدِك وكلُّ جريد منها، أو كل هكتار، أو فدان، أو كل مساحة معينة عليك فيها -مثلاً- ألف درهم، أو ألف ريال، أو عشرة آلاف ريال كل سنة، فهذا يسمى الخراج الوظيفي، وله ضوابط، وأصول، وله مباحث طويلة، تكلم العلماء رحمة الله عليهم عنها في كتب المطولات، وقد ألف الإمام القاضي أبو يوسف رحمه الله كتابه المشهور: الخراج، وتكلم عليه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه النفيس: الأموال، وكذلك ابن زنجويه في كتابه النفيس أيضاً: الأموال.
    وهذه ضوابط ترجع إلى تراكيب مالية تُعرَف في بيت مال المسلمين، فيُعطى فيها قدر معين يُرجع فيه إلى أهل الخبرة، فهم الذين يحددون هذا القدر، ويكون القدر سنوياً.
    لكن الخراج الوظيفي وخراج المقاسمة مرتب على مسألة بقاء الأرض دون قسمة
    يتبع




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #259
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الجهاد)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (259)

    صـــــ(1) إلى صــ(21)




    **تخيير الإمام في الأصلح في شأن الخراج
    فإذاً: يقول المصنف رحمه الله: [خُيِّر الإمام] أي: ينظر الإمامُ الأصلحَ، هل المصلحة أن تبقى خراجية، ويؤخذ منها الخراج لبيت مال المسلمين، كما حدث مِن فعل عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك عثمان رضي الله عنه في الفتوحات، فكان هناك ما يسمى بالأرض الخراجية؛ والسبب في هذا الخراج أو الأصل فيه: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما فتح المشرق، ودخل المسلمون بلاد فارس وتوغلوا فيها، كان رأي عمر رضي الله عنه وأرضاه أن يُبقي الأرضَ لكي ينتفع بها المسلمون في عصرهم ومن يأتي بعدهم، فترك أراضي الحيرة في العراق، وكذلك أراضي فارس، فأبقاها لأجل مصلحة بيت مال المسلمين، حتى يبقى لبيت مال المسلمين خراج، يُدَرُّ عليه سنوياً، فيستقر بيت مال المسلمين، فهذا قضاء عمر بن الخطاب، وقد اختلف هو وبلال وعبد الرحمن بن عوف، وكان رضي الله عنه يقول: (اللهم أعني على بلال)، والسبب في هذا أنه كان بعيد النظر، فقد تأوَّل آية الحشر في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] فإن هذه الآية جاءت بعد آية الفيء: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر:7] فهذه الآية: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] يقول: إن الخَلَف الذين يأتون من بعدُ يترحمون على مَن قبلهم بما تركوا لهم من الخير في الجهاد في سبيل الله، فكان هذا من فقهه رضي الله عنه، فقضى بذلك، واستقر عليه العمل، ووافقه الصحابة بعد، ورجع بلال وعبد الرحمن إلى قوله.
    لأن بلالاً وعبد الرحمن لما فُتِحت العراق، وفارس، كانا يقولان: (اقسم على الجند أرضهم)، فامتنع عمر رضي الله عنه وأرضاه وأبقاها خراجية، فبقي حكم الخراج سنة عمرية، ومضت على ذلك جماعة المسلمين، فأصبح أصلاً عند العلماء رحمهم الله: أن الأرض يُرجَع فيها إلى نظر الإمام، فإن نظر أن من المصلحة أن تقسم قسمها، وإن رأى أن من المصلحة أن تبقى خراجية، أبقاها خراجية.
    وقد فعل عمر رضي الله عنه كلا الأمرين في فتحه بالمشرق، فإنه اختط الكوفة، وقسمها بين المجاهدين، والسبب في هذا: أنه ما كان يريد مخالطة المجاهدين للناس الذين كانوا بالعراق خشية أن تفسد أخلاقهم، فهذا يسمى بالإقطاع، وله أصل في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قسمها وأخذ كل مجاهد -مثلاً- قطعة من الأرض فباعها أو تصرف بها فهي ملك له، كما أنه إذا ملك الماء إن شاء انتفع به لنفسه، وإن شاء باعه على الغير.
    (خُيِّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين) (بين قسمها) أي: على الجند وعلى مَن شهد الوقعة، بالطريقة التي ذكرناها.
    وبين (وقفها على المسلمين) أي: تبقى وقفاً لمصلحة بيت مال المسلمين، فتبقى خراجية إلى الأبد.
    (ويضْرب عليها خراجاً مستمراً، يؤخذ ممن هي بيده) هذا على ما ذكرناه، ولذلك ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنَعَت الشام مُدَّها، ومَنَعَت العراق قفيزَها) وهذا يعتبره العلماء أصلاً في الخراج الذي يؤخذ على الأرض؛ لأن المراد بالمُدِّ والقفيز، الإشارة إلى الفتوحات، وما يكون منها من خراج، فلما قال: (وعدتم مِن حيث بدأتم، وعدتم مِن حيث بدأتم) أي: أنه في آخر الزمان ينقطع هذا الأمر، وقد كان ما كان، وهو من معجزاته -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
    قال رحمه الله: [والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام] أي: كم يكون مقدار الخراج والجزية؟ وهذه مباحث ومسائل وأحكام تكلم العلماء عليها في كتب الخراج، وكتب الأموال، وهي تتعلق بمصلحة بيت مال المسلمين، ولا يمكن للإمام أن يقدم على مثل هذه الأمور إلا بالرجوع إلى أهل الخبرة، فإن كانت الأرض زراعية سأل عنها أهل الزراعة، وإن كانت الأرض تعمَّر أو يستفاد من عمرانها رجع إلى أهل المعرفة بذلك وهكذا.
    وكذلك الجزية: وهي الفريضة التي تفرض على أهل الكتاب إذا أبقاهم المسلمون في ديارهم، وسيأتي إن شاء الله بيان عقد الجزية وأحكامه ومسائله، والجزية تفرض بضوابط معينة على أشخاص معينين، من أهل الكتاب ومن في حكمهم، ويكون مقدار هذه الجزية راجعاً إلى نظر الإمام، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وهناك حد أعلى، وحد أوسط، وحد أدنى للجزية، مثلاً: لو فرضنا أن الحد الأعلى: ثمانية وأربعون ريالاً، فيكون الحد الأوسط: أربعةً وعشرين، ويكون الحد الأدنى: اثني عشر، فعلى هذا التقدير ينظر الإمام في حال الإنسان، فإن كان من أعلى الناس فرض عليه: ثمانية وأربعين، وإن كان من أوسطهم فرض عليه أربعة وعشرين، وإن كان من أدناهم فرض عليه اثني عشر، على تفصيل سيأتي إن شاء الله بيانه في كتاب الجزية
    **حكم من عجز عن عمارة أرضه الخراجية
    قال رحمه الله: [ومن عجز عن عمارة أرضه أُجْبِر على إجارتها، أو رفع يده عنها] قال رحمه الله: (ومن عجز عن عمارة أرضه): إذا كانت الأرض خراجية فمعنى ذلك أن المطلوب تحصيل المصلحة منها لبيت مال المسلمين، وهذا يسميه العلماء: موارد بيت مال المسلمين، فلا بد أن تبقى موارد بيت مال المسلمين ثابتة، حتى يمكن الصرف من هذه الأموال على مصالح المسلمين، فهذه الموارد ينبغي أن يحافظ على بقائها، فإذا كان الذي أخذ الأرض الخراجية لا يستطيع أن يقوم عليها، لعجز، أو لكِبَر سن، أو لمرض، أو نحو ذلك، فيُجبَر على إجارتها لمن يعمرها، أو تنقل وتؤخذ منه إلى غيره ممن يقوم على استصلاحها ونفع المسلمين منها.
    (أُجْبِر على إجارتها) الإجارة: عقد على منفعة بعوض.
    والعقود المالية تكون أحياناً على الذات وأحياناً على المنافع.
    فأنت إذا جئت إلى رجل وقلت له: بعني هذه الدار أو هذه العمارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فإذا أخذ العشرة آلاف، فمعنى ذلك أنك تملك عين الدار التي هي العمارة، وعين الأرض، وتستطيع أن تسكن فيها، فالدار ومنافعها ملك لك، فإن شئت أن تنتفع بها في السكنى سكنت، وإن شئت أن تنتفع بأجرتها أجَّرتها على الغير وأخذت الأجرة، وإن شئت أن تهدمها فلا أحد يمنعك؛ لأنها ملكك، فقد ملكتَ العين والمنفعة.
    في الحالة الثانية: أن تقول: أجرني هذه الدار شهراً بألف، فمعنى ذلك أنك تملك المنفعة فقط وهي: السكنى فيها، فلا تستطيع أن تهدم هذه الدار، ولا أن تبيعها للغير، ولا أن تهبها، ولا أن تتصدق بها؛ لأن الذي تملكه هو السكنى فيها فقط.
    فالإجارة هي المنفعة، فمعنى ذلك: أن الأرض الخراجية ملك لبيت مال المسلمين، لكن منفعتها من زراعتها وحراثتها والقيام عليها وما يكون منها من نتاج هذا هو الذي يستأجر، وإجارة الأرض للزرع فيها خلاف بين العلماء، وجماهير العلماء على جواز ذلك خلافاً للظاهرية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأن ما كان بشيء معلوم فلا بأس) أي: في إجارة الأرض، فدل هذا على مشروعية إجارتها للزراعة مثل مسألتنا، لكن يشترط في إجارة الأرض للزراعة أن يكون فيها ماء؛ لأنه إذا استأجرها للزراعة ولا ماء فيها، فهذا من إجارة الغرر، وحينئذ لا يصح، إلا إذا كان يجلب الماء إليها، كأن يحمل الماء إليها، أو يجريه بقنطرة، أو غير ذلك.
    فالمقصود: أن الإجارة تكون على الأرض الخراجية، أي: أن يترك الغير ينتفع بها لأجل مصلحة بيت مال المسلمين كما ذكرنا.
    (أُجْبِر على إجارتها أو رفع يده عنها) (أو رفع يده عنها) حتى تعطى للغير ويقوم باستصلاحها ونفع المسلمين منها.
    (ويجري فيها الميراث) فإذا كانت هذه الأرض خراجية، وقام عليها إنسان ثم توفي، وجاء ورثته وقالوا: نريد هذه الأرض لنقوم عليها مثلما كان أبونا يقوم عليها، وندفع ما كان يدفع، فإنهم يرثونها وينزلون منزلة أبيهم؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله

    **الأموال التي تؤخذ من المشركين لبيت مال المسلمين

    قال رحمه الله: [وما أخذ من مال مشركٍ كجزيةٍ وخراجٍ وعُشْرٍ وما تركوه فزعاً وخمس خمس الغنيمة ففيء يصرف في مصالح المسلمين] قال رحمه الله: (وما أخذ من مال مشركٍ) يريد المصنف أن يبين حكم الأموال التي تؤخذ في الجزية، وفي العشور والضرائب، وتؤخذ من الحربي ونحوهم، فهذه الأموال لمن تكون؟ فبعد أن بين أحكام الغنيمة وأحكام الخراج -وهذا مسلك الفقهاء رحمهم الله، أنهم يذكرون المسائل المشابهة في أماكن المناسبة- وأن الغنيمة فيها الخمس يرد إلى بيت مال المسلمين، وكذلك الفيء، إذا لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فإنه يرد إلى بيت مال المسلمين، فيرد

    **السؤال
    كيف يكون حكم هذا المال؟ فقال: (وما أخذ من مال مشركٍ) بعض العلماء يقول: يُمْلَك مالُ الحربي بمجرد أخذه، وهذا يميل إليه طائفة من العلماء من أصحاب الإمام أبي حنيفة وغيرهم، وقال بعض العلماء: بل إنه يكون لبيت مال المسلمين، وبيت مال المسلمين تكون مصارفه مصارف الفيء، بمعنى: أنه يصرف في مصالح المسلمين، وهذا هو الذي عبر عنه المؤلف بقوله: (يصرف في مصالح المسلمين): المصالح: جمع مصلحة، مثل: بناء المساجد، وبناء القناطر للشرب، وإجراء المياه، وبناء المستشفيات للعلاج، ونحو ذلك من المصالح العامة بحسب ما يراه ولي الأمر مصلحة المسلمين.
    فهذه الأموال التي لا يعرف أصحابها، كأموال الغُيَّب، تُدْخَل إلى بيت مال المسلمين وتُصْرَف في عموم مصالح المسلمين، وهذا يعتبره العلماء رحمهم الله حينما يكون المال لغائب مسلم لا يعرف، فإنه يدخل إلى بيت المال، فكأن المسلمين كلهم لهم حق في ماله؛ لأن أخوة الإسلام نُزِّلت منزلة أخوة النسب، لأننا لا نعرف من صاحب هذا المال حتى نعطيه لقرابته، فحينئذ يشترك المسلمون في هذا المال، ويصرف في مصالحهم العامة.
    ففي بيت مال المسلمين ما يسمى بالموارد، وفيه ما يسمى بالمصارف، ويذكر العلماء في كتاب الجهاد، في باب الغنائم المسألتين: موارد بيت المال.
    ومصارف بيت المال.
    فهذا من باب ذكر الشيء عند مناسبته.
    فيبين رحمه الله مصارف الخمس (خمس الخمس الذي ذكرناه)، ومصارف العشور -العشور سيأتي بيانها- ومصارف الجزية، ومصارف أموال الغُيَّب التي لا يعرف مَن أصحابها، وبين أن كل هذا يصرف في مصالح المسلمين العامة.
    (وما أخذ من مال مشركٍ كجزية وخراج)
    **الجزية
    (كجزية) الجزية: هي المال المقدر المفروض على الكافر إذا أقر في بلده على دينه من أجل حمايته، بقدر معين يحدده ولي الأمر، شريطة أن يكون من أهل الكتاب، وتكون مفروضة عليه في السنة، أي: الحول، ومن العلماء من يقول: تؤخذ منه مسبقاً، أي: في بداية الحول، ومنهم من يقول: تؤخذ عند تمام السنة، وهذا مذهب الجمهور: أنها تؤخذ بعد استكمال السنة، وهو أقوم.
    والجزية تفرض إذا دخل المسلمون إلى بلاد الكفار أو أرادوا غزو الكفار فيخيرون بين: أولاً: الإسلام، أي: أن يسلموا، فيكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
    ثانياً: أن يعطوا الجزية، فإذا قالوا: نعطي الجزية، فهذا له شروط وضوابط منها: أن يكونوا من أهل الكتاب؛ لأن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الدين السماوي، فلو كانوا مشركين أو وثنيين لا دين لهم، فلا تفرض عليهم الجزية؛ لأنه أشبه بإقرار الشرك؛ بخلاف أهل الكتاب فإن فيهم شبهة من وجود الدين، وهذا من رفق الله سبحانه وتعالى بعباده ولطفه بهم، ففرَّق بين أهل الكتاب وبين المشركين والوثنيين.
    فإذا أخذت الجزية إلى بيت مال المسلمين، فقد بين المصنف أنها تصرف في مصارف المسلمين العامة، كما ذكرنا
    **الخراج والعشر وما تُرك فزعاً
    (وخراج) الخراج قد ذكرناه، سواء كان خراج مقاسمة أو كان خراج وظيفة، فإذا أخذ هذا الخراج فإنه يقسم أو يصرف في مصارف المسلمين العامة.
    (وعشر) العشر هو الواحد من العشرة، والعشر يؤخذ من الكفار إذا تاجروا في بلاد المسلمين، إذا كانوا حربيين، فإن الكفار ينقسمون إلى أقسام: النوع الأول: الحربيون، أي: بيننا وبينهم حرب، فهؤلاء يسمون عند العلماء بالكفار الحربيين، حتى ولو كانوا في هدنة مع المسلمين، فحكمهم حكم الحربيين على تفصيل في مسائلهم.
    النوع الثاني: الذميون، وهم الذين لهم ذمة من أهل الكتاب ممن تؤخذ عليهم الجزية، فهؤلاء لهم حكم خاص.
    النوع الثالث: المستأمَن، وهو الكافر الحربي الذي يدخل بلاد المسلمين بالأمان، من أجل أن يتاجر أو من أجل إبرام عقد أو لمصلحة معينة، عامة أو خاصة، فيؤمِّنه ولي الأمر أو يؤمِّنه أي مسلم، فالأمان يكون من أي مسلم ممن هو أهل كما سيأتي، ويأخذ حكم أمان المسلمين كلهم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) ولذلك لما جاءت أم هانئ في فتح مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره بثوب، وذلك حين أراد علي أن يقتل رجلاً من بني عمها، وكان من عادة العرب أنه إذا دخل المستجير إلى بيت إنسان فإنه يؤمِّنه كما يؤمِّن نفسه، وهذا من شيم الكرام، ومن علامة كمال الإنسان وفضله، أنه لا تُخْفَر له ذمة، ولكن بشرط ألا يكون مرتكباً لحدود الله عز وجل، ومرتكباً للحرمات؛ فمثل هذا -والعياذ بالله- لا يؤمَّن؛ لأن الشرع له حق عليه، فإذا أُمِّن أعين على الإثم والعدوان، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وكانوا في الجاهلية إذا دخل الرجل على الرجل ووطئ بساطه أو دخل بيته وقال: إني مستجير بك، أو مستعيذ، أو يطلب منه الأمان، فإنه لا يخفره؛ لأنه لما دخل بيته صار بمثابة الضيف، والضيف يُكرَم ولا يهان، ويعطى ولا يمنع، فكان يؤمِّنه ويكون دونه في خير أو شر، فجاء الإسلام بتهذيب هذه الأمور، إن كان في خير فخير، وإن كان في شر فشر، فإذا كان في شر كان شريكاً له في الإثم والعياذ بالله! فالمقصود: أن المستأمِن إذا دخل إلى بلاد المسلمين واستجار بمسلم فأجاره، فإنه في جوار المسلمين كلهم.
