تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 11 من 15 الأولىالأولى ... 23456789101112131415 الأخيرةالأخيرة
النتائج 201 إلى 220 من 294

الموضوع: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

  1. #201
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الصيام)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (201)

    صـــــ(1) إلى صــ(24)





    من أكل شاكاً في غروب الشمس فسد صومه
    [لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس].
    لو غابت الشمس في الغيم، وفي الأزمنة التي لم يكن فيها ساعات، أو يكون الإنسان ليست عنده ساعة، فحينئذٍ يشك هل غابت الشمس أو لم تغب؟ فالأصل واليقين: أنه في النهار، فنقول له: يحرم عليك الأكل والشرب حتى تتحقق أو يغلب على ظنك أن الليل قد أقبل وأن الشمس قد غابت.
    بناءً على ذلك: إذا أمكن أن يرجع إلى ساعة ونحوها لا يجوز له أن يفطر حتى يتحقق عن طريق الساعة.
    وإذا لم توجد ساعة فإنه يُقدر الزمان، وذلك أن يحسب فيجلس إلى فترة يغلب على ظنه أن الشمس قد غابت، والدليل على ذلك حديث الدجال : ( أنه يمكث أربعين يوماً، يوم منها كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامنا، قالوا: يا رسول الله! هذا اليوم الذي هو كسنة أتُجزينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، ولكن اقدروا قدره ) قال العلماء: فيه دليل على أن الصائم يرجع إلى التقدير إذا تعذر عليه الضبط بالحقيقة، فتقدر زماناً يغلب على ظنك أن الشمس قد غابت فيه، فإذا قدرت هذا الزمان تفطر بعده.
    فإن أفطرت فلا تخلو من حالتين: إما أن يتبين لك الأمر أو لا يتبين -مثل ما تقدم معنا في السحور- فإن لم يتبين لك شيء، وغلب على ظنك أن الشمس قد غابت فصومك صحيح؛ لأن الله تعبدنا بغلبة الظن، ولم يظهر ما يدل على بطلان الصوم وفساده.
    ثانياً: الحالة الأولى: أن يتبين لك أن تقديرك صحيح، مثلاً: لو أنك أكلت في هذه اللحظة، ثم دخل عليك رجل فسألته: كم الساعة؟ قال: الساعة السادسة، وغروب الشمس يكون عند السادسة إلا ربعاً، أو عند السادسة إلا عشرة دقائق، فما بين أكلك ودخوله عليك وإخباره لك وقت يدل على أن أكلك وشربك قد وقع بعد الغروب قطعاً، فحينئذٍ تبين لك صحة اجتهادك، فصومك صحيح.
    الحالة الثانية: أن يتبين لك أن الشمس لم تغب، وأن النهار لا زال باقياً، وأن أكلك وشربك وقع في حال النهار، فللعلماء قولان مشهوران: قال بعضهم: إنه يلزمه القضاء؛ لأنه قصر فيُلزم بعاقبة تقصيره كمسألتنا في السحور، وكذلك فيه حديث البخاري وسئل هشام بن عروة رحمة الله عليه: (أَقضوا ذلك اليوم؟ قال: ليس في القضاء شك، أو ما من القضاء بُد).
    قالوا: فهذا يدل على أنه يُلزم بالقضاء، وهذا أقوى، ولذلك قال عمر : الخطب يسير.
    أي: قضاء يوم مكانه.
    وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس لما فيه من الورع، ولما فيه من إعمال الأصل من مطالبة الصائم بالضمان بسبب تقصيره؛ لأنه قصر نوع تقصير؛ إذ لو تحرى كمال التحري لتبين له أن النهار ما زال باقياً، والقاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه).
    وتوضيح ذلك: أن الصوم حقٌ لله، وحق الله دين على المخلوق، ودلت السنة الصحيحة على هذا الأصل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحج: ( أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم.
    قال: فدين الله أحق أن يقضى ) فجعل الحج الذي هو ركن الإسلام دَيْناً، والصوم الذي هو ركن الإسلام دَينٌ على المخلوق.
    وعلى هذا: إذا كان الصوم دَيْناً وحقاً لله عز وجل، فإنك لو كنت في دين المخلوق وظننت أنك قضيته حقه، ثم تبين أنك لم توفه وأن هناك نقصاً ألزمت بكمال النقص، فحق الله أولى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( فدين الله أحق أن يقضى ).
    فإذاً: قد دلت أصول الشريعة على أنه يطالب بالقضاء؛ لأنه لم يصم اليوم على وجهه؛ ولأنه قصر، إذ لو تحرى كمال التحري لتبين له أن النهار ما زال باقياً؛ ولأنه حق لله عز وجل لا يسقط بالظن الخاطئ، فيلزمه القضاء.
    قد يقول القائل: ما فائدة الخطأ؟ نقول: خطؤه يسقط الإثم عنه، وكونه لا إثم عليه لا يسقط الضمان، كما لو قتل إنساناً خطأً، نقول: قَتْلُه بالخطأ يسقط الإثم عنه؛ لكن الضمان لهذه النفس يجب عليه.
    ومن هنا نرى أن أصول الشريعة تجعل المخطئ يُلزم بالضمان، ولذلك حتى في قتل الخطأ تلزمه الشريعة بعتق الرقبة، فإذا لم يجد صام شهرين متتابعين لمكان الإخلال؛ لأنه ما من مخطئ إلا وقد قصر نوع تقصير، وعلى هذا قوي أن يقال: إنه يطالب بقضاء ذلك اليوم، ولما فيه من براءة الذمة والقيام بحق الله عز وجل على أتم وجوهه.
    [ أو معتقداً أنه ليلٌ فبان نهاراً ].
    مثل ما ذكرنا في مسألتنا: أكل أو شرب ظاناً أن الشمس قد غابت، ثم تبين له أن الشمس لم تغب، فإنه يلزم بقضاء ذلك اليوم، خلافاً لما اختاره رحمة الله عليه بأنه لا قضاء عليه.
    الأسئلة
    حكم الإفطار لظن الغروب خطأ

    السؤال
    إذا أذن المؤذن لصلاة المغرب في رمضان خطأً، وأفطر الناس على أذانه قبل الغروب، فهل عليهم القضاء أثابكم الله؟


    الجواب
    إن المؤذنين مؤتمنون على صيام الناس، ويتحملون هذه الأمانة ويسألون عنها بين يدي الله عز وجل، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أحمد و أبي داود في السنن عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن ) .
    قالوا: فقوله: (والمؤذن مؤتمن) أي: مؤتمن على صيام الناس؛ لأنه يؤذن للإمساك ويؤذن للفطر؛ فإذا تساهل المؤذن ولم يتحر ولم يضبط الوقت بأذانه خاصة في الفجر وفي المغرب فإنه يتحمل إثم كل من أفطر بأذانه، خاصة إذا كان ذلك على سبيل الاستهتار والتلاعب، وتجده يتسحر ويأكل، ولربما خرج من بيته وقد دخل الفجر ولا يؤذن إلا بعد الوقت المعتبر بعشر دقائق أو خمس دقائق.
    فمثل هذا آثم شرعاً، خائن للأمانة التي حمله الله إياها، خاصة إذا كان معيناً ويعطى راتباً على ذلك، فإنه يعتبر ماله فيه نوع من الحرمة؛ لأنه أخل بأمانته التي كوفئ عليها، ولذلك تجتمع عليه المظالم من وجوه: منها: أنه يعرض صيام الناس للفطر، وحينئذ يكون آثماً بإثم هؤلاء الذين أفطروا على أذانه، وهم معذورون إذا كانوا لا يعلمون بالحقيقة.
    وثانياً: أنه قد ضيع هذه الأمانة وأخل بها، والمال الذي يأخذه تجاهها -خاصة إذا كان منصباً، ويعطى راتباً على ذلك- يعتبر مالاً فيه حرمة بقدر ما حصل منه من إخلال مقصود.
    وعلى هذا: فالأمر على المؤذنين شديد، فينبغي على الأئمة أن يتفقدوا مؤذني مساجدهم، وأن ينصحوا لعامة المسلمين، وأن ينتبهوا لهذا الأمر، وألا يتساهل الإمام مع مؤذنه، فإذا رأى المؤذن يقصر في مثل هذا فإنه ينصحه ويذكره، فإذا لم ينتصح ولم يذكر فإنه يجب عليه أن يرفع أمره إلى من يردعه ويمنعه عن هذا.
    وهكذا أهل الحي فإنه يحرم عليهم السكوت على المؤذنين الذين يتساهلون في مواقيت الصلاة، فإذا سكتوا على ذلك فهم شركاء لهم في الإثم، إذ لا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور؛ لأنها تضيع حقوق الله عز وجل، خاصة في نهار رمضان، بل ينبغي أخذ الأمر بالحزم والاحتياط في صيام الناس، وبذل جميع الأساليب لكي يقع الأذان في وقته المعتبر.
    وإذا كان عند المؤذن ظرف أو يخشى النوم فإنه يأمر من يوقظه، أو يعهد إلى شخص أمين إذا غاب أو تأخر يؤذن للناس، ويقيم لهم هذه الفريضة على وجهها، فهذا الأمر يعتبر أمانة في أعناق المؤذنين، وعلى الأئمة مسئولية، وعلى الجماعة الذين يصلون في هذا المسجد أو يسمعون الأذان أيضاً مسئولية ألا يسكتوا على تلاعب المؤذنين، وقد تساهل الكثير في هذا الزمان، ولقد سمعت بأذني حتى في المدينة، لربما تسمع الإنسان يؤذن قبل الحرم مع أن مسجده قريب من الحرم، وقد سمعت من يؤذن قبل الحرم بسبع دقائق، بل سمعت بأذني من أذن قبل أذان الحرم بربع ساعة! وهذا كله يدل على الاستخفاف وعدم المبالاة بحقوق الله عز وجل، وإلى الله المشتكى في ضياع هذه المسئوليات العظيمة.
    فلذلك ينبغي الحزم في مثل هذه الأمور، وعدم التساهل مع المؤذنين، وإذا كان المؤذن يتساهل في أذانه فيؤخر الأذان في السحور ويعجل الأذان في المغرب فإنه ينبغي نصحه وتوجيهه وتذكيره بالله، وتخويفه من عذاب الله، وأن هؤلاء الناس أمانة في عنقه، وأنه إذا تساهل وهو يعلم أن الوقت قد ذهب وفرط فإنه يلزم بهذا التفريط، ويحمل بين يدي الله إثم من أفطر على أذانه أو تسبب في فطره، سواء كان أذان الفجر أو كان أذان المغرب.
    أما بالنسبة للمؤذن: فالمؤذن إذا أخطأ ووقع منه الخطأ فيجب عليه أن يعلم الناس، وأن يبين لهم أنه في اليوم الفلاني أو في هذا اليوم قد أذن بعد دخول الوقت، وأن من أمسك على أذانه مباشرة أن عليه القضاء، وإذا سكت عن ذلك فإنه يتحمل مسئولية من أفطر على هذا الأذان، وقس على ذلك من المسائل؛ سواء كان في الصلاة أو غيرها، فعلى الإمام أن ينبه، فإذا أخطأ مؤذن وجب عليه أن ينبه على الأقل من في الحي، أنه يلزمهم أن يعيدوا هذا اليوم؛ لأنهم قد أفطروا، وذلك بوقوع الأكل والشرب بعد تبين الفجر، والله قد حرم الأكل والشرب.
    والله تعالى أعلم.

    الجواب عن حديث أسماء من أن الصحابة لم يؤمروا بقضاء


    السؤال
    بماذا يجيب الذين يوجبون القضاء على من أفطر ظاناً غروب الشمس على حديث أسماء رضي الله عنها، الذي جاء فيه: (أنهم أفطروا في يوم غيم ولم يؤمروا بالقضاء) أثابكم الله؟


    الجواب
    هذا يسميه العلماء (المسكوت عنه) فالحديث سكت: هل أمروا بالقضاء أو لم يؤمروا؟ لم يبين شيئاً، بعض العلماء الذين يقولون: لا قضاء، يقولون: لو أمروا بالقضاء لبين، ولو كان القضاء واجباً لأمرهم به.
    وكمسلك أصولي: الحديث مسكوت، وإذا كان مسكوتاً ترجع إلى الأصل، وهذا هو الفقه: أن النص إذا جاء يدل باللفظ الصريح قبلناه، أو فيه دلالة ظاهرة قبلناه، أما إذا كان متردداً بين الأمرين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يسكت عن القضاء للعلم به؛ لأنه إذا تبين أنهم قد أكلوا وشربوا في النهار فإنهم لم يصوموا على الوجه المعتبر، فيسكت للعلم به بداهة، وأما كونه لم ينقل إلينا، وقد يكون أمروا ولم ينقل، لكن الحديث مسكوت عنه.
    ولذلك يقول بعض العلماء: هو من رواية أسماء رضي الله عنها، والنساء قد يخفى عليهن حال الرجال، وقد يحصل في الرواية نقص، ومن هنا: يقوى القول أنه يرجع إلى الأصل، والأصل أنهم مطالبون بضمان اليوم كاملاً، والإخلال موجود، والأقوى والأحوط والأبرأ للذمة أن نأمرهم بالقضاء، ولا نستطيع أن نقول بأنه لا قضاء عليهم بأمر محتمل، فإن الأصول تقتضي أنهم مطالبون بحق الله كاملاً، وما وردت به الرخصة صريحة نرخص فيه، وما لم ترد به الرخصة صريحة واضحة فإننا نبقى على الأصل الذي يوجب القضاء.
    والله تعالى أعلم.

    الفرق بين إنزال المني بالفكر وبالنظر


    السؤال
    هل يقاس من فكر فأنزل بمن كرر النظر فأنزل، من جهة كون كل منهما لم يتعاط ما يحفظ صومه أثابكم الله؟


    الجواب
    الفكر أضعف من النظر -قال بعض العلماء هذا- والفكر تهجم فيه الخواطر أكثر من هجومها بالنظر، والفكر مما يشق التحرز عنه أكثر من النظر، ففي حال النظر يمكنه أن يغض بصره ويصرفه، ولكن الفكر يقهر الإنسان، وقد يدخل عليه فجأة والنفس ضعيفة، فإذا دهم عليها فجأة فإنها قد تسترسل معه، ومن هنا فرق بين الفكر وبين النظر.
    لكن القول بأنهما بمنزلة واحدة له وجه، وله حظه من الاستدلال كما ذكرناه، وبناءً على ذلك: فإن التفريق بينهما من جهة كونه يدهم على الإنسان هو الأقوى في نظري، ولا يبعد القول الذي قال: بأنهما بمنزلة واحدة من القوة.
    والله تعالى أعلم.

    الفرق بين الشك في طلوع الفجر أو غروب الشمس في رمضان


    السؤال
    ما الفرق بين قول المؤلف رحمه الله: (من أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه) وبين قوله: (أو معتقداً أنه ليل فبان نهاراً) أثابكم الله؟

    الجواب
    هناك فرق بين من يعتقد وبين من يشك، الشك: يستوي عندك الاحتمالان: هل طلع الفجر أو لم يطلع، هل أذن أو لم يؤذن، فأنت الآن ما عندك جزم؛ لكن إذا اعتقد أنه ليل فإنه غلب الظن أو جزم، فالفرق بين الاعتقاد وبين الشك: أن الشك استواء الاحتمالين، تقوم في جوف الليل ولا تدري هل هو ليل أو طلع الفجر فدخل النهار، فهذا يسميه العلماء (شك)، فإذا قلت: هو نهار، قلت: يحتمل أن يكون ليلاً، وإذا قلت: هو ليل، قلت: يحتمل أن يكون نهاراً، فبناءً على ذلك تكون في مرتبة كالحائر لا تدري هل هو ليل أو نهار، ولكن الاعتقاد تعتقد واحداً من الأمرين فتجزم به، وتقول: أعتقد أن الليل إلى الآن لا زال باقياً، فهذا اعتقاد وجزم، فحينئذٍ يكون أقوى من الحالة الأولى.
    فالشك: استواء الاحتمالين، فترجع إلى الأصل؛ فإن شككت في الليل هل هو باق أو لا فالأصل بقاؤه، وإن شككت في النهار هل غابت الشمس أو لم تغب، فالأصل بقاؤه، ففي الأول تأكل وفي الثاني تمسك، وهذا الفرق بينهما: أنه لا جزم في الشك، والاعتقاد فيه جزم إما على سبيل اليقين أو على سبيل الغالب.
    والله تعالى أعلم.
    حكم من تبرع بالدم في نهار رمضان

    السؤال
    من تبرع بدم في نهار رمضان لإنقاذ حياة مصاب، فهل يؤثر ذلك في صومه أثابكم الله؟


    الجواب
    التبرع بالدم بإنقاذ حياة المصاب قربة وطاعة وصدقة، وهو داخل في عموم قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة:32] وقال بعض العلماء: من تسبب في حياة نفس وكانت صالحة، وقصد أن تعان على صلاحها، كان له كأجرها بعد إنقاذها.
    وهذا فضل عظيم! فتكون حسناته من الخير والبر لك مثلها، ولذلك إنقاذ مثل هذه الأنفس التي تكون في الحوادث أو النساء في الولادة إذا حصل لهن نزيف، التبرع في مثل هذه الحالات من أجل القربات، ولا شك أن تفريج كربة المسلم من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وقد غفر الله لزانية بسبب شربة ماء لكلب، فكيف بمن أنقذ نفساً مؤمنة أو تسبب في نجاتها؟! ولا شك أنها من أجل القربات وأفضل الطاعات.
    وأما بالنسبة لهذا التبرع: فإنه لا يوجب الفطر، فلو سحب منه الدم وقويت نفسه، واستطاع أن يبقى إلى آخر النهار وهو ممسك فإن صومه صحيح، لكن بعض العلماء يقول: يعتبر مفطراً من جهة إدخال الإبرة إلى منفذ في الجسم، وهذا فيه ضعف لا يخلو من نظر، وعلى هذا: فإن الأصح أنه لا يفطر.
    والله تعالى أعلم.

    حكم من أكل مع سماع أذان الفجر في رمضان

    السؤال
    ما حكم الأكل مع سماع أذان الفجر في رمضان أثابكم الله؟


    الجواب
    من سمع الأذان لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يتحقق من أن المؤذن قد أخطأ، كأن يكون عنده معرفة بالفجر الصادق، وينظر في السماء كما يحصل في البادية والأماكن البعيدة من المدن، فيمكنك أن تنظر وتعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، فإذا كان النهار أمامك لم يطلع، فإنه يجوز لك في هذه الحالة -إذا كنت تعرف الفجر الصادق من الفجر الكاذب، وتحققت أن الفجر لم يطلع- أن تأكل وتشرب، وترجع إلى يقين نفسك، ولست مطالباً بظن غيرك.
    الحالة الثانية: أن يكون الإنسان ليس عنده وسيلة يتمكن بها من معرفة خطأ المؤذن، فيجب عليه أن يمسك بمجرد الأذان، فإذا أكل أو شرب بعد الأذان ولو بلحظة فإنه يعتبر مفطراً بنص الكتاب والسنة؛ لأن الله عز وجل يقول: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [البقرة:187] فأمرنا أن نأكل إلى التبين، فعند بداية التبين يحرم على الإنسان أن يأكل، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) وقوله: (حتى يؤذن) أي: حتى يبدأ بالأذان.
    وعليه: فإنه إذا أكل أو شرب ولو بعد الأذان بلحظة واحدة فإنه يلزم بالقضاء، وهذا هو ظاهر الكتاب والسنة.
    وأما ما ورد عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد، حتى إن بعضهم يأكل وقد تبين النهار، بل بعضهم يأكل وقد اتضح الفجر واستبان الصبح، فكل ذلك اجتهاد من الصحابة، فكان بعضهم يجتهد في قوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) ويرى أنه غاية التبين فينظر إلى لفظ الآية، وقد خطأ النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاد الصحابي كما في الصحيحين من حديث عدي ، فإن عدياً مع كونه عربياً يعرف اللسان ويعرف دلالة الكتاب، أخطأ في فهم الآية كما هو ظاهر في رواية الصحيحين، وبين له النبي صلى الله عليه وسلم خطأ اجتهاده.
    فلا يمنع أن يكون غيره من الصحابة ممن لم يطلع على الأحاديث المبينة المفسرة للآية قد اجتهد كهذا الاجتهاد، وينبغي على طالب العلم دائماً أن ينظر إلى نصوص الكتاب والسنة الصريحة، فيعمل بها، ويلقى الله عز وجل بحجة بينة واضحة؛ فإن قوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [البقرة:187] وحديث السنة في الصحيحين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الفجر قال: ( لا أن يقول هكذا، وإنما يقول هكذا وهكذا ) أي: ينتشر، كل ذلك يدل على أنه ينبغي عليك الرجوع إلى تبين الفجر، وأنه بمجرد تبين الفجر ودخول وقت الفجر يحرم على الإنسان أن يأكل أو يشرب.
    هذا هو الذي دل عليه ظاهر الكتاب والسنة، ويلقى المسلم ربه بنص صحيح صريح من الكتاب والسنة.
    وأما الأحاديث المحتملة المختلف في أسانيدها، وآثار الصحابة، فقد كان أئمة السلف وقول الجماهير كلهم على هذا، وعمل جماهير السلف رحمة الله عليهم على: أن العبرة بتبين الفجر، وأنه إذا تبين حرم الأكل والشرب.
    وبناءً على ذلك: نقول بهذا القول الذي درج عليه أئمة سلفنا الصالح، مع أنه أسعد بنص الكتاب والسنة، وأوفق دليلاً، وأرعى لأصول الشريعة، وهذا هو المنبغي على طالب العلم الذي يريد أن يلقى الله عز وجل بحجة بينة.
    وأما من احتج باجتهاد الصحابة فنعتذر لهم بأن الصحابي ربما لم يبلغه النص، ولا نستطيع أن نعدل عن نص كتاب ربنا وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه الصحيحة الصريحة في تحديد الأكل إلى حال التبين؛ لأن ذلك مما يعتبر خلاف الأصل.
    والله تعالى أعلم.
    حكم من سافر إلى بلد متأخر في الصيام عن بلده الأصلي

    السؤال
    لو أن رجلاً سافر إلى بلد تأخر صيامه بيوم أو يومين عن بلده الأصلي، فهل يفطر عند تمام الثلاثين، أم يعمل بميقات البلد الذي هو فيه أثابكم الله؟


    الجواب
    من سافر إلى بلد فإنه يعتبر حال أهل البلد الذي يسافر إليه، فإن كان البلد متقدماً أو متأخراً فعليك أن تفطر معهم تقدماً أو تأخراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فطركم يوم تفطرون ) فجعل الفطر لعامة المسلمين.
    وبناءً على ذلك: تتأقت بهذا التأقيت الذي طرأ عليك، فإن كان هناك زيادة كأن يكون هذا البلد تأخر -كما ورد في السؤال- فحينئذٍ ستزيد يوماً أو يومين؛ لأن فطرك مع فطرهم، ويعتبر شهرك كشهرهم، والعبرة في فطرك بموافقتهم.
    وأما إذا كان هناك نقص فبلغ عدد الأيام ثمانية وعشرين يوماً، فإنك في هذه الحالة تقضي يوماً واحداً، فتفطر معهم يوم العيد ثم تقضي يوماً واحداً، ويعتبر على أصح قولي العلماء.
    وقال بعض العلماء: تقضي يومين؛ لأن الشهر يكون ثلاثين يوماً.
    وقال بعضهم تقضي يوماً واحداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الشهر هكذا وهكذا ) وعقد تسعاً وعشرين وثلاثين، فاليقين أنه تسع وعشرون، والثلاثون في بعض الأحوال، والأقوى: أنه يقضي يوماً واحداً، والأحوط: أنه يقضي اليومين.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #202
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الصيام)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (202)

    صـــــ(1) إلى صــ(20)



    شرح زاد المستقنع - باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [3]
    مما يفسد الصوم ويوجب الكفارة: الجماع في نهار رمضان، فمن جامع امرأته في نهار رمضان وجب عليه الكفارة، وهي عتق رقبة، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، وهناك أحكام ومسائل متعلقة بالجماع في نهار رمضان وكفارته ذكرها الشيخ وفصَّل فيها في هذه المادة.
    مسائل في الجماع في نهار رمضان
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [فصل: ومن جامع في نهار رمضان في قُبُل أو دبر فعليه القضاء والكفارة].
    فإن الله حرم على الصائم أن يجامع زوجته، ولذلك يعتبر الجماع موجباً لفساد الصوم، وقد ذكرنا أدلة الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة على تحريم ذلك على الصائم.
    وبقي

    السؤال
    لو وقع هذا الإخلال من الصائم فما حكمه؟
    الجماع المعتبر في إيجاب الكفارة

    فقال رحمه الله: (ومن جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر).
    هذا الفصل خصه المصنف رحمه الله بالإخلال بالصوم من طريق الشهوة، وابتدأ بالشهوة الكبرى لورود النص بالعقوبة فيها، ثم تدرج بعد ذلك إلى المسائل المتفرعة على الجماع في نهار رمضان.
    أما بالنسبة لقوله: (ومن جامع) فلا يتحقق الجماع إلا بإيلاج القبل، والعبرة بالحشفة -وهي رأس الذكر- وقد فرع العلماء رحمهم الله على إيلاجها أكثر من ثمانين حكماً، ومنها وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، وذلك بتحقق الإيلاج بالصورة التي ذكرناها.
    فقوله رحمه الله: (ومن جامع) سواءً كان جماعه لزوجته الجماع المأذون به شرعاً في الأصل، أو المحرم في الزمان في نهار رمضان، أو كان جماعه وطأً لشبهة كأن يجامع امرأة يظنها زوجته أو يظنها سريّته، أو يكون جماعه بالحرام -والعياذ بالله- كالزنا.
    فإن وقع الجماع في مأذون به شرعاً كزوجته، أو معذور به شرعاً من حيث وجود الشبهة كوطء من ظنها زوجة له، فيترتب الحكم بالقضاء إجماعاً، وكذلك بالكفارة.
    وأما بالنسبة للزنا -والعياذ بالله- فقد اجتمعت فيه موبقات: أولها: كونه أخل بهذا الركن من أركان الإسلام، وهو: صومه الذي فرضه الله عليه.
    الموبقة الثانية: كونه زنى والعياذ بالله.
    فيكون هناك عدة إخلالات: أولها: تعمده للفطر، ووقوع الفطر بأشنع صوره وهو الجماع.
    وثانياً: كونه والعياذ بالله حرام.
    وكذلك الحال لو وقع الوطأ في الدبر، فيستوي الجماع في القبل أن تكون المرأة حية أو ميتة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم: أنه لو حصل الإيلاج بامرأة وهي ميتة فإنه يحكم بكونه مجامعاً إعمالاً للصورة، كما لو جامعها وهي نائمة أو مجنونة، ولذلك يجب عليه القضاء والكفارة، وهكذا بالنسبة لوطء الدبر؛ فإنه يوجب القضاء والكفارة والحد الشرعي على الأصل الذي هو مقرر شرعاً في باب الجنايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
    تخصيص الكفارة بجماع نهار رمضان
    قال رحمه الله: [ومن جامع في نهار رمضان].
    الشافعية والحنابلة على أن الكفارة تختص برمضان، وأما ما عدا رمضان فإنه لا يأخذ حكم رمضان.
    وقالت المالكية والحنفية: إن الله عز وجل أوجب على من جامع في نهار رمضان الكفارة، والعبرة بكونه أخل بفريضة الله عز وجل وهو الصوم الواجب، فقاس بعضهم على ذلك قضاء رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر الواجب، فقالوا: لو صام قضاءً عن رمضان، وجامع امرأته في اليوم الذي هو قضاء عن رمضان فإنه تلزمه الكفارة كما تلزم من جامع في نهار رمضان، وقالوا: إن الله عز وجل جعل هذا اليوم بدلاً عن يوم رمضان، ولذلك قالوا: إذا وقع الإخلال في القضاء فهو إخلال كإخلال الأداء، والقاعدة تقول: (القضاء يحكي الأداء) فإذا كان القضاء يحكي الأداء، والشرع نزّل القاضي منزلة المؤدي فإننا كذلك نحكم بأن الإخلال بالقضاء كالإخلال بالأداء.
    وأصح القولين والعلم عند الله: القول بعدم وجوب الكفارة على من جامع في قضاء رمضان، وأن الحكم يختص برمضان دون غيره؛ والسبب في ذلك ظاهر النص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه السائل يستفتيه وأخبره أنه واقع أهله في نهار رمضان وهو صائم، أي: والحال أنه صائم، فاجتمع فيه شرط الزمان وهو كونه مجامعاً في نهار رمضان، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، فالأصل ألا نوجب على المكلفين كفارة، ولا نعاقبهم بعقوبة، وتشغل الذمم بأدائها والقيام بها حتى يدل الدليل على ذلك.
    فلما دل الدليل على شغل الذمم في نهار رمضان بقي ما عدا رمضان آخذاً حكم الأصل من مطالبته بالقضاء، ولكنه لا يخلو من الإثم، فلو كان في نهار القضاء وجامع أهله أو أفطر متعمداً بدون عذر لا يخلو من الإثم كما نص على ذلك جمع من العلماء رحمة الله عليهم.
    قوله رحمه الله: [في نهار رمضان].
    خرج من ذلك الجماع في الليل فإنه بالإجماع ليس فيه كفارة، والمراد بالنهار: من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فإذا طلع الفجر الصادق فإنه يبتدئ حكم اليوم الذي أوجب الله صيامه.
    قال رحمه الله: [من جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر].
    وهذا كما ذكرنا أنه مذهب جمهور العلماء، وخالف بعض الأئمة فقال: من وطأ في الدبر سواءً زوجته أو غيرها فإنه يعتبر مخلاً بالصوم ولا تجب عليه الكفارة.
    والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الكفارة عليه، بل هو أشد وأشنع.
    ومن هنا يقول الأئمة رحمة الله عليهم: إن الله أوجب الكفارة على من جامع في نهار رمضان في فرج حلال، فنبه بالجماع في الفرج الحلال على ما هو أشد منه، وهو: الجماع في فرج حرام أو وطءٍ في الدبر.
    حكم من جامع دون الفرج
    قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل].
    هذه المسألة ينبغي لطالب العلم أن يتنبه لها وهي: ضابط الجماع من الناحية الشرعية؛ لأن مسائل الجماع تترتب عليها أحكام في العبادات وأحكام في المعاملات، فبعض من الناس يظن أن مجرد مس الفرج للفرج أنه يوجب الغسل، وأنه لو وضع العضو على العضو أنه يجب عليه الغسل، وبعضهم يعتقد أنه لو حصل مس للعضو بالعضو أنه يجب عليه الحد وأنه قد زنى، وهذا كله خلاف الأصل، فالأصل الشرعي: أنه لا يتحقق الجماع إلا بإيلاج رأس الذكر وهو الذي حده العلماء-رحمة الله عليهم- بقولهم: بإيلاج الحشفة، وهي رأس الذكر أو قدرها من مقطوعه، ولذلك لا يثبت حد الزنا إلا إذا سأل القاضي وتحقق أنه قد حصل إيلاج لهذا القدر.
    وبناءً على ذلك نبه الشرع على هذا بقوله: ( إذا مس الختان الختان -وفي رواية: إذا جاوز الختان الختان.
    وفي رواية: إذا التقى الختانان- فقد وجب الغسل ) وكل ذلك -كما يقول الأئمة رحمة الله عليهم- يُعتبر من باب التنبيه على إيلاج رأس العضو، فلو كان مقطوع الرأس فقدره حكماً؛ لأن الشرع ينزِّل الشيء بالتقدير عند العجز عن الشيء بعينه، فإذا كان يتعذر فيه ذلك الشيء لقطع أو خِلقة لم يوجد فيه فإنه يُنَزَّل قدرها من مقطوعه.
    بناءً على ذلك: إذا حصل الإيلاج لهذا القدر ثبت الحد وثبت الإحصان، بمعنى: لو أن رجلاً تزوج امرأة ودخل عليها، وحصل منه إيلاج برأس العضو فقط ولو لم تفتض البكارة فإنه يثبت كونه ثيباً (محصناً) ويعطى حكم الثيب، وإذا زنى يرجم ولا يجلد كالبكر، فهناك ثمانون حكماً كلها مفرعة على هذه المسألة، ونحن نذكرها ونبينها لترتب الأحكام الشرعية عليها، فلابد من حصول هذا القدر، فقوله رحمه الله: (ومن جامع) هنا المراد به تحقق هذا الشرط.
    وأما قوله: (ومن جامع في غير القبل والدبر) كما هو الحال في المفاخذة -كما يسميها العلماء- أو المباشرة دون إيلاج، فهذه في الأصل الشرعي لا تسمى مجامعة، فالمجامعة لا تتحقق إلا بالإيلاج لكنها في الصورة مجامعة؛ لأن الجماع سمي جماعاً من الاجتماع.
    المقصود: أن المصنف رحمه الله تجوز في هذه العبارة وقال: (ومن جامع في غير القبل والدبر) فلا يحصل الجماع في غير القبل والدبر، ولكنه تَجَوّز في العبارة، وإلا لو وقع الجماع لثبتت الكفارة، وإنما الصورة هنا: ألا يقع الجماع، كأن يضع العضو على العضو دون إيلاج، أو مثلاً يضعه مفاخذة كما ذكر العلماء رحمة الله عليهم، فهذا كله لا يوجب الكفارة، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم.
    وذهب المالكية إلى أن من فاخذ امرأته أو استمنى بيدها أنه يعتبر منتهكاً لحرمة شهر رمضان، والشرع أوجب الكفارة على من جامع أهله في نهار رمضان ليس من الجماع فقط؛ وإنما للجماع ولكونه انتهك حرمة شهر رمضان، فاستوى عندهم أن يكون قد جامع أو يكون باشر امرأته ثم أنزل بمفاخذة أو غير ذلك حال المضاجعة.
    فعندهم يجب عليه في هذه الحالة أن يُكَفِّر؛ لأنه قد حصل المحظور من انتهاك حرمة الشهر بالفطر عمداً بالإنزال، وهكذا بالنسبة للمفاخذة وما في حكم ذلك من صور الاستمتاع.
    المصنف رحمه الله يتكلم على مسألة شرعية دلت النصوص عليها وهي: وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، يلزمه حينئذٍ أن يتكلم عن الصور التي لا تتحقق بها المجامعة، وكأنه حينما يبين لك حكم المفاخذة والمضاجعة بدون إيلاج كأنه يضع لك الحدود التي إذا وصل المكلف إليها وجبت عليه الكفارة، وإذا لم يجاوزها ولم يصل إليها فإنه يعتبر مطالباً بالقضاء إذا حصل إنزال، ولا تجب عليه الكفارة لما ذكرنا.
    قال رحمه الله: [وإن جامع دون الفرج فأنزل، أو كانت المرأة معذورة].
    هذا هو الشرط، لكن لو جامع دون الفرج كأن فاخذها وضاجعها ولكن لم يحصل إيلاج ولا إنزال فيعتبر صومه صحيحاً، ولو حصل منه مذي فإننا قدمنا أن الصحيح أنه لا يوجب الكفارة ولا يوجب القضاء، فالمذي والمني لا يوجب كفارة، ولكن يختص المني بإيجاب القضاء، وأما المذي فيه التوبة والاستغفار، ولا شيء على المكلف من جهة العقوبات والكفارات.
    إذا كانت المرأة معذورة في جماع زوجها لها في رمضان
    [أو كانت المرأة معذورة].