    وقد روي أنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه من الشام: أن الروم إذا دخلوا بلاد المسلمين لم يأخذوا عليهم شيئاً، وإذا دخل المسلمون بلادهم متاجرين أخذوا عليهم العشر، فأمره عمر أن يأخذ منهم العشر إذا دخلوا، وهذا ما يسمى (بالتعشير)، فهي ضريبة تؤخذ للمتاجرة في بلاد المسلمين، معاملة بالمثل، ومثل ما يسمى في زماننا: (بالجمرك) فهذا يُعتبر كالضريبة على الكافر، كما يعامَل المسلمون إذا تاجروا في بلادهم، فتكون مقابلة بالمثل، ففعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفعله بعده الخلفاء الراشدون، وأصبحت سنةً مُجْمَعاً عليها: أن الكفار إذا تاجروا في بلاد المسلمين أو كان لهم وكيل مسلم يورِّد سلعهم جاز أن يؤخذ عليهم كما يأخذون على المسلمين إذا ورَّدوا السلع إليهم، وهذا يسمى (بالتعشير) وله ضوابط معينة، وينظر فيه الإمام بضوابط المصلحة، فيفرض العشر على الحربي، ونصف العشر على الذمي، وربع العشر على المسلم إذا تاجر من بلادهم.
    (وما تركوه فزعاً): وهو الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فهذا يعتبر فيئاً، ويؤخذ إلى بيت مال المسلمين، ويصرف في مصارف المصالح العامة
    **حكم خمس خمس الغنيمة والصفي
    (وخمس خمس الغنيمة) نحن قلنا: إن الغنيمة تقسم إلى خمسة أقسام، والخمس منها يقسم أيضاً إلى خمسة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] قيل: هذا للاستفتاح، {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] هذا تقسيم، فلما قال: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] كأنه يُحال من الغنيمة، وهذا يسميه العلماء: خمس الغنيمة، وهذا يصرف في مصالح المسلمين العامة، وهو الذي عناه الله بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] فللرسول عليه الصلاة والسلام خمسه، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في الغنائم شيء يسمى (الصفي)، وكان من عادة الناس في الجاهلية أنهم إذا قاتلوا وكان لهم من يقودهم للقتال من شجعانهم، أنه يصطفي له ما شاء، ويأخذ من الأموال والنساء ما شاء عند الغنيمة، فهذا يسمى الصفي، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفي، والاصطفاء أن يأخذ من الأموال ما شاء، صلوات الله وسلامه عليه، ويضعه حيث شاء، ولذلك في غزوة بدر اختصم المسلمون في هذه الأنفال فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].
    قيل: إن سببها أنه لما انتهت وقعة بدر اختصم كبار السن وصغارهم، فالصغار قالوا: نحن الذين أبلينا، وقال الكبار نحن الذين كانت لنا حمايتكم، فهؤلاء حموا وهؤلاء قاتلوا، فكان الشباب يقولون: الغنيمة لنا، والكبار يقولون: بل لنا، نحن الذين أعناكم؛ لأن حماية الظهر في بعض الأحيان تكون أعظم من غيرها، فوقعت بينهم الخصومة فنزلت الآية.
    وقيل: إنهم انقسموا إلى قسمين: قسم منهم كان يحرس النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم منهم كان يقاتل، فكان الذين يقاتلون يقولون: الغنيمة لنا، والذين يحرسون الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون: الغنيمة لنا؛ لأن حراسة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم، فوقع بينهم الخلاف فنزلت الآية.
    وقد اختصم سعد رضي الله عنه مع رجل من الأنصار في سيف، فقال سعد: لي، وقال الأنصاري: بل لي، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ليس لك ولا له، إنما هو لله والرسول) فلما أخذه نادى سعداً، وأعطاه إياه، وقال: (هو لي وهو لك) فأعطاه إياه، وكان سعد رضي الله عنه عظيم البلاء.
    ومن الصفي: صفية بنت حيي رضي الله عنها وأرضاها، فقد اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، وأعتقها وتزوجها.
    ومن الصفي أيضاً: أمواله في فَدَك بجوار خيبر، وهي من الحصون التي اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، قال بعض العلماء: هذه الأموال التي نُصَّ على أنها للرسول ترجع إلى بيت مال المسلمين.
    فأصبح لبيت مال المسلمين الخمس {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]، وقال بعض العلماء في قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال:41]: إن المراد به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرنا- وهو الصحيح، فالله حجب عنهم الزكاة وأعطاهم حظهم من خمس الخمس، وقال بعض العلماء: بل الخمس لقرابة الإمام، ويشكل على هذا فعل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإنهم لم يصطفوا هذا الخمس لقرابتهم.
    ومنهم من قال -وهذا القول الثالث وهو الذي نريده- الخمس الذي للقربى يرد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت مال المسلمين، فيصبح لبيت مال المسلمين كم؟ خُمُسان، فيكون في بيت مال المسلمين العشر، وهذان الخمسان يصرفان في مصالح المسلمين العامة.
    يقول رحمه الله: (ففيء يصرف في مصالح المسلمين) جواب الشرط، أي: حكمه حكم الفيء، يصرف في مصالح المسلمين كبناء المساجد، وعمارة الطرق، وغير ذلك من المصالح العامة، التي ينتفع بها المسلمون

    **الأسئلة
    **سهم الفرس إذا تعاقب عليه أكثر من واحد


    **السؤال
    إذا كان الجند يتعاقبون على ركوب الفرس فكيف تقسم الغنيمة؟

    **الجواب
    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
    أما بعد: فالحكم في ذلك أن العبرة بالوقعة، فإذا كانت الوقعة شهدها آخر رجل منهم، فيكون سهم الفرس له، مثال ذلك: تعاقب على الفرس ثلاثة، والثالث منهم هو الذي قاتل عليه، فيكون السهم له، هذه صورة.
    الصورة الثانية: أن يتعاقبوا أثناء القتال، فهذه المسألة اجتهد بعض العلماء فقال: يعطى للفرس السهمان، ثم تقسم بينهم على حسب البلاء، والله تعالى أعلم
    **قياس البغال والجمال وغيرها على الفرس في سهم الغنيمة

    **السؤال
    هل تقاس البغال والجمال أو غيرها من الدواب على الأفراس، وذلك بأن تعطى سهمان؟


    **الجواب
    لا يُعطى إلا للفرس، ولا يشمل هذا ما ذكر من الحمير والبغال، والسبب في هذا: أن للفرس والخيل معنى يخصُّها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) فالقتال عليها بركة، ولذلك خُصَّت، مع أنه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كانت الإبل والبغال موجودة، ولكن الفرس فيه شيء ليس في غيره من الدواب، وكأنه مهيأ للقتال، بخلاف البغال والحمير والإبل، فالفرس يكر ويفر ويتعرض صاحبه للخطر أكثر، ولذلك عَظُم بلاؤه أكثر من غيره، ومن هنا قال: (وللفارس) فخصه بالفرس، ولا يركب الخيل ويقاتل عليه إلا الشجاع القوي الذي يحسن الكر والفر، ومن هنا اشترطوا أن تكون من الخيول العربية الأصيلة التي يكون بلاؤها أعظم، حتى يكون أقرب للسنة، وإن كان بعض العلماء خفف في هذا الشرط، وأخذ بعموم قوله: (وللفارس ثلاثة أسهم)
    **الفرق بين الغنيمة والفيء

    **السؤال
    هل الغنيمة والفيء بمعنى واحد؟


    **الجواب
    الغنيمة والفيء بينهما عموم وخصوص، فالفيء أحياناً يدخل تحت الغنيمة وأحياناً ينفرد عنها، فالفيء يكون من غير قتال، كأن يأتي المسلمون إلى موضع فيه كفار فيسمع الكفار بالمسلمين فيفرون، ويتركون أموالهم وديارهم، فهذا يعتبر من الفيء، كما وقع في جلاء بني النضير وغيرهم، بخلاف الغنيمة، فإنها لا تكون إلا من وقعة، والغالب أنها تكون بالجهاد ومقابلة العدو وقتاله، فالغنيمة هي نتاج الغزوة، وبعض العلماء يقولون: الغنيمة تشمل الفيء، فكأن الغنيمة أعم من الفيء، فإن أصل الغنيمة من الغُنْم، والغُنْم: هو أخذ الشيء بلا بدل، والغنيمة: أخذ الشيء بلا عوض، فقالوا: يشمل بهذا المعنى ما كان بقتال، وما كان بدون قتال، فهو غنيمة؛ لأنه بغير بدل.
    وعلى هذا ينفرد الفيء بحكم خاص وهو: مصارفه وأحكامه الخاصة، وتبقى الغنيمة على الأصل العام.
    لكن أيَّاً ما كان فالمعروف في كتب الفقهاء رحمهم الله أنهم يجعلون الغنيمة أصلاً عاماً لهذا كله، والفيء فرع من الغنيمة، وعلى هذا دَرَج مصطلح الجمهور رحمهم الله.
    لكن الفيء له أحكام خاصة غير أحكام الغنيمة، منها أن له مصارف الخمس التي ذكرناها، بخلاف الغنيمة فإنها تخمَّس، فللمجاهدين أربعة أخماس، والخمس الأخير هو الذي يصرف في مصارف الفيء فقط، فمن هنا يقول بعض العلماء: إن بينهما عموماً وخصوصاً من هذا الوجه
    **المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم في انتظار الصلاة: (خذلكم الرباط)

    **السؤال
    ما المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر بعض الأعمال الفاضلة فقال: (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) وهل يعادل أجر الرباط في الجهاد؟

    **الجواب
    مادة: ربط، دائماً تكون للملازَمة، ولذلك إذا ربطت الشيء وعقدته، فإن هذه العقدة يُلزَم بها الشيء ويبقى، ومنه تقول: ربطت الفرس، وربطت الدابة، فإنها تلزم هذا المكان ولا تنفك عنه.
    والرباط له معنيان: رباط عام: وهو الرباط على الطاعة.
    ورباط خاص: وهو رباط الثغر في الجهاد في سبيل الله عز وجل.
    فأما الرباط العام على طاعة الله فهو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] أي: يا من آمنتم بي وصدقتم بكتابي ورسولي صلى الله عليه وسلم (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) والمصابرة: غاية الصبر، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، غاية الصبر، (وَرَابِطُوا) أي: إذا صبرتم فابقوا على هذه الطاعة ورابطوا عليها، واجعلوا هذا دأباً لكم، فإن من صبر ظفر، وقد قرن الله عز وجل الخير بالصبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما أعطي عبد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) أي: ما أعطي عبد عطاء خيراً وأفضل من الصبر، وهذا يدل على أن الرباط على الطاعة من أعظم الأعمال، ولهذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر).
    فالصبر على الطاعة والثبات عليها لا يكون إلا لأهل الكمال ولأهل الفضل، وهذا هو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أحب الأعمال إلى الله قال: (ما كان ديمة، وإن قل) أي: ما دام عليه الإنسان، وإن كان شيئاً قليلاً.
    فالمرابطة على الطاعة من أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى.
    ولما كانت الصلاة هي أعظم الطاعات، وأجل القربات بعد توحيد الله عز وجل، فلا يحافظ عليها إلا مؤمن، ولا يتم ركوعها وسجودها وخشوعها إلا سعيد موفق في الدنيا والآخرة؛ لأن الله قرن بها الفلاح في الدنيا والآخرة، وصلاح حال العبد في دينه ودنياه وآخرته، وهي كذلك عماد الدين، والركن الثاني من أركان الإسلام، وكانت ولا زالت من أعظم ما يتمسك به الإنسان في دينه، فمن حفظها حفظه الله، فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فاعلم أن أكمل المؤمنين إيماناً من أحبها ورابط عليها، وتتفاوت مراتب الناس في صلاتهم: فمنهم من لا يصلي مع الجماعة وإنما يصلي لوحده، فهذا من أحرم الناس لأجرها.
    ومنهم من يصلي مع الجماعة؛ لكنه يأتي قبل التشهد بقليل.
    ومنهم من يصلي مع الجماعة فيدرك الركعة أو الركعتين أو الثلاث، فيدرك نصف الصلاة أو ربعها أو ثلثها، ولَمَا فاته منها خير من الدنيا وما فيها.
    ومنهم من لا يؤذن إلا وهو في المسجد.
    فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فالحفاظ عليها والصبر عليها من أعظم الرباط، فإذا ملأ الله القلب الزكي التقي النقي، وأحب صاحبه وأراد أن يوفقه في الدنيا والآخرة، جعل الآخرة أكبر همه، ومبلغ علمه، وغاية سؤله ومطلبه، فأصبح لا يفكر إلا في هذه الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يا بلال أرحنا بالصلاة) فإذا صلى -مثلاً- صلاة العصر، قال: إلى أين أخرج؟! إلى دنيا فانية، مليئة بالأمور اللاغية، فالخير لي أن أجلس، فنظر في دنياه ونظر في آخرته، فإن خرج ربما خرج إلى أمر يفوت به دينُه، وقد يخرج إلى فتنة، فقال: سأنتظر صلاة المغرب، فجلس بعد صلاة العصر ذاكراً لله، ومثنياً عليه، محباً ومؤثراً لمرضاة الله عز وجل، فإذا به قد رابط على خيرٍ مِن أحَبِّ الخيرِ وأعظمِه أجراً عند الله سبحانه وتعالى.
    فلما كان هذا النوع من الصبر على الطاعة، دخل في مسمى الرباط، فقال صلى الله عليه وسلم: (فذلكم الرباط) ثم انظر فإنه لم يقل: (ذلك) وإنما جاء بصيغة الجمع، ولم يقل: (هذا) أو: (هو الرباط) بضمير الغائب، لا.
    وإنما قال: (فذلكم) فأولاً: استخدام (ذلكم)، و (ذا) إشارةٌ إلى البعيد، وإذا أدخلت عليها الكاف، قلت: (ذاك) للبعيد، فعبر بصيغة البعيد؛ لعلو المرتبة والشرف، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] إشارة إلى علو مكانته وعظيم منزلته عند الله جل جلاله.
    فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلكم)، ثم قال: (الرباط) ما قال: (ذلكم رباط)، أو: (مِن الرباط)، إنما قال: (الرباط) و (ال) هنا تدل على الكمال، أي: أنه أكمل الرباط وأعظمه؛ لأنه في أكمل الطاعات، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وهي الصلاة.
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يلهمنا فعل الخيرات، وترك الفواحش والمنكرات.
    ونسأل الله العظيم أن يَمْنُنَ بالعافية غدوَّنا وآصالَنا، وأن يختم بالسعادة آجالَنا.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #260
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,290

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الجهاد)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (260)

    صـــــ(1) إلى صــ(22)