    إذا كانت المرأة معذورة في الجماع فإنه لا يجب عليها كفارة، وتعذر المرأة بالإكراه، والأصل أنه لا يجوز لها أن تمكّن الزوج منها في نهار رمضان؛ لأن الله حرم عليها أن تستمتع بهذه الشهوة، وحرم على الزوج أن يستمتع بها، وحينئذٍ إذا طاوعته أعانته على الإثم والعدوان، وعلى انتهاك حد الله عز وجل وإصابة حرماته، ومن هنا يجب عليها أن تدفعه، بل قالوا: تدفعه بقدر ما تستطيع، حتى ولو أنه حاول فرمته وألقته على الأرض لم يكن عليها شيء، وتنصحه وتذكره بالله عز وجل وتعظه بلسانها، فإن طاولها وأرادها بفعله فإنها تدفعه بيدها وبرجلها ما استطاعت؛ شريطة ألا يحصل الضرر، بل قال بعض العلماء: حتى ولو حصل ضرر؛ لأنه هو المتعاطي للسبب في الإخلال بحد الله عز وجل والانتهاك لحرمته، فيجوز لها أن تدفعه، ولو كان ذلك بدفعه برجلها أو بيدها ولو حصل ضرر، قال بعض الأئمة: إنها تعذر في هذا الضرر، وتعتبر هذه الصورة من الصور المستثناة في إعراض المرأة عن طاعة زوجها؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فهذه معصية لله سبحانه وتعالى، بل متعلقة بفرض وركن من أركان الإسلام وهو الصيام.
    ولذلك: ينبغي عليها أن تتعاطى الأسباب في دفعه، فإذا كانت مغلوبة على أمرها -كأن تكون نائمة أو مكرهة- فغالبها فوقع عليها ولم تستطع دفعه، فقالوا: إنها في هذه الحالة تعذر، وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان بعضهم يُفَصِّل ويفرق بين مسائل الجماع وبين مسائل الزنا في إكراه المرأة كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الخلاف بين الجمهور والحنفية في ضابط إكراه المرأة في مسألة الزنا.
    فالمقصود: أنها تدفع وترد زوجها ما أمكنها، فإن غلبها فلا كفارة عليها؛ ولكن عليها القضاء لحصول الشهوة واللذة ولا تلزمها الكفارة.
    حكم جماع من نوى الصوم في سفره
    قال رحمه الله: [أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة].
    رجل سافر وكان قد نوى أول اليوم أن يصوم، فقال بعض العلماء: لماذا ذكر نية الصوم؟ لأن بعض العلماء يفرق في المسافر بين أن ينوي أو لا ينوي، فإذا نوى السفر ونوى الفطر فلا إشكال، لكن لو نوى الصوم ونوى السفر، قال: إنه مسافر غداً إلى المدينة مثلاً، فلما نوى أصبح وفي نيته أن يصوم، قالوا: يلزمه أن يتم صومه، ففي هذه الحالة لو تلبس بالرخصة -وهي حال السفر- وخرج من مكة وجاوزها وأفطر، ثم أراد أن يجامع زوجته وهما في حال السفر فلا شيء عليه؛ لأنه معذور، وفي هذه الحالة لا يعتبر مفطراً بالجماع على وجه محرم، وإنما أفطر على وجهٍ يعذر فيه شرعاً.
    لكن لو دخل المدينة -يستوي في ذلك أن يكون دخوله للمدينة آخر النهار أو وسط النهار- أو وصل إلى بلده فهل يُمسك ولا يجوز له أن يجامع أم يجوز له أن يجامع؟ جمهور العلماء على أنه يجب عليه الإمساك، وقد ذكرنا هذه المسألة وذكرنا دليلها الصحيح من حديث صوم يوم عاشوراء، وبينا الوجه الذي استند العلماء رحمة الله عليهم فيه على تحريم الأكل والشرب في هذه الحالة، فإذا أكل أو شرب فإنه يأثم، ولو جامع زوجته في هذه الحالة بعد أن استقر أو وصل إلى مدينته أو نزل، فقال بعض العلماء: إنه لا تلزمه الكفارة، ولكنه يعتبر آثماً على القول بوجوب الإمساك.
    أما عند من لا يرى وجوب الإمساك بقية اليوم ويقول: قد أفطر وأصبح مفطراً فإنه لا يرى عليه إثماً، ولا يلزمه بالاستغفار والتوبة.
    فتلخص من هذا: أن المسافر إذا قدم قبل نهاية اليوم وكان قد أفطر في سفره فإنه يلزمه الإمساك بقية اليوم، فإن وقع منه الجماع في هذه البقية من اليوم فللعلماء وجهان: منهم من يقول: لا حرج عليه ولا إثم، بل لو شاء أن يجامع اختياراً لا حرج عليه.
    ومنهم من يقول: إنه يجب عليه الإمساك، فإذا جامع أهله فإنه يعتبر آثماً شرعاً، وعليه التوبة والاستغفار، ولكن لا تجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يفطر بجماع على الوجه المحظور.
    كفارة من كرر الجماع في نهار رمضان

    قال رحمه الله: [وإن جامع في يومين أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية وفي الأولى اثنتان].
    جامع امرأته متعمداً في اليوم الأول، وجامعها في اليوم الثاني، فهذا جماع تكرر في يومين وفي محلين مختلفين، قد أوجب الله عز وجل عليه صيام اليوم الأول وصيام اليوم الثاني، فانتهك الحرمة في اليوم الأول وانتهك الحرمة في اليوم الثاني فعليه كفارتان، سواء كفّر عن اليوم الأول أو لم يكفر، فعليه كفارتان.
    وأما لو جامع في اليوم الواحد وتكرر منه الجماع في اليوم الواحد فإنه لا تجب عليه إلا كفارة واحدة، سواء كفر عن الجماع الأول أو لم يُكَفِّر.
    مثال ذلك: لو جامع امرأته أول النهار، ثم جامعها وسط النهار، ثم جامعها آخر النهار قبل غروب الشمس، فهذه ثلاث مرات، فتجب عليه كفارة واحدة؛ لأنه قد أفطر وحصل الإخلال بالجماع الأول، وتلزمه الكفارة من ثم، وأما بقية اليوم فإنه لا تلزمه فيه كفارة هذا بالنسبة للجماع.
    من الصور التي ذكرها العلماء: لو جامع أربع زوجات في يوم واحد فإنه تلزمه كفارة واحدة بالنسبة لنفسه، أما بالنسبة للنساء فعلى التفصيل الذي ذكرناه في المرأة: أن المرأة إذا طاوعت واختارت فعليها كفارة غير كفارة زوجها، وأما إذا كانت دافعت ومانعت فمن العلماء من يقول: إنه يجب عليه أن يكفر عنها، ومنهم من يقول: لا تجب عليه الكفارة على ظاهر حديث الذي جامع امرأته في نهار رمضان وهو صائم.
    [أو كرره في يوم ولم يكفر، فكفارة واحدة في الثانية، وفي الأولى اثنتان].
    قال بعض العلماء: إن جامع أكثر من مرة في يوم واحد نظرنا: فإن كفر عن الجماع الأول لزمته الكفارة عن الجماع الثاني، وهذا مذهب مرجوح.
    والصحيح: أنه إذا كرر الجماع في اليوم الواحد ولو عشر مرات فإنه تلزمه كفارة واحدة، ولكنه في إخلاله بحق الله عز وجل قد تكرر إخلاله عشر مرات، ولذلك عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل من هذا الوجه، وأما بالنسبة للكفارة فلا تلزمه إلا كفارة واحدة، ولا يلزمه إلا القضاء والكفارة ليوم واحد.
    والذين يقولون: إنه تتكرر الكفارة يقولون: إذا كفر عن الجماع الأول، وحصل الجماع الثاني بعده فعليه كفارة ثانية، كأن يجامع في أول النهار في الساعة الثامنة صباحاً، ثم يكفر في الساعة العاشرة، ثم يجامع في الثانية عشرة وفي الواحدة وفي الثانية وفي الثالثة، قالوا: لما كفر عن الجماع الأول في الساعة العاشرة فإنه يلزم بتكرار الكفارة، وحينئذٍ تلزمه كفارة عن الجماع الثاني الذي وقع منه في بقية اليوم.
    والصحيح: ما ذكرناه أن اليوم الواحد له كفارة واحدة، سواء وقع الجماع مرة أو وقع مرات؛ وذلك لأنه إخلال واحد وقد أفطر ذلك اليوم بجماعه الأول، فكأنه بجماعه الثاني والثالث والرابع والجماع المتكرر قد وقع بعد جماعه الأول وهو مفطر ولم يقع وهو صائم، ولذلك لا تجب عليه الكفارة من هذا الوجه.
    قال رحمه الله: [وإن جامع ثم كفر، ثم جامع في يومه فكفارة ثانية].
    الصحيح: أنه ليس عليه كفارة ثانية، وأن الكفارة الأولى تغنيه؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، ووقع جماعه الثاني وهو مفطر، وشرطه: أن يقع جماعه وهو صائم.
    حكم جماع من لزمه الإمساك بقية اليوم
    قال رحمه الله: [وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع].
    كما ذكرنا في من وصل إلى مدينته وقد بقي شيء من اليوم، قالوا: يعتبر في حكم الصائم، فلو وقع منه جماع في بقية اليوم تلزمه الكفارة، والصحيح ما ذكرناه وأشرنا إليه سابقاً أنه لا تلزمه الكفارة؛ لأنه قد أفطر ذلك اليوم، وإنما تجب الكفارة على من صام لا على من أفطر.
    حكم من جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر
    قال رحمه الله: [ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط].
    بعد أن بين لنا رحمه الله وجوب الكفارة بالجماع، يرد

    السؤال
    لو تكرر الجماع ما الحكم؟ فقال لك: إما أن يتكرر في أيام متكررة أو يتكرر في يوم واحد، فإن تكرر في يوم واحد إما أن يكفر عن الجماع الأول أو لا يكفر، فبين حكم هذه الصور كلها.

    ثم شرع رحمه الله في مسألة وهي: لو أن إنساناً جامع امرأته في رمضان من أول النهار وهو غير معذور بالفطر، فجامع ووقع منه الإخلال على وجه تلزم به الكفارة، وقبل أن تغيب الشمس طرأ عليه عذر يُعذر فيه بالفطر كما لو جنّ أو سافر أو مرض، فهل نقول: بأن العبرة باليوم كاملاً إلى تمامه؟ فإن قلنا: العبرة باليوم إلى تمامه وكماله فحينئذٍ هذا اليوم يباح له الفطر بالجنون وبالسفر وبالمرض، ولم يوجب الله عليه صيامه؛ لأن أمره إلى الرخصة؛ فتسقط عنه الكفارة من هذا الوجه.
    وهذا وجه شاذ عند العلماء، يحكى في مذهب الشافعية رحمة الله عليهم؛ لكن عندهم تفصيل أشار إليه الإمام النووي رحمه الله في الروضة.
    والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أن من جامع في أول اليوم ثم طرأ عليه عذر يبيح له الفطر أنه تلزمه الكفارة؛ لأن الإخلال وقع في صورة هو مكلف فيها، وقد حصل الإخلال والانتهاك لحد الله عز وجل، وأنت ترى أن المجامع في نهار رمضان لما يعاقب هذه العقوبة إنما عوقب للزجر عما وقع منه من الجرأة على حدود الله، والجرأة قد وقعت في أول اليوم، ولا عبرة بطروء العذر بعد ذلك، ومن هنا طروء الأعذار لا يؤثر، وهذه من صور مسائل طروء الأعذار التي توجب زوال الحكم أو زوال الوصف، ولها نظائر كثيرة، منها: لو حكم القاضي ثم جن ولم ينفذ الحكم، ومنها لو أن الشهود شهدوا عند القاضي ثم ماتوا، أو شهدوا ثم جنّوا، أو شهدوا ثم فسقوا وطرأ عليهم فسق بعد الشهادة وثبوتها عند القاضي، هذه كلها مسائل تسمى مسألة طروء العذر، وهذه تقع في العبادات والمعاملات، فتارة يعتبر الطروء مؤثراً وتارة لا يعتبر مؤثراً، وسنذكر جملة من هذه المسألة إن شاء الله إذا جاء كتاب القضاء، وقد تتخلل هذه المسألة في بعض أبواب المعاملات المالية.
    لكن الذي يعنينا هنا: أن الشرع قصد عقوبة هذا المخالف بانتهاكه لحدود الله عز وجل، وقد انتهك حد الله عز وجل وجاوز الحدود بجماعه لامرأته في حال تكليفه وحال مؤاخذته؛ فثبتت وتعلقت بذمته الكفارة.
    أما كونه يطرأ له العذر آخر النهار أو يطرأ له العذر ولو بعد الإخلال بلحظة فهذا كله لا يؤثر؛ لأن العبرة بالحال والابتداء لا بالانتهاء في هذه الصورة، ومن هنا تلزمه الكفارة حتى ولو طرأ عليه العذر.
    الإفطار بغير الجماع لا يوجب كفارة

    قال رحمه الله: [ ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان ].
    فلا تجب بالاستمناء، ولا تجب بالمفاخذة وغير ذلك من صور الاستمتاع، فلا تجب إلا بالجماع، ولا تجب أيضاً إلا في صوم رمضان أداءً لا قضاءً، فلا يدخل في ذلك حكم الواجبات، وقد أشرنا إلى هذه المسألة والخلاف بين الحنفية والمالكية من جهة، وبين الشافعية والحنابلة من وجه آخر، ولذلك يأخذها طالب العلم كقاعدة أو ضابط، يقولون: لا كفارة على الصائم إلا إذا وقع جماع في رمضان.
    فلا تلزمه الكفارة إذا كان في غير رمضان ولو كان صوم فرض، ولو كان قضاءً عن رمضان، ولا تلزمه في غير الجماع كما لو قلنا في الاستمناء ونحو ذلك، فهذا لا تجب فيه الكفارة؛ لأن المذهب عندهم متعلق بصورة معينة، وهذه المسألة تعتبر من مسائل القياس في الكفارات، وهذه مسألة أصولية، فالشافعية والحنابلة لا يرون القياس في هذه المسألة، والمالكية والحنفية يرون القياس، والعلة عندهم انتهاك حرمة الشهر.
    فكأن الذين قالوا بوجوب الكفارة في غير رمضان يرون أنه إذا صام قضاءً أو صام واجباً فإنه ينتهك الحرمة كما ينتهكها من جامع في نهار رمضان، ولا فرق، فهذا صوم فرضه الله وهذا صوم فرضه الله، فاستوى أن يكون من رمضان أو غير رمضان.
    ثم قالوا أيضاً: لما كانت العبرة بالشهوة فيستوي أن يخرج منه المني، سواء كان ذلك بجماع أو مفاخذة أو غيرها كالاستمناء، وقالوا أيضاً: يستوي عندنا الجماع وغيره مما تحصل به اللذة أو يحصل به الإنزال، فنوجب عليه القضاء والكفارة من هذا الوجه.
    والصحيح: ما ذكرناه من الاقتصار على مورد النص؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها وإلزام الكفارة بها، وهنا قوي الدليل على البقاء على الصورة التي ورد السؤال عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وألزم فيها المجامع بالكفارة، فنقتصر عليها دون غيرها.
    أحكام كفارة الجماع في نهار رمضان
    قال المصنف رحمه الله: [وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت].
    عتق الرقبة وما يشترط فيها
    [وهي عتق رقبة] قوله: (وهي) تعود على الكفارة، والرقبة منهم من يشترط فيها الإيمان قياساً على رقبة كفارة القتل.
    وهذه المسألة من المسائل التي يختلف العلماء فيها، فالأمر بعتق الرقبة يأتي على صورتين: صورة يكون فيها مقيداً كما في صورة كفارة القتل: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [النساء:92] فاشترط الله عز وجل أن تكون الرقبة مؤمنة.
    وصورة ترد الرقبة مطلقة كما في آية المظاهر من امرأته، وكذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: ( أتجد رقبة أو أعتق رقبة ) كما في الروايات، فهذا الإطلاق للعلماء فيه قولان ومذهبان: منهم من يقول: المطلق هنا -في مسألة المجامع في نهار رمضان- أحمله على المقيد الوارد في كفارة القتل، فلا كفارة بالعتق إلا إذا كانت الرقبة مؤمنة.
    واستدلوا بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام لما سأل الجارية فقال: ( أين الله؟ قالت: في السماء.
    قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة ).
    فقوله: (فإنها) جملة تعليلية أي: لأنها مؤمنة، فكأنها لو لم تكن مؤمنة ما أمره بعتقها، وهذا من جهة النظر له وجهه، يعني: إذا جئت تنظر إلى النصوص وتراها له وجهه؛ لكن الأولين يجيبون عن هذا ويقولون: إن الرجل أراد أن يُعْتِقَ اختياراً لا إيجاباً وإلزاماً، فلما أراد أن يعتق باختياره فالأفضل والأكمل أن تكون الرقبة مؤمنة؛ حتى يكون عتقها معيناً لها على الطاعة والخير؛ فيتحقق المقصود من عتق النافلة.
    وأما عتق الفريضة فالمراد به حصول العتق والغرم المالي، فإن الإنسان يغرم بفوات عبيده؛ لأنه كانت العبيد بمثابة الأموال، وينتفع الإنسان بهم ويرتفق، فيتضرر بماله، كما أُلزم عند فقدها والعجز عن الصيام شهرين متتابعين بإطعام ستين مسكيناً، وهذا غرم مالي.
    فقالوا: المقصود أن يغرم، وحينئذٍ لا يحملون المطلق على المقيد، ويقولون: لو كان عتق المظاهر يشترط فيه الإيمان أو عتق الكفارة في نهار رمضان يشترط فيها الإيمان لنبه الشرع على ذلك ولم يسكت عنه، فكيف هناك يقول: (تحرير رقبة مؤمنة) وهنا يطلق؟! قالوا: فلو كان مقيداً بوصف الإيمان لقيده.
    وهذا المذهب يقويه أن عتق الرقبة المؤمنة في القتل له قصد وذلك أن من أعتق رقبة أُعتق بها من النار، حتى يعتق العضو بالعضو، كما جاء في الخبر، حتى إن الفرج يعتق بالفرج.
    ومن هنا قالوا: لما كان القاتل كأنه أورد نفسه النار بقتله لأخيه المسلم، فإنه حينئذٍ يكفر بعتق الرقبة المؤمنة، وكأنه يعتق نفسه من النار، وأشكل على هذا: أنها كفارة خطأ، والقاتل ليس بمتعمد، فقالوا: الخطأ لا يخلو من تقصير؛ لأن القاتل خطأً لو تحرى وتفقد لما وقع منه ذلك، ولذا لزمته الكفارة لوجود التقصير والإخلال.
    فمن هنا قالوا: يجبر هذا الإخلال بكونه يعتق الرقبة المؤمنة حتى يُعْتَق بها من النار، وأيّاً ما كان فالقول بعدم التقييد له قوة وله وجاهة لإطلاق النصوص، وحمل المطلق على المقيد أحوط القولين، لكن القول بالإطلاق من القوة بمكان، وعلى هذا فيلزمه عتق الرقبة.
    وعتق الرقبة يستوي فيه أن تكون صغيرة أو كبيرة، ويستوي فيها حتى لو كانت صبية صغيرة في عتق رقبة القتل، وإذا كانت مولودة من أم مؤمنة فإن الصبيان يلتحقون بأمهاتهم، فإذا كان والداها مؤمنين فإنه حينئذٍ يعتق هذه الرقبة وتكون موصوفة بكونها مؤمنة.
    وهذا الوصف لصبيان المسلمين بالإيمان يسميه العلماء الوصف التقديري، وقد تكلم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس "قواعد الأحكام" في مسألة التقديرات، قال: التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود، ومن أمثلته الصبيان إذا كانوا في ديار المسلمين فإننا نعطيهم حكم الإسلام، فمن وجد لقيطاً في بلد مسلم أعطاه حكم أولاد المسلمين، ومن وجد لقيطاً في بلد كافر أعطاه حكم أولاد الكافرين لماذا؟ من باب التقدير؛ ولكنه وإن لم يكن حقيقة أنه يحكم له بالإيمان لكنهم يقولون: من باب التقدير.
    إضافة إلى أن النص يقول: ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه ) فهم يقولون: إن الأولاد يتبعون الوالدين تقديراً من باب الأحكام الشرعية، فهنا لو أراد أن يعتق رقبة ولو كانت صغيرة فإنه يجوز عتقها.
    وهذا القول اختاره أئمة منهم الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله عليه في تفسيره، وعلى هذا فيجوز عتق الصغار من أولاد المسلمين إذا كانوا أرقاء، ويكون لها وصف الإيمان بالحكم التقديري.
    وهنا لو جامع امرأته في نهار رمضان فأعتق صبياً أو صبية أجزأه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعتق رقبة.
    وفي رواية: أتجد رقبة؟ ) فهذا فيه إطلاق فشمل الذكر والأنثى، فالرقبة التي تعتق تشمل الذكور والإناث، فلو أعتق جارية صح وأجزأه، ولو أعتق ذكراً صح وأجزأه، فكل يجزئه؛ لأن الشرع أطلق.
    وهذه الرقبة اختلف العلماء: هل يشترط سلامتها من العيوب أو لا يشترط؟ فبعض العلماء يقول: لا يصح العتق إلا إذا كانت سالمة من عيوب النقص، وعيوب النقص تكون في الأخلاق وفي الجسد؛ لأن العيوب في الأرقاء تنقسم إلى قسمين: عيوب مؤثرة، وعيوب غير مؤثرة.
    فالعيوب غير المؤثرة هي العيوب اليسيرة التي لا يتوقف عليها مصلحة الانتفاع بالرقيق، وهكذا لو كانت عيوباً مثل أن يكون لا يعرف الكتابة ولا يعرف القراءة، فهذا ليس بعيب مؤثر؛ لأنه لا يمنعه من الانتفاع به في مصالح خدمته.
    لكن العيوب المؤثرة والتي هي النوع الثاني تنقسم إلى قسمين أيضاً: نقص الجسد أو العيب الخُلقي، فإما أن يكون عيباً خِلْقياً وهو نقص الجسد كالشلل والعمى والعرج، فهذا نقص خِلقي.
    والنوع الثاني: النقص الخُلقي، كأن يكون مجنوناً فإنه لا يستطيع أن يضبط مشاعره ولا أن يضبط أقواله وأفعاله وتصرفاته، فهذا النقص الذي هو الجسدي أو الخُلقي إذا وجد في الرقيق فبعض العلماء يقول: لا يجزئه، ويشترط أن تكون الرقبة كاملة سالمة من العيوب.
    وبعض العلماء يقول: لو أعتق مشلولاً أجزأه، ولو كان أعمى أو كان مجنوناً كل ذلك يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعتق رقبة ) وهذا مطلق يشمل الرقبة الكاملة والناقصة.
    وفي الحقيقة: لا شك أن المذهب الذي يرى كمال الخلقة وسلامة الإنسان من العيوب المؤثرة هو أسلم وأحوط وأولى بالاعتبار.

    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #203
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الصيام)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (203)

    صـــــ(1) إلى صــ(20)





    صيام الشهرين المتتابعين وما يشترط فيه
    [فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين].
    الرقبة إذا كان الإنسان لا يجد قيمتها وأعطيت له هدية ونحلة، فإنه حينئذٍ يكفر بعتقها، ولو جاءته على سبيل الهدية فإنها تجزئه، وإذا ملكها قبل أن يشرع في الصوم فإنه يجب عليه أن يكفر بعتق الرقبة؛ لأنه قال: (فإن لم يجد) فكفارة الجماع في نهار رمضان مرتبة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، وأفتى بعض العلماء بالانتقال إلى صيام شهرين متتابعين مع إمكان العتق، وفعل ذلك استحساناً كما حصل للإمام الحافظ المحدث يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس الليثي رحمة الله عليه في قصته مع عبد الرحمن الأموي والي الأندلس، فإنه استفتاه في الجماع في نهار رمضان، فقال: تصوم شهرين متتابعين.
    وكان إمام القضاة في زمانه، ولما أفتى بهذه الفتوى عجب العلماء الذين معه وسكتوا هيبة له، وظنوا أن له مساغاً من الاجتهاد، فلما خرج راجعوه فقال: إننا لو قلنا له: اعتق رقبة لجامع وخف عليه الأمر، وهان عليه كل يوم أن يجامع ويعتق رقبة، وأما إذا أمرته بالصيام فإنه يحفظ حدود الله ومحارمه أن ينتهكها، فأمرته بالصوم لعظيم مشقته عليه؛ ولأنه أمكن لزجره من الوقوع في هذا المحظور.
    والحقيقة: هذه الفتوى مردودة وباطلة، وقد نبه العلماء وأئمة الأصول على ذلك، حتى إن صاحب المستصفى ذكرها مثالاً للتعليل الباطل والفاسد؛ لأنها في مقابل النص، والشرع إذا أمر بالعتق نأمُر بالعتق، وليس لأحد أن يجاوز حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا وجه لهذا الاجتهاد ولمثل هذه الاستحسانات.
    ولا شك أن الأصل يلزمنا أن نأمره بالعتق ولو كان قادراً على العتق، ولو كان غنياً؛ لأن الله أعلم بخلقه وأحكم في حكمه سبحانه وتعالى، وهو يعلم أن هناك الغني الذي لا يضره أن يعتق الرقاب ولو جامع كل يوم، ولكننا نقول بما أمرنا الله عز وجل به من الفتوى، وما ثبت به النص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ومن هنا ننبه على أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب الاستحسانات والآراء المصادمة للنصوص، وأنه ينبغي على المسلم أن يتقيد بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في الفتوى والقضاء ونحو ذلك من الأمور التي يكون فيها الإنسان مؤتمناً على شرع الله عز وجل.
    فليس لأحد كائناً من كان أن يُدْخِل في دين الله عز وجل ما ليس منه ولو كان برأي واستحسان، ولذلك قال الإمام الشافعي : (من استحسن فقد شَرَّع).
    وكان أئمة السلف رحمة الله عليهم يشددون على أهل الرأي من هذا الباب: إذا كان الرأي فاسداً مصادماً للنص من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
    لكن الآراء التي يفهمها الإنسان من النص فهذه آراء شرعية بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا اجتهد الحاكم ) وبدليل قوله: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) فأنت تفهم من قوله: (يفقهه) أي: يفهمه، فمعنى ذلك أنه نظر في النص ففهم شيئاً، فهذا يدل على أن الرأي إذا استخلص من الشرع فحي هلاً ونعمَّا به، والإنسان مجزيٌ عليه خيراً؛ إن أصاب كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجر واحد.
    أما أن يأتي شخص إلى نص عنده في الكتاب والسُّنة، ويرى الواقع أو الحياة تقتضي أن يغير النص، أو يأتي بشيء أثقل حتى يكون أزجر، فهذا كله من المصادمة لشرع الله عز وجل والتعدي لحدوده، ولا يجوز للمسلم أن يتقحّم النار على بصيرة، فيفتي بهواه ورأيه في دين الله عز وجل حيث يؤتمن على الفتوى أو يؤتمن على قضائه، فهذا أمر ينبغي الحذر منه، فأي شيء تعلم أن فيه نصاً في الكتاب والسُّنة، وأن الشرع ألزمك بهذا النص فلا تتقدم ولا تتأخر؛ لأنك كقاضٍ أو مفتٍ أو معلم لا يجوز لك أن تتجاوز ما علمت، والذي علمته من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تخبر به، فإن خرجت عن الكتاب والسنة إلى محض رأيك واجتهادك، وخالفت ما نص الله عليه في كتابه أو نص عليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- عين الهلاك، والضلال، ولا يجوز للمسلم أن يترك هذه المحجّة التي دل عليها نص الكتاب والسُّنة.
    وهذا أمر مهم جداً لطلاب العلم، فينبغي عليهم دائماً أن يضعوا نصب أعينهم أنهم مؤتمنون على شرع الله عز وجل، ولا يجوز لطالب العلم أن يستحسن أو يصوب شيئاً ويجتهد فيه إلا إذا أذن له الشرع بالرأي والاجتهاد.
    قال رحمه الله: [فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين].
    فإن لم يجد عتق الرقبة ولم يستطعها يصوم شهرين متتابعين.
    والشهران لهما صورتان: الصورة الأولى: أن يستفتح الشهر من أوله، كأن يبدأ من أول شهر محرم أو شهر صفر أو شهر ربيع، فإذا ابتدأ بأول محرم فحينئذٍ العبرة بالشهر ناقصاً أو كاملاً، فلو ابتدأ من محرم وتبين أن محرماً تسعة وعشرون يوماً فقد صام شهراً، وحينئذٍ إذا انتهى شهر صفر فقد تمّ صيامه وأدى الكفارة على وجهها ولو صام ثمانية وخمسين يوماً -تسعة وعشرين لشهر محرم، وتسعة وعشرين لشهر صفر- أجزأه ذلك، وهذا بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا )فأشار بيده في الأول إلى الثلاثين، وفي الثاني عقد الإبهام تسعة وعشرين، فدل على أن من صام تسعة وعشرين يوماً ورئي الهلال للشهر الأول والشهر الثاني فإنه حينئذٍ يجزئه، ويكون صيامه ثمانية وخمسين يوماً يجزئه عن الكفارة.
    الصورة الثانية: أن يستفتح صيام الشهرين المتتابعين أثناء الشهر، كأن يبدأ في العاشر من محرم، فإذا ابتدأ في العاشر من محرم لا يتم شهره الأول إلا في العاشر من شهر صفر، ولا ينتهي شهره الثاني إلا في العاشر من ربيع الأول، وحينئذٍ يؤقت بالأيام، ويلزمه في هذه الصورة الثانية أن يصوم ستين يوماً كاملة.
    بقيت مسألة وهي: لزوم التتابع يعني: هذان الشهران يشترط فيهما التتابع، والتتابع: ألا يفطر فيهما، فلو أفطر قبل إتمامهما بيوم واحد لزمه أن يستأنف العدد من جديد، فلو جاء في يوم تسعة وعشرين من شهر صفر وأفطر فإنه حينئذٍ يلزمه أن يقضي، ويعود من جديد ويصوم الشهرين متتابعين، وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في حديث المجامع لأهله في نهار رمضان، إذ أمره أن يصوم شهرين متتابعين فقال: ( يا رسول الله! وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟! ) وكان رجلاً لا يصبر عن النساء، فكأنه اعتذر لأنه لا يستطيع الصوم.
    فحينئذٍ يلزمه أن يصوم الشهرين متتابعين إذا كان قد أفطر ولو قبل تمامهما بيوم واحد.
    لكن بقي

    السؤال
    لو أنه ابتدأ صيام الشهرين المتتابعين في كفارة الجماع أو كفارة القتل أو كفارة الظهار في شعبان ودخل عليه رمضان فهل يقطع رمضان التتابع؟

    الجواب
    لا يقطع رمضان التتابع، ويصوم شهر رمضان كاملاً، فإذا انتهى شهر رمضان يرد السؤال: هل يفطر يوم العيد أو لا يفطره؟ فللعلماء وجهان: أصحهما أنه يفطر يوم العيد، ثم بعد ذلك يتم ويبني على ما مضى، فلو صام شهر شعبان كاملاً ثم صام رمضان، فإذا أفطر أثناء رمضان لسفر أو نحوه فلا يقطع التتابع ولا يؤثر فيه حتى يتم رمضان، فإذا أتم رمضان ودخل عليه العيد فإن يوم العيد محرم الصوم، وحينئذٍ لو صام يوم العيد لا يجزئه عن صوم التتابع، وإذا كان لا يجزئه بنص الشرع -لأن الشرع حرم صيام هذا اليوم- فحينئذٍ يسقط عنه صيام يوم العيد، ويصبح يوم العيد هذا وجوده وعدمه على حد سواء.
    فحينئذٍ يفطر فيه كما أفطرت المرأة الحائض، فإن المرأة الحائض لا تستطيع أن تصوم ستين يوماً متواصلة؛ لأن الحيض يأتيها في الغالب -أو غالب النساء- فحينئذٍ يكون وجود هذا العذر الشرعي ينزل منزلة العذر الحسي، فلما كان الحيض لا يقطع التتابع لدخوله بغير اختيار المكلف، كذلك دخول يوم العيد لا يقطع التتابع على من ابتدأ في شهر شعبان، فيفطر يوم العيد ثم يتم العدد من بعد يوم العيد، فإذا أتم العدد من بعد يوم العيد لم يقطع تتابعه فطره لذلك اليوم.
    والمسألة الثانية: المرأة الحائض والنفساء لا يقطع التتابع حيضها ونفاسها؛ فإنها تصوم الشهرين المتتابعين في كفارتها، وإذا صامت الشهرين المتتابعين وقطع ذلك الحيض فإنها تفطر في أيام حيضها، وصومها تبنيه بعد انتهاء أيام الحيض.
    لكن لو أن إنساناً ابتدأ صومه في شهر المحرم، ثم أصابه المرض أثناء صيامه، فهل يقطع المرض التتابع أو لا؟ وجهان للعلماء في ذلك: قال بعضهم: لا يقطع، كما هو الحال في المرأة الحائض، وهذا قوي من جهة النظر.
    وقال بعضهم: يقطع؛ لأن العبرة بالصورة وهي التتابع، فيلزمه حينئذٍ أن يستأنف العدد بعد صحته وقوته.
    والأقوى: أنه إذا كان المرض يضر به أن يصوم معه فلا يقطع، ويرخص له بالفطر على عدد الأيام التي مرضها، ثم بعد ذلك يبني بعد انتهاء هذه الأيام أعني: أيام فطره بعذر المرض.
    قال: (صوم شهرين متتابعين) يصوم شهرين كاملين متتابعين بالصورة التي ذكرناها، قال بعض العلماء: إن الشهرين بمثابة الفدية لهذا اليوم الذي أفطره، ولذلك وجب عليه أن يصوم، فإذا لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، وكأن كل مسكين عن يوم، فأنت إذا نظرت إلى عدد الشهرين فإنه ستون يوماً، والمساكين الذين يلزم إطعامهم ستون مسكيناً، وكل مسكين يأخذ ربع صاع كما سيأتي، فكأنها فدية عن فطر ذلك اليوم، وكأن فطره ذلك اليوم يفديه بصيام الشهرين المتتابعين.
    قال بعض العلماء: وفي هذا دليل على تعظيم فرائض الله عز وجل، وأنه لا يجوز للمسلم أن يتساهل في أداء حقوق الله عز وجل، وأنه إذا تساهل فيها وأفطر من دون عذر أو ترك ما أوجب الله عليه من دون عذر، ولو قضى ذلك الشيء فإنه لا ينزل منزلته، خاصة إذا كان متعمداً، ومن هنا ورد حديث أبي هريرة : ( من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر ولو صامه ) أي: أنه لا ينزل منزلة ذلك اليوم من حيث الفضل وحصول الثواب.
    إطعام ستين مسكيناً
    قال المصنف رحمه الله: [فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً].
    فإن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين، وعدم الاستطاعة إما لمرض كإنسان عنده فشل الكلى مثلاً، فهذا لا يستطيع أن يصوم، وقرر الأطباء أنه إذا صام يموت، فهذا يجوز له أن يعدل من الصيام إلى إطعام ستين مسكيناً، وهكذا الحال لو كان شديد الشهوة لا يصبر على النساء، فلو صام لا يستطيع الصبر ستين يوماً؛ رخص له أن ينتقل؛ لأن المجامع قال (وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم؟!) وقالوا: إنه عدل عن الصيام إلى الإطعام لعدم القدرة على الصبر، وهو شديد الشهوة ومن به شبق، فإذا وجد العذر من المرض، أو وجد العذر من شدة الشهوة وعدم الصبر عن النساء انتقل إلى الإطعام.
    (إطعام ستين مسكيناً) يطعم كل مسكين ربع صاع، وذلك لما جاء في رواية الموطأ أن الذي جامع أهله في نهار رمضان أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم ستين مسكيناً، فاشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجد، فجاء في الحديث: ( أتجد ما تطعم به ستين مسكيناً؟ قال: لا ).
    فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -والعرق: المكتل، مثل ما يسمى في عرفنا اليوم القفّة، وهي القفة الكبيرة تكون من الخوص ونحوه، وهذه القفاف الكبيرة كان الناس في القديم يحملون فيها التمور والثمار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق به.
    والعرق فيه خمسة عشر صاعاً، وهذا كما جاء في رواية الموطأ أن العرق كالمكتل فيه خمسة عشر صاعاً، فإذا كان هذا العرق فيه خمسة عشر صاعاً، فمعنى ذلك أنك لو قسمته على ستين مسكيناً فكل مسكين سيكون نصيبه ربع صاع، أي ربع الصاع الذي يخُرج في آخر رمضان، وربع الصاع يسمى المد، وهذا المد هو الصاع النبوي الصغير؛ لأن هناك صاعاً نبوياً صغيراً وكبيراً، فالصغير هو الذي ضبطه العلماء بقولهم: هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، وسمي مداً لهذا، فهذا القدر هو قدر المد النبوي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، فإذا أطعم يطعم ستين مسكيناً، لكل مسكين ربع صاع، فإذا فعل ذلك فقد أجزأه.
    حكم من عليه كفارة إذا لم يجد ما يكفر به
    قال المصنف: [فإن لم يجد سقطت].
    ولذلك إن لم يجد لفقر وعوز وليس عنده ما يشتري به الطعام ويتصدق به على الفقراء؛ سقطت عنه الكفارة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتكى له المجامع لأهله في نهار رمضان، فلما أتي عليه الصلاة والسلام بعرق أمره أن يأخذه وأن يتصدق به، فقال: ( يا رسول الله! أعلى أفقر مني؟! -جاء وهو يشتكي فأصبح الآن يسأل- والله ما بين لابتيها رجل أفقر مني، وفي رواية: أهل بيت أفقر منا ).
    اللابتان: مثنى لابة، وذلك لأن المدينة بين حرتين، وهي التي تسمى في يومنا هذا الحرة الشرقية والحرة الغربية، فالحرة الشرقية كانت تسمى في القديم حرة واقم، وهي التي وقعت فيها الموافقة أيام يزيد ، وفيها قول قيس الرُّقَّيات : فإِنْ تَقْتُلُونَا يَوْمَ حَرَّةِ وَاقِمٍ فِإنا عَلى الإِسْلاَمِ أَوَّلِ مَنْ قُتِلْ الثانية: حرة الوبرة، وهي الحرة الغربية، ومراده: ما بين لابتيها يعني ما بين الحرتين: الحرة الغربية والحرة الشرقية، كأنه يريد المدينة كلها، والسبب في ذلك: أن مساكن المدينة كانت لا تجاوز الحرتين، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذه ويطعمه لأهله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده.
    لكن هذه المسألة من خصوصيات هذا الرجل كما نبه العلماء رحمة الله عليهم، وإلا لو أنه أُعطي مكتلاً فلا يصح للعالم أن يقول له: خذه إلى أهلك، ولو أن إنساناً جاء يسألك وعليه كفارة، ثم تصدق عليه أحد بمكتل، وقال: هو فقير، تقول له: تجب عليك الكفارة؛ لأن هذا -كما يقولون- صورة عين، وقضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم.
    فهذه سماحة من الشرع ويسر من الله عز وجل أجراه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، كما نبه الأئمة رحمة الله عليهم في شرح الحديث على أن هذا الحكم يختص بهذا الرجل.
    أما من أُهدي له هذا القدر الذي يستطيع به التكفير، أو أعطي مالاً يستطيع به التكفير فقال: أريد أن آخذه لنفسي.
    فإنه لا يستحل ذلك، ويجب عليه أن يكفر الكفارة التي أوجب الله وفرض عليه.
    الأسئلة
    وجوب الكفارة لأجل الجماع هل وجبت على المرأة في حديث الأعرابي