    شرح زاد المستقنع -** باب عقد الذمة وأحكامها [1]
    ميَّز الله سبحانه الأديان السماوية حتى بعد وقوع التحريف فيها، فكان من هذا أن أجاز عقد الذمة مع أهل الكتاب ومن أخذ حكمهم، وهذا فيه أسرار وحكم عظيمة، وهذا العقد لابد فيه من التزامات بين المسلمين وأهل الكتاب، ولابد له من أركان لا يصح إلا بها
    **أحكام عقد الذمة
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتَمَّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب عقد الذمة وأحكامها] هذه الترجمة قصد المصنف -رحمه الله- بها أن يبين جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الذمة، والأصل في ذلك أن المسلمين إذا غزوا العدو، فإنهم يخيرونهم بين ثلاث خصال: الخصلة الأولى: أن يسلموا، ويقومون بدعوتهم إلى الإسلام.
    الخصلة الثانية: أن يدفعوا الجزية، وهو الخيار الثاني، وهذا الخيار -وهو الجزية- يختص بنوع خاص من الكفار، وهم أهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس، وأما غيرهم من الوثنيين والمشركين والملحدين، فإنه لا تؤخذ منهم الجزية، وإنما يخيَّرون بخيارين: - إما الإسلام.
    - وإما القتال.
    الثالثة: إن أبوا فإنه ينتقل معهم بعد ذلك إلى الخيار الثالث وهو القتال، وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الخيارات الثلاث، وثبت ذلك أيضاً من هدي الصحابة رضوان الله عليهم، وهو ما كان يفتي به الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم وأرضاهم- أمراء الأجناد حينما بعثوهم للجهاد في سبيل الله عز وجل، وجاءت السنة مطلقة في حديث بريدة؛ ولكن قيدها القرآن في الجزية كما سيأتي.
    فلما كان الجهاد في سبيل الله عز وجل يحتاج إلى بيان الجانبين: الجانب الأول: كيف يجاهَد الكفار؟ وما هي الأمور والمسائل والأحكام المترتبة على شرعية الجهاد؟ والجانب الثاني: وهو الذي يتعلق بقبول الجزية، فإذا قبلوا دَفْع الجزية، فحينئذ تحقن دماؤهم، ويكونون أهل ذمة، على التفصيل الذي سنبينه.
    فكأن هذا الباب مرتب على الباب الذي قبله؛ لأن مَن يجاهد في سبيل الله، فإنه يحتاج إلى معرفة نوع خاص من الكفار، وهم أهل الذمة، فقال رحمه الله: [باب عقد الذمة وأحكامها]، كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بالذمة وما يترتب عليها
    **تعريف عقد الذمة
    قوله رحمه الله: (باب عقد) العقد في لغة العرب: التوثيق والإبرام، ومنه: عقد الحبل، ويطلق العقد على المحسوسات، كما تقول: عقدتُ الحبل إذا جمعتَ بين طرفيه وعقدتَه وأوثقتَه، وقد يطلق على المعنويات، فتقول: هذا عقد بيع، وينبني على الإيجاب والقبول، وقد ورد في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] والمراد به المعنوي.
    وإذا قال العلماء: عقد النكاح، عقد الإيجار، عقد الرهن، عقد الشركة، عقد المضاربة، فمرادهم بهذا اللفظ: الإيجاب والقبول على هذه الأمور، فإذا كان الإيجاب: بعتك، والقبول: قبلت واشتريت، فهو عقد بيع، وإن كان الإيجاب: أجرتك، وقال الآخر: قبلت واستأجرت، فهو عقد إجارة، وإن كان على نكاح فعقد نكاح، وهلمَّ جرَّاً.
    لكن لما قال المصنف هنا: (باب عقد الذمة) خصص عموم هذا اللفظ وبيَّن أن المراد به نوع خاص من العقود وهو عقد الذمة.
    والذمة في اللغة: الأمان والعهد، وأما في الاصطلاح: فهو أمان مخصوص، لطائفة مخصوصة، على هيئة مخصوصة، وهذا الأمان المخصوص المراد به: أن يؤمَّن من أعطي هذا العهد على نفسه وماله وأهله وعرضه، فالكافر إذا جرى بينه وبين المسلمين عقد الذمة فله ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما ثبتت بذلك الأخبار، فلا يسفك دمه، ولا ينتهك عرضه، ولا يؤخذ ماله، ويكون له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين.
    وأما قولهم: (لطائفة مخصوصة) فالمراد به: أهل الكتاب، ومن في حكمهم وهم المجوس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نسن بهم سنة أهل الكتاب، وذلك في الجزية، كما قرره الأئمة رحمهم الله.
    و (على هيئة مخصوصة) المراد بها: ضوابط عقد الذمة، وذلك بالصورة التالية: فالعقد في الأصل يستلزم جانبين: الجانب الأول: المسلمون.
    الجانب الثاني: الكفار
    **أنواع الذمة
    أما بالنسبة للمسلمين فيلي العقد عنهم إمامهم، كما سيبين لنا المصنف رحمه الله، وهذا أصل في قول جماهير العلماء: أن عقد الذمة لا يبرمه إلا الإمام؛ لأنه تتعلق به مصالح الأمة، وحينئذٍ لا يتأتى أن يقام على وجهه إلا عن طريق الإمام، أو من ينيبه؛ لكن هناك نوعان من الأمان، أو من الذمة: النوع الأول: الذمة الخاصة، وهي التي تكون لأفراد الناس، كأن يستجير مشرك أو كافر بمسلم، فيقول له: أنا في جوارك، وفي أمانك، وفي ذمتك، فإن قال له: أنت في ذمتي، فحينئذ يكون هذا الجوار والأمان خاصاً، فعلى المسلم أن يؤمنه حتى يسمع كلام الله، فإذا قبل الإسلام فالحمد لله، وإذا لم يقبل أبلغه مأمنه، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، فهذا يسمى بالذمة الخاصة، أو العهد الخاص، أو الأمان الخاص، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الكافر إذا دخل في جوار مسلم واحد فإنه في جوار المسلمين كلهم، ولا يجوز لأحد أن يتعرض له بسوء حتى يسمع كلام الله، أو يُبْلَغ مأمنه، ولذلك ثبت في الصحيح أنه لما دخل المشرك على أم هانئ وهي امرأة واستجار بها، وأراد علي قتله، انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، فقال: (من؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ، فقالت: يا رسول الله! زعم فلان أنه قاتل فلاناً، وقد أجرته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)، فدل هذا على أن ذمة المسلمين واحدة، وأن العهد إذا أخذ من مسلم لكافر، فهو عهد على جميع المسلمين لا يجوز لأحد أن ينقضه، أو ينكثه، حتى يكون الكافر على بينة.
    النوع الثاني من الذمة: الذمة العامة التي تكون مؤبدة، والفرق بينهما: أن الذمة الأولى خاصة مؤقته، أما الذمة التي نبحثها هنا فهي الذمة العامة المؤبدة، أي: التي تبقى إلى الأبد، فإذا أراد المسلمون فتح مدينة، وقالوا لأهلها: أسلموا فقالوا: لا نريد الإسلام، فقيل لهم: ادفعوا الجزية، فقالوا: ندفع الجزية وكانوا من أهل الكتاب ومن في حكمهم، فإنهم يبقون ما أبقاهم الله عز وجل، ويكون هذا العهد ذمة لهم إلى الأبد، ما لم يحدث النكث أو النقض، بالصورة التي سيبينها المصنف رحمه الله.
    فإذاً: عندنا ذمة عامة، وذمة خاصة.
    فالذمة الخاصة ينبغي حفظها ورعايتها، ولا يجوز لمسلم أن يقدم على قتل كافر في بلاد المسلمين، إذا كان قد دخل بأمان من واحد منهم، حتى قال بعض العلماء: حتى ولو دخل في أمان صبي، أو دخل في أمان امرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ).
    وعقد الذمة يكون بين المسلمين والكفار، فأما المسلمون فيعقد عنهم وليهم، أو من ينيبه، وأما الكفار فإنه يعقد عنهم أهل الحل والعقد، ومن يتولى أمورهم، فإذا جرى العقد بينهما فإن الأركان في العقد تستلزم: أولاً: العاقدان، فإذا قيل: عقد، فمعنى ذلك أن هناك عاقدين.
    ثانياً: المحل، وهو مورد العقد الذي يتعاقدان عليه، فمثلاً: البيع أركانه: البائع، والمشتري، ومحل يَرِد عليه البيع وهو السيارة مثلاً
    **ما يلتزم به المسلمون في عقد الذمة
    فعندنا محل ورد عليه عقد الذمة، وهو التزامات من الطرفين، من المسلمين التزامات، ومن الكفار التزامات، فيرد عقد الذمة على هذين الجانبين.
    فيلتزم المسلمون: أولاً: بحقن دمه، فلا يُقتَل بدون حق.
    ثانياً: بحفظ عرضه، فلا يؤذى في عرضه.
    ثالثاً: بحفظ ماله.
    رابعاً: بحفظ أهله وعياله.
    فيدخل الأولاد والذراري بالتبع لآبائهم؛ لأنهم تابعون لآبائهم في هذا الحكم، كما ثبت من فعل الصحابة رضوان الله عليهم، فإن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما كتب في الكتاب جعل الذراري تابعة للأصول، آباء وأمهات.
    ثم أيضاً يلتزم المسلمون بالدفاع عنهم، فإذا فتحت بلاد الكفار فنزلوا على حكم المسلمين بالذمة، فيجب على المسلمين نصرتهم وحفظهم، ولذلك لما نزل الروم بالشام -وكان أبو عبيدة رضي الله عنه قد فتح مع خالد أطراف الشام، وأخذ الجزية على بعضها- في معركة اليرموك، كتب أبو عبيدة إلى أمراء الأجناد، أن يردوا الجزية إلى أهلها حتى يقع النصر، فكانوا لا يلتزمون بالجزية إلا مع الالتزام بالنصرة، فيكون هذا الذمي له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، فهو يلتزم بأمور، والمسلم يلتزم بأمور، فمن هذه الأمور التي يلتزم له بها المسلم: حفظ دمه -كما قلنا- وماله، وعرضه، وأهله، وولده، وكذلك أيضاً يكون له حق النصرة، فإذا اعتدى عليه الكفار، وجب على المسلمين نصرته ومنع الكفار من أذيته، كذلك أيضاً لا يعتدي عليهم المسلمون، فهم كالمسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وهذا فيه حكم وأسرار عظيمة، ذلك أن الذمة لا يصح إعطاؤها إلا لأهل الكتاب؛ لأن لهم ديناً سماوياً، فيكون حسابهم في الآخرة، فإذا رضوا بإعطاء الجزية يكونون مستثنين؛ لأن الله نص على ذلك، فأمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب؛ لأن لهم ديناً سماوياً، فإذا بقوا بين المسلمين ورأوا تعاملهم، ورأوا دين الإسلام وسماحته، وما عليه المسلمون من التواصل والتراحم والتعاطف، أحبوا دينهم، ولربما نشأت ذراريهم وقد رأوا عزة الإسلام فيتأثرون به، حتى حفظ في البلدان التي فتحت على هذا الوجه أنه لم تمض ثلاثة أجيال إلى أربعة أجيال بالكثير إلا وقد أسلم منهم الكثير، فهذا نوع من الاستدراج للدخول في الإسلام ولو بعد حين.
    فالمقصود: أن يلتزم المسلمون بهذا، فإذا رأى الذمي أن له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، وإذا وقف في المواقف المحرجة ورأى نصرة الإسلام له أحب هذا الإسلام، فإن النفوس جُبِلت على حب من أحسن إليها، وهذا الإحسان من المسلم فيه نوع من الاستمالة لقلبه والتأليف له للإسلام، وكل هذه أسرار عظيمة، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] فهو نوع من الحكمة البالغة في إقناع الناس بهذا الإسلام؛ فهم إذا لم يسلموا عن طريق مواجهتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ربما أثر فيهم تعامل المسلمين ووقوف المسلمين معهم ونصرتهم لهم، فيكون سبباً في دخولهم في دين الإسلام، ورضاهم به
    **ما يلتزم به أهل الذمة
    الأمر الثاني: الذي يلتزم به أهل الذمة: يلتزمون بأمور كثيرة يجمعها أصلان: الأصل الأول: دفع الجزية.
    الأصل الثاني: التزام أحكام الإسلام، وعدم التعرض للإسلام أو أهله بضرر أو سوء.
    فهنا جانبان: الجانب الأول: دفع الجزية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
    وأما الجانب الثاني: فهو تعظيمهم للإسلام، فيحفظون حرمة الإسلام، ويحفظون حق الإسلام، فلا يتعرضون لسب الله، ولا لسب رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا سب الإسلام، ولا يطعنون في القرآن، ولا في السنة، ولا يستهزئون بشيء من الإسلام، ولا بالمسلمين، مع أمور أُخر هي من لوازم عقد الذمة، حتى يستقيم عيشهم تحت الإسلام في ذلة وصغار، لا في عزة وقوة واستكبار، حتى لا تكون لهم شوكة على المسلمين، فيكون الأمر محقِّقاً لخلاف ما قصده الشرع أو عناه من هذا الحكم التشريعي
    **أركان عقد الذمة
    إذاً: أركان العقد: أولاً: عاقدان.
    ثانياً: محل العقد.
    ثالثاً: ولا بد من توفره: الصيغة، أو ما يدل أو يقوم مقامها.
    فهناك صيغة اللفظ: كأن يقول ولي الأمر للكفار أو من ينوب عنهم: (عاهدناكم على كذا وكذا)، فيقول الكافر: (قبلنا)، فإذا قال: عاهدناكم، وقال الطرف الثاني: قبلنا، فقد تمت الصيغة؛ الإيجاب والقبول.
    أيضاً: قد تكون هناك أمور أخرى تدل على الرضا، مثلاً: لو أن كافراً من أهل الكتاب دخل مع أهل الذمة الذين هم تحت حكم المسلمين، فإن هذا الدخول يعتبره العلماء دلالة ضمنية على الرضا بدفع الجزية للمسلمين، فيكون عقداً ضمنياً، كذلك إذا شب الصغار، وبلغوا سن الرشد والتمييز، فحينئذٍ لا يحتاجون إلى تجديد العقد؛ لأن سكوتهم ينزَّل منزلة تجديد العقد، وهذا أصح قولي العلماء: أن من نشأ من صغارهم، وسكت على العهد الذي كان عليه كبارهم، فإن هذا يعتبر إقراراً، وينزَّل منزلة الصيغة، ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين بالصيغة التي اتُّفِق عليها بين آبائهم وبين ولي أمر المسلمين، حينما كانوا صغاراً
    **الجزية وأحكامها
    يقول رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم] في هذا الباب يحتاج المصنف عند بيانه لأحكام الذمة لجملة من المسائل منها: المسألة الأولى: أن يبين من الذين يجوز لك أن تعقد معهم عقد الذمة؟ والسبب في ذلك: أن الكفار ينقسمون إلى أقسام -سنبينها إن شاء الله- فهل كلهم يجوز أن تأخذ منهم الجزية، أم من بعضهم دون بعض؟ المسألة الثانية: من الذي له حق عقد الذمة، وهل يمكن أن يقع من أفراد المسلمين، أم أنه خاص بولي الأمر ومن ينيبه؟ المسألة الثالثة: ما هي الشروط التي ينبغي توفرها لضرب الجزية على الفرد من أفراد الكفار؟ وإذا وقع عقد الذمة العام، فهناك أمور فرعية خاصة تتعلق بهذا العام، وهي: هل نضرب الجزية على صغارهم، وكبارهم، وذراريهم، ونسائهم، وشيوخهم، وضَعَفَتهم، والمسلمين منهم، ورهبانهم، وأحبارهم، أم أن الحكم يختص ببعضهم دون بعض؟ كذلك أيضاً ما الذي يترتب على قضية أخذ الجزية منهم، من وجوب النصرة، وحقن دمائهم؟ فهذه كلها مسائل تتعلق بالعقد من حيث هو
    **شرعية أخذ الجزية
    أولاً: ما هو الدليل على شرعية عقد الذمة وأخذ الجزية؟ دل دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ذلك.
    أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فدلت هذه الآية الكريمة على مسائل: الأولى: الأمر بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وذلك لإعلاء دين الله، وكف أعداء الله، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