    السؤال
    في حديث الأعرابي لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكمه على امرأة الأعرابي من حيث مطالبتها بالقضاء أو الكفارة، فكيف نوفق بين هذا وبين القاعدة: (لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة)، وضحوا هذا الإشكال أثابكم الله؟

    الجواب
    هذه المسألة في الحقيقة للعلماء فيها كلام طويل -وهي مسألة المجامع في نهار رمضان- ولذلك لما تكلم العلماء على مسألة التعليل ومسالك التعليل كان هذا الحديث من أنسب الأحاديث لبيان صور التعليل، ولذلك تجد الأئمة رحمة الله عليهم وكتب الأصول تعتني بشرح هذا الحديث من جهة أصولية والتعليل به.
    هناك مسلكان للأصوليين فيه: مسلك اعتباره لطيف وجميل؛ لأنه يدفع كثيراً من الإشكالات، يقولون: الرجل جاء يسأل أول ما يسأل عن نفسه، فوقع السؤال أول ما وقع عن نفسه، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرر له وبين له، فتبين أن الرجل ما عنده شيء لنفسه، فسقطت عنه الكفارة، فسكت عن زوجه لأن الحكم واحد؛ لأنه إذا كان هو سقطت عنه الكفارة فمن باب أولى تسقط عن الزوجة التي يعولها.
    وهذا المسلك لا يعطي أي مدخل للاحتجاج في المسألة، فتبقى المرأة داخلة تحت حكم الأصل من كونها مطالبة بالكفارة كالرجل، يقولون: إن الرجل سأل أول ما سأل عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يجيب السائل عما سأل عنه، ولا يتكلف في الإجابة عن شيء لم يسأل عنه، فأجاب وما زال مع الرجل يوجب عليه الكفارة وينتقل معه خصلة خصلة، حتى إذا انتهى من ذكر مراتبها منها إذا بالرجل ليس عنده شيء، وإذا بالكفارة ساقطة عنه بالحال، فإذا سقطت عنه بالحال من باب أولى أن تسقط عن زوجته وأهله ومن يعول، فقالوا: لذلك سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعن أن يتكلف مرة ثانية، خاصة وأن الرجل قال له: (والله ما بين لابتيها أهل بيت) فلما قال: (أهل بيت) شمله وشمل زوجه.
    وهذا الجواب من أدق الأجوبة، والذي يقفل جميع الاعتراضات، ومن هنا يقول جمهور العلماء: تبقى المسائل مسكوت عنها، كون الزوجة طاوعت أو لم تطاوع تبقى مسائل اجتهادية، وهذا من دقة الشرع، وهو أنه في بعض الأحيان ينص على شيء ويترك ما عداه لاجتهاد العلماء، حكمة من الله سبحانه وتعالى؛ يرفع بها درجاتهم، ويجعلها خلافاً بينهم؛ يبين بها فضل العالم على غيره، فتبقى المسائل المسكوت عنها في النص وتترك لاجتهاد العلماء يبينون حكمها، فمنهم من يلحقها بالأصل، وينظر أقوى شبه لها فيلحقها به؛ لأن الشرع ينبه بالشيء على مثله، وهذا الاجتهاد مستند إلى أصول الشرع.
    ومنهم من يقول: هي عفو، كما هو مسلك الظاهرية رحمة الله عليهم، وهذا المسلك يقول: هي عفو، فكل شيء لم يرد النص به عفو، والمرأة لا يجب عليها عندهم شيء، حتى ولو طاوعت زوجها ورضيت واختارت، يقول: لا يجب عليها شيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوجب على المرأة في هذا الحديث شيء.
    فإن قلت لهم: سكت.
    يقولون: السكوت عفو.
    والواقع: أن ما سكت عنه الشرع هو عفو من الله من جهة النص على حكم معين؛ لكن يبقى الفقيه مطالب بالاجتهاد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا اجتهد الحاكم ) فمعنى ذلك أن هناك مسائل تحتاج إلى نظر وبحث وتحتاج إلى بيان حكمها.
    فإذا بإعطاء الشيء حكم نظيره فقد اجتهد بالشرع، (وفقه) يعني: فهم من الشرع، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) يعني: يفهمه مقصود الشرع فيبني الحكم عليه، فأنت إذا نظرت إلى أن مقصود الشرع تحريم هذا الشيء فحينئذٍ تقول: لا يجوز.
    وإذا فهمت أن مقصود الشرع جوازه والتوسعة على الناس تقول: يجوز، وكل ذلك مبني على فهمك لأصول الشرع.
    وفي هذه المسألة كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الرجل هل طاوعته المرأة أو لم تطاوعه، وهل هي مكرهة أو غير مكرهة، معذورة أو غير معذورة .
    لا يقال: تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنسب شيء ما يذكره علماء الأصول بقولهم: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما استفصل من الرجل، وما قال له: هل امرأتك طاوعت أو لم تطاوع؟ هل امرأتك مكرهة أو غير مكرهة، راضية أو غير راضية؟ بل ترك الاستفصال في مقام الاحتمال.
    أي: في مقام يحتمل فيه أن تكون المرأة معذورة، ويحتمل أن تكون غير معذورة، فكونه لم يستفصل ينزل منزلة العموم.
    يعني: لا تجب كفارة إلا على الرجل، أما المرأة فلا تجب عليها سواء طاوعت أو لم تطاوع هذا معنى القاعدة.
    ولكن مثلما ذكرنا: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ليس هذا موضعه، إنما موضعه في مقام السؤال حينما يسأل السائل عن الشيء بذاته، كأن يسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم امرأته فيقول: عليها الكفارة.
    ولا يستفصل طاوعت أو لم تطاوع، فتقول: ترك الاستفصال هنا مؤثر ودليل وحجة؛ لكن كونه لم يرد سؤال عن المرأة وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ فهذا مما يسع الاجتهاد فيه.
    فلا يعقل؛ لأن المرأة قد تغري الزوج على الجماع، وقد يقع منها الجماع ابتداءً بزوجها، وذكر هذا بعض العلماء رحمة الله عليهم، وإن كان الغالب أن الرجل تكون منه بواعث الجماع، لكن كونها هي التي تبعثه وتدفعه، يقولون: هذا يدل على أن المرأة تأخذ حكم الرجل إن طاوعت ورضيت وأغرت وقصدت وأرادت ذلك.
    فإذا كانت المرأة هي التي تريد الجماع، وحصل منها ذلك وطاوعت زوجها مختارة راضية؛ فالمرأة والرجل سواء، وتجب عليها الكفارة؛ لأن المعنى الذي عاقب الشرع به الرجل موجود في المرأة كما هو موجود في الرجل.
    هذا من ناحية فقهية ومن ناحية الأصول والضوابط والاجتهادات صحيح؛ لأن العلة الموجودة في الرجل موجودة في المرأة، فتجب عليها الكفارة كما تجب على الرجل؛ لكن إذا استكرهها وغالبها فحينئذ يكون كأنه أوقعها في هذا المحظور، فتجب عليه الكفارة؛ لأنه متسبب في ذلك كما هو الحال في الضمانات في الحقوق، ولما كان الشرع ينزل حقوق الله عز وجل قياساً على حقوق الآدميين بدليل الحديث الصحيح ( فدين الله أحق أن يقضى ) وجعل الحقوق مقضية تنزيلاً لشغل الذمم بها، كذلك هنا حق الله يضمن، فكما أن المرأة سقط عنها المؤاخذة بالكفارة لكونها مكرهة، فحينئذ من الذي أكرهها؟ ومن الذي قسرها؟ ومن الذي أوقعها؟ هو الرجل.
    فهناك محل تتعلق به الكفارة ويسع أن تتعلق به الكفارة الثانية، بخلاف ما إذا أكرهت المرأة فإنا لا نجد إلزاماً؛ لأن الإخلال غير موجود، وعلى هذا فهناك صورتان: الصورة الأولى: أن تكون المرأة مكرهة ومغلوبة، فبالنسبة للرجل ما عندنا إشكال، لكن بالنسبة للمرأة المحل -الذي هو المرأة المكلفة- غير قابل لإيجاب الكفارة؛ لأنها لم تتوفر فيه شروط الإخلال؛ لكن إذا كانت مكرهة فمعنى ذلك أن هناك إخلالاً من الرجل من ناحيتين: من ناحية نفسه، ومن ناحية إيقاعه للغير في الإفطار.
    وهذا الإفطار وقع بشهوة الجماع، فكما أن الجماع في حقه يوجب الكفارة، كذلك بالنسبة للمرأة.
    على هذا القول الذي يرى أن المكرهة يجب على زوجها أن يكفر، حينئذ يقولون: تجب عليه الكفارات المتعددة في اليوم الواحد؛ ولذلك يلغز بعض العلماء ويقول: على المذهب الذي يرى أن من جامع أكثر من مرة في يوم واحد ليس عليه إلا كفارة واحدة، فقد تجب عليه الكفارة متعددة في أي صورة؟ تقول: إذا قلنا: إن المرأة المكرهة -التي أكرهها زوجها- تجب عليه الكفارة، فحينئذ إذا جامع الجماع الأول وجبت عليه الكفارة لنفسه وكفارة لزوجه التي جامعها، فصارت كفارتان، فإن جامع الزوجة الثانية -وليس الزوجة الأولى- فقد حصل فطر وجماع ثان، فتجب عليه الكفارة الثانية، فإن جامع زوجته الثالثة وجبت عليه الكفارة الرابعة، وإن جامع زوجته الرابعة وجبت عليه الكفارة الخامسة.
    فهذه خمس كفارات تجب بجماع يوم واحد على رجل واحد، هذه المسألة يلغز فيها بعض العلماء، لكن محله أن ترى أن المرأة التي أكرهت على الجماع من قبل الرجل كأن يهددها أو يغلبها بقوة أو تكون نائمة ثم لا تشعر به إلا وقد أصابها، قالوا: هذه يجب عليه أن يكفر عن نفسه وعنها؛ لأنه وقع الإخلال بالصوم من وجهين: من جهته ومن جهة زوجه، فتتكرر عليه الكفارة من هذا الوجه.
    وبناءً على ذلك: فإن حديث المجامع في نهار رمضان يعتبر من المسكوت عنه؛ لأن السؤال لم يرد عن المرأة أصلاً، ولا يعتبر هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة.
    والله أعلم.
    كفارة العبد إذا جامع في نهار رمضان

    السؤال
    هل كفارة الجماع في نهار رمضان على الحر والعبد سواء، أم أن الأمر فيه تفصيل أثابكم الله؟

    الجواب
    بالنسبة للعبد فإنه لا يملك؛ لكن قال بعض العلماء: لو ملكه سيده وأذن له بالعتق يعتق، وحينئذٍ تجزيه، ومذهب طائفة من علماء السلف أن العبد ينتقل إلى الصيام فيلزمه أن يصوم؛ فإن عجز عن الصوم سقطت عنه الكفارة؛ لأنه لا يملك، والدليل على أنه لا يملك: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ) فأخلى يد العبد عن الملكية؛ فدل على أنه لا يملك، وهذا أصل عند العلماء، وقد سبق بيانه وبسط الكلام عليه في مسائل الزكاة.
    والله تعالى أعلم.
    العبد المكاتب لا يجزئ في الكفارة الواجبة

    السؤال
    من كان يدفع إلى سيده أنجم المكاتبة وبقيت بعضها، فأعتقه سيده بكفارة الجماع، فهل يجزئه ذلك أم لابد أن يرجع إلى عبده ما أخذ من المكاتبة أثابكم الله؟

    الجواب
    إذا اتفق السيد على الكتابة وأدى العبد أنجم الكتابة كاملة فإنه يجب على السيد أن يعتق عبده، وإذا لم يعتقه واشتكى العبد إلى القاضي فإن القاضي يحكم بعتقه، وهذا من العقود التي تكون لازمة في أول حال وفي آخر حال؛ لأن العقود منها ما يلزم في أول حال وفي آخر حال، ومنها ما يلزم في أول حال دون آخر حال، ومنها ما لا يلزم في أول الحال ويلزم في آخر الحال.
    فالمكاتبة تعتبر في أول الحال إذا تعاقد الاثنان، وفي الأصل السيد لا يلزمه أن يكاتب عبده على القول بعدم وجوب الكتابة عليه، ومنهم من يقول بوجوبها لظاهر قوله تعالى: { فَكَاتِبُوهُمْ } [النور:33] فإذا قلنا بعدم الوجوب فهي غير لازمة في أول الحال على السيد، لكنه إذا وقع العقد وتم بينهما وافترقا فحينئذ يلزمه الوفاء بهذا العقد، وعلى الرقيق أن يسدد ما عليه، فلو قال له: كاتبتك بعشرة آلاف، تؤدي لي كل شهر ألفاً، فإذا أتممت العشرة فأنت حر.
    فإذا أعطى العشرة كاملة أعتق بآخر نجم منها، وأما إذا عجز عن سداد أنجم الكتابة يعود رقيقاً لسيده.
    وبناءً على ذلك: إذا عجز العبد عن السداد لبعض أنجم الكتابة وعاد رقيقاً لسيده فأعتقه سيده عن ظهار أو عن قتل أو عن جماع في نهار رمضان أجزأه؛ لأنه إذا عجز وثبت العجز رجع إلى ملكية سيده.
    أما إذا كان أثناء أنجم الكتابة ووصل إلى آخرها، فقال له السيد: أنت حر؛ فإن هذا العتق لا يعتبر عتقاً عن الواجب عليه في ذمته؛ لأن الأصل يلزمه بأداء أنجم الكتابة حتى يكون العبد حراً بأنجم الكتابة، لا بما عليه من فرض الله، كأنه يتخلص مما عليه من حق الله عز وجل فيعتق حتى لا يشتري رقبة ثانية، فكأنه يدفع الغرم عن نفسه لما أوشك العبد أن يسدد، فمعنى ذلك: أنه يريد ألا يتحمل رقبة ثانية ويشتريها، فهو يريد أن يعتق هذه الرقبة حتى يتخلص من تبعة الرقبة الثانية؛ ولذلك لا يصح العتق على هذا الوجه، ولا يجزيه في الكفارات، سواء كانت عن ظهار أو قتل أو أي عتق واجب آخر.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #204
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الصيام)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (204)

    صـــــ(1) إلى صــ(28)



    شرح زاد المستقنع - باب ما يكره ويستحب في الصوم وحكم القضاء
    هناك أمور ذكر العلماء أنه يكره فعلها في الصيام؛ لأنها تخدش في الصيام وتنقص أجره، وهناك أيضاً مستحبات ينبغي على الصائم أن يعلمها ويحافظ عليها حتى يكون صومه تاماً صحيحاً مقبولاً عند الله تعالى.
    ومما يتعلق بالصيام: أحكام القضاء لمن أفطر في رمضان لعذر، وحكم من مات وعليه صوم وغيرها من أحكام ومسائل القضاء.
    مكروهات ومستحبات الصوم وحكم قضائه
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
    أما بعد: يقول المصنف عليه رحمة الله: [باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء].
    يقول المصنف رحمه الله: (باب ما يكره) أي: ما يكره على الصائم أن يفعله حال صيامه، سواء كان لنافلة أو فريضة، والمكروه: هو الذي تعافه النفوس، وكره فلانٌ فلاناً إذا وجد فيه ما يوجب نفرته منه، وأما المكروه في الشريعة: فهو الذي نهى الشرع عنه نهياً غير جازم، وهذا المكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وكأن المصنف رحمه الله يريد أن يبين لنا بعض الأمور التي لا يستحب للصائم أن يفعلها، وإذا تركها بقصد التقرب فإنه يثاب شرعاً، ولكنها لا توجب فطره.
    وقوله: (ويستحب) ضد المكروه، فالأمر من الأقوال والأفعال إن كان جازماً فهو واجب، وإن كان غير جازم فهو مندوب ومستحب.
    وحكمه: أنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
    ومعنى: يستحب أي: يستحب للصائم أن يفعله أو أن يقوله؛ والسبب في ذلك: أن الصيام فيه أمور محرمة، وفيه أمور مكروهة، وفيه أمور واجبة، وفيه أمور مستحبة، وفيه أمور مباحة، ولذلك تكلم -رحمة الله عليه- في الأبواب الماضية عن الأمور المحرمة والأمور الواجبة، وبعد بيانه لكلا القسمين شرع في بيان ما يكره وما يستحب، ولكن

    السؤال
    لماذا قال: باب ما يكره فقدم المكروه على المستحب، والتقديم للشيء فيه دلالة على شرفه في الغالب؟ قدم المكروه؛ لأن الصيام يقوم على الترك، ولذلك المكروه ألصق بمادة الصيام من المستحب الذي يطلب فيه الفعل في الغالب.

    وقوله رحمه الله: (وحكم القضاء) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل المتعلقة بقضاء صيام رمضان، والسبب في ذلك أن المكلف لا يخلو من حالتين: إما أن يوقع صيام الفريضة في زمانه المعتبر على وجهه المعتد به شرعاً، فحينئذٍ لا إشكال، ويسمى هذا الصيام منه: صيام الأداء.
    وإما أن لا يوقعه؛ وذلك لوجود العذر الشرعي الذي يبيح له الفطر، من مرض أو سفر أو غير ذلك فيفطر؛ فإذا أفطر توجه إليه خطاب الشرع بأن يقضي أياماً أخر على عدد الأيام التي أفطرها من غير رمضان، وحينئذٍ ينتقل من رمضان إلى غير رمضان.
    ويرد السؤال عن هذه الأيام والأحكام المتعلقة بها، هل تنزل منزلة أيام رمضان أو لا تنزل؟ كذلك أيضاً من جهة كون الذي يقضي إذا أفطر متعمداً، هل يجوز له ذلك أو لا يجوز؟ وما الحكم في فطره إذا وقع على هذا الوجه؟ يقول رحمه الله: (باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء) جمعها رحمة الله عليه في هذا الموضع لتجانسها، فإن المكروه والمستحب يتضادان في الغالب، وإن كان هناك صور يكون فيها المستحب لا يضاد المكروه.
    أقوال العلماء في جمع الريق وبلعه لمن كان صائماً

    [يكره جمع ريقه فيبتلعه].
    أي: يكره للصائم أن يجمع ريقه، والريق: لعاب أوجده الله في الفم، ويكون في أصله لعاب قوي المادة أو يتحلل مع حركة الفم، وهذا اللعاب أوجده الله عز وجل لحكمة، وإذا أراد الإنسان أن ينظر إلى عظيم نعمة الله عليه بهذا اللعاب، فلينظر إلى حاله في شدة الظهيرة وقد جف حلقه من لعابه كيف يكون حاله؟ فلو أن الله خلقه على هذه الصفة لوجد من المشقة والعناء ما لا يخفى؛ ولكنه أحسن كل شيء خلقه سبحانه وتعالى وتبارك وهو أحسن الخالقين، فخلقه على هذه الصفة فجعل اللعاب في فمه؛ يمكنه من الكلام؛ ويدفع عنه مشقة يبس حلقه وصعوبة كلامه، ولذلك تجد من جف لعابه أو قل -خاصة في أحوال الصيام وشدة الظمأ- يصعب عليه الحديث ويصعب عليه الكلام.
    فهذا اللعاب والريق له حالتان: الحالة الأولى: أن يتركه المكلف على خلقة الله عز وجل فيرتفق به في حال يبس حلقه أو يبس فمه، على الوجه المألوف المعتاد المعروف.
    وهذه الحالة لا إشكال فيها بإجماع العلماء؛ لأن اللعاب يعتبر غير مؤثر في الصيام ولو بلعه الإنسان؛ لأنه مما يشق التحرز عنه، ولذلك يمثل العلماء له بما يشق التحرز عنه في الصيام، واغتفروا في حكمه اللعاب اليسير الذي يكون من فضلة الطعام إذا شق عنه التحرز عنه في الصلاة، وكذلك اغتفروا ما يكون بين الأسنان في الصلاة كوضر اللبن الذي يكون من دسامة مادة اللبن.
    وأما في الصيام فقالوا: إذا بزغ الفجر وانتهى وقت السحور، فإنه يتمضمض إن بقيت مادة الطعام في فمه؛ لأن اللعاب متصل بممنوع، وهو وإن كان لعاباً في أصله لكنه خرج عن الأصل؛ لامتزاجه مع المادة التي هي مادة الطعام، وعلى هذا قالوا: إن اللعاب في هذه الحالة يجب إزالته إما ببصاق، أو بغسل الفم بالمضمضة، ولذلك ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه تمضمض قبل الصلاة من وضر اللبن ودسومته.
    وأما الحالة الثانية للريق: فهي أن يجمع الريق فيبلعه وهو صائم، فهذا الجمع للريق يعتبر متردداً بين أصلين، فيحتاج تقرير هذين الأصلين إلى أمر مهم لابد من بيانه، حاصله: أن فم الإنسان يعتبر من خارج الجسد ولا يعتبر من داخل الجسد، وتوضيح ذلك: أنك في الصيام تحتاج إلى أن تفرق بين خارج البدن وداخل البدن؛ حتى تستطيع أن تفتي في مسائل الصيام، وهذا أمر مهم لطالب العلم وللعالم، ولا يستطيع أن يفتي في مسائل الفطر حتى يقرر ما الذي من خارج البدن، وما هو الذي من داخله بحيث إذا وصل إليه الغريب حكم بفطر الصائم بسبب ذلك.
    فالفم دلت الأدلة على أنه من خارج البدن، فإذا قلت: إنه من خارج؛ فأي شيء يصل إليه من المفطرات لا يضر ولا يؤثر ما لم يتجاوز الحد المعتبر شرعاً، وما هو هذا الحد؟ الحد: هو اللهاة، واللهاة هي: اللحمة المتدلية عند بداية الحلق، فهي فاصل بين داخل البدن وبين خارج البدن، وخارج البدن هو الفم، فما كان دون اللهاة فهو من داخل، وبناءً على ذلك لو استقاء فخرج القيء إلى فمه ورد ولو يسيراً من القيء إلى جوفه -إلى ما وراء اللهاة- فقد أفطر، وهذا بإجماع العلماء: أنه إذا رد مادة القيء إلى داخل البدن بعد وصولها إلى الفم أنه يفطر؛ لأنه بمجرد وصولها إلى الفم خرجت من البدن.
    إذاً تثبت أن هناك داخلاً وخارجاً؛ فالداخل ما دون اللهاة من جهة الجوف، والخارج ما قبل اللهاة من جهة الفم، وعلى هذا: إذا كان الريق موجوداً في الفم ليس عندنا إشكال، حتى ولو جمعه ثم أداره في فمه ثم بصقه لا إشكال؛ لأن الأمر كله في خارج البدن؛ لكن الإشكال لو جمع هذا الريق ثم ابتلعه بعد ذلك، فهذا الفعل يتردد بين وجهين: أحدهما: يقتضي الحكم بالفطر.
    والثاني: يقتضي عدم الحكم بالفطر.
    فأما كونه مقتضياً للفطر فهم يقولون: هذا اللعاب مادة متعلقة بخارج البدن، وكون الإنسان يبلع ريقه يسيراً يسيراً، قالوا: هذا على المعروف المألوف الذي يشق التحرز منه، فرخص الشرع فيه، لكن كونه يجمع ريقه باختياره وقدرته وتمكنه، ثم يبلع كما لو أفضل الجسم فضلة ثم بلعها، فهم يقولون: اللعاب فضلة الجسم، وهذا بالإجماع أنه فضلة من الجسم، فكما أن فضلة الجسم كالقيء إذا خرجت إلى الفم ثم ردت أنها تفطر، قالوا: اللعاب إذا جمع خرج عن الرخصة، فالرخصة فيه أن يكون متحللاً لترطيب الفم، لكن إذا جمعه فإنه يقصد ما يقصده الشارب أو من يريد بل حلقه، فخرج عن كونه مادة للفم إلى كونه مادة للحلق؛ فأفطر من هذا الوجه.
    قالوا: وأشبه ما لو إذا خرج القيء ثم رده إلى داخل البدن.
    وأما الوجه الثاني الذي يقتضي أنه لا يفطر: فهم يقولون: هذا اللعاب مادة تسامح الشرع فيها، والإجماع منعقد على أن اللعاب الذي في داخل البدن لو بلعه الإنسان قليلاً قليلاً أنه لا يفطر؛ فلا فرق عندي بين أن يبلعه دفعة واحدة وبين أن يبلعه شيئاً فشيئاً.
    إذاً عندك وجهان: أحدهما: يقتضي الحظر والحكم بالفطر.
    والثاني: يقتضي الإباحة، وأنه لا يوجب فطر صاحبه.
    والقاعدة عند بعض العلماء: أنه إذا تردد الفعل أو القول بين مأذون به شرعاً، وبين غير مأذون به شرعاً وهو المحرم، وأصبح فيه شبهاً من هذا وشبهاً من هذا فإنه يكره.
    هذا ضابط للمكروه عند بعض العلماء، ولذلك يمثلون بإسبال الإزار، قال صلى الله عليه وسلم: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ) وأجاز الأزر إذا كانت فوق الكعبين، وقد ثبت عنه أنه قال: ( أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ) فإذا ارتفع الإزار عن الكعبين فالإجماع على حله، وإذا نزل عن الكعبين فإنه يعتبر داخلاً في قوله: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ).
    لكن لو أنه وصل إلى الكعبين ولم يجاوز ولم يرتفع عنهما وكان محاذياً للكعبين؛ فليس عندك نص يقتضي التحريم، وليس عندك نص يقتضي الإباحة، فإذا جئت تقول: أبيحه.
    أجابك المجيب بأن الشرع أباح ما فوق الكعبين، وإذا قلت: أحرمه.
    أجابك المعترض بأن الذي حرمه الشرع ما نزل عن الكعبين، قالوا: فيصبح بين الحظر والإباحة فهو مكروه، فيسكت عنه الشرع لتردده بين الحظر والإباحة، فيقولون: هو مكروه.
    فإذاً: كأن المكروه يتردد بين الحلال والحرام، ويتردد بين الحظر والإباحة، فجمع الريق فيه وجه لأن تجيزه، وفيه وجه لأن تمنعه، فإن قلت: الشرع رخص في الريق لمكان مشقة التحرز والتوقي؛ فإن الريق المجموع لا يشق التحرز عنه؛ لأنه بإمكانه أن يبصقه، قالوا: فحينئذٍ كأنه قصد الإخلال، فيعتبر هذا الوجه يقتضي الحظر.
    وتقول: الريق مأذون به شرعاً، فيستوي أن يكون مجموعاً أو متفرقاً، فهذا الوجه يقتضي الإباحة؛ فأصبح جمع الريق مكروهاً من هذا الوجه.
    فهذا هو وجه كون العلماء رحمة الله عليهم ينصون على كراهية مثل هذه الأمور، ويستشكل بعض طلاب العلم كيف يحكم بالكراهة بما لا نص فيه؟ وهذا من ورع السلف والأئمة رحمة الله عليهم، ولذلك لما تكلم العلماء عن ضابط المكروه قالوا: إن هناك صوراً للشيء المتردد بين الحظر والإباحة، يؤكد الشرع على قصد الترك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) ولذلك فالفقيه لا يستطيع أن يقول: هذا حرام، وإذا قال: هو حلال وجد في نفسه الشبهة فتردد، ولذلك إذا قال لك قائل: أجمع الريق وأبلعه.
    فستجد في نفسك الشبهة، لكن ما تستطيع أن تقول: إنه حرام؛ فالبر طمأنينة، قالوا: فوجود هذه الشبهة كونه يجمع الريق فستفهم منه أنه في حكم من يدخل على البدن الشيء الغريب عنه؛ لأن الذي ليس بغريب أن يترك اللعاب على طبيعته، لكن كونه يجمعه وكونه يبلعه قالوا: هذا يقتضي الشبهة.
    ومن هنا يقوى القول بكون جمع الريق من مكروهات الصيام.
    وخلاصة الكلام أن لبلع الريق ثلاثة أحوال: الحالة المعروفة المألوفة، ولا إشكال فيها، ولكن هناك حالتان يذكرهما العلماء، وهما: الحالة الأولى: أن يجمع الريق من داخل -أي: من داخل الفم-.
    والحالة الثانية: أن يخرج الريق المجتمع إلى خارج الفم.
    فأما إذا كان الريق في داخل الفم فجمعه وبلعه فمثلما ذكرنا أنه مكروه، لكن لو جمع الريق فأخرجه عن الفم بلسانه وجاوز شفتيه ثم رده فإنه يفطر في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأنه إذا أخرجه عن الفم فإنه حينئذٍ يخرج عن الرخصة قولاً واحداً عند أهل العلم؛ ولأنه يعتبر خارجاً عن اللعاب المأذون به أو المرخص به شرعاً؛ لأن الذي يشق التحرز عنه ما كان في داخل الفم، أما إذا خرج قالوا: إنه يفطر.
    ما فائدة قول العلماء رحمة الله عليهم: الريق يجمع من داخل أو يجمع من خارج؟ قد يقول قائل: إنه من القبيح من الإنسان أن يخرج الريق من فمه ثم يرده! وهذه المسائل يذكرها العلماء لأمور قد يحتاج إليها الفقهاء، فمثلاً في زماننا قد يوجد في بعض أحوال أن تقوم بعض الآلات بشفط ما في الفم وإعادته إليه لتكريره عليه، كما يكون في بعض من يكون في أجهزة الإنعاش، فإنه يحتاج إلى وجود بعض المواد التي تكون في فمه، فإذا كانت الآلة التي تشفط تشفط المادة إلى خارج الفم وتجاوزه ثم تعيده؛ فمثل هذا يرد فيه الكلام، وإن كانت في داخل الفم ولا تجاوزه فلا إشكال فيها.
    فالمقصود: أن مسألة جمع الريق لا تخلو من هاتين الصورتين: إن خرج الريق وجاوز حد الشفتين أفطر قولاً واحداً، وإن لم يجاوز فإنه يرد فيه ما ذكرناه من الحكم بالكراهة، ولا يحكم بفطر صاحبه.
    حرمة بلع النخامة بعد وصولها إلى الفم

    قال رحمه الله: [ويحرم بلع النخامة ويفطر بها فقط إن وصلت إلى فمه].
    (ويحرم بلع النخامة) هناك مادة ثانية من فضلة الفم، وهو: المخاط الذي يكون في الخياشيم وفي الأنف، وقد يخرج من الصدر كالبلغم، فأما بالنسبة للمخاط الذي يكون في الخياشيم فإنه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون سحب الإنسان له إلى الجوف مباشرة، كما لو استنشق ثم ذهب إلى جوفه دون أن يمر بفمه، هذا بالإجماع لا يفطر، ولو كان للنخامة جرم، كما هي القطعة الصغيرة التي تتجلط من المخاط، فهذا لا يفطر.
    الحالة الثانية: أن تكون النخامة قد خرجت إلى الفم، فإن خرجت إلى الفم وأدارها في فمه فلا يخلو من حالتين: إما أن يديرها في فمه ثم يبلعها، وهذا هو الذي حكم المصنف عليه أنه يحرم، وأنه يوجب الفطر إن بلعها، وهناك وجه ثان: أنه لا يفطر، ويرون أن الفم مغتفر كالأنف، والذي اختاره المصنف من القوة بمكان؛ لأن الأصول تقتضيه.
    وإما أن يخرجها إلى الشفتين كما ذكرنا، كأن يخرج لسانه وعليه النخامة ثم يزدردها، فإنه يفطر في قول جماهير العلماء رحمهم الله قولاً واحداً.
    على هذا يفرق في النخامة بين هاتين الحالتين.
    أما بالنسبة للبلغم الذي يكون من الصدر، فإن كح وأخرجه إلى حلقه دون أن يصل إلى فمه ويجاوز لهاته، فلا إشكال إن ازدرده مباشرة، وأما إذا أخرجه إلى فمه ففيه الكلام الذي ذكرناه، والصحيح والأقوى: أنه يفطر، كما لو أخرج القيء ثم رده.
    وبناءً على ذلك، فإن النخامة والبلغم يفصل فيهما هذا التفصيل.
    حكم تذوق الطعام بلا حاجة

    [ويكره ذوق طعام بلا حاجة] قوله: (ويكره ذوق طعام بلا حاجة) له حالتان: الحالة الأولى: إذا نظرت إلى ذوق الطعام، فأنت ترى أن الذي يذوق الطعام فيه شبهة؛ لأنه إذا ذاقه وازدرده لا إشكال أنه يفطر بالإجماع؛ كأن يتحسى شراباً أو يتذوق طعاماً، ثم بعد ذلك يزدرده ويجاوز اللهاة، فإنه بالإجماع يفطر.
    الحالة الثانية: أن يذوق الطعام ثم يغسل الفم مباشرة ويلقيه، فهذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم والصحيح ما أفتى به ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة من السلف: أنه لا حرج ولا بأس أن يذوق الإنسان الطعام؛ لكن بشرط أنه بعد تذوقه يغسل فمه، ويذهب المادة التي ذاقها، أما إذا لم تذهب المادة وبقيت وتحللت في اللعاب، ووجد طعم الطعام في حلقه فقد أفطر.
    حكم مضغ الصائم للعلك وأنواعه
    [ومضغ علك قوي].
    العلك: هو اللبان وهو أنواع: النوع الأول: ما يكون دواءً وعلاجاً كاللبان المر، فهذا له فوائد للصدر، وله فوائد للجوف.
    وهناك النوع الثاني الذي لا يقصد منه التداوي، وهو الذي يستعمل من باب الترفيه عن النفس، فهذا يشدد فيه بعض العلماء لما فيه من شبه بقوم لوط، ولا يحفظ في ذلك نص صحيح يدل على ثبوت هذا، لكنه من خوارم المروءة، يعني: إن الحياء والمروءة أن لا يستعمله من له مكانة، كالوالد أمام أولاده، وهكذا الأم أمام بناتها وصغارها، وهكذا طالب العلم والعالم ومن له مكانة بين الناس، فمضغ اللبان يسقط مروءته ويدل على قلة حيائه، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت ) وضابط ذلك أن يفعله أمام الناس كما أشار إلى ذلك بعض العلماء بقوله: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فكونه يمضغ اللبان أمام الناس، فهذا يوجب سقوط عدالته والجرح في شهادته، ويدل على نقص عقله؛ لأن العقل يمنع من فعل هذه الأمور أمام الناس.
    وبالنسبة للتحريم بأن أهل لوط يفعلون ذلك، هذا لم يثبت به نص صحيح، والأصل الجواز، ولا حرج في مضغه، وكون الإنسان يمضغ اللبان لا حرج؛ لكن لا يفعل ذلك أمام الناس، وأما لو كان صغير السن كالأحداث ونحوهم فهذا مما جرت العادة باغتفاره، والدليل على الجواز: أن الله سخر لبني آدم الارتفاق بالمطعوم والمشروب ما لم يدل الدليل على التحريم، وهذا مما يطعم، وأما اللبان الذي يتداوى به كمرضى السكر ونحوهم لكونهم يحتاجون إلى وجود اللعاب في أفواههم، وهكذا بالنسبة للبان المر الذي يتداوى به الإنسان فهذا لا إشكال فيه.
    فاللبان أو العلك له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون قوياً ومادته متحللة، وهذه الحالة أوضح ما تكون حينما يأخذ الإنسان في بدايته، فإنه يجد قوة المادة ويجد تحللها وأثرها في فمه، فتجد لعاب الإنسان يسيل بسبب قوة المادة؛ فإذا كانت المادة حلوة سال لعابه؛ فتجد قوة المادة مؤثرة، هذا هو المتحلل.
    الحالة الثانية: غير المتحلل: وهو الذي لا تجد له طعماً، فأنت إذا نظرت إلى هذا اللبان كاللبان المر إذا علكه الإنسان لمدة ربع ساعة تقريباً أصبح مادة يعلكها، لا يجد لها طعماً قوياً ولا تكون مؤثرة، والمقصود منها في الغالب أن الإنسان يريد منها جريان اللعاب.
    فهذا معنى القوي المتحلل، والضعيف غير المتحلل، فاللبان في بدايته يكون متحللاً قوياً.
    ما فائدة هذا التفصيل؟ فائدة هذا التفصيل: أنه لو كان قبل أذان الفجر يعلك اللبان فعلكه وذهبت قوته، ثم أذن عليه الفجر وهو في فمه، ولا يجد إلا إسالة اللعاب، ولا يجد لمادة اللبان أثراً؛ فهذا أضعف مما لو كان في بداية العلك، فيفرق بين الذي له مادة تتحلل والذي ليست له مادة، وتوضيح ذلك: أن الفم من الخارج كما قررناه، فكونه يجري اللعاب في داخل فمه عن طريق اللبان هذا لا يؤثر، ما لم يكن من لبان مادته قوية متحللة، ويكتسب طعم الريق فيها، ثم يزدرد هذه المادة فيفطر، وأما إذا كانت مادة اللبان جافة، خاصة لو شرب الماء بعد مضغ اللبان بربع ساعة تقريباً أو عشر دقائق فإن اللبان يصبح جافاً ومادته جافة ولا تتحلل؛ فحينئذٍ يضعف عن التأثير، بخلاف ما لو كان في بدايته.
    إفطار الصائم بوجود طعم العلك والطعام في الحلق

    [وإن جد طعمهما في حلقه أفطر].
    وإن وجد طعم العلك سواء كان قوياً أو ضعيفاً -يعني: المتحلل وغير المتحلل- إن وجد طعمه في حلقه أفطر قولاً واحداً؛ والسبب في ذلك: أنه بوصول هذه المادة إلى الحلق، فإنه يعتبر في حكم من طعم الطعام، ووجد الطعام أو أثر الطعام في حلقه.
    [ويحرم العلك المتحلل إن بلع ريقه].
    قال: يكره إذا لم يكن قوياً، وأما إذا كان متحللاً فإنه يحرم إن بلع ريقه، أما لو أجراه في فمه ثم لفظه ولفظ ما فيه، فهذا لا يؤثر.
    حكم القبلة بالنسبة للصائم
    [وتكره القبلة لمن تحرك شهوته].
    وتكره القبلة للشخص الذي تحرك القبلة شهوته، فالشخص إذا قبَّل لا يخلو من حالات: الحالة الأولى: أن لا يأمن من نفسه أن تقوى شهوته، ويندفع إلى درجة لا يأمن معها أن يفسد صومه بالجماع.
    الحالة الثانية: أن تتحرك شهوته إلى درجة لا تصل إلى الجماع ولكن إلى أن ينزل، ويستطيع أن يحبس نفسه عن الجماع لكن لا يستطيع أن يحبس نفسه عن إنزال المني كأن يكون سريع الإنزال عند بداية شهوته.
    والحالة الثالثة: أن يكون قوياً مالكاً لإربه، فلا ينزل ويأمن أن يقع منه الجماع.
    هذه ثلاثة أحوال بالنسبة للشخص الذي تقع منه الشهوة: إما أن تحركه حتى يصل إلى غايتها من الجماع، وإما أن تحركه فيصل إلى الإنزال ولا تؤدي به إلى الجماع، وإما أن تحركه فيجد النشوة، ولكن لا يصل إلى الإنزال ولا يقع منه جماع.
    أما إذا كان لا تحرك القبلة شهوته فهو الشخص الذي لا يجد الانتشاء بالتقبيل، كأن يقبل لعاطفة، كأن يقبل أبناءه ويقبل بناته، فهي ليست بقبلة شهوة؛ لأن التقبيل يكون لمعانٍ: أن يقبل محبة وشهوة وهي قبلة الزوج لزوجته والعكس، وأن يقبل لرحمة كتقبيل الابن لأبيه والأب لابنه، ويقبل لعاطفة وهي صورة العكس الأب لابنه، ويقبل لهيبة وإجلال كأن يقبل جبهة العالم أو يده.
    فهذه أحوال للمقبل، لكن الذي يتكلم العلماء عنه: التقبيل للمرأة، وهو تقبيل الشهوة، أما لو رأى المرأة في حزن ورحمها وعطف عليها فقبلها من باب العطف والحنان، فإنه خارج عن مسألتنا، وحمل بعض العلماء عليه تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة قبل أن يدخل إلى المسجد، فقالوا: إن هذا التقبيل من النبي صلى الله عليه وسلم ليس تقبيل محبة، وإنما هو صدق مودة من النبي صلى الله عليه وسلم لها، ليس يقصد منه تحريك الشهوة، أو ما يكون بين الرجل وامرأته من باب الشهوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما قالت: كان إذا أذن عليه المؤذن لا يعرفنا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يشتغل بأمر الصلاة.
    فالتقبيل الذي يبحثه العلماء في هذا الموضع: تقبيل الشهوة، ولا يريدون منه مطلق التقبيل، فلو قبل الأب ابنه فإن قبلته قبلة عطف وحنان وشفقة، كما قال أحدهم للنبي صلى الله عليه وسلم: ( إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم.
    قال: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟! ) فوصف التقبيل بكونه رحمة، فهذا لا يتكلم العلماء عنه، وهكذا لو قبلت الأم بنتها إذا رأت عليها الحزن وقبلتها ونحو ذلك، فإذا كان التقبيل للشهوة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل وهو صائم، كما في الصحيحين من حديثٍ يرويه هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، أن عائشة رضي الله عنها قالت: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، فسألها عروة رضي الله عنه وقال: ما أراه إلا أنت.
    قال: فضحكت رضي الله عنها وأرضاها )، ما فائدة سؤال عروة رضي الله عنه بهذا الأسلوب؛ لأنه قد يقول البعض: ما داعي أن يقول عروة ذلك؟ الواقع أننا استفدنا من هذا أنها رواية متصلة لا منفصلة؛ لأنه قد تحكي أم المؤمنين شيئاً من حاله عليه الصلاة والسلام عن غيرها من أمهات المؤمنين؛ لكن كونها تضحك هذا يدل على أنه وقع لها من النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون الرواية متصلة، ويكون الفعل بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة.
    هذا يدل على أنه لا حرج أن يقبل الصائم زوجه؛ لكن قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: ( ولقد كان أملككم لإربه -وفي رواية: لأرْبه، وقيل: لأرَبِه- ) واختلف العلماء فيه على وجهين: قيل: الأَرَب هو العضو، أرادت أنه لا ينزل عليه الصلاة والسلام، وقيل: شهوته، يعني الشهوة مطلقاً؛ فإذا قلت: إن المراد بالأرب العضو، فيكون مرادها أنه يتحفظ من الإنزال، فيدل على حل أن يقبل للشهوة، ولكن بشرط أن يأمن الإنزال، وإن قلت: إن المراد بتقبيل النبي صلى الله عليه وسلم مطلق الشهوة، فحينئذٍ تشمل الشهوة المنبعثة من التقبيل، والشهوة التي يكون منها الجماع؛ فحينئذٍ تقول: إنه قبل لمعنى غير الشهوة، كأن يقبل لعطف أو لحنان أو نحو ذلك، والأول أقوى.
    وعلى هذا: فإنه لو قبل زوجته للشهوة لا حرج، لكن فيه تفصيل: إن غلب على ظنه أنه يجامع أو يقع في الجماع فلا يجوز له أن يقبل؛ لأن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها؛ فإنك لو قلت: الشرع يأذن للرجل أن يقبل زوجته، مع أنه يغلب على ظنك أنه سيقع في الجماع ويفسد الصيام، فهذا مما لا يأذن الله عز وجل به، وحينئذٍ يتناقض الشرع، ولذلك نبهت أم المؤمنين رضي الله عنها على هذا فقالت: (كان أملككم لإربه) وكأنها تريد أن تفرق بين من يملك ويقدر على حفظ نفسه، وبين من لا يملك ولا يقدر على حفظ نفسه.
    وقد دل الشرع على أن تعاطي السبب يوجب الضمان للإنسان، وأن الإنسان ينبغي عليه أن يتحفظ عن الأسباب التي تفضي به إلى الإخلال، سواء بالمأمورات أو بالمنهيات، وبناءً على ذلك إذا غلب على ظنه أنه يفسد صيامه بالجماع أو بالإنزال؛ فإنه لا يقبل.
    الحالة الثانية: فلو اعترض معترض وقال: هذا ليس بصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل، فلا داعي بأن نفرق بين من يقع وبين من لا يقع، نقول: إذا استدليت بفعله عليه الصلاة والسلام يلزمك الاستدلال به كاملاً، والذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئان: التقبيل مع التحفظ، والذي نتكلم فيه: التقبيل مع عدم التحفظ، فصورة القبلة منه صلى الله عليه وسلم فيها محافظة ولا إخلال فيها، والصورة التي ذكرها العلماء واستثنوها التي فيها الإخلال، فبقيت على الأصل الموجب للمنع، وهكذا لو أنه لم يأمن أن ينزل؛ لأن إنزاله يفضي به إلى الفطر، فاستوى أن لا يأمن الجماع وأن لا يأمن الإنزال، ففي هذه الأحوال يمنع منه.
    وأما بالنسبة لما ورد في حديث أبي داود ، وتفريقه عليه الصلاة والسلام بين الشيخ وبين الشاب فهو حديث ضعيف؛ لكن متنه صحيح، وأصول الشريعة دالة على أن الذي لا يملك نفسه، وقصدنا الشاب الذي لا يملك نفسه فإنه لا يقبل، وأما بالنسبة للذي يملك نفسه ويقدر فإنه لا حرج عليه أن يقبل.
    حرمة الكذب من الصائم وغيره
    [ويجب اجتناب كذب وغيبة وشتم].
    ويجب على الصائم أن يجتنب الكذب، في الحقيقة الكذب محرم على المسلم سواءً كان صائماً أو مفطراً، ولكن لماذا يقول المصنف رحمه الله: ويجب اجتناب كذب؟ وتوضيح ذلك أن الكذب محرم في أصل الشرع، ولكنه في رمضان أو في حال الصيام المفروض إذا كذب عليه وزران وإثمان: الإثم الأول: من جهة كونه كاذباً، والإثم الثاني: عدم رعايته لحرمة صيامه، ولذلك يضيف العلماء في باب الصيام تأكيداً، وإلا فالكذب محرم مطلقاً.
    والكذب هو مخالفة الخبر للواقع، كأن يقول: محمد في الدار.
    والواقع أنه ليس في الدار، الواقع: يعني الذي حدث وحصل أو الخارج عن الكلام الذي يوصف به ذلك؛ فلو قلت: ومحمد موجود في حال النفي أو غير موجود في حال الإثبات، فهذا كذب، أي يكون كاذباً إن كان عالماً بأنه ليس بموجود فأخبر بالوجود، والعكس.
    فالكذب محرم مطلقاً، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة:119] وقال صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح-: ( عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة ) وقوله: (يهدي إلى البر) يعني: يهدي لكل خير، فقل أن تجد إنساناً لسانه صدوق إلا وجدته أكثر الناس حرصاً على الطاعة، وقل أن تجد إنساناً كذوباً ويوفق للخير، فغالباً ما تجد الصادق في قوله الأمين في خبره موفقاً للخير؛ لأنه قد سد عن نفسه إثم لسانه، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف كمال المسلم قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) فمن أذية المسلمين باللسان الكذب عليهم، فيكذب ويخبرهم بأمور ليس لها حقيقة، فهذا من الكذب، وأشد ما يكون الكذب إذا كان على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتحليل الحرام أو تحريم الحلال، فهذا من أعظم الكذب نسأل الله السلامة والعافية! وهو من كبائر الذنوب التي توعد الله عليها باللعنة والغضب، نسأل الله السلامة والعافية.
    وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب حيث قال: ( وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور؛ وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) فالإنسان الذي لا يبالي بالكلام الذي يخرج منه، ويتكلم بما لا حقيقة له؛ فإن هذا الفعل منه اعتداء لحدود الله في اللسان، فيفجر بلسانه.
    وقد ثبت في الحديث عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( ما أخوف ما تخاف علي؟ قال: هذا أي: لسانك ) فإذا كذب لسانه وتحرى الكذب -نسأل الله السلام والعافية- اعوجت جوارحه، وهذا يشهد له ما جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أن الأعضاء تكفر اللسان في صباح كل يوم، وتقول: ( يا هذا! اتق الله فينا، فإنما نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ) وهذا يدل على خطر الكذب، ولذلك قال: ( فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً )، والكذب حرام سواء كان في الصيام أو غيره، ولكنه في الصيام أشد، وهو كبيرة من كبائر الذنوب.
    واختلف العلماء متى يكون الكذب كبيرة؟ فبعض العلماء يقول: الكذب كبيرة ولو بمرة واحدة، فمن كذب الكذبة الواحدة فإنه -نسأل الله السلامة والعافية- يعتبر فاسقاً مردود الشهادة مقدوح العدالة.
    وقال بعض العلماء: لابد وأن يتكرر الكذب ثلاث مرات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) فالناس فيهم كاذب وفيهم كذاب وفيهم كذوب، فالكذاب والكذوب هو الذي يتكرر منه الكذب، وصيغة فعّال تدل على الكثرة من ذلك الشيء، فبعض العلماء يرى أنه لا يعتبر من كبائر الذنوب إلا بثلاث، ولكن الأقوى أنه يفرق في نوعية الكذب، فبعض الكذبات تعتبر كبيرة بمرة واحدة، وبعضها لا تعتبر كبيرة إلا بالتكرار، فالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بحديث واحد يعتبر كبيرة، حتى ولو روى حديثاً وهو يعلم أنه ضعيف ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسكت على ذلك وأقره، أو عبر بصيغة تدل على ثبوته، وهو يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله السلامة والعافية! قوله: (ويجب اجتناب كذب) قال بعض العلماء: من كذب وهو صائم فقد أفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) قالوا: فإذا كذب فقد انتقض صيامه، وهذا مذهب بعض الظاهرية وبعض أهل الحديث رحمة الله عليهم، وجماهير السلف على أن الكذب لا يوجب الفطر، ولكنه ينقص أجر الصائم ويخل بثوابه الكامل، وقد يمنع من قبول الله لصيامه -نسأل الله السلامة والعافية-؛ لأن الله يقول: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة:27] وقال تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة:119] فجعل الصدق من تقواه سبحانه وتعالى من باب عطف الخاص على العام.
    وعلى هذا قالوا: إنه لا يأمن لو كذب مرة واحدة وهو صائم أن يرد الله صيامه عليه ولا يتقبله، وإذا لم يتقبل العمل فكأن الإنسان لم يعمله، نسأل الله السلامة والعافية!

    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #205
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الصيام)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (205)

    صـــــ(1) إلى صــ(28)





    حرمة الغيبة للصائم وغيره
    قوله: [وغيبة].
    ويجب اجتناب الغيبة بالنسبة للصائم فلا يغتاب الناس، والغيبة حقيقتها أن تكون بالقول وتكون بالفعل.
    وعلى ذلك فالغيبة لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون باللسان.
    والحالة الثانية: أن تكون بالجوارح والأركان.
    فأما الغيبة باللسان: فهو أن يذكر أخاه بما يكره، فيقول مثلاً: فلان قصير، فلان سمين، فلان أعرج، فلان أعور، بشرط أن لا يكون من باب التمييز المحتاج إليه أو مما اشتهر به، فهذا يعتبر من الغيبة إذا ذكر نقصاً خَلقياً أو خُلقياً، والنقص الخلقي مثلما ذكرنا: فلان قصير، فلان كذا، بصفاته الخِلقية.
    أما النقص الخلقي فينقسم إلى قسمين: منه ما يتصل بالشرع، ومنه ما يكون من أحوال الإنسان ولا يتصل بالشرع، فالنقص الخلقي المتصل بالشرع: كأن يقول: فلان فاسق، فلان فاجر، نسأل الله السلامة والعافية! فيتهمه بالفجور وبالفسق، حتى ولو كان فاسقاً أو فاجراً فهي غيبة، أما إذا لم يكن فاسقاً ولم يكن فاجراً فإنه يعتبر جامعاً بين السوءتين والعظيمتين: الغيبة والبهتان، نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أعظم ما يكون، كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام عندما قيل له: ( يا رسول الله! إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ) فهذا النقص المتعلق بالدين، أما النقص الخُلقي الذي لا يتصل بالدين: كأن يقول: فلان يستعجل في رأيه، فلان لا يشاور، فلان مستبد برأيه، فهذا عيب في الإنسان، لكنه لا يتصل بالدين ولا يعتبر قادحاً دينياً، فهذا يعتبر من الغيبة، لكنه ليس بعيب ديني، إنما هو عيب خُلقي، وهذا كله يندرج تحت الغيبة باللسان.
    أما الغيبة بالجوارح والأركان فقد تكون باليد، كأن يشير عند قوله: فلان قصير، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( والذي نفسي بيده -لما أشارت أم المؤمنين أنها قصيرة- لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لأنتنته ) أي: أن هذا الفعل منك تعيرين به هذه الأمة من إماء الله بالقصر، فيه أذية للمؤمنة، وأذية المؤمن عظيمة عند الله سبحانه وتعالى.
    فقوله: (لو مزجت بماء البحر) أي: لو كانت شيئاً حسياً يظهر قذره للعيان، ووضع هذا القذر في البحر الذي يعرف بكثرة الماء ولا يتغير، قال: (لأنتنته) أي: لوجد نتنه وضرره.
    فهذا يدل على خطر الغيبة، فهذه غيبة اليد.
    ويندرج تحت الغيبة بالجوارح غيبة اللسان: مثل أن يأتي الشخص يحكي لهجة الشخص، أو يحكي أسلوبه في الكلام؛ كأن يحاكي كلام رجل أعجمي فيتكلم كلاماً أعجمياً، أو يكون في لسانه رتق أو لثق، فيأتي بالرتق واللثق على أساس أنه يحكي كلامه، فهذا كله من الغيبة وآخذ حكمها -نسأل الله السلامة والعافية!- وكما تقع الغيبة بالكلام تقع كذلك بالجوارح والأركان؛ فبعض الناس يظن أن الغيبة لا تقع إلا بالكلام، والواقع أنها أعم من هذا كله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإشارة غيبة، ومن هنا قال العلماء: إن الفعل آخذ حكم القول؛ لأن المراد أن تحفظ حرمة أخيك المسلم، ويستوي في ذلك أن يكون انتهاكها بالقول أو يكون انتهاكها بالفعل، بل إن انتهاكها بالفعل في بعض الأحيان أشد من انتهاكها بالقول.
    والغيبة لا خير فيها، فلا يغتاب الناس إلا إنسان دنيء؛ لأن الإنسان الكامل في خلقه، والكامل في أدبه مع الناس يحفظ لسانه عن أذية المسلمين، ويصونه عن الوقيعة في أعراضهم، وعلى ذلك يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فكما أنه يكره أن يذكر عند الناس، كذلك يكره أن يذكر الناس بما لا يحبونه، فهذه الغيبة محرمة، وهي بالإجماع من كبائر الذنوب.
    واختلفوا متى تكون كبيرة، قال بعض العلماء: تعد كبيرة بحسب الأشخاص الذين يذكرهم المغتاب، فغيبة العلماء سواءً كانت باللسان أو كانت بالجوارح والأركان، يقصد منها تجريح عالم أو انتقاصه، فقالوا: هذا يعتبر كبيرة، فذكر العالم بما يكره في غيبته يعتبر كبيرة ولو مرة واحدة، وذلك لعظيم حرمتهم عند الله عز وجل.
    ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما قال المنافقون: ( ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله عز وجل { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [التوبة:65-66] ) قالوا: لأن المنافقين وقعوا في أعراض القراء واغتابوهم، وهم قراء لكتاب الله؛ ولأن الأذية لهم من جهة الشرع فكذلك العلماء والقضاة.
    والناس يقعون في الغيبة وهم لا يشعرون، فتجد الواحد يقول: القضاة لا يعرفون، أو الدعاة لا يعرفون.
    فإذا قال: القضاة فإنه قد اغتاب جميع من يقضي على وجه الأرض بشريعة الإسلام، ويعتبر متحملاً لوزرهم، نسأل الله السلامة والعافية! وهكذا إذا قال: العلماء لا يحسنون الفتوى، فإنه يعتبر متحملاً لوزر جميع العلماء إذا وصفهم بكونهم لا يفقهون، ولذلك الأمر خطير جداً! فإذا ذكرت جنساً معيناً وقلت: جنس كذا لا يفهمون، جنس كذا يسرقون، جنس كذا يفعلون، جنس كذا يتركون، جنس كذا طوال أو قصار، فهذه غيبة لتلك الأمة كلها؛ لأنه وصفهم جميعاً، وشهد عليهم بهذا، فالأمر خطير جداً والله تعالى يقول: { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [الزخرف:19].
    فالإنسان يتكلم وهو لا يدري، ويظن أن الأمر سهل، ومن هنا أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله: ( والذي نفسي بيده! إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً، يهوي بها أبعد مما بين المشرق والمغرب في نار جهنم ) الكلمة الواحدة، فهذا أمر صعب، حتى قال بعض العلماء: إن العبد يبيت قائماً ويصبح صائماً وحسناته قد ذهبت بغيبة واحدة، كأن يغتاب أمة بكاملها والعياذ بالله! فالأمر جد خطير، وعلى طالب العلم والعلماء والدعاة أن ينصحوا الناس وأن يذكروهم، فهذا أمر حرمه الله عز وجل، إذا وقع فيه الصائم -قال بعض العلماء- فسد صيامه وأفطر ولزمه القضاء.
    وهو قول ضعيف، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور أنه يأثم، وصيامه صحيح.
    وجوب اجتناب الشتم للصائم
    قوله: [وشتم].
    الشتم له حالتان: إما أن يكون شتماً يوجب النقص للمشتوم في دينه، كأن يشتمه شتيمة كفر -والعياذ بالله- فيصفه بالكفر، فهذا من أشد الشتم وهو الذي أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه أنه إذا قال لأخيه المسلم: يا كافر! إن كان كما قال وإلا حارت عليه، يعني: رجعت إليه والعياذ بالله! فهذا أعظم الشتم، وهو الشتم بالعيب الديني الموجب لخروجه من الملة.
    وبعده الشتم بالفسق، كأن يشتمه بعيب فيه فسق كشرب خمر أو زناً أو غير ذلك، فهذا من كبائر الذنوب، ومنه قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وهو الذي توعد الله عليه باللعنة والغضب والعذاب العظيم في الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة والعافية! فهذا من أشد أنواع الشتم.
    ويليه بعد ذلك: الشتم بالمحقرات، أو قد يكون الشتم غير مباشر، فيكون بالتشبيه، كأن يصفه بوصف يقصد به المنقصة، فهذا من الشتم؛ لأنه يتضمن الانتقاص والعيب.
    هذا كله مما يحرم على الصائم، ولذلك كان بعض العلماء يكره ويتقي أن يعنف الطالب في رمضان أو وهو صائم؛ خوفاً أن يكون منقصاً لأجره وموجباً لذهاب كمال ثوابه، حتى كان بعضهم يتورع ويتقي أن يقول للطالب: أنت لم تفهم؛ لأنه عيب وانتقاص؛ ولأن أصل الشتم الانتقاص.
    وعلى هذا ينبغي للصائم أن يتحفظ ولا يؤذي إخوانه المسلمين بالشتم واللعن والسب، وقد ثبت في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة ) اللعانون هم الذين يكثرون اللعن فهم لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، نسأل الله السلامة والعافية! فهؤلاء حرمهم الله من هاتين المرتبتين الكريمتين اللتين يحتاجهما الإنسان أكثر ما يكون لقرابته كأبنائه وبناته، فهو يريد أن يشفع لهم بخروجهم من النار أو بعذاب استحقوه، فلا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، والشهادة مرتبة شرف وكمال، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتحفظ من اللعنة.
    واللعنة إذا خرجت من الفم لا تعود، وإذا نطق بها اللسان إن كان الملعون كما ذكر أصابته، وأما إذا لم يكن كذلك رجعت في الذي قالها، نسأل الله السلامة والعافية!
    ما يسن لمن شُتِم
    قال رحمه الله: [وسن لمن شتم قوله: إني صائم].
    أما الدليل على أنه لا يسب ولا يشتم: قوله عليه الصلاة والسلام: ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ) والجهل: أن يسب الناس؛ لأنه فعل الجاهلية والجهل من الجاهلية، فمراده بأن لا يجهل: يعني بأن لا يقول قولاً فيه جهل، كالسب والشتم ونحو ذلك من الغيبة، ( ولا يجهل ولا يصخب -والصخب: رفع الصوت- فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم ) هذه هي السنة التي تدل على أنه ينبغي أن يتحفظ، فإذا استفزه الغير وحركه للانتقام ذكره بالصيام، ويقول: إني صائم.
    أي: عندما يقول: إني صائم، فإنه يذكر أخاه المسلم أن يتقي الله فيه، وأن لا يجمع له بين ذنبين: بين كونه يسبه وينتقصه وبين أن يحركه لإفساد صومه، ويقول بذلك ويسمعه حتى يذكره أيضاً بتقوى الله عز وجل، خاصة إذا كان صائماً مثله.
    إذا وقع السباب والمخاصمة بين اثنين فهناك سنن تتعلق بالذي شُتِمَ وسُبَّ، وسنن تتعلق بالذي يتكلم ويشتم، فالأصل أن الإنسان لا يشتم الناس كما ذكرنا، وإذا كان صائماً فإن الأمر في حقه أشد، فإن تعدى وشتم سن للذي يُشْتَمُ أن يقول: إني صائم، إني صائم.
    وبعد أن بين لنا المصنف رحمه الله أنه يحرم على الإنسان أن يسب الغير ويشتمه في حال الصيام أو أن يصخب أو يجهل، شرع في بيان ما ينبغي على من خوطب بالجهل فَسُبَّ أو شُتِمَ أو انتُهِكَ عرضُه أن يقول بلسانه: إني صائم، إني صائم.
    لقوله عليه الصلاة والسلام: ( فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم ) والصحيح: أنه يقول ذلك بلسانه ويسمعها للشخص، وقيل: يقول ذلك في نفسه، وهذا ضعيف؛ لأن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة حتى يدل الدليل على غيره، وقوله: (فليقل) القول: هو اللفظ، والكلام النفسي الذي بداخل الإنسان ليس بلفظ؛ لأنه لم يلفظه، وقد قال تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ } [ق:18] ووصف القول بأنه يلفظ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فليقل) معناه: فليلفظ هذا اللفظ فيقول: إني صائم، إني صائم.
    فإذا قال في نفسه: إني صائم، فمعنى ذلك: أنه لم يلفظ وحينئذٍ لم يقل، فلا يعتبر مصيباً للسنة من هذا الوجه.
    يسن تأخير السحور
    قال رحمه الله: [وتأخير سحور].
    وسن له أن يؤخر السحور، والسحور: فعول من السحر، والسحر آخر الليل قبل الفجر بساعة، تزيد أو تنقص على حسب طول الليل وقصره في الشتاء والصيف، والسحر: هو السدس الأخير من الليل، فتقسم الليل على ثلاثة أجزاء: ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ثم بعد ذلك تأخذ نصف الجزء الأخير وهو السدس، فهذا السدس هو السحر الذي انتهى إليه وتره عليه الصلاة والسلام كما قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيحين: ( من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوله وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر ) وهو أفضل الأوقات لذكر الله عز وجل كما قال تعالى: { وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالأَسْحَارِ } [آل عمران:17].
    وسمي السحور سحوراً لوقوعه في هذا الوقت، والعرب تسمي الشيء بزمانه، كما سميت صلاة الضحى؛ لأنها تقع في الضحى، وعيد الأضحى؛ لأن الأضحية تذبح في الضحى وهو أول النهار، فالمقصود: أن السحور سمي سحوراً بهذا، والسحور: فعل الأكل في وقت السحر، سواء كان قليلاً أو كثيراً، فمن أكل تمرة واحدة فقد تسحر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا فقال: ( ولو بتمرة ) فهو إذا أكل في السحور ولو تمرة واحدة فقد تسحر، والأفضل أن يؤخر الأكل إلى هذا الوقت؛ لأنه إذا أخر الأكل إلى هذا الوقت قويت نفسه على العبادات وعلى الطاعات؛ ولأنه يخالف شريعة من قبلنا من اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا لا يأكلون إذا استيقظوا من نومهم وإنما يمسكون، فكان في شريعتهم أنه إذا نام أحدهم حرم عليه الأكل إلى اليوم الثاني، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( فرق ما بيننا وبينهم طعمة السحر ) فهو يطعم ولو تمرة؛ حتى يخالف اليهود، وحينئذ تكون فضيلة وقربة لله عز وجل.
    والأكل في وقت السحور مما يعين على أداء فريضة الفجر؛ لأن الإنسان إذا وقام وحافظ على السحور؛ فإنه أدعى لأن يحفظ صلاته وأن يتمكن من أدائها، لكنه إذا تسحر أول الليل ربما تساهل وقصر حتى يذهب وقت الفجر عليه، أو تفوته الجماعة فلا يصلي معها.
    فالمقصود: أن الأفضل له أن يتسحر.
    لكن لو أكل من الليل ثم نام واستيقظ في السحر ولم يأكل، وواصل فإنه لا إثم عليه؛ لأنه سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، ولا تؤدي إلى الإخلال، فهذه من السنن ومن الفضائل.
    إذاً يؤخر السحور بحيث أنه بمجرد انتهائه من السحور يكون قد دخل وقت الفجر، وهذا من أفضل ما يكون، لكن ينبغي أن يكون ذلك مع حفظ وقت الفجر، أما إذا كان يتساهل ولا يضبط الوقت وعلى شبهة فيتحرى ويتحفظ؛ فالمقصود: أن تأخير السحور شرطه أن يضبط الوقت، أما إذا كان على وجه لا يأمن منه الإخلال فإنه يمنع منه؛ لأنه لا يعقل أن يطلب السنة على وجه يضيع به فريضة الله عز وجل، وهذا ركن من أركان الإسلام.
    سنية تعجيل الفطر والمبادرة به
    قال رحمه الله: [وتعجيل فطر].
    ويسن أن يعجل الفطر من صيامه، فبمجرد مغيب الشمس يبادر بالفطر، وقال بعض العلماء: بذهاب الصفرة التي تكون بعد المغيب حتى يقبل الليل، قالوا: وهذا هو السر في قوله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة:187] أي: مع إمساك جزء يسير من الليل، وعناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إذا أدبر النهار من هاهنا -وأشار إلى المغرب- وأقبل الليل من هاهنا -وأشار إلى المشرق- فقد أفطر الصائم ) ويبادر بالفطر ( وأحب العباد إلى الله أعجلهم فطراً )، كما ورد في الخبر عنه عليه الصلاة والسلام، فهذه من الفضائل؛ لما فيه من الأخذ برخصة الله عز وجل، وترك التنطع في الدين والتشدد؛ لأن التنطع لا خير فيه، والتنطع يهلك صاحبه كما قال عليه الصلاة والسلام: ( هلك المتنطعون ) ولا ينبغي للإنسان إذا وقت له الشرع شيئاً أن يجاوزه؛ فلما وقت له أن يبقى صائماً إلى مغيب الشمس، فينبغي له إذا غابت الشمس أن يأخذ برخصة الله عز وجل ويفطر.
    سنية الفطر على رطب أو تمر أو ماء والحكمة من ذلك

    قال رحمه الله: [على رطب، فإن عدم فتمر.
    فإن عدم فماء] السنة أن يكون الفطر على رطب، والرطب أفضل من التمر، فإذا لم يجد الرطب فالتمر، فإذا لم يجد التمر حسا حسوات من ماء؛ لحديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه كان إذا أفطر أفطر على رطبات، فإن لم يكن أفطر على تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء ) صلوات الله وسلامه عليه.
    وكان بعض العلماء يذكر في الطب النبوي: أن للرطب خاصية طيبة للجسم، وأنه يقابل ما في جوف الإنسان من الشدة والحرارة، ويصلح بذلك البدن ويرتفق به، بخلاف الماء فإنه ينزل نزولاً سريعاً، ويفاجئ به أعضاء الإنسان في جوفه، فيستحبون أن يسبق بالرطب؛ لأن الرطب أقل انسياباً من التمر، والتمر أسرع انسياباً.
    ثم في التمر فضائل من جهة كونه هضيماً، كما أخبر الله عز وجل: { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } [الشعراء:148] فهذا الطلع إذا كان رطباً فهو أفضل وأكمل، فإذا اكتمل استواؤه صار تمراً، ومن المعلوم أن أول ما يكون من ثمرة النخل هو البسر، ويسمى: البلح، وهو الذي يكون عند الإزهاء من اصفرار أو احمرار، فتبقى البلحة على حالها ويضربها اللون، وهذه مرتبة الإزهاء، فبعد أن تزهي تبدأ تستوي قليلاً قليلاً، فيبدأ طرفها الأسفل بالاستواء والنضج، وبعض التمرات تبدأ بالترطيب من أعلاها، وبعضها تبدأ بالترطيب من أوسطها؛ حكمة من الله سبحانه وتعالى، وهذا من أبلغ الآيات التي ترد على الطبيعيين الذين يقولون: هذا من خيرات الطبيعة.
    وما هذه الطبيعة التي ليست برازقة ولا خالقة؟! فلو كان للطبيعية دور في ذلك لكان الرطب إما أن يستوي من أسفله أو من أعلاه أو من أوسطه، فيتفق على حالة واحدة، فهذا الاختلاف في الألوان والأشكال والخلقة، والاختلاف في الصور، والاختلاف في الترطيب كما في الثمر، يدل على وحدانية الله عز وجل ووجوده؛ لأن هذا يدل على وجود من فرق بين هذه الأحوال، ولذلك جعل الله الاختلاف آية على وحدانيته سبحانه وتعالى.
    فالمقصود: أن الرطوبة تبدأ من أسفلها، فلو كان في بداية الرطب يكون آخذاً حكم هذه الفضيلة، إذا لم يجد غيره، أما إذا كان بلحاً فلا يستحب؛ لأن البلح ييبس في الحلق، وله أثر يضر بالإنسان؛ لكنه إذا كان رطباً فإن لين الاستواء يقابل خشونة ما فيه من البلح فيعتدلا، ويكون نزوله إلى الأمعاء برفق، وهذا يذكره بعض العلماء في الطب النبوي، ثم يأتي بعده التمر؛ لأن التمر ينساب أكثر من الرطب، والشيء إذا جاء برفق للبدن صلح وانتفع به البدن.
    يقولون: فإذا انساب برفق امتصته الأمعاء، ويكون هذا أكثر وأبلغ في الرفق بالبدن، فجاءت الشريعة بطب الأرواح وطب الأبدان، فكان هديه عليه الصلاة والسلام أن يبدأ بالرطب، ثم التمر، ثم الماء، وكرهوا أن يفطر على شيء فيه نار، وفيه حديث تكلم العلماء على سنده، والأطباء يؤكدون أنه لا يستقيم؛ لأن الجوف حار بسبب الصيام، فإذا شرب الحار لا يكون مما يحمد للبدن، وكان بعض الأطباء القدماء يذكرون هذا، وأشار إليه بعض الأئمة -رحمة الله عليه- في شرح حديث أنس رضي الله عنه، وبين السبب في كونه عليه الصلاة والسلام يفطر على هذا الوجه، فلا يستحبون الفطر بما فيه نار أو بالأشياء الحارة؛ لأنه لا يأمن منها الضرر لنفسه.
    سنية الدعاء عند الإفطار والحكمة منه
    قال رحمه الله: [وقول ما ورد].
    (وقول ما ورد) أي: يسن أن يقول ما ورد: ( ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله ) وأما الحديث ( اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا ) فإنه ضعيف، وإنما يدعو الإنسان بما تيسر وليس في ذلك توقيف؛ ولكن الهدي على أنه إذا انتهى الإنسان من العبادة يرجى له القبول؛ وإذا انتهى من الصلاة قبل أن يسلم شرع له الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم ( ثم ليتخير من المسألة ما شاء ) وجعل هذا الموضع موضع مظان الإجابة، كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن مواضع الإجابة: ( أي الدعاء أسمع؟ قال: أدبار الصلوات المكتوبات ) قيل: أدبار الصلوات المكتوبات، يعني: عند آخر الصلاة، فهذا من مواضع الإجابة، وبعد الصلاة الزكاة، ولذلك قال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } [التوبة:103] فإذا أدى الزكاة دعا له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكلما انتهى من الفريضة وقام بحق الله كأن الله سبحانه وتعالى يرحمه، ويكون ذلك عاجل المكافأة له في الدنيا.
    وفي الصيام إذا انتهى من صيامه رجي له القبول، وفي الحج تجده إذا انتهى من موقفه بعرفة، وأصبح في يوم العيد الذي هو تمام عشية عرفة، يصلي صلاة الصبح ثم يقف عليه الصلاة والسلام بالمشعر ويدعو.
    قال بعض السلف: شهدت هذا الموضع ستين عاماً أسأل الله أن لا يجعله آخر العهد به فيردني الله إليه، وإني لأستحيي أن أسأله، فرجع فمات من عامه.
    وورد مثله عن الثوري رحمه الله.
    المقصود: أنهم يقولون: إن انتهاء الإنسان من الطاعة والقربة مظنة الإجابة، ولذلك يقولون في الصيام: إذا انتهى من أداء صيامه يدعو وليس فيه توقيت، يعني: ليس هناك لفظ معين يحد به، وإنما يدعو بما تيسر.
    استحباب القضاء متتابعاً وفائدته
    قال رحمه الله: [ويستحب القضاء متتابعاً].
    ويستحب أن يقضي رمضان متتابعاً، وهذا الاستحباب لما فيه من براءة ذمة الإنسان وأدائه لحق الله عز وجل؛ فإنه لا يأمن الموت، ووجه الاستحباب: أنه بادر بأداء حق الله عز وجل: ( وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) فكونه يترك التأخير ويبادر بالتقديم، هذا أفضل وأكمل؛ ولذلك قالوا: الاستحباب أن يكون القضاء متتابعاً، وذلك بأن يبدأ بعد انتهاء أيام العيد بقضاء رمضان في اليوم الأول، أما لو أفطر بعده في اليوم الثاني فقد تأخر عن إبراء ذمته، فكان خلاف الأفضل، والأفضل والأكمل أن يبادر، وأن يكون قضاؤه متتابعاً، ولكن ليس بلازم، فلو قضى رمضان متفرقاً أجزأه؛ لأن الله قال: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] وبالإجماع على أن المراد بها أي أيام، ما دام أنها تصح للقضاء، فيستوي في ذلك أن تقع مرتبة أو تقع مع وجود الفاصل بالفطر.
    لكن هنا مسألة، وهي: أن البعض ربما يؤخر قضاء رمضان إلى أوقات يكون القضاء فيها أخف، كأن يؤخر إلى أيام الشتاء حيث يطول ليلها ويقصر نهارها، ويكون تأذيه بضرر الصيام والعطش أقل وأخف.
    قالوا: يفوته الأفضل والأكمل.
    حكم من أخر قضاء رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر

    قال رحمه الله: [ولا يجوز إلى رمضان آخر من غير عذر، فإن فعل فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم].
    ولا يجوز أن يؤخر قضاء رمضان إلى دخول رمضان آخر من غير أن يوجد له عذر، أما لو وجد له عذر فإنه يجوز له ذلك.
    توضيح هذا: أن قضاء رمضان إذا أفطر الإنسان يوماً أو يومين أو أكثر لعذر فإنما نقول له: أنت بالخيار أن تقضي متى ما شئت، بشرط أن لا يدخل عليك رمضان الثاني وأنت لم تصم.
    وما الدليل على ذلك؟ حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح قالت: ( إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ).
    فكانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان، وهذا يدل على أن القضاء موسع، ولذلك يذكر العلماء هذه المسألة مثالاً على الواجب الموسع، ودل على هذا القرآن في قوله: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة:184] لكن إطلاق القرآن يقيد بما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما ذكرناه؛ وذلك بأن لا يدخل رمضان آخر.
    فإذا دخل رمضان آخر ولم يصم نظرنا، نقول له: أنت بالخيار في صيامك إن شئت أن تصوم من الشهر الأول أو الثاني أو الثالث؛ لكن إذا دخل شعبان فحينئذٍ ننظر فيه، إن بقي من شعبان قدر الأيام التي عليك من رمضان الأول وجب عليك الصيام، فلو كانت عليه عشرة أيام فإنه يجب عليه أن يصوم من اليوم العشرين؛ لأن يوم الثلاثين يحتمل أن يكون من رمضان، ويحتمل أن يكون من شعبان، وحينئذٍ يصوم يوم عشرين والواحد والعشرين ثم ما بعده حتى يتم العدة.
    وأما إذا كان عليه مثلاً خمسة أيام فنقول له حينئذٍ: صم من الرابع والعشرين، فيصوم اليوم الرابع والعشرين والخامس والعشرين والسادس والعشرين، حتى لا يصل إلى يوم الشك، لاحتمال أن يكون من رمضان؛ فإذا بقي على قدر الأيام التي عليه من شعبان تعين عليه الصوم، وهذا يمثل له العلماء فيقولون: الواجب الموسع يصير مضيقاً في آخره إذا بقي على قدر فعله.
    كالصلاة إذا دخل وقتها فإن الإنسان إذا لم يكن ملزماً بالجماعة، كأن يكون في سفر أو نحوه، فله أن يؤخرها إلى آخر وقتها ولا حرج، فحينئذٍ إذا بقي على قدر فعلها تعينت عليه، وانتقل الواجب الموسع إلى الواجب المضيق.
    فإذا بقي من شعبان على قدر الأيام التي عليه فلا يخلو من حالتين: إما أن يقول: لا أريد أ ن أصوم -نسأل الله السلامة والعافية- ويترك الصيام مع القدرة عليه؛ فهو آثم شرعاً، وسيأتي بيان الحكم.
    وأما الحالة الثانية: وهي أن يكون معذوراً كالمرأة الحائض يصيبها الحيض، أو تصير نفساء في هذه الفترة؛ فإذا كان معذوراً فحينئذٍ ينتقل قضاؤه إلى ما بعد رمضان الثاني بدون أن نطالبه، ولا إثم عليه.
    فمن سألك وقال: لم أستطع قضاء رمضان الأول حتى دخل رمضان الثاني، تقول: هناك تفصيل في مسألتك: إن كنت قد قصرت عند بقاء المدة التي عليك من رمضان الأول قبل رمضان الثاني فحينئذٍ أنت آثم شرعاً.
    وهل عليه الكفارة أو لا؟ فيه قولان: الجمهور على أنه يكفر، فيطعم عن كل يوم ربع صاع، وإذا كان عليه أربعة أيام يطعم صاعاً كاملاً، فكل مسكين يعطيه ربع صاع.
    وقال بعض العلماء: لا يجب عليه إلا القضاء والاستغفار.
    وهذا أقوى؛ لأن الحديث الذي دل على الكفارة ضعيف؛ ولكن العمل عند جماهير العلماء على المطالبة بالكفارة، وإذا كفر فهو أفضل حتى يخرج من الخلاف.
    حكم من مات وعليه صوم
    قوله: [وإن مات وعليه صوم] إن مات المكلف وفي ذمته صوم واجب عليه، كصوم رمضان أو صوم نذر، فإنه يصوم عنه وليه؛ لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه ).
    فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الولي أن يحل محل مُوْليه إذا مات ذلك المولي ولم يصم، وهذا أصل عند جمع من العلماء رحمهم الله، إلا أن بعض أهل العلم فرّق بين صوم رمضان وصوم النذر، ورأوا أن الحديث خاص بصوم النذر.
    ولكن الصحيح: أن الحكم عام في كل صيام مفروض؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صوم النذر نبه به على سائر الصيام المفروض.
    وثانياً: لأن القاعدة تقول: (إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) فكون السؤال ورد على النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام النذر لا يقتضي تخصيص الحكم به، إذ كانت العلة في النذر وغيره واحدة؛ والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في صيام النذر بالقضاء بعد الموت، وذلك لكون النذر ديناً كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ( أرأيتِ لو كان على أمك دين ) فدل هذا على أنه لا فرق بين صوم النذر وغيره، والمهم أن يكون الصوم واجباً على الميت، فيشمل صوم رمضان وصوم النذر.
    ويستوي في هذا الولي أن يكون ذكراً أو أنثى، ويستوي في الميت أن يكون ذكراً أو أنثى، فالرجل يقضي عن المرأة والمرأة تقضي عن الرجل، فالابن الذكر يقضي عن والدته، وكذلك البنت الأنثى تقضي عن والدتها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه ) والمراد بذلك: جنس الولي.
    حكم من مات وعليه حج
    قال رحمه الله: [أو حج].
    أي: من مات وعليه حج، سواء كان حج فرض كأن يموت ولم يحج، ومن مات ولم يحج فعلى حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مستطيعاً الحج وفرّط في ذلك حتى مات، فحينئذٍ يجب أن يُخْرَج من ماله على قدر الحج عنه ويحج عنه.
    والحالة الثانية: أن يموت ولم يجب عليه حج؛ وذلك لأنه لم يتمكن؛ بسبب عجز مالي، ويكون معذوراً حينئذ ولا يجب عليه الحج، ومن ثم قالوا: إنه لا يجب عليه أن يُحج عنه، وهكذا لو كانت امرأة فلا يجب أن يحج عنها بعد الموت، فيستوي الرجال والنساء، المقصود أنه لا يؤمر الولي بالحج عن مُوليه إلا إذا وجب الحج على ذلك المُولي.
    وأما إذا كان الحج غير واجب عليه فلا يجب على ورثته؛ لأن القاعدة تقول: (إن البدل يأخذ حكم المبدل عنه) فالولي بدل عن الأصيل الذي هو الميت، فإذا لم يجب الحج على الميت، فمن باب أولى أن لا يجب قضاؤه على ورثته، وعلى هذا فإنه إذا وجب الحج على ميت ولم يحج وفرّط حَجّ عنه وليه.
    وهكذا إذا كان الحج واجباً بالنذر، كأن يكون حَجّ حجة الإسلام ثم قال: لله عليَّ أن أحج وَأَطْلَقَ ثم مات فيبقى النذر في ذمته على القول ببقائه بعد الموت، وإن كان بعض العلماء يسقطه؛ لأنه قد صار في عداد ما لا يملكه، ويسقط عنه كما يسقط النذر إذا لم يكن في ملك الإنسان.
    ففي هذه الحالة إذا لزمه الحج يُحج عنه إذا قصر وفرَّط فيه، ويؤخذ من ماله على قدر ما يحج به الغير عنه.
    وللعلماء تفصيل في مسألة المفرّط في الحج: فإذا كان الذي فرط في الحج وهو الميت قد وجب عليه الحج من ميقات بعيد، فإن وليه ومن يريد أن يحج عنه ينبغي عليه أن يحرم بالحج من هذا الميقات البعيد، فمثاله: لو أنه فرط في الحج وهو من أهل المدينة وقصر في ذلك، ومات ولم يحج، فإن وليه إذا أراد أن يحج عنه وكان من أهل الطائف، أو من أهل الرياض مثلاً، فإن ميقات أهل الطائف والرياض أقرب من ميقات المدينة، فحينئذٍ يلزمه أن يحرم من ميقات المدينة؛ لأن الحج وجب على الأصل من المدينة من ميقات الأبعد، فلا يحج من هو مُبْدَل عنه مما هو دون الميقات الأبعد الواجب.
    حكم من مات وعليه اعتكاف
    قوله: [أو اعتكاف].
    أو كان عليه اعتكاف، كأن نذر أن يعتكف، قالوا: استحب لوليه أن يعتكف عنه، وهذا مبني على العبادات البدنية التي يدخلها التناوب، وأما إذا كانت العبادة بدنية لا تمكن فيها النيابة، فلا ينزل الولي منزلة الميت، كأن يموت وعليه صلاة؛ فإنه بالإجماع لا يقضي الولي الصلاة عن الميت؛ لأنها عبادة بدنية محضة.
    ورخص في الصوم لورود النص، وقيس الاعتكاف على الصوم ونزل منزلته، وإلا فالأصل أن العبادات البدنية لا ينزل فيها الولي منزلة الميت؛ وإنما جاز ذلك في العبادات البدنية المُشْتَرِكة مع المال، كالحج والصوم لورود النص باستثنائه، وبقي ما عدا ذلك على الأصل الموجب لعدم دخول النيابة فيه.
    حكم من مات وعليه صلاة نذر
    قوله: [أو صلاة نذر].
    أو كان عليه صلاة نذر، فللعلماء وجهان في الصلاة عنه: أصحهما أن الصلاة لا تقضى عن الميت، وبعض أهل العلم يفرق بين الصلاة المفروضة في الأصل وبين الصلاة التي فرضها المكلف على نفسه، ووجه ذلك: أنهم يسلِّمون بأن الأصل في العبادات البدنية أنه لا تدخلها النيابة.
    فلا يصلي حي عن ميت، ولا يصلي حي عن حي، لكن ورد الحديث أن المرأة لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن وليّها الذي مات وعليه صوم نذر، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصوم عنه، قالوا: فهذا يدل على أن العبادة البدنية المحضة وهي الصوم تدخلها النيابة إذا كانت نذراً؛ لأن السؤال وقع من المرأة عن النذر، فأبقوا الفريضة على الأصل، ثم قالوا: إن النذر ينزل فيه الولي منزلة مُوليه إذا توفي ولم يفعله.
    وبناءً على ذلك ألحقوا الصلاة المنذورة، فإذا نذر أن يصلي مائة ركعة أو يصلي عشرين ركعة ونحو ذلك، وتوفي ولم يقم بهذه الصلاة، يقوم وليه بالصلاة عنه، والأول أشبه وأقوى أنه لا تدخل النيابة في مثل هذا.
    استحباب الصوم عن الميت من وليه

    قوله: [استحب لوليه قضاؤه].
    استحب لوليه أن ينزل منزلة الميت فيقوم بقضاء ما على الميت، وفي بعض الأحيان لابد من الإفراد في الولي، وفي بعض الأحيان يمكن للأولياء أن يقتسموا ما على ميتهم، فلو كان على ميتهم صوم مائة يوم وهذا الصوم نذره مفرقاً، فإنه في هذه الحالة يمكن أن تفرق المائة على الأولياء، ويصوم هذا عشرة أيام وهذا عشرة أيام حتى يتم العدد.
    وأما إذا كان الصوم لا يدخله الاشتراك كأن ينذر صيام شهر بعينه، فإنه في هذه الحالة لا يمكن أن يتأتى القيام بهذا النذر إلا من واحد من الأولياء، فحينئذ ينتدب أحدهم ويصوم عن ميته.
    الأسئلة
    حكم بلع ما علق بين الأسنان بعد طلوع الفجر


    السؤال
    ما كان عالقاً بين الأسنان من أثر السحور فابتلعه الصائم هل يفطر أم لا أثابكم الله؟


    الجواب
    ما كان من فضلات الطعام بين الأسنان مما لا يشق التحرز عنه؛ فإنه إذا خلله وأخرجه -كبقايا اللحم أو بقايا الخبز- وقام وبلعها أو وجد طعمها في حلقه بعد طلوع الفجر الصادق عامداً لذلك؛ فإنه يفطر قولاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.
    وعلى هذا: فإنه يخرج هذه الفضلات ويتفلها، أو يستاك ثم يبصق ما استاكه وما بقي من وضر ذلك الطعام، والله تعالى أعلم.
    حكم استخدام معجون الأسنان للصائم

    السؤال
    هل نستطيع أن نقيس معجون الأسنان على العلك بحيث نحكم بفطره إذا وجد طعمه في حلقه أثابكم الله؟


    الجواب
    نعم، بالنسبة لمعجون الأسنان إذا وجد طعمه في حلقه أفطر، أما لو استاك بالمعجون ثم تمضمض ونظف فمه حتى ذهبت مادة المعجون فحينئذٍ لا يؤثر؛ لأن الفم من الخارج كما ذكرنا، كما لو استاك بمسواك؛ فإن هذا لا يضر، لكن لو تحلل المعجون ووجد طعمه في حلقه فإنه يعتبر مفطراً، والله تعالى أعلم.
    وجوب القضاء على المكرهة دون الكفارة

    السؤال
    أشكل عليَّ أن المكرهة لا كفارة عليها، وعليها القضاء علماً بأن الطارئ واحد وهو الإكراه، فلم لم نرفع الكل أثابكم الله؟


    الجواب
    بالنسبة للإكراه يسقط عنها ولا كفارة، والسبب في ذلك أن الكفارة بمثابة العقوبة على الجرأة، فإذا كانت مكرهة لم يوجد فيها الجرأة التي من أجلها وجدت الكفارة، أي أننا أسقطنا عن المرأة المكرهة على الجماع الكفارة لكونها لم تتعد حدود الله عز وجل، وحصل منها هذا الشيء وهي كارهة، فحينئذ لا وجه لأن تطالبها بالكفارة حتى تجبر ما في نفسها من الجرأة على حدود الله.
    لكن في القضاء من باب خطاب الوضع، فحينئذ تطالب بضمان حق الله؛ لأنه من باب حكم الوضع لا من باب حكم التكليف، والله تعالى أعلم.
    حكم ماء المضمضة المتبقي في الفم بالنسبة للصائم

    السؤال
    بعد الوضوء أحسست في فمي ماء المضمضة، ما حكم بلعه أثابكم الله؟


    الجواب
    بالنسبة لماء المضمضة إذا كان موجوداً في الفم، أو بقايا المضمضة موجودة في الفم فيجب إلقاؤها، فإن بلعها فإنه يكون في حكم الشارب.
    أما إذا كانت بقايا المضمضة، وهي التي تكون مع اللعاب فهذا مما العلماء اغتفره؛ لأنه يشق التحرز عنه، فلو أبقى بعض الماء من المضمضة ثم ازدرده، فإنه يفطر قولاً واحداً عند العلماء، أما لو بقيت بقايا الماء مما هو مع اللعاب ومصاحب للعاب فإن هذا لا يضر.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #206
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الصيام)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (206)

    صـــــ(1) إلى صــ(24)





    شرح زاد المستقنع - باب صوم التطوع [1]
    لقد شرع الصيام فرضاً ونفلاً، وما ذلك إلا لعظيم أجره وثوابه، ومما ندب إلى صيامه: صيام الست من شوال، وأيام البيض، والإثنين والخميس، ويوم عرفة، وعاشوراء، وشهر المحرم، وما ذلك إلا ليبقى العبد على صلة دائمة بالله عز وجل عن طريق الصيام، فالصيام يطهر النفس، ويكسر الشهوة، ويحصل التقوى التي هي الغاية والحكمة من مشروعيته.
    فضل صيام التطوع
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: يقول عليه رحمة الله: [باب صوم التطوع] التطوع: تفعّل من الطاعة، والمراد بذلك زيادة الطاعة والتقرب لله عز وجل بفعل الصوم، وتوضيحه أن الصوم ينقسم إلى قسمين: قسم أوجبه الله عز وجل وفرضه على المكلف، كصيام رمضان، وصيام الكفارات، وصيام النذر، فهذا يلزم المكلف به نفسه فيجب عليه القيام به.
    وقسم ثانٍ لا يجب على المكلف وهو صيام النافلة.
    وصيام النافلة: منه ما هو مطلق، كأن يصوم من الأيام ما شاء، ومنه ما هو مقيد، ندب الشرع إليه وحث العباد عليه، وهذا أفضل من النوع الذي قبله.
    فالمؤلف لما فرغ من بيان أحكام الصيام الواجب، شرع رحمه الله في بيان أحكام الصوم الذي لا يجب على المكلف.
    يقول العلماء: إن صيام التطوع تجبر به الفريضة، فلو أن إنساناً أخل بصوم الفرض جبر الله نقص صيام الفريضة بصيام النافلة.
    واستدلوا لذلك: بما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ( إن أول ما يحاسب عنه العبد من عمله الصلاة، فإن كان فيها نقص قال الله لملائكته: انظروا هل لعبدي من تطوع ) .
    قالوا: فهذا يدل على أن نقص الفرائض يكمل من النوافل والتطوع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ثم سائر عمله على ذلك ) قالوا: فهذا يدل على أن سائر الأعمال يفرق بين فرضها ونفلها، فيكون نفلها مكملاً لفريضتها.
    وعلى هذا فمن فوائد صيام التطوع من فوائده أن الله يجبر به تقصير العبد في الفرائض، ثم إن صيام التطوع زيادة قربة وامتثال وطاعة لله عز وجل، فتزيد من محبة الله للعبد كما في الحديث الصحيح: ( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ) .
    فالتقرب بالنوافل يزيد من حسنات العبد ويرفع من درجته، ويوجب محبة الله للعبد، وبقدر حرص الإنسان على فعل النوافل والطاعات يكون أقرب لمحبة الله، فأولى الناس بمحبة الله من حافظ على النوافل وأكثر منها.
    والسبب في ذلك أنه يفعل شيئاً لم يلزمه الله به بل ترك له الخيار، فصدق في طاعته ومحبته لله عز وجل فتطوع، ويشمل ذلك الطاعات البدنية من صلاة وصيام، والنوافل المالية كالصدقات التي ينفقها الإنسان من ماله ونحو ذلك من القرب.
    كأن المصنف رحمه الله يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصيام التطوع، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن أفضل الطاعات وأشرفها الصيام؛ والسبب في ذلك أن الصيام يقوم على الإخلاص، والإخلاص هو أحب الأعمال إلى الله عز وجل.
    حتى قال بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمة الله على الجميع: إن الصيام أفضل من الصلاة؛ والسبب في ذلك أن الصلاة ربما دخلها الرياء، كما قال تعالى: { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء:142].
    ولكن في الصيام قال الله عز وجل في الحديث القدسي: ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) ففضلوا الصيام، وقالوا: إنه من أفضل الطاعات فريضة ونافلة، ففي الفرائض هو أفضل من بقية الفرائض، وفي النوافل نافلته أفضل من بقية النوافل.
    وعلى هذا خرّجوا أن الاستكثار من الصوم أفضل من الاستكثار من بقية النوافل إذا كانت تشغل عنه.
    والصحيح أن الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة )؛ ولأنها عماد الدين؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل -كما في الصحيحين: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- ( أي: العمل أحب إلى الله عز وجل ؟ قال: الصلاة على وقتها ) فالصلاة أفضل من الصيام؛ لكن المراد هنا الإشارة إلى تفضيل صيام التطوع.
    ولا شك في أن صيام التطوع له فضيلة عظيمة، ومنزلة شريفة كريمة، ولا يحافظ على الصيام لوجه الله عز وجل إلا مؤمن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( من صام يوماً في سبيل الله شديداً حره باعد الله عن وجهه النار سبعين خريفاً ) فهذا يدل على فضيلة الطاعة والتقرب لله سبحانه وتعالى بالصيام.
    صيام أيام البيض وحقيقتها
    قال رحمه الله: [يسن صيام أيام البيض].
    أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام أيام البيض، وأيام البيض هي: اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وقال بعض العلماء: هي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، والصحيح الأول.
    وقد ثبت بذلك حديث أبي ذر الذي رواه الترمذي حسنه غير واحد من الأئمة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بصيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر )، ووُصفت هذه الأيام بكونها أيام بيض؛ لأن السماء تبيضّ من شدة ضياء القمر؛ والسبب في ذلك اكتمال ضوئه، وقال العلماء: إن صيامها سنة ومستحب.
    وذهب الإمام مالك رحمة الله عليه وطائفة من أصحابه إلى المنع من صيام أيام البيض ومنع تحريها، ولعل الإمام مالكاً رحمه الله لم يبلغه الحديث في ذلك، وإن كان بعض العلماء يرى أن الإمام مالكاً كان يشدد في صيام أيام البيض أول الأمر، ثم لما ثبتت عنده السُّنة خفّف في ذلك، بل روي عنه أنه كان يصومها.
    وقال بعض أصحابه: إنما منع منها أول الأمر؛ لأنه لم تثبت عنده السُّنة، وهذا عذر للأئمة الذين ربما يؤثر عنهم القول بخلاف السنة؛ لعدم اطلاعهم عليها، كما قرر ذلك الإمام شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه النفيس: رفع الملام، وكذلك صاحب كتاب: الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف بين الأئمة، رحمة الله عليهم.
    فالصحيح أن صيام أيام البيض قربة ومستحب وأنه ليس بممنوع، وأيام البيض كما قلنا: هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
    وللعلماء فيها وجهان: الوجه الأول: أن أيام البيض هي الأيام الثلاثة التي ندب إلى صيامها من كل شهر، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام، وبركعتي الضحى ) فقوله: (ثلاثة أيام من كل شهر) الصحيح أنها هي الأيام البيض، وأن أفضل ما يكون من صيام ثلاثة أيام من كل شهر أن تكون الأيام البيض.
    وقال بعض العلماء: الأيام البيض غير الأيام الثلاث.
    والصحيح أنها هي الثلاث؛ لحديث أبي ذر رضي الله عنه: ( إذا صمت ثلاثاً من كل شهر فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ) .
    فهذا حديث صريح في أن الأيام الثلاثة من كل شهر أفضل ما تكون الأيام البيض، وقد جاءت السنة بخلاف تنوعي وليس فيه تضاد في الروايات والأحاديث، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصوم الثلاثة أيام من غرة كل شهر، وجاء في رواية أنه كان يصوم السبت والأحد والإثنين إذا وافقت أول الشهر، فإذا كان الشهر الثاني صام الثلاثاء والأربعاء والخميس.
    قال الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه: لعل الحكمة في ذلك أن يعدل بين الأيام صلوات الله وسلامه عليه، فكان إذا وافق بداية الشهر صام السبت والأحد والإثنين كما جاءت عنه الرواية، وإذا كان الشهر الذي يليه صام الثلاثاء والأربعاء والخميس.
    وجاءت الرواية أنه كان يصوم الثلاثة الأيام من غرة كل شهر، فيقول بعض العلماء: هذه الثلاث التي هي من كل شهر تنوعت السُّنة بها، فتارة تكون من غرة الشهر، وتارة تكون من أوسط الشهر في الأيام البيض، وتارة تكون من آخر الشهر.
    والخلاف هنا خلاف تنوع وليس بخلاف تضاد، بأن تحمل على أيام مخصوصة؛ فالصحيح والأقوى أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل جميع ذلك توسعة؛ لأن الناس يختلفون في أحوالهم.
    قالوا: إنما كانت الغرة؛ لأنها مبادرة بالخير؛ لأن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر سنة مستحبة، فالأفضل أن تبادر بها في أول الشهر؛ لأنه مسارعة إلى الخير ومسابقة إلى الطاعة، وذلك مندوب ومرغوب فيه، ويكون صيام الإنسان له على هذا الوجه قربة وطاعة.
    وأما إذا لم يتيسر لك صيام الغرة، فإنك تصوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، أي: تنتقل إلى منتصف الشهر، فإذا لم يتيسر لك أوله وأوسطه صمت آخره، والأمر في ذلك واسع.
    وعلى هذا فإن صيام الثلاثة الأيام من كل شهر الأفضل أن تكون الأيام البيض، ولا حرج أن تكون من غرة الشهر لورود السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
    وقد ذكر بعض العلماء -كما نبه بعض الأطباء- ومنهم الحكيم الترمذي في كتابه: المنهيات، إلى أن هذه الأيام وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، يكتمل فيها ضياء القمر ويكثر فيها الأرق ويشتد فيها هيجان الدم، فالصوم يخفف من هذا ويكون فيه لطف بالبدن.
    فجمعت السنة بين خير الدين والدنيا، وعلى هذا ففي صيام الأيام البيض علة أخرى مع كونها قربة لله عز وجل، فإنها تتضمن الرفق بالبدن من هيجان الدم في ليالي البيض عند اكتمال واشتداد الضوء.
    ومن بعد الخامس عشر ينكسر ضوء القمر، ويكون الأرق أخف من أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وهذا أمر معروف لمن جرّب ذلك في النوم تحت السماء مباشرة، فإن الأرق في هذه الأيام يشتد ويكون أكثر من غيرها كما لا يخفى.
    صيام الإثنين والخميس
    قال رحمه الله: [والإثنين والخميس].
    أي: ويسن صيام يومي الإثنين والخميس، وهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله عز وجل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الإثنين والخميس، وقال -كما في الحديث الصحيح عنه-: ( تعرض الأعمال على الله في كل إثنين وخميس ) .
    وجاء في الرواية الأخرى: ( تفتح أبواب الجنة كل إثنين وخميس فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئاً، إلا اثنين بينهما شحناء، فيقال: أَنْظِرا هذين حتى يصطلحا ) وهذا من شؤم القطيعة والعياذ بالله.
    قال بعض العلماء: يشمل هذا أن تكون القطيعة في حدود الأيام المسموح بها، وهي حدود الثلاثة الأيام، أو تكون قد جاوزت، قالوا: إذا كانت في حدود الثلاثة الأيام أن توافق يوم إثنين، فتكون بينه وبين رجل قطيعة فيقطعه يوماً ويوافق ذلك يوم إثنين، فيمنع من حصول هذا الخير من إصابة الرحمة له، نسأل الله السلامة والعافية.
    وقد جاءت في السُّنة ثلاثة أدلة تدل على شؤم القطيعة: أولها: حديث أبي داود : ( هجر المسلم سنة كسفك دمه ) ، وقد صححه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، يقولون: إنه إذا هجر المسلم أخاه سنة كاملة، فإنه تتراكم عليهم الذنوب حتى تصل في جرمها وقدرها جرم من قتل نفساً بدون حق؛ لأنه لا يأمن خلال هذه السنة من الحقد عليه والضغينة عليه، فتجتمع عليه مظالم القلب ومظالم اللسان، فلا يأمن من غيبته ولا يأمن من الوقيعة فيه، مع ما في القطيعة نفسها من إثم.
    وأما النص الثاني: فحديث ليلة القدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أراه الله ليلة القدر، فأثناء بيانها له تلاحى رجلان واختصما، ووقعت بينهما الفتنة وهما: أُبي و أبو حدرد الأسلمي رضي الله عنهما في دَيْن لهما، فتخاصما وتشاجرا حتى ارتفعت أصواتهما في المسجد، فشوشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورُفعت ليلة القدر.
    قال بعض العلماء: فمن شؤم الخصام والخلاف أن الله رفع هذا الخير العظيم عن الأمة.
    وأما الأمر الثالث: فهذا الحديث، وهو كونه تعرض الأعمال على الله في كل إثنين وخميس، فلا يغفر للإنسان إذا كان قاطعاً لأخيه.
    وأما بالنسبة لصيام الإثنين والخميس فمندوب إليه، ومفضّل لمكان عرض الأعمال على الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام: ( فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ) أي: والحال أني صائم.
    قال بعض العلماء: لأنه إذا عُرِضَ العمل وهو صائم فهو مظنة أن يُرحم العبد، وأن يتجاوز الله عز وجل عن إساءته، وأن يتقبل ما كان من طاعته فيحصل على الخيرين، فإن كان عبداً طائعاً فهو أحرى أن يتقبل الله طاعته، والقبول هو خير ما يطلبه الإنسان من ربه إذا عمل العمل.
    وأما إن كان مسيئاً فيكون مظنة أن يرحمه الله عز وجل ويغفر له.
    أقوال العلماء في صيام الست من شوال والراجح منها

    قال رحمه الله: [وست من شوال].
    أي: يندب له صيام ست من شوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: ( من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر ) والست من شوال يستوي أن تقع مرتبة أو تقع متفرقة، ويجزئه أن يصوم الإثنين والخميس ينوي بها الست من شوال، وينوي بها أن يعرض عمله وهو صائم فيحصل على الفضيلتين؛ لأن المقصود من صيام الإثنين والخميس أن يعرض العمل والعبد صائم، وهذا يقع في حالة نيته عن ست من شوال.
    وتقع الست من شوال إذا كان الإنسان عليه قضاء من رمضان، فلو أخر قضاء رمضان ولم يصمه وصام ستاً من شوال قبل فإنه يجزئه، ويحصّل هذه الفضيلة والخير؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان) خرج مخرج الغالب، يعني على الأصل من صيامه، أو يقال: إن قوله: (من صام رمضان) يشمل صيام رمضان بعينه وصيام القضاء.
    وقال بعض العلماء كما هو مذهب طائفة من الحنابلة والشافعية لا يجزئ أن يصوم الست قبل صيام رمضان؛ وذلك لأنه لم يصم رمضان؛ ولأنه لا يتأتى منه أن يتنفل وعليه فريضة.
    والصحيح أنه يجزئ أن يصوم ستاً من شوال قبل القضاء؛ لأن قوله: (من صام رمضان) لو أخذ بظاهره لم يدخل النساء في هذه الفضيلة؛ لأن المرأة لابد وأن يأتيها العذر أثناء رمضان، فلابد وأن يكون عليها قضاء.
    فإذا قيل: إنها إذا صامت بعد انتهاء يوم العيد صامت قضاءها ثم صامت الست، فإنها قد صامت رمضان وحينئذٍ يحصل لها الفضل، نقول: يستوي أن تصوم من شعبان أو تصوم من غيره، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: ( من صام رمضان ) على غير ظاهره؛ وإنما المراد أن يجمع العدد وهو ست وثلاثون، فإذا كان الإنسان قد صام ستاً وثلاثين، فإنه يستوي أن تكون أيام رمضان أصلاً أو قضاءً، ثم يصوم ستاً من شوال فحينئذٍ يكون محصلاً لهذه الفضيلة سواء سبق القضاء أو تأخر.
    ومن الأدلة على ذلك: أنه لو قيل بأنه لابد من تقدم القضاء، فإن المرأة النفساء يأتيها النفاس ويستمر معها شهر رمضان كله، وقد يستمر معها خمسة وعشرين يوماً مثلاً، فكيف ستصوم ستاً من شوال؟ لا يتأتى لها بحال أن تصيب هذا الفضل، فعلمنا أن المراد من ذلك إنما هو المبادرة بالخير بصيام رمضان أصلاً أو قضاءً، ويستوي في ذلك أن يكون قضاؤه من شوال أو يكون قضاؤه من غير شوال.
    أما كونه يتنفل وعليه فرض فهذا لا إشكال فيه؛ لأن الفرض إذا كان موسعاً فإنه لا حرج أن يتنفل صاحبه، بدليل ما لو أذن أذان الظهر فإنه يجوز للمسلم أن يصلي الراتبة القبلية مع أنه مخاطب بالفرض، لأن الوقت واسع، وقضاء رمضان وقته واسع كما ثبتت بذلك السُّنة الصحيحة في حديث أم المؤمنين عائشة : ( إن كان يكون عليّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ) والإجماع على هذا.
    وبناءً على ذلك فلا حرج أن يصوم القضاء بعد صيام الست، وحديث عائشة : ( إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان ) يدل دلالة واضحة على أنها كانت تتنفل قبل الفريضة، ولذلك كانت تصوم الست؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يندب إليها، والغالب أنها كانت تصوم، وثبت عنها في الرواية أنها صامت يوم عرفة.
    وعلى هذا فإن الصحيح والأقوى أنه يجوز أن يؤخر القضاء إلى ما بعد الست، لكن الأفضل والأكمل للإنسان أن يقدم قضاء رمضان ثم يصوم الست من بعد ذلك، وهذا أكمل من عدة وجوه، فضلاً عن كونه خروجاً من الخلاف، فإنه أفضل لما فيه من المعاجلة والمبادرة بإبراء الذمة، وذلك مندوب إليه شرعاً.
    فصيام ست من شوال مندوب إليه، خلافاً للمالكية الذين يشددون في صيام ست من شوال، وأُثر عن الإمام مالك أنه كره صيام الست من شوال.
    وللعلماء خلاف في سبب كراهية الإمام مالك لصيام الست، فقيل: إن الناس كانوا بمجرد فطرهم بعد يوم العيد يبتدئون صيام الست كما يفعله البعض الآن، فأصبح الناس في أيام العيد يضيقون على أنفسهم مع أنها أيام عيد، ولذلك كره هذه المبادرة والمعاجلة بصيام الست بمجرد انتهاء يوم العيد.
    وقال بعضهم: إنما كره متابعتها بعد العيد؛ حتى لا يُظن أنها من رمضان، فيأتي زمان يعتقد الناس أنها كالفرض والواجب، فكان من باب سد الذرائع، ومن أصول مالك رحمة الله عليه التي بنى عليه مذهبه: القول بسد الذرائع، فكان يقول: بالمنع من الصيام على هذا الوجه سداً للذريعة.
    وقيل: إنه كان يكره تتابعها، وهي أن يصومها ستاً سرداً وراء بعضها؛ حتى لا يعتقد أن ذلك فرض، والصحيح أنه يُشرع أن يصوم ستاً من شوال سواء أوقعها متتابعة أو أوقعها بعد يوم العيد، أو فرقها؛ لأن السنة أطلقت، لكن الأفضل الذي تطمئن إليه النفس، أن الإنسان يترك أيام العيد للفرح والسرور.
    ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أيام منى: ( إنها أيام أكل وشرب )، كما جاء في حديث عبد الله بن حذافة : ( فلا تصوموها ) ، فإذا كانت أيام منى الثلاثة لقربها من يوم العيد أخذت هذا الحكم، فإن أيام الفطر لا تبعد فهي قريبة.
    ولذلك تجد الناس يتضايقون إذا زارهم الإنسان في أيام العيد فعرضوا عليه ضيافتهم، وأحبوا أن يصيب من طعامهم فقال: إني صائم، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما دعاه الأنصاري لإصابة طعامه ومعه بعض أصحابه، فقام فتنحى عن القوم وقال: إني صائم، أي: نافلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أخاك قد تكلّف لك فأفطر وصم غيره ) .
    فحينما يدخل الضيف في أيام العيد، خاصة في اليوم الثاني والثالث، فإن الإنسان يأنس ويرتاح إذا رأى ضيفه يصيب من ضيافته، كونه يبادر مباشرة في اليوم الثاني والثالث بالصيام لا يخلو من نظر، فالأفضل والأكمل أن يطيب الإنسان يطيّب خواطر الناس، وقد تقع في هذا اليوم الثاني والثالث بعض الولائم، وقد يكون صاحب الوليمة له حق على الإنسان كأعمامه وأخواله، وقد يكون هناك ضيف عليهم فيحبون أن يكون الإنسان موجوداً يشاركهم في ضيافتهم، فمثل هذه الأمور من مراعاة صلة الرحم وإدخال السرور على القرابة لا شك أن فيها فضيلة أفضل من النافلة.
    والقاعدة تقول: (أنه إذا تعارضت الفضيلتان المتساويتان وكانت إحداهما يمكن تداركها في وقت غير الوقت الذي تزاحم فيه الأخرى، أُخرت التي يمكن تداركها)، -فضلاً عن أن صلة الرحم لاشك أنها من أفضل القربات فصيام ست من شوال وسّع الشرع فيه على العباد، وجعله مطلقاً من شوال كله، فأي يوم من شوال يجزئ ما عدا يوم العيد.
    بناءً على ذلك فلا وجه لأن يضيق الإنسان على نفسه في صلة رحمه، وإدخال السرور على قرابته ومن يزورهم في يوم العيد، فيؤخر هذه الست إلى ما بعد الأيام القريبة من العيد؛ لأن الناس تحتاجها لإدخال السرور وإكرام الضيف، ولا شك أن مراعاة ذلك لا يخلو الإنسان فيه من حصول الأجر، الذي قد يفوق بعض الطاعات كما لا يخفى.
    فضل صيام شهر الله المحرم بعد رمضان

    قال المصنف: [وشهر المحرم].
    أي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى صيامه، وهو أول الشهور من السنة القمرية وهو شهر الله المحرم؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن أفضل الصوم بعد شهر رمضان صوم شهر الله المحرم.
    والأفضل أن يستكثر من الصيام من شهر محرم، وأفضله يوم عاشوراء كما سينبه عليه المصنف رحمة الله عليه.
    قال العلماء: إن هذا الشهر اختص بفضيلة، ولذلك يحرص الإنسان على صيامه وهو من الأشهر الحرم، والأشهر الحرم ثلاثة منها سرد، وهي: ذو القعدة وذو الحجة وشهر الله المحرم، وواحد فرد وهو رجب كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع.
    الأقوال في صيام يوم عاشوراء والراجح منها
    قال رحمه الله: [وآكده العاشر ثم التاسع] أي: وآكد صيام شهر الله المحرم أن يصوم اليوم العاشر، وهو يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود تصوم يوم عاشوراء، فسأل عن ذلك؟ فقالوا: إنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه ).
    وللعلماء في عاشوراء قولان: منهم من يقول: إن يوم عاشوراء كان فريضة في أول الأمر ثم نُسخ برمضان.
    ومنهم من يقول: لم يكن فريضة وإنما كان سنة ولم يجب.
    والصحيح أنه كان فريضة ثم نسخت فرضيته برمضان وأصبح مستحباً.
    والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة قال: ( هذا يوم كتب الله عليكم صيامه، فمن أصبح منكم صائماً فليتم صومه، ومن أصبح منكم مفطراً فليمسك بقية يومه ) فهذا حديث صريح في الدلالة على أنه كان فريضة.
    وهذا في السنة الأولى من الهجرة، وفي السنة الثانية نزلت فرضية شهر رمضان فنسخت فرضية صيام عاشوراء، وبقي صوم يوم عاشوراء على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب، وصيام عاشوراء من شكر الله عز وجل على نعمته، فصامه عليه الصلاة والسلام شكراً لله عز وجل؛ لأن الله عز وجل دمغ فيه الباطل ونصر فيه الحق، وأظهر فيه أولياءه وكبت فيه أعداءه، فهو شكر لله عز وجل على عظيم نعمته وجزيل منته.
    والمسلم يفرح بما يصيب إخوانه المسلمون من الخير والنعمة، وتصيبه الغبطة بذلك، وهذا يدل على أن الأنبياء كانوا كالأمة الواحدة، وأن فرحه عليه الصلاة والسلام إنما هو تبع لفرح نبي الله وكَليِمه موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.
    ثم لما صام عاشوراء بعد ذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ) أي: لأصومن التاسع مع العاشر؛ لأن الأصل بقاء العاشر، ولم ينص على رفع العاشر فقال: (لأصومن التاسع) بلفظ محتمل أن يصوم التاسع وحده أو يصوم التاسع والعاشر، فبقي ما كان على ما كان.
    فلما كانت النصوص تنص على العاشر، وتبين فضيلته وأن صومه يكفّر السنة الماضية كما جاء الخبر بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بقي العاشر كما هو، فصار قوله: (لأصومن التاسع) أي: لأصومن التاسع مع العاشر مخالفة لليهود.
    وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان في أول الأمر يحب موافقة أهل الكتاب خاصة حينما كان بمكة؛ لأن أهل الكتاب كانوا أهل دين سماوي، وكان المشركون على الوثنية، فكان يحب موافقة أهل الكتاب لإغاظة أهل الشرك والوثنية.
    فلما انتقل إلى المدينة كان اليهود يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعمون أنه يأخذ من دينهم، فأصبحت الموافقة هنا محظورة، وقصد عليه الصلاة والسلام مخالفتهم، ومن ذلك قوله: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع ) أي: لأصومن التاسع والعاشر مخالفة لليهود.
    استحباب صيام التسع الأول من ذي الحجة

    قال رحمه الله: [وتسع من ذي الحجة].
    أي: ويندب صيام التسعة الأيام، وهي اليوم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع من أول شهر ذي الحجة.
    وأما اليوم العاشر فهو يوم عيد النحر، ولا يجوز صومه بالإجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين: يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى، وهما يوم ضيافة من الله سبحانه وتعالى وكرامة، ولذلك لا يصومهما المؤمن؛ ويجب الفطر فيهما حتى ولو كان الإنسان يصوم صيام كفارة، ككفارة القتل، فلو صام صيام كفارة القتل فابتدأ صيامه بشهر ذي القعدة وأتم شهر ذي القعدة، ثم شرع في شهر ذي الحجة، فإنه إذا كان يوم النحر وهو يوم العيد وجب عليه الفطر، ولا يقطع ذلك تتابع صيامه، فيصوم التسعة الأيام الأول من شهر ذي الحجة، وما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من النفي لا يقتضي عدم السنية للصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله ؟، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع بشيء من ذلك ).
    فدل هذا الحديث على فضيلة العمل الصالح المطلق في العشر، ولم يفرق صلوات الله وسلامه عليه بين الصوم ولا غيره، والأصل أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، وما ورد عن أم المؤمنين من نفي صومه عليه الصلاة والسلام للعشر من ذي الحجة فهذا مبلغ علمها.
    وأياً ما كان فلا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم يترك صيام الشيء مع سنيته وفضيلته، ألا تُراه عليه الصلاة والسلام فضل صيام نبي الله داود ولم يكن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فندب إلى ذلك بالقول، فنقول: صيام تسع من ذي الحجة مندوب إليه بالقول ولا يفتقر إلى دلالة الفعل، فنفي وجود الصوم منه عليه الصلاة والسلام لتسع ذي الحجة لا تقتضي عدم الوجود، فهو مبلغ علم.
    ولأنه عليه الصلاة والسلام إن لم يكن يصمها فقد دل على فضيلة صيامها بالقول، فلم يفتقر ذلك إلى وقوع الفعل منه، ومثله صيام يوم وإفطار يوم، حيث ندب إليه وفضله وجعله من أفضل الصيام وأحبه إلى الله عز وجل، وهو صيام نبي الله داود، ومع ذلك لم يكن يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام.
    ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يفعل العمل ويتركه خشية أن يفترض على الأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وعلى هذا فإنه لا يكره صيام تسع من ذي الحجة، بل من الأفضل صيامها، فإذا كان يوم النحر فإنه يجب فطره ولا يجوز صومه.

    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #207
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الصيام)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (207)

    صـــــ(1) إلى صــ(24)





    فضيلة صيام يوم عرفة لغير الحاج
    قال رحمه الله: [ويوم عرفة لغير حاج بها].
    أي: ويسن صيام يوم عرفة لغير حاج بها.
    أي: أن فضيلة صيام يوم عرفة ثبتت بها السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صام يوم عرفة فإنه يكفر السنة الماضية والسنة الباقية قال وفي الحديث: ( أحتسب عند الله أن يكفر السنة الماضية والسنة الباقية ) .
    ولكن الحاج الأفضل له أن يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قدح اللبن وهو واقف بعرفة صلوات الله وسلامه عليه، وذلك لما اختصم الصحابة هل هو صائم أو مفطر، فبُعث إليه بقدح من لبن فشربه صلوات الله وسلامه عليه وهو قائم يدعو عشية عرفة.
    فدل هذا على أن السُّنة والأفضل والأكمل أن لا يصوم، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت تصوم يوم عرفة، ولكن الأفضل كما روى مالك في الموطأ: (كانت تصوم يوم عرفة حتى إذا ابيض ما بينها وبين الحاج - يعني دفع الناس من عرفة وأفاضوا - دعت بفطورها فأفطرت).
    ولا شك أن الأفضل والسنة والأكمل للحاج أن لا يصوم يوم عرفة؛ والسبب في ذلك أنه إذا صام يوم عرفة فإنه يضعف عن الدعاء، ويضعف عن الذكر، وتأتي ساعات العشي التي هي أفضل ما في الموقف والإنسان منهك، وقد يشتغل بتهيئة فطوره قبل غروب الشمس، وهذا الوقت وقت دعاء وابتهال ومناجاة لله عز وجل، ولذلك كان التقوي بالفطر أفضل؛ لأنه يحقق المقصود من النسك من إصابة الدعاء ورجاء الإجابة في مثل هذا الموقف.
    ومن هنا كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم الفطر، قال العلماء: الأفضل أن يحج الإنسان راكباً مع أن الحج ماشياً أكثر مشقة وأكثر تعباً، والأصول تقتضي أنه أعظم أجراً؛ لكنهم قالوا: الأفضل أن يكون راكباً؛ لأنه إذا كان راكباً قوي على العبادة وتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم.
    أفضل صوم التطوع صيام يوم وإفطار يوم
    قال رحمه الله: [وأفضله صوم يوم وفطر يوم].
    أي: وأفضل صيام التطوع صوم يوم وفطر يوم، وبذلك ثبتت السُّنة الصحيحة كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أحب الصيام إلى الله صيام نبي الله داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) وهذا أقصى ما يكون من صيام النافلة، ولا أفضل من هذا الصيام، أي: لا يشرع أن يصوم الأيام كلها، ولذلك قال: ( لا صام من صام الأبد ) .
    فلا يجوز صيام الدهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؛ وإنما يصوم الإنسان يوماً ويفطر يوماً، وهذا يدل على سماحة هذا الدين ويسره، وأنه لا خير في التنطع والتشدد في العبادات.
    ولذلك لما قال الرجل: أما أنا فأصوم ولا أفطر قال عليه الصلاة والسلام: ( هلك المتنطعون ) فلا يجوز يسرد المرء الصوم؛ وإنما يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهو أقصى ما يؤذن فيه من صيام التطوع؛ لأن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يطيق أكثر من صيام يوم وإفطار يوم قال عليه الصلاة والسلام: ( لا أفضل من هذا ) .
    فأمره أن يقتصر على هذه الفضيلة التي هي غاية الصوم، وهي أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويستوي في ذلك أن يوافق يوم الإثنين أو لا يوافقه، فإذا كان الإنسان يريد أن يصوم يوماً ويفطر يوماً فإنه يتمسك بذلك ويسير عليه، سواء وافق الإثنين والخميس أو خالفهما؛ لأنه يحصل على أعلى المراتب في الصيام.
    ولذلك يقولون: يغتفر ما دونها من الفضائل، وتصبح مندرجة تحت هذا الصوم تحقيقاً لفضيلة الشرع؛ لأنه لو أدخل الإثنين بأن يكون صائماً يوم الأحد ثم أتبعه بالإثنين فإنه حينئذٍ تفوته فضيلة هي أكمل من صيام الإثنين، لأنه إذا صام الإثنين فكأنه صام الأبد لأنه يعتبر كأنه سرد الصوم.
    وقال بعض العلماء: يجمع بين الفضيلتين فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ويصوم الإثنين والخميس إن لم يوافقهما الصيام، وهذا القول الثاني له وجه، فلو صام يوماً وأفطر يوماً وصام الإثنين والخميس فلا حرج عليه، كما لو لم يوافق صومه يوم عرفة ويوم عاشوراء، فإنهم يقولون: يصوم ذلك اليوم ولا حرج عليه.
    إفراد رجب بصوم وغيره
    قال رحمه الله: [ويكره إفراد رجب].
    كانت العرب تعظم شهر رجب في الجاهلية، فبقيت هذه العادة في الإسلام، فنُهي عن إفراد رجب وتخصيصه بالعبادات، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه يضرب على أيدي المترجبين، أي الذين يفضلون شهر رجب ويخصونه بالصيام ويلزمهم بالفطر، وكان رضي الله عنه شديداً عليهم في ذلك، وحُق له ذلك إحياءً للسُّنة وإماتة للبدعة، فلم يكن عليه الصلاة والسلام يخص شهر رجب بفضائل.
    وتوسع الناس في ذلك حتى فضلوا هذا الشهر على غيره من الشهور، ولا شك أنه من الأشهر الحرم، ولكن لا يُخص بالعبادات، ولا يخص بالأذكار، ولا يخص بالصلوات، ولا يعتقد في أيامه ولا في لياليه؛ لأنه لم تثبت بذلك نصوص صحيحة لا في الكتاب ولا في السنة.
    والأحاديث التي وردت في تخصيص شهر رجب بالصيام والقيام والفضائل في منتصفه، وفي ليلة سبع وعشرين، كلها من الأحاديث الضعيفة، بل المكذوبة والموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي لا يجوز لمسلم أن يعتقد نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أن يتدين ويتقرب إلى الله عز وجل بها.
    فلا يجوز له أن يفرد شهر رجب بالصيام، لكن لو صام فيه الإثنين والخميس، وكذلك أيام البيض فلا حرج؛ لأن هذا في رجب وغيره على حدٍ سواء.
    إفراد يوم الجمعة بصوم
    قال رحمه الله: [والجمعة].
    أي: وكذلك الجمعة لا يجوز إفرادها بصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على أم المؤمنين وهي صائمة سألها: ( هل صمت الخميس؟ قالت: لا، قال: وهل تريدين أن تصومي الغد ؟ قالت: لا قال: فأفطري ) فأمرها بالفطر.
    وهذا يدل على حرمة تخصيص يوم الجمعة بصيام، لأن هذا يؤدي إلى الغلو فيه.
    وقال بعض العلماء: بل النهي لأن يوم الجمعة يوم فيه صلاة فإذا صام ضعف عن الصلاة، والأقوى أن العلة هي الاعتقاد في اليوم والمبالغة فيه، بدليل أنه لو كان من أجل الجمعة لكان مشروعاً للنساء؛ لأنه لا جمعة عليهن.
    وبناءً على ذلك فالذي يقوى ويترجح أن العلة هي الغلو في اليوم، وهو يوم عيد للمسلمين، وهو أفضل أيام الأسبوع كما لا يخفى، وبعض العلماء يقول: إن العلة كونه عيداً والعيد لا يصام، لكن ما ذكرناه من خوف الغلو في هذا اليوم هو الأولى والأحرى.
    وإذا نذر المسلم صوم يوم من الشهر كالخامس عشر أو الثاني عشر أو الثالث عشر ووافق نذره يوم الجمعة جاز له؛ لأنه فرض، وهكذا إذا صام يوماً قبله وهو يوم الخميس أو يوماً بعده وهو يوم السبت فإنه لا حرج عليه.
    إفراد يوم السبت بصوم
    قال رحمه الله: [والسبت].
    أي: وكذلك يحرم أن يخص السبت بصوم؛ وذلك لأن اليهود تعظم هذا اليوم، فإذا صام يوم السبت كان كما لو قصد الجمعة؛ لأنه إذا حُظر علينا أن نصوم يوم الجمعة وهو يوم عيدنا، كذلك يحظر علينا أن نخص يوم السبت بصيام لما فيه من معنى التعظيم كما ذكرنا في الجمعة.
    لكن لو أن يوم السبت وافق يوماً من الأيام البيض فإنه يشرع صيامه، وهكذا لو صام الجمعة وأحب أن يصوم معها السبت فلا حرج عليه، لأن النصوص صحيحة في الدلالة على ذلك.
    وأما نهيه عليه الصلاة والسلام في قوله: ( لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ) فهو حديث تكلم العلماء على سنده وفيه اضطراب، والعمل عند جمع من أهل العلم على ضعفه لقوة الاضطراب فيه، لكن على القول بتحسينه فإن القاعدة تقول: (إن الحديث الحسن لا يُعارض ما هو أصح منه).
    والأدلة صحيحة صريحة في صيام يوم عاشوراء ويوم عرفة، وهي ثابتة في الصحيحين، ولا شك أن الحديث الحسن لا يرتقي إلى معارضة الحديث الثابت الصحيح، كما قال بعض الفضلاء في الحديث الحسن: وهو في الحجة كالصحيح ودونه إن صير للترجيح فإذا جئنا ننظر إلى قوله: ( لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ) مع أمره عليه الصلاة والسلام بصيام يوم عاشوراء وندبه إلى صيام يوم عرفة، فإننا نرى أن هذه النصوص أقوى وأسعد وأوفق للسُّنة، وأما المبالغة في النهي إلى درجة أن البعض منع بعض الناس في الأعوام الماضية أن يصوم يوم عرفة؛ لأنه وافق السبت؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فهذا ضعيف؛ لأنه تقديم للحديث المختلف في إسناده على الأحاديث التي هي أصح وأثبت.
    إضافة إلى أن عمل جماهير السلف رحمة الله عليهم من الأمة والعلماء والأجلاء، على أنه لا حرج في صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء ولو وافقت يوم السبت، ولم يمنع ذلك أحدٌ منهم إذا وافقت يوم السبت ولم ينص على المنع منه.
    إضافة إلى أن السُّنة لم تنص على ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) ومن المعلوم أن صوم عرفة وعاشوراء قد يوافق السبت فقد ندب إلى صيامهما، ولم يقل: إلا أن يوافق السبت، وهو عليه الصلاة والسلام أرعى لحرمات الله.
    ومذهب بعض المحدثين وأئمة أهل الحديث كـ أبي داود وغيره: أن النهي عن صيام يوم السبت منسوخ، وقد أشار إلى ذلك بعد روايته للحديث.
    النهي عن صيام يوم الشك
    قال رحمه الله: [والشك].
    المراد بذلك يوم الشك، وهو اليوم الثلاثين من شعبان؛ لأنه يشك فيه هل هو من رمضان أو ليس من رمضان، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كحديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين ) وفي الحديث الصحيح: ( من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ) .
    وأشار المصنف إلى هذه المسألة هنا؛ لأن صيام يوم الشك يكون على سبيل النافلة في حالة تحقق أنه من شعبان.
    حكم صيام أعياد الكفار
    قال رحمه الله: [وعيد الكفار].
    أي: ولا يجوز صوم يوم عيد الكفار؛ لأنه تعظيم له، ولا يجوز للمسلم أن يشابه الكفار في تعظيمهم لأيام أعيادهم.
    حرمة صوم العيدين فرضاً ونفلاً
    [ويحرم صوم العيدين ولو في فرض].
    أي: ويحرم على المسلم أن يصوم يومي العيد، والمراد بذلك يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى؛ وذلك لأنهما يوم ضيافة من الله سبحانه وتعالى، فيوم عيد الفطر يفطر الناس فيه من الصوم، ويوم عيد الأضحى فإن المسلم يأكل من أضحيته التي تقرب فيها لله سبحانه وتعالى.
    ويحرم عليه أن يصوم يوم النحر ويوم الفطر ولو كان في صيام فرض، فلو كان عليه كفارة قتل فصام شهر شعبان كاملاً ثم صام رمضان ثم أراد أن يستتم الشهر الثاني بشوال فإنه يفطر يوم العيد ثم يصوم اليوم الثاني من العيد ويُتابع صيامه بعد ذلك.
    وعلى هذا فلو نذر وقال: لله علي أن أصوم يوم عيد الفطر أو يوم عيد النحر فإنه لا يصوم اليومين؛ لأنه معصية وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم هذين اليومين.
    النهي عن صيام أيام التشريق لغير الحاج المتمتع والقارن

    [وصيام أيام التشريق إلا عن دم متعة وقران].
    ولا يصام أيام التشريق كما في حديث عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي: ( إن أيام منى أيام أكل وشرب ) وفي رواية ( وبعال ) فهي أيام أكل وشرب فلا يصومها الإنسان، إلا الحاج الذي لم يجد دم المتعة ولا دم القران، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله.
    فالثلاثة الأيام من الحج يصومها إذا أحرم بحجه في اليوم السادس كأن يصوم اليوم السادس والسابع والثامن، فإذا لم يتيسر له ذلك فإنه يصوم أيام التشريق، ويشمل ذلك اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.
    الأسئلة
    جواز جعل أيام البيض من الست من شوال


    السؤال
    علمنا أنه يجوز إدراج الإثنين والخميس تحت ست من شوال، ولكن ماذا عن الأيام البيض أثابكم الله؟

    الجواب
    لو صام الثلاثة الأيام البيض، ونواها عن ست من شوال فإنه يجزيه وحينئذ يحصل الاندراج، وقال بعض العلماء: إنها مقصودة لشهر شوال فلا يحصل الاندراج، لكن الأشبه والأقوى أنه يحصل الاندراج، وهذا آخر ما رجعت إليه في المسألة.
    والله تعالى أعلم.

    حكم القبلة للمعتكف

    السؤال
    ما حكم القبلة بالنسبة للمعتكف أثابكم الله؟


    الجواب
    القبلة للمعتكف لا تجوز؛ لأن الله عز وجل قال: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة:187] وهذا أمر يخطئ فيه بعض طلاب العلم، يظن أنه كما جازت القبلة للصائم أنها تجوز للمعتكف، وفي المعتكف شيء ليس في الصائم، ولذلك انعقد الإجماع على أنه لا يقبل المعتكف زوجه؛ لأن في الاعتكاف شغلاً عن الزوجة وغيرها.
    وقد قال تعالى: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة:187] وقد كان عليه الصلاة والسلام يدخل بيته ولم يقبل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وإنما كان يمضي لحاجته فإذا فرغ انطلق إلى مسجده، فالمعتكف لا يجوز له أن يقبل المرأة ولا أن يباشرها، وإذا قبلها قال جمع من العلماء: فسد اعتكافه وبطل.
    والله تعالى أعلم.
    حكم إفطار المؤذن قبل الأذان

    السؤال
    هل المؤذن يفطر قبل الأذان أو بعد أن يؤذن أثابكم الله؟


    الجواب
    هذه المسألة في الحقيقة تنبني على التقديم عند ازدحام الفضائل، فالسنة أن يبادر الإنسان بالفطر، فالمؤذن إذا بادر بالفطر فإننا نقول: يأكل التمرة أو يحتسي من الماء ثم يؤذن، فهذا وجه من يقول: يفطر ثم يؤذن؛ لأن ظاهر السنة تعجيل الفطر.
    هناك وجه ثانٍ: أنه يؤذن ثم يفطر؛ لأنه إذا أذن أصاب الناس السنة وتأخر فرد عن إصابة هذه السنة، فيقولون: الأفضل أن يبادر بالأذان؛ لأنه إذا بادر بالأذان كان تحصيل سنة التعجيل لأمة؛ لكنه لو بادر بالفطر، كان تحصيل هذه السنة لواحد وفرد.
    وهذا الوجه أقوى، ويعتبره العلماء مستثنى من قاعدة: (لا إيثار في القربات)؛ لأن الأفضل أن الشخص يصيب الفضيلة لنفسه، لكنه حينما يؤذن يحصل أجور من بادر بالفطر فيكون له مثل أجورهم، فحينئذ يزول الإشكال ولا يكون هذا من باب الإيثار في القرب.
    فالذي تطمئن إليه النفس أنه يبادر بالأذان، ثم بعد ذلك يفطر، لما ذكرناه.
    والله تعالى أعلم.

    حكم من أفطر من النفل إبراراً لمن أقسم عليه


    السؤال
    إذا أقسم عليَّ إنسان أن آكل معه، وكنت صائماً صيام نفل، هل أبر بقسمه أم أواصل صومي أثابكم الله؟


    الجواب
    لاشك أن برك بالقسم أفضل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البراء : ( أمرنا بسبع ونهانا عن سبع )، ومن السبع التي أمر بها كما في الصحيحين إبرار المقسم، فإذا أقسم عليك أخوك فإنك تبر قسمه وتنال الأجرين: أجر الصيام بوجود العذر، وأجر إبرار أخيك المسلم في قسمه، إضافة إلى ما تحصله من كسب وده ومحبته، وذلك مندوب ومطلوب شرعاً.
    والله تعالى أعلم.
    حكم صيام من حاضت قبل المغرب بقليل

    السؤال
    امرأة حاضت قبيل المغرب بقليل هل تواصل صومها أم تفطر أثابكم الله؟


    الجواب
    إذا حاضت المرأة قبل المغرب بقليل فإنها تفطر؛ وذلك لأن الحائض لا تصوم ولا يصح منها الصوم، وهي مفطرة شاءت أم أبت، وعلى هذا فإنها تعتبر في حكم المفطر ولا تتشبه بالصائم؛ لأنه لا وجه لها أن تتشبه بالصائم، بل الأفضل أن تفطر وتصيب الأجر حيث امتثلت أمر الله عز وجل لها بالفطر.
    والله تعالى أعلم.
    تقديم طاعة الوالدين على صيام النوافل

    السؤال
    ما الحكم إذا تعارض صيام التطوع مع بر الوالد، وهل يجوز للوالد منع الابن من صيام النفل شفقة عليه أثابكم الله؟

    الجواب
    بر الوالدين من أفضل الطاعات وأجل القربات، وقد تتهم الناس إذا نصحوك أو نهوك عن أمر يريدون الخير لك، لأنك ربما اشتبهت في نصيحتهم، ولكن الوالد والوالدة لا يمكن أن تتهمهما في نصيحتهما، ولا في أي أمر يمنعانك أو يأمرانك به؛ لأنهما جبلا على محبة الخير لك، وخلق الله في قلبيهما من الرحمة والحنان والعطف ما يزيل الشبهة والشك والتهمة.
    وبناءً على ذلك فإن الوالد قد يمنعك من الصيام شفقة عليك؛ لما يرى من نحول جسمك أو ضعف بدنك، أو خوفاً عليك من أن تمل الطاعة، أو نحو ذلك من المقاصد التي قد يؤجر بحسن نيته فيها.
    وعلى هذا إذا وجدت من والديك العزيمة على أن تفطر فأفطر، فإنك تصيب البر، وهو آكد من صيامك؛ لأن صيامك نافلة، وتحصيلك لبر والديك فريضة، فقد دلت على ذلك السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (لما نادت أم جريج العابد جريحاً وهو في الصلاة، فقال: ربي أمي وصلاتي، أي: لست أدري هل أجيب أمي أو أتم صلاتي، فأتم صلاته فدعت عليك.
    وقد بوب الإمام النووي رحمه الله: باب إذا دعاه والداه أو أحدهما وهو في النافلة قطعها وأجاب، والسبب في ذلك أن بر الوالدين فرض، والنافلة نافلة ليست بعزيمة، وأحب ما تتقرب به الفريضة، وهي مقدمة على النافلة.
    ولو كان البر نافلة لكان التنفل بالبر أفضل من التنفل بالنوافل الأخرى، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما سئل عن أحب الأعمال إلى الله قال: الصلاة على وقتها قيل له: ثم أي؟ قال: بر الوالدين ) ولم يفرق فيه بين الفريضة والنافلة، وعلى هذا فإنك تجيب و الديك، فإن قال الوالد: لا تصم الإثنين والخميس؛ شفقة عليك وخوفاً على صحتك، فإنك تبره وحينئذٍ يكتب لك أجر الصيام لأنه حبسك عذر البر، ويكتب لك أجر البر، وأنت على خير، وكم من إنسان صرف عن طاعة لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، فما من إنسان يبر والديه في الغالب ما لم يأمر بمعصية إلا كان عاقبته خيراً.
    والإنسان قد يغلبه حب الخير فيترك الفريضة بالنافلة، ولا شك أن بر الوالدين غالباً ما يأتي بأحسن العواقب وأفضلها، وقد تصرف عن النافلة بخير أعظم من ذلك، وقد يعلم الله عز وجل أنك لو داومت على خير لفتنت به بالعجب أو بالغرور.
    فذات مرة اتصل بي رجل وهو يريد أن يتزوج بامرأة صالحة، وقال: إن أمه لا ترضى عن هذه المرأة، وإنها تريد امرأة قريبة له ولكنها أقل صلاحاً من هذه المرأة، فقال: نفسي تميل إلى هذه المرأة الصالحة، ولكن الوالدة تلح على ابنة خالتي؛ لأنها بنت أختها، قال: فأجد في نفسي الضيق أن أترك هذه الصالحة وأبر والدتي.
    فقلت له: فيما يظهر من نصوص الشرع ما دام أن هذه بنت الخالة لا ترتكب الحرام، وأنها محافظة على أصول دينها ولكنها ليست في مرتبة الكمال، فبرك لوالدتك أفضل، فما زال يلح حتى تكرر منه السؤال ثلاث أو أربع مرات، وما زلت أحثه على بر والدته، وشاء الله أن يبر والدته وأن يترك المرأة التي كانت أصلح وعلى خير واستقامة، وانصرف إلى بنت خالته، وتزوجت المرأة الصالحة، ويشاء الله عز وجل بعد عام كامل أن ألتقي به في سفر وإذا به يكب عليَّ يسلم ويبكي، قال: والله يا شيخ! لقد سألتك عن أمر كذا وكذا إن كنت لا تذكره فإني أذكرك به، لقد شاء الله عز وجل أن تتزوج هذه المرأة الصالحة وأن أتزوج بنت خالتي، فوضع الله لي البركة في بنت الخالة، فصلحت واهتدت وحصل منها الخير الكثير، وشاء الله أن المرأة الصالحة أنه بعد زواجها بشهرين أن انتكست والعياذ بالله، وأصبحت من أفسق النساء حتى إنها اتهمت.
    فالله عز وجل لحكمة يوقفك على شيء تهواه وتحبه، وقد تتحمس لعاطفة الدين وأنت على خير وأنت تريد نية الخير، ولكن الله يقيض لك أماً تدعوك إلى برها ويقيض الله لك والداً يدعوك إلى بره، فقد ترى أن هذه المرأة صالحة، ولكن علم الله أن خاتمتها ليست بحسنة، أو تراها صالحة ولكن علم الله أن ذريتها ليست بصالحة، فيقيض الله لك الوالد أو الوالدة يقفان في وجهك ويصرفانك عما هو أجود، فقد ترى بنت الخالة أو بنت العم أقل صلاحاً، وقد تبتلى في آخر عمرك ببلية وتكون بنت العم أصبر على بليتك، وقد تكون بنت العم التي تراها أقل التزاماً أو أقل طاعة، قد يجعل الله لك منها ذرية ونسلاً صالحاً.
    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا البر وأن يعيذنا من العقوق، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضى.
    إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #208
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الصيام)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (208)

    صـــــ(1) إلى صــ(11)





    شرح زاد المستقنع - باب صوم التطوع [2]
    الدخول والشروع في الفرض الموسع يحرم قطعه، ويوجب إتمامه، أما إذا كان نفلاً فلا يحرم؛ ولكن الإتمام أفضل.
    وقد فضل الله شهر رمضان فاختصه بوجوب الصيام، وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير ليالي العام، وفضائلها مشهورة، وهذه الليلة كما ينبغي الحرص عليها ينبغي معرفة آدابها وما يستحب من الدعاء والعمل فيها، ومعرفة الليلة التي يرجى أن توافقها.
    يحرم قطع الفرض الموسع لمن دخل فيه
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه].
    بين المصنف رحمه الله بهذه العبارة أن الشروع في الفريضة يمنع من قطعها، وهذا أصل قد دل عليه قوله سبحانه وتعالى: { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [محمد:33] ولا شك أن العبادة في الأصل إذا شرع الإنسان فيها فعليه أن يحرص على إتمامها وكمالها، وإذا أحب الله العبد ووفقه للطاعة والخير والبر فمن دلائل حبه له أن يعينه على فعل ذلك الخير، فإذا أراد أن يتمم عليه النعمة ويكملها أعانه على تكميل ذلك الخير.
    فالشروع في الفرض الموسع يحرم قطعه.
    والفرض ينقسم إلى قسمين: مضيق، وموسع.
    فالمضيق: يلزم فعله في وقته الذي ضيق الشرع فيه، ولا يجوز للمكلف أن يؤخره.
    وأما الموسع: كقضاء رمضان، فإنه يجب عليك أن تقضي ما فاتك من أيام رمضان، إلا أن هذا القضاء لا تطالب به مباشرة بعد انتهاء شهر الصوم؛ فقد وسع الله في قضائه إلى رمضان الآخر، فهو واجب موسع وفرض موسع.
    وهكذا لو أذن عليك أذان الظهر وأنت في أول الوقت فإنه فرض موسع، أي أنك بالخيار أن تؤخره ما لم يكن ذلك سبباً في تفويت جماعة أو نحوه، إذا كان يجب على الإنسان أن يشهدها.
    فالمقصود: أن الواجب الموسع ذكره المصنف لكي ينبه على أن الواجب المضيق من باب أولى وأحرى.
    بناءً على العبارة الأولى، فلو أن إنساناً كان عليه صيام يوم من رمضان، وقضاؤه موسع، فأنت بالخيار أن تصوم مباشرة بعد يوم العيد، وبين أن تؤخر القضاء إلى شعبان، فلو أنك بادرت وصمت هذا اليوم في شوال، فإنك بشروعك فيه لا يجوز لك أن تقطعه ولا أن تفطر فيه.
    أقوال العلماء في قطع النفل بعد الشروع فيه
    قال رحمه الله: [ولا يلزم في النفل].
    أي: إذا صام الإنسان صوم نفل فهل يلزمه بمجرد شروعه في صوم النفل أن يتمه أو لا يلزمه الإتمام؟ قولان عند العلماء رحمة الله عليهم، وتعرف هذه المسألة عند أهل العلم رحمهم الله بمسألة: الشروع في النوافل، وأوردوا عليها السؤال المشهور: هل الشروع في النوافل يصيّرها فرائض أو لا؟ فذهب طائفة من العلماء إلى أن الشروع في النوافل يصيرها فرائض.
    وذهب طائفة من العلماء إلى أن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض.
    ومحل الخلاف: إذا بدأ الإنسان بالنافلة.
    ومن أمثلة ذلك: لو أن إنساناً أحرم بنافلة في الضحى مثلاً، فإنه لا يجب عليه إتمامها، فلو أنه عرض له العارض فسلَّم منها ومضى، فإنه لا حرج عليه على القول الثاني، وأما على القول الأول فيأثم؛ لأن الشروع فيها ملزم بإتمامها، وهكذا في الصوم، فمن شرع في صوم نافلة كأن يصوم الإثنين والخميس، ثم طرأ عليه ما يوجب فطره من غير عارض لازم، فلم يكن ذلك لمرض أو عذر، فعلى القول بأن الشروع في النوافل يصيرها فرائض لا يجوز له الفطر، ويجب عليه أن يتم صوم ذلك اليوم، وعلى القول بأن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض، فإنه لا يجب عليك الإتمام، فإن شاء أفطر، وإن شاء أتم، وهو الصحيح.
    والدليل على جواز فطرك في صوم النافلة إذا شرعت فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المتطوع أمير نفسه ) فدل هذا الحديث على أن الخيار لمن تطوع، ولكن الأفضل والأكمل للمسلم إذا بدأ خيراً أن لا يقفل بابه على نفسه، ولذلك ينبغي للمسلم دائماً أن يحرص على شكر نعمة الله عليه بالطاعة، فأي عمل خير يفتحه الله عليك من نافلة أو بر فلا تقطعه ما استطعت لإتمامه سبيلاً.
    وهذه المسألة يقع فيها بعض الأخيار خاصةً، إذا عرضت لهم أمور فيها خير ومصلحة، فتجد الإمام يتقدم بالناس ويؤمهم أو يعظهم ويخطب فيهم، فقلّ أن تجد الشيطان يترك مثل هذا، فيأتيه من باب الخير فيسوّل له ترك هذا العمل، أو الإعراض عنه بحجة الاشتغال بغيره.
    وهذا لا شك أنه يقفل على نفسه باب الخير، ويحرم نفسه من خير عظيم، وهكذا إذا فتح الله عليك باب خير في دعوة أو بر أو قربة ونحو ذلك مما يحتسب فيه الأجر عند الله، إياك أن تكون سبباً في قفل باب الخير عليك! فلو كنت مشتغلاً بالصدقات وتفريج كربات المسلمين وستر عوراتهم، فجاءك الشيطان وقال لك: اترك هذا، وأقبل على كذا وكذا؛ فانظر رحمك الله في أمرك؛ وارجع إلى العلماء ولا تستعجل؛ لأنه قلّ أن يوفق إنسان لباب خير فيقفله عليه ثم يوفق له ثانية؛ لأنه إذا تسبب في قفل باب الخير على نفسه كأنه أعرض عن نعمة الله، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه.
    ولذلك تجد الإنسان إذا كان مذبذباً في أموره، وكلما فتح الله عليه باب خير قفله على نفسه، قلّ أن تجده موفقاً، وقلّ أن يصيب الكمالات في أمور الطاعة والبر، فينبغي على الإنسان دائماً إذا وجد أن الله هيأ له باب خير، كالصلاة والصيام وقيام الليل أن لاّ يسعى في قفل هذا الباب على نفسه، فإن حال بينه وبين هذا الخير عذر كمرض أو شغل أو نحو ذلك مما هو آكد، فإنه يندم، ويشتكي إلى الله عز وجل أنه لو كان فارغاً لقام بهذا الخير حتى يجمع الله له بين الحسنيين، ويُبَلِّغه أجر الطاعتين، والله كريم وفضله عظيم، وكلما حسنت نية الإنسان بلغ من الخير الشيء الكثير.
    فهذه الجملة المقصود منها: أن الإنسان إذا بدأ بالطاعة، فإنه مخير بين أن يتمها، وهذا أفضل بإجماع العلماء، وبين أن يتركها، وهذا دون الكمال، ولا يجب عليه أن يتم؛ لأن الطاعات ليست بواجبة في أصل الشرع إلا شيئاً واحداً استثناه العلماء من النوافل فيجب إتمامه بمجرد الدخول فيه، وهو النسك، والمراد به الحج والعمرة.
    فمن أحرم بحج نافلة أو أحرم بعمرة نافلة فإنه يجب عليه إتمامهما، ولا يحل إلا بإتمامهما إلا في ما استثنى الله من المحصر وما في حكمه، فلو أن إنساناً أحرم بعمرة نافلة في رمضان مثلاً، ثم جاء فوجد الزحام، فقال: لا أريد أن أتمها، ولبس ثيابه ومضى، فقال: ما دامت نافلة فإني لا أتمها، ورجع إلى أهله، فإنه لا يزال محرماً حتى يتحلل من عمرته، وجميع ما يصيب من محظورات الإحرام فإنه يجب عليه أن يفتدي عنها، ولو مضت على هذه العمرة أيام وأسابيع وشهور، فإنه لا يزال مخاطباً بنص كتاب الله عز وجل بإتمامها، كما في قوله سبحانه: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196].
    وقد أجمع العلماء على أن الحج والعمرة إذا كانا نافلة، أنه يجب على من شرع فيهما أن يتمهما، وعلى هذا: فإن العلماء استثنوا من مسألة الشروع في النوافل الحج والعمرة إذا كانا نافلتين، فيجب على الإنسان أن يتمهما ولا يخرج منهما إلا بالتحلل، أو بالصورة التي أذن الله فيها في مسائل الإحصار، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية.
    عدم وجوب قضاء الفاسد من النوافل إلا نافلة الحج
    قال رحمه الله: [ولا قضاء فاسده إلا الحج].
    أي: ولا يجب عليه قضاء الفاسد من النافلة.
    فلو أن إنساناً صلى ركعتين وتبين له فسادهما، فإنه لا يجب عليه قضاء الركعتين، وأما الحج والعمرة فإنه يجب عليه قضاء الفاسد.
    توضيح ذلك: لو أن إنساناً أحرم بالحج أو أحرم بالعمرة وقد نوى النافلة، ثم أفسد ذلك بالجماع، فيقال له: يجب عليك أن تمضي في هذا الفاسد وأن تتمه، ثم تنشئ بعد ذلك عمرة بدلاً عن هذه العمرة، أو حجاً بدل هذا الحج.
    وهذا هو ظاهر القرآن في قوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196] قال العلماء: وردت الآية الكريمة عامة تأمر بالإتمام للفاسد والصحيح على حد سواء، فيجب عليه أن يتم عمرته الفاسدة ويتم أيضاً حجه الفاسد، وعليه القضاء.
    وبذلك أفتى عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر في الرجل الذي جامع أهله، وأصله قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: عليه أن يمضي في حجه حتى يتمه، ثم يأتي بحج من عام قابل ويهدي، ويفترقا.
    يعني: أنه لا يحج مع امرأته في السنة القادمة عقوبة له، وخوفاً من الوقوع مرة أخرى، من باب تعاطي الأسباب لحفظ الحق لله عز وجل.
    طلب ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان
    قال رحمه الله: [وترجى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان] حديث المصنف هنا عن الصوم، ولما بين أحكام الصوم المفروض والصوم النافلة شرع فيما يتبع الصوم من قيام رمضان.
    وقيام رمضان في الأصل يراد به تحصيل فضيلة الشهر كله، وفضيلة ليلة القدر على وجه الخصوص، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).
    وقال أيضاً في الصحيح: ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).
    فقوله رحمه الله: (وترجى ليلة القدر في العشر الأواخر): أولاً: ليلة القدر سميت بذلك لعظيم قدرها ومكانتها عند الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك شرفها الله عز وجل فجعل قيامها خيراً من ألف شهر يقومها الإنسان، ولا شك أن هذا يدل دلالة واضحة على أن الله فضلها واختارها من بين الليالي، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله في تفسير قوله تعالى: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [القصص:68] : إن الله اختار من الليالي ليالي العشر الأواخر، واختار من الليالي العشر ليلة القدر.
    وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ } [الفجر:1-2]: هي ليالي العشر الأواخر من رمضان، أقسم الله عز وجل بها لشرفها وعظيم قدرها ومكانها؛ لاشتمالها على أعظم وأفضل ليلة وهي ليلة القدر.
    والله سبحانه وتعالى اختار من الناس، واختار من الجماد، واختار من الأزمنة، واختار من الأمكنة ما شاء سبحانه وتعالى، فاختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة، واختار من ليالي السنة ليالي العشر، واختار من ليالي العشر ليلة القدر، واختار من الأيام أيام العشر من ذي الحجة، فأيام العشر من ذي الحجة أيام مفضلة، واختار من أيام العشر من ذي الحجة يوم عرفة، فكان اختيار الله عز وجل لجميعها.
    فإذا نظرت إلى الأيام كانت الأيام العشر من ذي الحجة أفضل، وفضيلتها في النهار آكد، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة ) وخصت ليالي العشر الأواخر من رمضان بفضيلة الليل دون النهار، وهذا الذي دعا بعض العلماء إلى قوله: إن أيام عشر من ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر؛ وذلك لأن العشر الأواخر فضيلتها في الليل، وأما عشر من ذي الحجة ففضيلتها عامة شاملة لليل والنهار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من أيام) فشمل ذلك النهار والليل.
    وأما بالنسبة لليالي: فالفضيلة لليالي العشر، وبها ورد القسم، وأفضل ليالي العشر ليلة القدر بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، وأفضل أيام العشر من ذي الحجة يوم عرفة، وهذا التفضيل لله فيه الحكمة البالغة.
    والله سبحانه وتعالى فضل ليلة القدر وندب إلى إحيائها، وذلك في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله سبحانه: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر:1-3] فوصفها بأنها خَيْرٌ، وقوله: (خَيْرٌ) في لغة العرب بمعنى: أخير، فالعرب تقول: فلان خير من فلان.
    أي: أخير، وتقول: فلان شر من فلان.
    أي: أشر، كما في قول أبي طالب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم في البائية المشهورة: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّا وَجدْنا مُحَمَّداً نَبِيّاً كَمُوْسَى خطَّ في أَوَّلِ الكُتْبِ وَأن عليه في العباد محَبَّةً وَلاَ خَيْرَ مِمَّنْ خَصَّهُ الله بالحُبِّ أي: ولا أخير ممن خصه الله بالحب، فمعنى قول الله في ليلة القدر: { خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر:3] أخير من ألف شهر، وهذا يدل على فضيلتها وعظيم شأنها عند ربها.
    وقال بعض العلماء: ليلة القدر من التقدير؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقدر فيها الأرزاق والأمور، وهي الليلة التي يكون فيها التقدير من عام إلى عام، والله أعلم بما يكتب فيها من سعادة السعداء ومن شقاء الأشقياء، ولذلك فضلت وَشُرِّفَت بهذا.
    وقوله: ( ترجى ليلة القدر) أخفى الله ليلة القدر؛ وهذا لحكمة منه سبحانه وتعالى، وهذا الخفاء -كما يقول العلماء- لكي يجتهد الناس في الطاعة، فلا يقتصرون على ليلة من بين الليالي، ولا يجعلون طاعتهم مقصورة عليها، فإذا علموا أنها في العشر الأواخر اجتهدوا في العشر الأواخر كلها، وهذا هو مقصود الشرع.
    تأكد طلب ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر
    قال رحمه الله: [وأوتارة آكد] وعلى هذا: فإن الأفضل أن يحرص على قيام ليالي العشر لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف العشر الأواخر من رمضان.
    وأوتار العشر الأواخر آكد؛ وذلك لنص النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
    وللعلماء في الوتر وجهان: منهم من يقول: الوتر بعدد الشهر، فيبتدئ بالليلة الحادية والعشرين، ثم بعدها ليلة ثلاث وعشرين، ثم ليلة خمس وعشرين، ثم ليلة سبع وعشرين، ثم ليلة تسع وعشرين.
    وقيل: الوتر لما بقي من الشهر، فيشمل ذلك ليلة الثلاثين، وليلة ثمانٍ وعشرين، وليلة ست وعشرين، وليلة أربع وعشرين، وليلة اثنتين وعشرين؛ وذلك بسبب كون الباقي وتراً إذا نظرت إلى العدد.
    ومن هنا قال العلماء: إنها تشمل الأوتار والأشفاع لاحتمال النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( في ثالثة تبقى، في خامسة تبقى ) والثالثة التي تبقى هي: ليلة ست وعشرين، والخامسة التي تبقى هي: ليلة أربع وعشرين، وقس على هذا، ومن هنا قال العلماء: شمل الأمر بالوتر ما بقي وشمل عدد الشهر، ومن هنا بقيت محتملة للعشر الأواخر كلها.
    وأقوى الأقوال: أنها تنتقل؛ وذلك لأن النصوص قوية جداً في إثبات ليلة الحادي والعشرين وإثبات ليلة التاسع والعشرين، ولذلك لا يمكن التوفيق بين هذه النصوص إلا بمسألة الانتقال.
    وهذا قول جمع من السلف رحمة الله عليهم وجمع من الأئمة؛ بأنه لا يمكن الجمع بين هذه النصوص إلا على هذا الوجه، مع أن هناك بعض الأدلة يقوي ليلة خمس وعشرين، وهناك بعض الأدلة يدل على إحدى وعشرين، وهو ثابت في الصحيح، وليلة سبع وعشرين وهو آكدها وأقواها لورود كثير من الأدلة، فدل هذا على وجود مسألة الانتقال.
    والمسلم يتحرى هذه الليلة ويحرص على قيام العشر الأواخر طلباً لفضيلتها، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى يختص بفضله من شاء، وإذا حسنت نية الإنسان وصدق مع الله فإن الله يصدق معه.
    هذان قولان للعلماء رحمة الله عليهم؛ لأن السُّنة وردت بهما في حديث: ( التمسوها في الوتر من العشر الأواخر ) وكذلك تفصيله في قوله: ( في ثالثة تبقى، في خامسة تبقى ) ومن قال: إنها ليلة إحدى وعشرين فقد استدل عليها بحديث المطر ( أُريت أني أسجد صبيحتها على الماء والطين ) فوكف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين، وأُري الماء والطين في جبهته صلوات الله وسلامه عليه في مسجده، فهذا يقوي قول من قال: هي ليلة إحدى وعشرين.
    القول بأن ليلة القدر في ليلة سبع وعشرين
    قال رحمه الله: [وليلة سبع وعشرين أبلغ].
    فإنه قد قال به جمع من السلف رحمهم الله، ويختاره بعض الأئمة كما نبه عليه المصنف رحمه الله عليه.
    والذي يظهر -والله أعلم- أن القول بانتقالها قول من القوة بمكان، أي: أنها تنتقل خلال العشر، وأن ليالي العشر محتملة؛ ولله في ذلك حكمة بالغة، فلو علم الناس ليلة القدر لأهلك بعضهم بعضاً بالدعاء، ولتسلط السفهاء بمسائل وحوائج الدنيا، ولخمل الناس عن إحياء العشر الأواخر، والعناية بغيرها، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى: أنه جعلها مخفية، وقد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم عليها ثم رفعت.
    وسبب رفعها: أنه تلاحى رجلان -وهما: أُبي و أبو حدرد الأسلمي رضي الله عنهما- فلما تلاحيا، أي: حصلت بينهما الخصومة داخل المسجد في الدَّين، كشف النبي صلى الله عليه وسلم الستار من قبته التي كان يعتكف فيها، فأمر عليه الصلاة والسلام بالوضع من الدَّين، وأمر المديون أن يقوم بالقضاء، وقال لأصحابه: ( أُريت ليلتكم هذه فتلاحى رجلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً ...) أي: عسى الله أن يجعل الخير في رفعها.
    ولا شك أنه خير عظيم إذ صرف الله عز وجل الناس إلى الاشتغال بإحياء الليالي العشر، وهذا أعظم في أجورهم؛ والإنسان إذا أحيا ليالي العشر كاملة فلا شك أنه مصيب لليلة القدر، وأنه سينال هذه الفضيلة بلا إشكال؛ لنص النبي صلى الله عليه وسلم على كونها داخل العشر.
    دعاء ليلة القدر
    قال رحمه الله: [ويدعو فيها بما ورد].
    أي: ويدعو في ليلة القدر إذا رآها بما ورد؛ والسبب في ذلك: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( يا رسول الله! أرأيت لو أني رأيت ليلة القدر ما أقول.
    قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ) استدل بعض العلماء بقولها: (رأيت) على أن السُّنة دالة على أن لليلة القدر أمارات وعلامات، وأن الإنسان يتبين بهذه العلامات أن الليلة ليلة القدر؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (لو أني رأيت ليلة القدر).
    وتوسع العوام في ذلك وأحدثوا في ذلك بدعاً وأموراً لا أصل لها في الشرع، وذلك في الدلالة على ليالي القدر، والصحيح: أن هذا أمر مسكوت عنه، والله أعلم بالعلامات التي تكون والتي تقع.
    ولكن من أهل العلم رحمة الله عليهم من قال: إن الله وصف هذه الليلة بنزول الملائكة، والملائكة سكينة، والسكينة تغشى معها الطمأنينة للناس، خاصة في المساجد، قالوا: فالغالب أن الإنسان يجد من انشراح الصدر وطمأنينة القلب ما لا يجده في غيرها من الليالي؛ لأن الملائكة تتنزل، ولا شك أن السكينة إذا تنزلت فإن فيها الثبات وفيها الطمأنينة، ويجد الناس أثر ذلك.
    فهذه من العلامات التي استؤنس فيها بورود نص القرآن بقوله سبحانه: { تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ } [القدر:4] لكن ينبغي الوقوف في مثل هذا على مورد النص؛ لأنه هو الأصل.
    الأسئلة
    الشروع في النافلة لا يصيرها فريضة


    السؤال
    على القول الراجح بأن الشروع في النوافل لا يصيرها فرائض، فما معنى قول الله عز وجل: { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [محمد:33] أثابكم الله؟

    الجواب
    أن ظاهر هذه الآية الكريمة المراد به: ما أوجبه الله وفرضه على عبده، فهذه الأعمال التي فرضها الله سبحانه وتعالى على العبد، لا ينبغي له أن يسعى في إبطالها وإفسادها باختياره.
    أما بالنسبة للنوافل وبالنسبة وما لم يوجبه الله عليه فإننا نقول: يجوز له أن يقطعه؛ والسبب في ذلك: أنه لو قيل: إن الآية عامة فإننا نقول: هذا العام مخصص؛ لأنك لو قلت: إن الشروع في النافلة يصيرها فريضة؛ أصبحت النافلة التي نص الشرع على كونها نافلة فريضة، والشرع إنما نص على كونها نافلة، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) فدل على أن النافلة ليست بفريضة، إذ لو كانت النافلة فريضة بالشروع للزم إتمامها ولو فاتت الفريضة.
    فدلت هذه النصوص بمجموعها على أن النافلة نافلة، وأننا لو قلنا: إن الشروع فيها يصيرها فريضة فقد خالفنا أصل الشرع الذي جعلها ليست بلازمة، كما في الصحيحين عندما سئل عليه الصلاة والسلام: ( هل علي غيرها؟ قال: لا؛ إلا أن تطوع ) فوصفه بكونه متطوعاً من بداية العمل إلى نهايته، فدل على أن النافلة نافلة، وأنها لا تصير فريضة بالشروع.
    والله تعالى أعلم.

    حكم من نذر أن يصوم يوماً ثم أراد قطع الصيام


    السؤال
    من نذر أن يصوم لله يوماً، ثم صام وأراد أن يقطع صومه ويصوم في يوم آخر، فهل له ذلك؟


    الجواب
    من نذر أن يصوم لله يوماً: إن سمّى اليوم وحدده فلا يجوز له أن يفطر قولاً واحداً؛ كأن يقول: لله علي أن أصوم غداً، فحينئذ لا يجوز له أن يفطر قولاً واحداً، لكن إذا قال: لله عليّ أن أصوم يوماً وأطلق، فهذا واجب موسع يصدق على أي يوم، لكنه بمجرد دخوله فيه صار مضيقاً عليه، وحينئذٍ هو فريضة في أصله، وبتحديده لذلك وابتداء الصيام يجب عليه الإتمام.
    والله تعالى أعلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #209
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الصيام)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (209)

    صـــــ(1) إلى صــ(17)



    شرح زاد المستقنع - باب الاعتكاف [1]
    الاعتكاف سنة مستحبة، ثبت فضله في الكتاب والسنة، وذلك لما فيه من الخير الكثير، ولأنه تجتمع فيه فضائل وخصال حميدة، منها: لزوم المساجد، ومداومة ذكر الله سبحانه، وكثرة الصلاة، وتلاوة القرآن، وغيرها من الفضائل والقرب والطاعات، وأفضل الاعتكاف في العشر الأواخر؛ لأن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والمعتكف فيها هدفه إدراك هذه الليلة المباركة.
    وللاعتكاف شروط وأحكام وآداب يجب مراعاتها حتى تحصل الفائدة من هذه القربة العظيمة.
    مشروعية الاعتكاف وفضله
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
    أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [باب الاعتكاف].
    الاعتكاف: مأخوذ من قولهم: عكف على الشيء يعكف عكوفاً، إذا لزم ذلك الشيء، سواء كان خيراً أو شراً، كما قال سبحانه: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء:52] أي: عليها عاكفون ملازمون لها، والاعتكاف: هو لزوم المسجد للطاعة والقربى والتقرب لله سبحانه وتعالى، فهو لزوم مخصوص، من شخص مخصوص، في وقت مخصوص.
    فهذا اللزوم المخصوص المراد به لزوم المساجد، وهذه القربة والطاعة مستحبة، ولها فضيلتها، وأجمع العلماء رحمهم الله على أنها من الطاعات والقرب المستحبة؛ لثبوت فضيلتها في كتاب الله عز وجل، وكذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    أما الكتاب فقوله سبحانه: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [البقرة:125]، وهذا يدل على شرف وفضل العكوف والاعتكاف في المسجد.
    وكذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه اعتكف، واعتكف معه أصحابه رضي الله عنهم، فهي من السنن التي يقتدى ويتأسى فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، واعتكف أزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن، وأجمع العلماء على فضيلة الاعتكاف، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة الاعتكاف نصوص صحيحة كما نص على ذلك الأئمة رحمة الله عليهم، ومنهم الإمام أحمد ، قال: لا أعلم فيه شيئاً صحيحاً.
    يعني: في فضيلة الاعتكاف وما يكون فيه من الأجر.
    إلا أن هناك بعض الأحاديث التي تدل على الفضيلة، وما خلت من كلام وما خلت من مطعن.
    والاعتكاف: قربة وطاعة شرعها الله عز وجل لعظيم ما يحصل فيها من الخير والبر للإنسان، فالإنسان إذا اعتكف في بيت الله عز وجل لزم طاعة الله سبحانه، ولزم أفضل الطاعات وأشرفها وأحبها إلى الله عز وجل، ألا وهي ذكره عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عنه: ( ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله ) ولو لم يكن في فضل هذه الطاعة إلا قوله سبحانه: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } [البقرة:152] لكفى، فإن الإنسان إذا لزم بيت الله فقد لزم أحب البيوت إلى الله سبحانه كما في الحديث الصحيح: ( أحب البلاد إلى الله مساجدها ).
    فهو يلزم أحب البلاد لفعل أحب الطاعات، ولا شك أنه سيصيب من ذلك الخير في دينه ودنياه وآخرته؛ فالإنسان إذا لزم المساجد معتكفاً على الوجه المعتبر، وأدى لهذه العبادة حقها، وقام بها وأقامها على وجهها؛ فإنه أسعد الناس بما يكون فيها من الخير.
    ولذلك من الناس من اعتكف فخرج من اعتكافه بصيام النهار وقيام الليل، ومنهم من خرج من الاعتكاف بختم كتاب الله عز وجل كل ثلاث ليال، ومنهم من خرج من الاعتكاف بلزوم ذكر الله عز وجل؛ لأنك إذا بَقِيْتَ عشر ليال وأنت في طاعة الله صائم النهار قائم الليل، والناس حولك يذكرون الله سبحانه، ويعينونك على الطاعة والذكر، حتى لو أنك سئمت أو مللت فنظرت إلى غيرك ووجدته مجداً مشمراً في الخير؛ قويت نفسك على الخير، وانبعثت على الطاعة والبر.
    وهذا يجعلك مستديماً للطاعة، فتمر عليك العشر الليالي وأنت محافظ على ختم كتاب الله كل ثلاث ليال؛ فتجد لذة العبودية لله والأنس بالله عز وجل، ولذة مناجاته وحلاوة دعائه وذكره سبحانه؛ فتخرج منشرح الصدر مطمئن القلب؛ وقد وجدت خيراً كثيراً غفل عنه الغافلون.
    فإذا كان الإنسان كامل العقل سوي الفطرة ووجد هذه اللذة فإنه لا يفرط فيها، ويقول: الله عز وجل ندبنا إلى الخير في كل زمان ومكان، وندبنا إلى الطاعة في كل زمان ومكان، فيخرج وهو أقوى ما يكون على العبادة، وأقوى ما يكون على الذكر، ولذلك من الناس من يحافظ على ختم القرآن كل ثلاث ليال؛ لأنه اعتاد ذلك في اعتكافه فقويت نفسه على ذلك بعد الاعتكاف.
    ومن هنا قال العلماء: إن الاعتكاف يعين على الخير، ويقوي النفوس على الطاعة والبر، وهذا هو الاعتكاف الحق الذي يخرج الإنسان منه وهو أقوى ما يكون على طاعة الله وأقرب ما يكون إلى الخير.
    وَذِكْرُ المصنف لهذا الباب في كتاب الصوم واضح؛ لأن الاعتكاف إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في شهر الصوم، ولذلك السُّنة في الاعتكاف أن يكون في رمضان؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا بأس بالاعتكاف في غير رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف عشراً من شوال.
    قال بعض العلماء: في هذا دليل على مشروعية الاعتكاف في رمضان وغير رمضان؛ ولأن الله سبحانه وتعالى قال: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } [البقرة:125] ولم يفرق بين اعتكاف وآخر، فالمعتكف في أي زمان هو على طاعة الله عز وجل وبره، ولا يخص ذلك رمضان على سبيل اللزوم، لكن الأفضل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والحرص على الاعتكاف في رمضان ما لم تكن هناك أمور آكد من الاعتكاف: كبر الوالدين، والقيام على الأهل في نفقاتهم، ونحو ذلك من الحقوق الواجبة، فإذا كان عند الإنسان والدان يحتاجان إليه، ويحتاجان إلى بره وقربه فإنه يقدم بر الوالدين على الاعتكاف؛ لأن بر الوالدين فريضة فرضها الله عز وجل وقرنها بتوحيده، وألزم عباده بها، وحثهم وحضهم عليها، وأكد هذا الحث والحض، وأما الاعتكاف فإنه سنة ومندوب إليه، ولا يشتغل بالمندوب على وجه يضيع به الحق الواجب بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ وإنما يتقرب إلى الله بما فرض، ولذلك لا يعتكف الإنسان إلا بعد أن يكون قائماً بحقوق نفسه، وحقوق أهله، وحقوق الناس، فإذا كان على هذا الوجه فَنِعْمَ الاعتكاف! ثم إنه إذا دخل إلى معتكفه عليه أن يعلم أن هذا الاعتكاف ينبغي أن يتقيد بالضوابط الشرعية، وأن يكون قائماً فيه بالواجبات على أتم وجوهها وأكملها.
    فأول ما ينبغي على المعتكف: أن تكون نيته وطويته وسريرته خالصة لله سبحانه وتعالى، وأحب ما يكون عنده أن لا تسمع به أذن ولا تراه عين ولا يعلم أحد أنه معتكف؛ وذلك من كمال إخلاصه، وهذا هو الذي دعا بعض السلف لما سئل عن الإخلاص، قال: أن يتمنى العبد أن عمله بينه وبين الله لا يعلم به أحد.
    وهذا كمال الإخلاص، فتدخل إلى المسجد ولا يشعر أحد بك أنك معتكف على قدر استطاعتك.
    على خلاف ما يفعله البعض -أصلحهم الله- في هذا الزمان، فتجد الرجل يحدث بالاعتكاف قبل أن يفعله نسأل الله السلامة والعافية! ويقول: إذا كانت العشر الأواخر سنعتكف في مكة أو نعتكف في المدينة أو نحو ذلك.
    وهذا لا يأمن صاحبه من الغرور، ولا يأمن من الرياء، ولا يأمن من الإدلاء على الله عز وجل بطاعته، بل ينبغي على الإنسان أن يحفظ طاعته، وأن يجعلها خالصة لوجه الله عز وجل، وهذا هو أصل الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه.
    فإن الإنسان إذا راءى راءى الله به، وإذا سمّع سمّع الله به كما قال صلى الله عليه وسلم: ( من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به ) فإذا كان الإنسان يخرج إلى معتكفه وهو يريد وجه الله، فإنه ينال أجره حتى يعود إلى بيته؛ لأنه خرج في حسبة وطاعة وقربة لله عز وجل، فخطواته مكتوبة وأوقاته مكتوبة، حتى نومه في المسجد يكون عبادة له؛ لأنه قد اعتكف ولزم المسجد في طاعة الله سبحانه وتعالى، وهذا لا شك أنه مقرون بإخلاص النية لله عز وجل، وكلما خلصت نية الإنسان نال من التوفيق في الاعتكاف بقدرها.
    ولذلك تجد البعض من الأخيار إذا دخل الاعتكاف وقد حدث الناس باعتكافه، أو دخل وفي نيته أن يجلس مع زيد وعمرو، وأن يؤانس الأصحاب والأحباب ونحو ذلك؛ وجدته ينصرف كثيراً عن ذكر الله عز وجل، ولا يوفق إلا إلى النزر القليل من الخشوع والإنابة إلى الله عز وجل، ولا شك أن هذا كما قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الرعد:11] فمن كانت نيته خالصة لله، ثم غيرها فجعلها للأنس بالناس، ولإضاعة الأوقات بالجلوس مع زيد وعمرو؛ فإن الله يغير ما به من حلاوة طاعته ولذة مناجاته.
    وإذا علم المعتكف أنه سيأنس بالناس، فليعلم أن الأنس بالله أعظم من الأنس بالناس، وإذا كان جلوس الإنسان مع زيد وعمرو يدخل السرور عليه، فإن الصلاة وإحياء الوقت بذكر الله أعظم سروراً وأنساً وبهجة وطمأنينة في قلب من فعل ذلك، فليحرص الإنسان على أن يقوم بهذه العبادة على وجهها.
    كذلك أيضاً ينبغي عليه أن يحفظ هذه العبادة من العوارض التي تصرفه عن ذكر الله عز وجل، فلا ينبغي له أن يكون خاملاً مكثراً من النوم، ومكثراً من رغبات النفس التي تريدها، ومن شهواتها الكثيرة من مأكل ومشرب ونحو ذلك، بل عليه أن يحمل نفسه على العزيمة، وأن يقويها على الطاعة، وأن يعد أيامه التي يعتكفها، ويقول: يا نفس! -كأنه يناجي نفسه- كم نمت؟وكم ارتحت؟وكم استجميت؟ فاجعلي هذه الأيام من السنة في طاعة الله عز وجل خالصة لوجهه.
    والاعتكاف له شروط وله واجبات ينبغي توفرها، وسينبه المصنف رحمه الله على جميع هذه الشروط والواجبات، إلا أن المنبغي على الإنسان أن يحرص في اعتكافه على السؤال عن السُّنة وتحري هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
    حقيقة الاعتكاف ومحل وقوعه
    قال المصنف رحمه الله: [وهو لزوم مسجد لطاعة الله تعالى] الضمير (وهو) عائد للاعتكاف؛ كأنه يقول رحمه الله: حقيقة الاعتكاف عندنا معشر الفقهاء والعلماء لزوم المسجد.
    هذا المسجد مفهومه: المسجد مَفْعِل من السجود، والمراد بذلك المسجد المعهود، وليس المراد به كل موضع يسجد عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) فالمراد بالمسجد هنا: المعهود الذهني، وهو المسجد المعروف الذي إذا أطلق في الشرع انصرف إليه الحكم، فلا يشمل المصلى، والمصلى: هو الذي تفعل فيه بعض الصلوات دون بعضها.
    فالمُصَلَّى لا يعتكف فيه، أي: ليس محلاً للاعتكاف، ودليل ذلك قوله سبحانه: { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة:187] فدل على أن الاعتكاف يختص بالمساجد.
    وبناءً عليه قالوا: لو كان المعتَكَفُ مصلًّى فإنه لا يعتكف فيه؛ وإنما يعتكف في المسجد.
    ثم المسجد ينقسم إلى قسمين: هناك مسجد يجُمَّع فيه، وهناك مسجد لا يجمَّع فيه.
    والمراد بقولنا: (يجمّع فيه) أي: تصلى فيه صلاة الجمعة؛ فالمسجد الذي تصلى فيه الجمعة بالإجماع يعتكف فيه.
    وأما المسجد الذي لا يجمّع فيه، ففيه تفصيل: إن كان قد أوجب على نفسه أن يعتكف العشر الأواخر فحينئذٍ ينصرف إلى مسجد يجمّع فيه؛ والسبب في ذلك: أنه إذا نذر اعتكاف العشر الأواخر أو أوجبها على نفسه فإن هذه العشرة الأيام ستتخللها الجمعة قطعاً، وبناءً على ذلك لابد وأن يكون في موضع أو مسجد يجمّع فيه، ومن هنا يقولون: إنه لابد وأن يكون اعتكافه للعشر كاملة في مسجد يجمّع فيه؛ لأنه لو اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة فسيكون مضطراً إلى الخروج لصلاة الجمعة، وحينئذٍ يفسد اعتكافه بالخروج إذا كان قد نذر اعتكاف العشر كاملة.
    أما إذا كان اعتكافه اعتكاف طاعة وقربة ولم يقصد به العشر كاملة، فإنه يصح في المسجد الذي يجمّع فيه والمسجد الذي لا تكون فيه الجمعة، لكن بشرط: أن تكون فيه جماعة؛ لأنه مخاطب بشهود الصلاة مع الجماعة، وبناءً على ذلك لابد وأن يكون اعتكافه في موضع تقام فيه الجماعة بالصلوات الخمس.
    وبناءً على ما سبق: فلا يصح الاعتكاف في مسجد لا تقام فيه الجمعة إن كان مريداً لاعتكاف العشر كاملة، أو أوجبها على نفسه، وأما بالنسبة للمسجد الذي لا يجمّع فيه وتقام فيه الجماعة، فإن الاعتكاف فيه صحيح، إذا لم يكن قد أوجبه على نفسه وفرضه.
    الغرض من الاعتكاف والأعمال التي يقوم بها المعتكف

    قوله: (لطاعة الله) (اللام) للتعليل، أي: لزوم المسجد من أجل طاعة الله تعالى.
    والطاعة هنا نكرة شاملة لكل طاعة أي: لكل أمر مشروع، سواء كان من الأقوال أو الأفعال.
    أما الأقوال: فيشمل ذلك: قراءة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والتكبير، والاستغفار، ونحو ذلك من القرب القولية.
    وكذلك أيضاً يشمل الطاعة التي هي القرب الفعلية: فيشمل ذلك الصلاة وهي أفضلها وأحبها إلى الله عز وجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ) فمن أفضل الطاعات التي يداوم عليها المعتكف كثرة الصلاة، فإن كثرة الصلاة تزيد من صلة العبد بربه كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه: ( وما تقرب إلىّ عبدي بشيء أحب إلىّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ) الحديث.
    فيحرص العبد على طاعة الله عز وجل سواء كانت قولاً أو فعلاً، وكذلك الاعتقاد، وهو الطاعة بالقلب؛ كذكر الله في قلبه، والنظر في ملكوت الله عز وجل، والتفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى، كل ذلك يعتبر من الطاعة والقربة، كما أثنى الله عز وجل على عباده الأخيار من أولي الألباب الذين يذكرونه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ويثنون على الله عز وجل بما هو أهله، من ذكره وتعظيمه سبحانه وتعالى.
    قوله: (لطاعة الله) فخرجت المعصية، فلا يجوز للمعتكف إذا كان معتكفاً أو غير معتكف أن يرتكب معصية؛ لكنه في الاعتكاف أشد، فالغيبة في المسجد أعظم من الغيبة خارج المسجد، وهكذا أذية المسلم في المسجد بلسان؛ كَسَبِّ الناس وشتمهم، وهذا ما يقع فيه بعض الجهال -أصلحهم الله- حينما يحجزون الأماكن فهم يحجزونها بدون حق، فإذا جاء أحد وقعد فيها سبوه وشتموه، ونسوا حقوق المسلم على أخيه المسلم، ولم يرعوا فيه حق الإسلام، ولربما كان ذلك على سبيل الظلم، فتجده يحجز المكان الذي يسعه ويسع غيره، فإذا جاء الغير وجلس فيه أقام الدنيا وأقعدها، فانتهك حد الله عز وجل ومحارم الله بسبه وشتمه وأذيته وانتقاصه وعيبه.
    ولا شك أن هذا يعود على صاحبه بالوزر العظيم، فلا يجوز أذية الناس باللسان والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) فالمسلم يحفظ لسانه عن أذية المسلمين والنيل منهم والانتقاص لهم، وإذا زلّوا عليه وأخطئوا فزاحمه إنسان في الصف الأول أو نحو ذلك فليذكره بالله عز وجل، وليقل: يا أخي! اتق الله.
    لأن الله سائلنا ومحاسبنا عما نقول، فبدلاً من أن تبادر الإنسان بالأذية والسب والشتم والثلب وكشف عورته وأذيته، فبادره بالنصيحة، وذكره بالله عز وجل حتى تعذر إلى الله، فإذا أصر وأبى فحينئذٍ يخير الإنسان بين أمرين: بين أن يعفو عنه إذا أخطأ عليه، وهذا أحسن، وبين أن يقتص منه، وهذا حسن؛ ولذلك قال تعالى: { فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [الزمر:17-18] ففي القرآن حسن وأحسن، فالحسن: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [الشورى:40] والأحسن: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [الشورى:40] فهذا أكمل وأعظم، وهو أكثر قربة لله سبحانه وتعالى، وأرضى لله عز وجل.
    فإذا كان الإنسان معتكفاً، وجاء شخص وجلس في مكانه، جاءه برفق وقال له: يا أخي! هذا مكاني.
    وهذا إذا كنت خرجت من هذا المكان لقضاء الحاجة فقط، وأما ما عدا ذلك فلا يجوز حجز المكان، فإذا خرج الإنسان لقضاء حاجته ثم جاء ووجد الغير قد جلس مكانه فليقل: أصلحك الله يا أخي! هذا مكاني.
    فإذا أصر وأبى ذكره بالله، وقال له: يا أخي! لا يجوز لك أن تجلس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا قام أحدكم من مجلسه لحاجته فهو أحق به إذا عاد إليه ) فتذكره بالسُّنة وتقيم عليه الحجة، فإن أبى فاعلم رحمك الله أن الأجر من الله، وأن الله يعلم أن هذا المكان مكانك، وأنك في الصف الأول ولو كنت في آخر الصفوف، فما دمت قد صرفت عن حقك بالظلم؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيؤتيك أجرك، والله مطّلع على السرائر والضمائر، فلا يجوز لك أن تضيع الأجر عليك.
    فإذا كان الإنسان معتكفاً فليحذر من مثل هذه الآفات، وليعلم كما قال هذا الإمام الجليل: إن الاعتكاف للطاعة وليس للأذية ولا للتشويش على الناس ولا للتضييق عليهم، ولا شك أن أذية المسلمين عامة لا تجوز، فكيف إذا كانت في المساجد؟!
    سنية الاعتكاف
    قوله رحمه الله: [مسنون].
    أي: أن هذا الاعتكاف الذي هو ملازمة المسجد لطاعة الله مسنون، أي: هو سنة، وقد دل على سنيته وشرعيته دليل الكتاب -كما قلنا- ودليل السُّنة من هديه عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال لأصحابه: ( فمن كان معتكفاً فليعتكف معنا ) أي: ليعتكف العشر الباقية كما في حديث أبي موسى في الصحيح حينما نزل عليه الوحي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه اعتكف أول الشهر ثم اعتكف أوسطه، ثم نزل عليه جبريل بالوحي من السماء ( إن الذي تطلبه -يعني: ليلة القدر- أمامك ) أي: أمامك فاطلبه، فدل هذا على فضيلة العشر، وفيه دليل على مشروعية الاعتكاف وفضيلته.
    جواز الاعتكاف بلا صوم
    قال رحمه الله: [ويصح بلا صوم].
    أي: ويصح الاعتكاف بلا صوم، وهذا له صور: الصورة الأولى: أن تعتكف في الليل مجرداً عن النهار، وقد ثبت بذلك الحديث الصحيح عن عمر رضي الله عنه كما في الصحيح لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نذر أن يعتكف ليلة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره، فدل هذا على مسألتين: المسألة الأولى: أن الاعتكاف لا يشترط له الصوم، وهذا هو أصح قولي العلماء، خلافاً للحنفية والمالكية رحمة الله عليهم الذين يقولون باشتراط الصوم لصحة الاعتكاف.
    والأمر الثاني: أنه يجوز أن تعتكف أجزاء النهار؛ لأنه إذا لم يشترط الصوم فإنه يجوز لك أن تعتكف أجزاء النهار؛ لأن الليل جزء من اليوم، فدل على جواز اعتكاف جزء من اليوم، سواء كان ليلة كاملة أو كان نهاراً كاملاً أو كان ساعة كاملة، بل قال العلماء: لو أن إنساناً دخل الفريضة فنوى أن يعتكف مدة جلوسه في المسجد فإنه معتكف، ويكون له فضل الاعتكاف إذا نوى ذلك؛ وذلك لإطلاق الكتاب والسُّنة.
    والأفضل والأكمل: التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف الكامل خاصةً في العشر الأواخر.
    وجوب الاعتكاف مع الصوم بالنذر
    قال رحمه الله: [ويلزمان بالنذر].
    ويلزم الاعتكاف والصوم بالنذر، هذا إذا كان اعتكافه نافلة، ولا ينتقل من كونه نافلة إلى الوجوب إلا في صور: منها: النذر، فإذا نذر وقال: لله عليّ أن أعتكف يوماً.
    فقال بعض العلماء: إذا قال: لله عليّ أن أعتكف يوماً، فلابد وأن يكون صائماً فيه.
    وقال بعض العلماء: يغنيه أن يعتكف اليوم بدون صيام.
    وهكذا لو قال: لله عليَّ أن أعتكف ليلة.
    فإنه يجزئه أن يعتكف الليل ولا يلزمه الصوم في هذه المسألة، إنما يلزمه الصوم إذا نوى النهار، فقال بعض العلماء: إذا نوى اعتكاف النهار كاملاً فإنه يصوم.
    والصحيح: أنه يلزمه الصوم ويلزمه الاعتكاف بالنذر، بمعنى إذا نذر وصرّح في نذره أن يكون صائماً، فإنه يلزمه الاعتكاف مع الصوم، وإلاّ أجزأه ولو جزء النهار، فلو قال: لله عليّ أن اعتكف في النهار.
    فإنه يصدق عليه أنه معتكف ويتم نذره ولو بساعة واحدة من النهار.
    عدم صحة الاعتكاف إلا في مسجد جامع
    قال رحمه الله: [ولا يصح إلاّ في مسجد يجمّع فيه].
    ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد يجمّع فيه؛ لأنه إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجماعة، فإن معنى ذلك أنه سيترك فريضة الله من شهود الصلاة مع الجماعة.
    وكذلك أيضاً إذا اعتكف العشر الأواخر في مسجد تقام فيه الجماعة ولا تقام فيه الجمعة، فمظنة أن يترك الجمعة في يوم الجمعة.
    واستثنى بعض العلماء من ذلك: المريض المعذور في الجمعة، قالوا: يجوز أن يعتكف العشر الأواخر في مسجد لا يجمع فيه؛ لأنه إذا حضرت الجمعة صلاها ظهراً، ولا يجب على مثله أن يشهد الجمعة.
    جواز الاعتكاف للمرأة في كل مسجد

    قال رحمه الله: [إلا المرأة ففي كل مسجد سوى مسجد بيتها].
    إلا المرأة فإنه يجوز لها أن تعتكف في كل مسجد، والأصل في جواز الاعتكاف للنساء: أن الله تعالى عمم في قوله سبحانه: وَالْعَاكِفِينَ ) فشمل هذا الرجال والنساء.
    وكذلك السُّنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أقر نساءه على الاعتكاف معه صلوات الله وسلامه عليه، وإنما عاتبهن في الغيرة ومنافسة بعضهن لبعض وقال: ( آلبر أردتن ) وهذا يدل على مشروعية اعتكاف المرأة، ولكن بشرط أن لا يكون في النية دخن، كأن يكون ذلك على سبيل المضارة، كأن يكون بين الضرتين كما وقع لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.
    واعتكاف المرأة جائز؛ لكن بشرط: ألا يؤدي إلى المحاذير الشرعية كمخالطة الرجال، وكذلك أيضاً وقوع الفتنة والمحظور.
    والأفضل للمرأة أن تلزم بيتها كما قال تعالى: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [الأحزاب:33]، والأفضل أن تصلي في مسجدها في بيتها وفي مخدعها، فهذا أفضل لها وأكمل وأفضل لغيرها؛ لأن الخير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، وكلما سُتِرَ النساء عن الرجال، كلما كان ذلك أحفظ لدين الرجال وأحفظ لدين النساء، فما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده فتنة أضر على الرجال من فتنة النساء، ولذلك الأفضل للمرأة أن تلزم بيتها.
    فإن أحبت أن تعتكف فلا حرج، لكن بشرط: أن لا يؤدي اعتكافها إلى فوات الحقوق الواجبة عليها، فإن كان هناك حق لزوج فإنها لا تعتكف، وإنما تؤدي حق زوجها؛ لأن الله فرض عليها القيام بحقه، ولا يعقل أن تنصرف من الواجب إلى النفل، فالله يُتَقَّربُ إليه بما افترض، وإذا نوت المرأة في نفسها أنه لولا شغل زوجها لاعتكفت كتب الله أجرها، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم شعباً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم شركوكم الأجر.
    قالوا: يا رسول الله! كيف وهم بالمدينة ؟ قال: حبسهم العذر ) .
    فالمرأة التي يحبسها عذر زوجها والقيام بحقوق زوجها أجرها كامل، وهكذا لو حبسها تربيتها لأطفالها، وقيامها بحقوق أطفالها؛ فإن أجرها كامل، فكم من متمن للخير يبلغه الله درجته! ولعل الله لحكمة صرف المرأة عن شهود المساجد حتى تنصرف عن الفتنة، ويكتب لها الأجر بالنية.
    فلا يجوز للمرأة أن تخرج للاعتكاف وتضيع حقوق أولادها أو حقوق زوجها، فلا شك أنها مطالبة بالحقوق المفروضة قبل القيام بالنوافل والمستحبات.
    عدم جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها
    قال رحمه الله: [سوى مسجد بيتها].
    أي: يجوز لها أن تعتكف في كل مسجد؛ لأنه لا تجب عليها الجمعة ولا تجب عليها الجماعة، إلا مسجد بيتها فلا يصح لها أن تعتكف فيه؛ لأن المراد بالمساجد: المساجد المعهودة، ومسجد بيتها يعني: مخدعها الذي تصلي فيه، فهو ليس بمحل للاعتكاف؛ لأن الاعتكاف إنما هو في المساجد المعهودة.
    عدم الوفاء بالنذر إذا شدت الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة
    قال رحمه الله: [ومن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة، وأفضلها المسجد الحرام، فمسجد المدينة، فالمسجد الأقصى لم يلزمه فيه].
    ومن نذر الاعتكاف فقال: لله عليّ أن أعتكف.
    فإنه لا يلزمه الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) ولذلك خص الله عز وجل هذه المساجد، فلا يجوز شد الرحال للقرب المتعلقة بالمواضع إلا إلى هذه المساجد، فلا تشد الرحال للمشاهد ولا للقبور ولا لزيارتها، ولا كذلك للدعاء عندها، ولا للذبح عندها، وكل ذلك مما يعتقد أنه قربة لا يجوز فعله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ).
    بل إن بعض هذه الأفعال يفضي إلى الشرك، والخروج من الملة -والعياذ بالله- وكفر صاحبه، كأن يشد الرحل للذبح عند القبر، أو دعاء صاحب القبر، أو التوسل بصاحب القبر بالذبح والاستغاثة والاستجارة به، مما وقع فيه كثير من الجهال في الأزمنة المتأخرة نسأل الله السلامة والعافية! ولا شك أن هذا الأمر تُنْقَضُ به عرى الإسلام، ويوجب خروج صاحبه من الملة نسأل الله السلامة والعافية! فالمقصود: أن شد الرحال للاعتكاف ولو أوجب ذلك على نفسه فقال: لله عليّ أن أعتكف في مسجد قباء، فإنه لا يلزمه أن يذهب إلى مسجد قباء وأن يعتكف فيه، فإذا نوى ونذر في أي مسجد فإنه يغنيه أحد هذه المساجد الثلاثة، إلا إذا نوى أفضلها فلا يغني المفضول عن الأفضل، فلو نوى أن يعتكف في مسجد بيت المقدس فإن الصلاة فيه بخمسمائة، فيجزئه أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً لو نوى أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يغنيه أن يعتكف في مسجد الكعبة.
    وهذا على الأصل الذي ذكرناه؛ لأن الأعلى يغني عن الأدنى، ولا يغني الأدنى عن الأعلى، فالعكس لا يصح، فلو نوى أن يعتكف في المسجد الحرام فإنه لا يجزئه أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ينتقل من الأعلى إلى الأدنى.
    عدم جواز النقل في النذر من الأعلى إلى الأدنى

    قال رحمه الله: [وإن عين الأفضل لم يجز فيما دونه وعكسه بعكسه].
    لقد بين المصنف رحمه الله في هذه المسألة حكم نذر الاعتكاف، فالشخص إذا نذر الاعتكاف في مسجد، وكان هذا المسجد أفضل من غيره، فإنه لا يجزئه أن ينصرف إلى ما دونه، ومثال ذلك: أن ينوي الاعتكاف في المسجد الحرام؛ فإنه لا يجزئه أن ينصرف إلى مسجد المدينة، وكذلك لو نوى الاعتكاف في مسجد رسول صلى الله عليه وسلم لم يجز له أن ينصرف إلى ما دونه من سائر المساجد، غير المسجد الحرام.
    والأصل في ذلك: أنه إذا نوى الأفضل أنه لا تبرأ ذمته إلا به أو بما هو أفضل منه، ولذلك إذا نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وانصرف إلى المسجد الحرام، فإنه قد حصَّل فضيلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة، حيث فضل الله المسجد الحرام على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بمضاعفة أجر الصلاة فيه، وبوجود عبادة الطواف.
    إذاً المسجد الحرام اختص بهاتين الفضيلتين اللتين لا يشاركه فيهما غيره من سائر المساجد، فمن نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز له أن ينصرف إلى المسجد الحرام، ولا يجزيه أن ينصرف من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأقصى، أو إلى غيره من سائر المساجد ما عدا المسجد الحرام، وفي ذلك سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر الصحابي حينما نذر الاعتكاف في المسجد الأقصى أن يعتكف في مسجده صلى الله عليه وسلم.
    جواز النقل في النذر من الأدنى إلى الأعلى
    قال رحمه الله: (وعكسه بعكسه).
    أي: إذا نوى الأقل جاز له أن ينصرف إلى الأعلى -كما ذكرنا- ومن نوى الأعلى لا ينصرف إلى الأدنى، فالحكم في هذا على ما ذكرناه.
    الأسئلة
    المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة


    السؤال
    هل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ) يخصص الدليل العام في قوله تعالى: { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة:187] فلا يجوز الاعتكاف إلا في هذه الثلاثة أثابكم الله؟


    الجواب
    ( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة ) للعلماء فيه وجهان: يقولون: هذا نفي بـ(لا نافية) وهو نفي لحقيقة شرعية، والنفي المسلط على الحقيقة الشرعية عهدنا من الكتاب والسنة أنه يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يقصد به نفي الكمال.
    والصورة الثاني: أن يقصد به نفي الصحة.
    أما مثال النفي المسلط على الحقيقة الشرعية لنفي الكمال: قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) فأهل السنة والجماعة على أن هذا النفي نفي لكمال الإيمان، وليس المراد به نفي الإيمان كلية كما يقول الخوارج، وإنما قالوا: إنما هو نفي لكمال الإيمان؛ لثبوت النصوص الأخرى التي تدل على أن الإيمان لا يحبط بنقصانه عن الكمال.
    فقوله: (لا إيمان) نفي للإيمان، والإيمان حقيقة شرعية، فتسلط النفي على الحقيقة الشرعية وهي الإيمان، فحمل على الكمال لورود النصوص الأخرى التي تدل على أنه مراد للكمال.
    كذلك أيضاً: تنفي الحقيقة الشرعية للصحة، كقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) فإن هذا نفي لصحة القبول من أساسه، فلا يحكم بصحة العبادة ولا بإجزائها -أعني الصلاة- إذا وقعت من غير طهارة؛ لأن النفي هنا مسلط على القبول المراد به نفي الصحة.
    وعلى هذا قالوا: إذا ورد النص بنفي حقيقة شرعية نظرنا: فإن دلت النصوص على العموم بالصحة بقينا على ذلك، كقوله تعالى: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة:187] فهذا يدل على إطلاق الاعتكاف في جميع المساجد، فصرف النفي عن ظاهره من إفادته لعدم صحة الاعتكاف إلى نفي الكمال.
    ثم في الحديث ما يدل على نفي الكمال: ( لا اعتكاف -كامل- إلا في المساجد الثلاثة ) لأن هذه الثلاثة المساجد فيها فضائل لا توجد في غيرها، فالمسجد الحرام الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، مع فضيلة الطواف بالبيت، وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالصلاة فيه بألف صلاة، وأما المسجد الأقصى ففيه الصلاة بخمسمائة صلاة.
    فكأن المعتكف في هذه المساجد الثلاثة لا يمكن أن يوازيه غيره ولو بلغ ما بلغ من كثرة الطاعات؛ لأنه يحصل على فضائل اختصت بها هذه المساجد الثلاثة.
    والقاعدة في الأصول: (أنه إذا تردد الحديث بين معنيين: معنى يعارض به النصوص، ومعنى لا يعارض به النصوص، وأشعر معنى النص بأحد المعنيين وجب صرفه عليه) فلما كان في هذه المساجد مزية وفضل دل على أن قوله: (لا اعتكاف) أي: لا اعتكاف كامل؛ لمزية هذه المساجد ودلالة الشرع على وجود خصوصيتها بالفضائل.
    فقوي حمل الحديث على اعتكاف كامل، وهذا قول جماهير السلف رحمة الله عليهم، وبه أفتى الأئمة الأربعة، وهو أنه يجوز أن يعتكف في غير المساجد الثلاثة.
    وذهب مجاهد بن جبر رحمه الله -من أئمة السلف، وهو تلميذ ابن عباس رحمه الله- إلى القول بأن الاعتكاف لا يصح في غير المساجد الثلاثة، واختاره بعض المتأخرين من العلماء، وهذا قول له وجهه من ظاهر الحديث، فمن أخذ به فإنه لا يعتكف في غير هذه المساجد الثلاثة، ولكن الظاهر والأقوى: أنه يعتكف في غير هذه المساجد الثلاثة، وأن الفضيلة للمساجد الثلاثة ومن اعتكف فيها، فإن غيره لا يحصل فضله؛ لعظيم ما ورد فيها من الخصائص كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
    حكم قطع صلاة الفريضة لمن سمع جماعة بقربه

    السؤال
    هل يجوز لمن دخل في الصلاة وسمع جماعة بقربه أن يقطع الصلاة ليصلي معهم أثابكم الله؟


    الجواب
    من دخل في صلاة وظاهر السؤال أنه دخل في صلاة الفريضة، كأنه يريد أن يصلي مع الجماعة بدلاً من أن يصلي لوحده، وهذا مبني على مسألة تسمى: ازدحام الفضائل.
    هل يقطع الصلاة ليدرك فضيلة الجماعة، أو يصلي وحده لإدراك فضيلة الوقت؟ هو كبر تكبيرة الإحرام؛ فأدرك وقتاً لم تدركه الجماعة التي كبرت بعده، فبعض العلماء يرى أن فضيلة الوقت مقدمة على فضيلة الجماعة.
    وبعضهم يرى أن فضيلة الجماعة أفضل من فضيلة الوقت؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة عن أول وقتها لاجتماع الناس، كما في الحديث الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال: ( والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر ) قالوا: فهذا يدل على الفضيلة، لكن أجيب بأن هذا الحديث في صلاة العشاء والتي الأفضل فيها التأخير، فكان طلب الجماعة لفضيلة الوقت.
    وعلى هذا: فإن الأقوى والأظهر أنه لا يقطع؛ لأنه بدخوله في الفريضة قد أوجب الله عليه الإتمام، فحينئذ لا ينتقل إلى النافلة ويقطع هذه الفريضة التي أوجبها الله عليه.
    وتوضيح ذلك: أنه إذا كبر في صلاة الظهر -مثلاً- يريد أن يصليها، وأحرم بها، فإن النصوص دالة على أنه يجب عليه الإتمام، فإذا كبرت بعده جماعة فإننا لو قلنا: ينصرف إلى الجماعة.
    فمعنى ذلك: أننا نرد النص الذي أوجب عليه الإتمام بفضيلة، وهي تحصيل فضيلة الجماعة، ولا شك أن هذا يضعف من جهة الأثر والنظر.
    والصحيح: أن يتم الصلاة منفرداً وقد أدرك فضيلة الوقت التي لها شأن لا يخفى لورود النصوص به، والله تعالى أعلم.
    الفرق بين الصلاة مع الإمام حتى ينتهي وبين إحياء الليل كله

    السؤال
    هل إذا صليت مع الإمام حتى ينتهي، هل أعتبر أحييت ليالي العشر كاملة، أم لابد أن يصلي الإنسان في بيته ويحيي ليله أثابكم الله؟


    الجواب
    هناك فرق بين الإحياء وبين القيام نفسه، فقوله عليه الصلاة والسلام: ( من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) والمراد بذلك: فضيلة الاستمرار مع الإمام حتى يسلم وينتهي من آخر صلاته وهي الوتر، ومن فعل هذا يحصل على فضيلة قيام الليلة، أي: كأنه في الأجر والثواب قام الليلة كاملة، لكن هذا لا يتعلق بقيام الليالي المقصودة بذاتها؛ فإن التعبير المشعر بفضيلة الفعل لا يدل على تحقق الفعل بنفسه.
    ولذلك فرق بعض العلماء في الأدلة التي وردت بفضائل الأعمال التي ينزل الإنسان فيها منزلة الفاعل، فقالوا: قوله عليه الصلاة والسلام ( من صلى الفجر في جماعة، ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين؛ كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة ) قالوا: يكون له أجر الفعل، وهو أجر الحجة والعمرة في الأصل، أما من حج واعتمر وتكبد المشاق وتحملها فله أجر الفعل الأصلي، وأجر المتاعب والمشاق.
    ولذلك قالوا: إنه يفرق في هذا بين فضيلة قيام الليلة وبين كونه قد قام ليالي العشر حقيقة، فمقصود الشرع: أن يقوم ليالي العشر كاملة، وعلى هذا فإنه يكتب له قيام ليلة فضيلة، ولا يعتبر قائماً حقيقة.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #210
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب الصيام)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (210)

    صـــــ(1) إلى صــ(15)


    شرح زاد المستقنع - باب الاعتكاف [2]
    للاعتكاف أحكاما من جهة المكان ومن جهة الزمان، وأحكام الاعتكاف من جهة الزمان يندرج تحتها تحديد أول اليوم وآخره، وما يلزم المعتكف عند خروجه أثناء الاعتكاف، وكذلك تخصيص الأزمنة الفاضلة بالاعتكاف، كعشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان؛ لما تمتاز به من الفضيلة على سائر الأيام، ويلزم المعتكف اجتناب ما يفسد اعتكافه، ويستحب له الاشتغال بالطاعات وترك فضول القول والعمل.
    أحكام الاعتكاف الواجبة من جهة الزمان

    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
    أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [ومن نذر زمناً معيناً دخل معتكفه قبل ليلته الأولى وخرج بعد آخره].
    لما بين لنا رحمه الله أحكام الاعتكاف المنذور من جهة المكان، شرع في بيان أحكام الاعتكاف الواجب من جهة الزمان، فالاعتكاف فيه جانبان: أولاً: من جهة المكان حيث يتقيد بالمسجد، وإذا تقيد بالمسجد فلا يخلو من أمرين: إما أن ينوي مسجداً مطلقاً فلا إشكال، وحينئذٍ يجزيه أي مسجد.
    وإما أن يعين، فإن عين إما أن يحدد ما هو أدنى فيجزيه ما هو أعلى، أو أعلى فلا يجزيه ما هو أدنى، على التفصيل الذي ذكرناه.
    ثانياً: من جهة الزمان فلو أن رجلاً نذر أن يعتكف يوماً كاملاً -أي: نهاراً بليلته- فإنه إذا قال: لله عليَّ أن أعتكف يوم الأحد أو الإثنين أو الثلاثاء.
    فإنه يدخل قبل مغيب الشمس من يوم السبت؛ وذلك لأن يوم الأحد يبدأ من ليلة الأحد، وليلة الأحد إنما تكون بمغيب شمس يوم السبت، فإذا أراد أن يعتكف الليلة كاملة فلابد وأن يكون بكامل جسمه في داخل المسجد من أول الزمان.
    ولا يتأتى ذلك إلا بالدخول قبل غروب الشمس، فإن دخل بعد غروب الشمس فإنه لم يعتكف الليلة كاملة، ولذلك من نوى العشر الأواخر فإنه يدخل قبل مغيب شمس يوم العشرين، وأما الدخول إلى المعتكف نفسه فيكون بعد فجر ليلة الحادي والعشرين، فقد كان يدخل عليه الصلاة والسلام إلى معتكفه بعد فجر ليلة الحادي والعشرين.
    فالشاهد من هذا: أن السُّنة لمن نوى الاعتكاف يوماً كاملاً أن يدخل قبل مغيب شمس اليوم الذي قبله، حتى يحُصِّل الليلة كاملة، وهكذا بالنسبة لآخر زمان الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف فيه أول زمانه وفيه آخر زمانه، فأنت إذا ما ألزمت نفسك باعتكاف يوم كامل فإن الله فرض عليك أن تستغرق الزمان بكامله، فأوله قبل مغيب الشمس، وآخره بعد مغيب الشمس من اليوم الذي نويته، فإن كنت ناوياً للاعتكاف يوم الأحد فإنك تدخل قبل مغيب الشمس من يوم السبت؛ لتحصل على أول الزمان، ثم إذا غابت الشمس من يوم الأحد فقد تم نهارك، وحينئذ يجوز لك الخروج، فإن خرجت قبل مغيب الشمس لم يستتم اعتكافك على الوجه المعتبر.
    وعلى هذا فإن المعتكف للعشر الأواخر إذا ألزم نفسه بها ونذرها، فإنه يخرج بعد مغيب الشمس من آخر يوم من رمضان، وحينئذٍ لا يخلو الشهر من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون تاماً ثلاثين يوماً، فإن تم الشهر ثلاثين يوماً فحينئذ تنتظر إلى مغيب شمس الثلاثين، فإن غابت شمس يوم الثلاثين من رمضان تخرج بعد المغيب، فبمجرد أذان المغرب ينتهي الاعتكاف الواجب عليك، وحينئذٍ إذا صليت المغرب جاز لك أن تنصرف.
    وأما إذا كانت الليلة ليلة شك فتنتظر إلى ثبوت كونها ليلة الفطر، فإذا جاء الخبر أنها ليلة الفطر في الساعة التاسعة أو الساعة الثامنة أو الساعة العاشرة فتخرج بمجرد علمك أنها ليلة العيد؛ وذلك لأنك لما تحققت أنها ليلة العيد لم يجب عليك اعتكافها ولا تلزم بها.
    عدم جواز خروج المعتكف من المسجد إلا لضرورة
    قال رحمه الله: [ولا يخرج المعتكف إلا لما لابد له منه].
    المعتكف حبس نفسه لطاعة الله، وفر من الدنيا وشواغلها إلى مرضات الله ومحبته، فالمنبغي عليه أن يحقق هذه العبادة، وأن يقوم بها على الوجه الذي يرضي الله عز وجل؛ حتى يكون أسعد الناس بالقبول منه سبحانه وتعالى، فإنها نعمة من الله إذا وفق عبده لاغتنام هذا الاعتكاف بذكره وشكره وحسن عبادته، ثم تقبل منه، ولا يتقبل الله إلا من المتقين، الذين حفظوا حقوق العبادات، وقاموا بها على أتمّ وجوهها على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.
    إذاً فالمعتكف في اعتكافه لا يجوز له أن يخرج من المسجد إلا لضرورة وحاجة، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم؛ لأن حقيقة هذا اللفظ الشرعي -أي: الاعتكاف- المتضمن للعبادة الشرعية يدل على اللزوم وعلى المكث، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يخرج من المسجد إلا لحاجة وضرورة، كما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: ( كان لا يخرج إلا لحاجته ) .
    والمراد بالحاجة: البول والغائط، فإذا احتاج إلى بول وغائط فإنه يجوز له أن يخرج؛ والسبب في ذلك: أن المساجد لا يجوز قضاء الحاجة فيها، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بال الأعرابي في المسجد وأنكر الصحابة عليه ذلك أقرهم، ولكن أنكر عليهم أنهم يريدون قطعه عن البول، أما كون البول في المسجد لا يجوز فهذا محل إجماع، والله تعالى نبه إلى ذلك بقوله: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } [النور:36] فلا يجوز للمعتكف أن يقضي حاجته داخل المسجد، فإذا كان لا يجوز له ذلك فمعنى ذلك أنه لابد له من الخروج، فيصير الخروج مسموحاً وجائزاً.
    فلو قلنا: إنه يحرم على المعتكف أن يخرج لقضاء حاجته، لما استطاع إنسان أن يعتكف؛ لأنه ما من إنسان إلا وهو مضطر لقضاء حاجته، ولا يمكنه أن يحبس هذه الحاجة؛ لأن ذلك ربما أهلكه وأتلف نفسه، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجوز له أن يخرج لقضاء الحاجة من بول وغائط.
    وفي حكم ذلك ما يضطر إليه من الأكل والشرب، فإذا لم يجد أحداً يقوم بإحضار الطعام والشراب إليه -إذ لابد له من الأكل ولابد له من الشرب- جاز له أن يخرج.
    فإن قلنا: إن السُّنة قد دلت على جواز الخروج للحاجة، وأنه يجوز له أن يقضي حاجته، فإن الأصل يقتضي أن ما أبيح للحاجة والضرورة يقدر بقدرها، ومن هنا فصّل العلماء فقالوا: إذا اضطر للخروج لقضاء البول أو الغائط فلا تخلو أماكن قضاء البول والغائط من حالتين: إما أن تكون قريبة، وإما أن تكون بعيدة: فإن كانت قريبة فإنه يقضي حاجته فيها بلا إشكال؛ لأن قربها من المسجد ينفي الإشكال في جواز قضاء الحاجة فيه، كأن تكون لا تبعد عن المسجد إلا يسيراً، أما إذا كانت بعيدة فإنه يختار أقربها، ولا يجوز له أن ينصرف إلى المكان الأبعد مع وجود الأقرب.
    فلو اختار منزله أو شقته أو عمارته، وهو أبعد عن المسجد من دورة مياه قريبة لم يجز له ذلك؛ والسبب في هذا: أنه إذا خرج لقضاء حاجته فقد استغل الوقت الذي يجب صرفه في الاعتكاف لقضاء الحاجة، وما أبيح للحاجة يقدر بقدرها، فكأنه يترفه ويزداد في الوقت المسموح له، فلما سُمِحَ له أن يقضي حاجته في الأقرب، لم يجز له أن يقضي حاجته في الأبعد.
    (أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها) هي أصل عام عند العلماء، ولذلك قالوا: إذا أراد الشخص أن يطعن في أحد الشهود، وعلم فيه أكثر من جَرْح ترد شهادته، ويكون بعضها أشد من بعض، فإنه يختار أقل جرح ترد به شهادته؛ لأن كشف العورات غير مأذون به إلا بقدر الحاجة.
    وكذلك من أكل من الميتة بسبب المخمصة والمجاعة قالوا: إنه يأكل ويسد رمقه، ولا يجوز له أن يتزود؛ لأن الزاد زائد عن حاجته، والأصل أنه محرَّم، فأبيح له قدر الحاجة.
    فالأصل أنه لا يجوز للمسلم أن يخرج من المسجد ما دام معتكفاً، وأبيح له أن يخرج لقضاء حاجته، وعليه فلا يجوز للمعتكف أن يقضي حاجته في مكان بعيد؛ لأن الشرع إنما أجاز له الأقرب.
    إذاً لا يجوز الانصراف إلى دورات المياه البعيدة مع وجود القريبة إلا في حالات: الحالة الأولى: أن تكون شديدة الزحام، ويكون الإنسان شديد الحصر، أو يتضرر بالانتظار في الزحام لضيق نفس، أو يتضرر من وجود بعض الروائح الكريهة أو نحو ذلك، فيجوز له حينئذ أن يختار شقته أو يختار عمارته إذا لم يكن بعدها متفاحشاً.
    كذلك الحكم إذا كان محتاجاً للطعام والشراب، فلو كان يتيسر له أن يطعم في مطعم وهو قريب من المسجد فحينئذ ننظر: إن كان جلوسه في المطعم ينقص من قدره كالعالم وطالب العلم ومن هو قدوة، فتسقط مروءته بوجوده في هذا المكان، فإنه يجوز له أن ينصرف إلى شقته وبيته؛ لأنه يتضرر بالجلوس في هذا المكان، فوجود هذا المكان وعدمه على حد سواء.
    وأما إذا كان يمكنه أن يأكل فيه ولا يستضر بذلك، والمكان محفوظ ولا يجد غضاضة فيه، فإنه لا يجوز له أن ينصرف إلى مكان أبعد مع وجود الأقرب.
    فالقاعدة: أن هذا الشخص جاز له أن يفارق المسجد لضرورة، وإذا جاز له لضرورة لا يجوز له أن يتمادى أكثر منها.
    ومن هنا فرَّع العلماء أنه إذا خرج من أجل أن يستحم أو يغير ثيابه، ولم يستضر بالثياب التي عليه فإنه يفسد اعتكافه، لكن لو خرج لقضاء الحاجة وأخذ ثيابه معه من أجل أن يزيل العرق والنتن عنه، أو عليه جنابة فحينئذٍ لا إشكال، لكن أن يخرج من معتكفه من أجل أن يستحم، ومن أجل أن يترفه بالاستحمام لشدة الحر أو نحو ذلك فلا، وإنما يخرج بقدر الحاجة والضرورة؛ لقضاء الحاجة، أو إصابة الطعام ونحو ذلك.
    والدليل على هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في حديث السنن: ( أنه كان إذا خرج من معتكفه إلى بيته لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة، وإنما يكون لما لابد منه ) وعلى هذا: فإنه لو تأمل الإنسان عيادة المريض وكذلك شهود الجنازة فإنها قد تصل في بعض الأحيان إلى مقام الحاجة، وقد يحتاج المريض منك أن تواسيه وتسليه، ومع ذلك لم يكن عليه الصلاة والسلام