    الثانية: أن الله سبحانه وتعالى خص هذا بأهل الكفر، فقال: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29]، والذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر هو كافر، حتى ولو قال شخص: أنا أؤمن بالله، وأؤمن بالرسول وأؤمن بكل شيء إلا اليوم الآخر -والعياذ بالله- فلا أعتقد أن هناك يوماً آخراً، كما تقول الفلاسفة -والعياذ بالله- من ضلالاتهم: إنها أمور خيالية وليس لها حقيقة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وهذا يعتبر كفراً بإجماع المسلمين، فمن لا يؤمن باليوم الآخر فهو كافر، فخص الله ذكر اليوم الآخر زيادة في بيان كفرهم والتغليظ عليهم، ثم قال: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة:29] ثم خصص العموم فقال: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] وهذا يدل على أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، وأنها ليست بعامة لجميع الكفار، وهذا له حكمة؛ لأن أهل الكتاب لهم دين سماوي، فهم في الأصل يتفقون مع المسلمين من حيث تعظيم الله عز وجل، ووجود الله عز وجل، فبيننا وبينهم قواسم مشتركة، ولذلك قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:136] وقال: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:84]، فهناك قواسم مشتركة، والدين الذي له أصل، ليس كالدين الذي لا أصل له.
    وقول الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] قال بعض العلماء: (مِن): للتبعيض، فدل على أن المراد أن الجزية لا تؤخذ إلا من قوم خاصين، وهم أهل الكتاب، ثم قال الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] فدل على أن الجزية تُحقن بها دماؤهم؛ لأنه قال في أول الآية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] ثم قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] فدل على أنهم إذا أعطوا الجزية فلا يجوز استباحة دمائهم إلا بحق، ثم قال الله عز وجل: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وسنبين معنى الصَّغار، وما هو المقصود منه، كما سيبينه المصنف -رحمه الله- في آخر هذا الباب.
    إذاً: فهذه الآية دلت على مشروعية أخذ الجزية.
    ثانياً: السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في حديث بريدة أنه بعثه في سرية وأمره صلى الله عليه وسلم عندما ينزل بدار الكفر أن يدعوهم بدعاية الإسلام: شهادة أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله، وأمره أن يخيرهم بين الإسلام، ثم أخذ الجزية، ثم قتالهم، فدل هذا على مشروعية أخذ الجزية، والحديث في الصحيحين، ومطلقه مقيد بالقرآن، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
    ثالثاً: الإجماع وقد ثبت إجماع السلف رحمهم الله، وهو فعل الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم، أخذوا الجزية من أهل الكتاب، وذلك في فتوحات الشام وغيرها، ولم ينكر عليهم أحد، وفرضها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عن الجميع، ثم ما زال ذلك في عصور الإسلام كلها، ومن هنا أجمع المسلمون على شرعيتها من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل، فهناك خلاف في بعض المسائل، كما سنبينه إن شاء الله تعالى
    **حِكم وفوائد الجزية
    أما الحِكَم التي تستفاد من شرعية الجزية، فهناك حِكَم عظيمة: أولها: التفريق بين الكفار، وبيان حرمة الأديان السماوية دون غيرها، فإن الأديان السماوية لها أصول، ولذلك تفضل على غيرها، كما أن الله سبحانه وتعالى بيَّن ذلك في سورة الروم، فقال سبحانه وتعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:1 - 5] قال العلماء رحمهم الله: إن الله عز وجل قسم الناس في هذه الآيات الكريمات إلى حزبين، وطائفتين: طائفة لهم دين سماوي وهم الروم، قال: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2] ومعهم المسلمون في قوله آخر الآية: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] فجعل نصرة الروم من نصرة الله عز وجل لهم.
    وطائفة في ضدهم وهم طائفة المجوس، والوثنيين الذين يعبدون النار.
    فكان كفار قريش يفرحون بغلبة المجوس على أهل الكتاب وهم الروم؛ لأنهم يعبدون الأوثان، فكانوا مشتركين معهم في الوثنية، وكان المسلمون يفرحون بغلبة الروم على المجوس؛ لأنه دين سماوي، فكان هذا من باب التمييز بين الأديان.
    فجُعِل للدين الذي له أصل سماوي فرق عن الدين الذي ليس له أصل، فهناك الدهري الذي ليس له دين، وهناك الملحد الذي لا يعترف بالأديان أصلاً، وهناك الوثني الذي يقر بالله عز وجل؛ ولكن يعبد معه غيره، فيعبد وثنا أو صنماً، أو غير ذلك.
    المقصود: أن هذه النحل والملل والطوائف المشركة الوثنية ليست كالأديان التي لها أصل سماوي، فَفُرِّق بينهما.
    ثانياً: من حكم الجزية وفوائدها: أنها سبب في دخول الإسلام، فإن الكفار إذا نزل بهم المسلمون قد يكونون على جهل بشرائع الإسلام، ولا يعلمون حقيقة الإسلام، فينقسمون إلى طوائف: فمنهم من إذا ناقشته وناظرته اقتنع بالإسلام وأحبه وأسلم، فهذا تقنعه بالحجة والبرهان.
    ومنهم من لا يقتنع بالإسلام إلا إذا عاشر أهله -أهل الإسلام- ورأى الإسلام على طبيعته، وتطبيقه وواقعه، فلما يراه ويرى المسلمين على حقيقتهم يتأثر.
    وهناك من لا يرضى بالإسلام أصلاً، فحكمه أن يُجاهَد.
    فجعل الله لكل شيء قدراً، فإذا جاء المسلمون إلى أرضٍ فيها أهل كتاب، وأرادوا غزوهم، وقالوا لهم: اقبلوا بالإسلام، فقالوا: لا نقبل، فقالوا: ادفعوا الجزية، فقالوا: قبلنا، فإنهم سيعاشِرون المسلمين وسيَرَون محاسن الإسلام ومآثره وأحكامه وكيف أن الإسلام ينصفهم، فيكون هذا سبباً لإسلامهم.
    ولذلك أُثِر عن علي رضي الله عنه في القصة المشهورة التي ذكرها غير واحد من العلماء، وتروَى مسنَدَة، أنه لما أخذ اليهودي منه درعاً وقيل في بعض الروايات: أنه أخذ منه فرساً واستعاره، وكان من أهل الذمة، ثم جاء يطلبه الفرس فامتنع، وقال: بيني وبينك قاضيك الذي نصَّبته على الناس.
    فانطلق معه إلى قاضيه شريح، فقال له: هذه فرسي.
    فأنكره اليهودي.
    فقال له القاضي: بيِّنَتُك يا أمير المؤمنين.
    فعجب اليهودي، وقال: أمير المؤمنين ولا يستطيع أن يأخذ حقه مني إلا ببَيِّنة؟! فوجد سماحة الإسلام، وأن شرعه على الكبير والصغير، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
    فمن خلال التعامل يقع هؤلاء الذميون في معاملات مالية مع المسلمين، فيحتكمون إلى قضاء الإسلام، فيجدون سماحته ويجدون حسنه وما فيه، مع ما للمسلمين عليهم من فضل النصرة، فيكون سبباً في قبولهم للإسلام، ورضاهم به.
    ثالثاً: من حكم الجزية: أنها مورد من موارد بيت مال المسلمين، وهذا المورد يُصرف في مصالح المسلمين العامة، ويكون فيه نفعٌ للمسلمين عامِّهم وخاصِّهم، على ما ذكرناه في أحكام قسمة الفيء

    **عقد الذمة للمجوس

    وقوله رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس] (لا تُعْقَد) أي: لا يصح ولا يجوز أن تكون الذمة وعقد الذمة إلا للمجوس.
    والمجوس: هم طائفة من أهل الأديان يعبدون النار، ويعتقدون أن للكون إلهين -تعالى الله عما يقولون- إله الظلمة وإله النور، ويرون أن الخير منسوب إلى إله النور، وأن الشر منسوب إلى إله الظلمة، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]! وهذه النحلة، بعض العلماء يقولون: إنهم كان لهم أصل من دين سماوي، ثم رُفع كتابهم؛ ولكن هذا لم يصح، والصحيح أنهم وثنيون؛ ولكنهم أُلحقوا بأهل الكتاب، لورود السنة المخصِّصة لذلك.
    أما الدليل على جواز عقد الذمة مع المجوس: فما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أخذ الجزية من مجوس هجر)، وكذلك أيضاً ما ثبت في حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم)، فدل على أن المجوس يعامَلون معاملة أهل الكتاب، في أخذ الجزية منهم، وعلى هذا قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولم ينكره عليه أحد من الصحابة، فكان بمثابة الإجماع.
    ولذلك تؤخذ الجزية من المجوس بإجماع العلماء رحمهم الله
    **عقد الذمة لأهل الكتاب
    قال رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم].
    أهل الكتابين المراد بهم: اليهود والنصارى، ووصفوا بذلك لأن لهم كتاباً سماوياً في الأصل، قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156]، وعندما قال بعض العلماء: إن المجوس أهل كتاب، رُدَّ عليهم بهذه الآية؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ} [الأنعام:156] فدَلَّ على أن (أهل الكتاب) يختص حكمهم باليهود والنصارى، واختُلف في الصابئة، فقيل: إنه كان لهم كتاب، وهو الزبور.
    وقيل: إن شريعة يحيى كانت لهم، ويختلف العلماء فيهم، وهم على طوائف سنبينها.
    أما بالنسبة لليهود والنصارى، فهم أهل كتاب بالإجماع، ويدخل فيهم من تبعهم، (فالسامرة) يتبعون اليهود ويأخذون حكمهم، وهم يعبدون الكواكب، وللعلماء فيهم بعض التفصيل، وإن كان الصحيح أنهم يتبعون اليهود، وهو قضاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤكده أنهم يسبتون ويعظمون السبت كما تعظمه اليهود.
    كذلك أيضاً النصارى بجميع طوائفهم ومللهم، كما يوجد في زماننا: (الكاثوليك)، و (البروتستانت)، و (الأرثوذكس)، فهؤلاء كلهم يعتبرون في حكم أهل الكتاب، ويسري عليهم ما يسري على أهل الكتاب، كما نص على ذلك العلماء رحمهم الله؛ لأنهم في الأصل لهم كتابهم، سواءً كان: (إنجيل يوحنا)، أو (إنجيل برنابا)، أو (إنجيل لوقا)، أو غيرها من الأناجيل الأخرى، فكلها تعتبر من حيث الأصل على دين سماوي، ولذلك لم يفرق الصحابة رضوان الله عليهم بين طوائفهم، وإنما عاملوهم معاملة أهل الكتاب على الأصل العام الذي ذكرناه
    **حكم عقد الذمة للصابئة
    وأما بالنسبة للصابئة فقد اختلف فيهم، والصابئة ينقسمون إلى طوائف: فطائفة منهم توجد بحران، في أقصى بلاد الشام، من جهة جزيرة العرب، وهؤلاء اختلف فيهم، فبعض العلماء يقول: إنهم أهل دين سماوي حرفوا دينهم وغيروه، كاليهود والنصارى، ورُفِع كتابهم، وهذا القول هو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه؛ ولكنه لم يصح.
    وقال بعض العلماء: إنهم تابعون لليهود والنصارى، وقد روي عن ابن عباس القول: بأنهم يتبعون النصارى، وهذا القول اختاره الإمام أحمد في رواية عنه، ومنهم من قال: إنهم يعتبرون في حكم اليهود؛ لأنهم يسبتون، فقد كانت بعض طوائفهم تعظم السبت كما يعظمه اليهود، فأعطوا حكم اليهود.
    والصحيح أن الصابئة ينقسمون إلى قسمين: فقسم منهم يتبعون اليهود والنصارى -خاصة الذين هم في جهة حران- وعليه يُحمل أثر ابن عباس رضي الله عنهما.
    وأما القسم الذي يعبد الكواكب، ويعتقد في الكواكب منهم، فهذا على قسمين: قسمٌ منهم يعبد الكواكب في أزمة مخصوصة معتقداً أن المؤثر هو الله، فهذا قيل: إن استقباله للكوكب واعتقاده فيه لا يوجب كونه آخذاً حكم الوثنية؛ لأن لهم أصلاً من الدين السماوي، فقال طائفة من العلماء: إنهم يأخذون حكم أهل الكتاب من هذا الوجه؛ ولكن الصحيح أن عبدة الكواكب منهم كلهم يعتبرون في حكم الوثنيين، ولا يجوز عقد الذمة معهم.
    وهذا القسم الذي يعبد الكواكب يوجد في أطراف العراق، وهذا القسم هو الذي توعده المأمون، وكان قد نذر على نفسه إذا لم يدخلوا الإسلام أن يرجع فيقتلهم، وذلك حينما ذهب إلى الغزو، ولكنه مات قبل أن يدركهم، وهذا القسم هو الذي يعنيه طائفة من العلماء بأنهم يأخذون حكم الوثنيين.
    أما بالنسبة لبقية الطوائف فهناك الكفار الذين هم مشركون وعلى الوثنية كمن يعبد الأشجار والأحجار والنيران، وهناك من لا دين له، وهم الملحدون، الذين ليس لهم دين ولا يعبدون إلهاً، وإنما يعتقدون أن الحياة نشأت من الطبيعة ووجدت صدفة، وأن الكون هذا أوجد نفسه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
    وهكذا بالنسبة للمرتدين الذي ارتدوا عن الإسلام، فهؤلاء كلهم لا يجوز عقد الذمة معهم
    **الدليل على عقد الذمة لأهل الكتاب والمجوس فقط
    أما الدليل على تخصيص الحكم بما ذكره المصنف من أهل الكتاب والمجوس؛ فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فخصص حكم الجزية بنص الكتاب بأهل الكتاب، ثم إننا وجدنا في السنة أن: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما احتك بالمجوس ونزلوا على حكم الإسلام، قال: (ما أدري ما أصنع بهم).
    فاحتار رضي الله عنه في أمرهم، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، فـ عمر رضي الله عنه على فقهه وعلمه بالكتاب، فهم من آية القرآن تخصيص الحكم بأهل الكتاب، ولذلك لما جاء المجوس توقف فيهم واحتار فقال: (ما أدري ماذا أصنع بهم)، وكان معه الصحابة، فلم يُحْتَجَّ له بنص، وإنما قيل له: إن هؤلاء مستثنون من الأصل العام في الكفار، فدل على أن الجزية لا تؤخذ إلا من خصوص أهل الكتاب، ثم إننا إذا نظرنا إلى حكمة التشريع، فإن الله شرع الجهاد لكي يبقى التوحيد، فقال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] قال جمع من السلف: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] أي: لا يكون شرك، وأكد ذلك بقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] أي: تكون العبودية خالصة لله عز وجل، فدل على أن أصل الجهاد إنما المراد به أن يبقى دين التوحيد، فلما اصطدمت الأديان والنحل والملل في الجهاد فُرِّق بينها، فما كان أصله ديناً سماوياً، فإن أهله عندهم قابلية لقبول الدين السماوي الآخر، والتنازل عن دينهم، عندما يجدون دين الإسلام لا يجرح عيسى بن مريم، ولا يجرح كذلك موسى بن عمران، وأن المسلمين يؤمنون بعيسى بن مريم، وموسى بن عمران عليهما السلام، فهم أدعى أن يقبلوا هذا الدين؛ لكن إذا جئت إلى المشرك الوثني الذي لا يدين بدين، أو الملحد الذي لا يدين بدين، فإنه لا يقبل الإسلام، وليس عنده أصلٌ أو قاسم مشترك بينه وبين المسلمين، فكان من الحكمة أن يفرق بين هذا وهذا، وأن يعطى كل ذي حقٍ حقه، فكأننا لو قبلنا من المشرك الوثني ذلك فقد أقررناه على شركه ووثنيته؛ لكننا إذا أقررنا أهل الكتاب فإننا نقر بأصل دينهم، وهو الدين السماوي، ففُرِّق بينهم لهذه الحكمة، ولذلك لو قيل بأخذ الجزية من الوثنيين فإن هذا يعين على بقاء الوثنية، ومقصود الإسلام أن لا تبقى الوثنية.
    لكن يبقى الإشكال في أهل الكتاب وقد صار منهم مشركون؟ قيل في هذا: إن الحكم على قسمين في الكفار: حكم الدنيا.
    وحكم الآخرة.
    فحكم الدنيا بالنسبة للوثنيين: أنهم يُقْتَلون أو يُسْلِمون، تُقَاتِلُونَهُم ْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16]، وهذا هو الذي دلت عليه آيات الجهاد.
    وأما من عداهم ممن له دين سماوي، فإنه يكون حكمه في الآخرة، وأما في الدنيا فيبقى على دينه في الإسلام؛ لأن دينه له أصل سماوي، وهو أحرى إذا عاشر المسلمين أن يرى سماحة الإسلام فيقبل بدينهم، كما شهدت التجربة بذلك في عصور المسلمين، حينما عاهدوا أهل الذمة.
    فالذي يظهر: تخصيص الحكم في أهل الكتاب والمجوس؛ لأن النص خصَّهم فقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم)، قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: هذا في الجزية خاصة، أي: سنوا بهم سنة أهل الكتاب في الجزية فقط، ولذلك منع من أكل ذبائحهم، ونكاح نسائهم، ولم يبح مخالطتهم للوثنية التي فيهم، فدل على أن مقصود الإسلام أن يُفَرَّق بين الوثنية وما له أصل سماوي.
    إذاً: الذي يترجح -والعلم عند الله- أنه لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى ليس بعد نصه شيء حينما قال عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] بعد تعميمه لقتال المشركين، وأما حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه، حينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخير أثناء الجهاد، فهذا -كما لا يخفى عند الجميع- يعتبر من المطلق المحمول على المقيد، فإن آية القرآن وردت في قضية الجزية بعينها، واشترطت أن يكونوا أهل كتاب، وأما بالنسبة لحديث بريدة، فإنه مطلق، ولذلك يقيد إطلاقه بالكتاب، وكم من أحاديث مطلقة قيدها الكتاب! وكم من أحاديث عامة خصصها الكتاب! وحمل المطلق على المقيد مذهب معتبر في الأصول، ولذلك مما نرى من مقاصد الإسلام العامة أنه لا يقر المشرك على شركه، ولا يقر الوثني على وثنيته، فيُنْصَر ويُعان على ذلك، بل إنه حينما كُتِب كتاب عمر في الشروط العمرية بينه وبين أهل الكتاب، مُنعوا من ضرب الناقوس، ومن إظهار شعائر دينهم، كل ذلك حتى يكون أبلغ في قبولهم للإسلام، فكيف بالوثني الذي ليس له أصل من دين سماوي، فإنه بعيد منه أن يقبل بدين الإسلام أو يرضاه.
    [ولا يعقدها إلا إمام أو نائبه] هذه هي الجزئية الثانية: مَن له حق عقد الذمة؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه.
    وهناك قول عند الحنفية: أنه يجوز أن تعقد الذمة بالأفراد، فلو أن مسلماً تعاقد مع ذميين، وأمَّنهم بأمانهم العام، فإنه يمضي عقده.
    والصحيح مذهب الجمهور أنه لا يعقدها إلا ولي الأمر أو من يقوم مقامه
    يتبع




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •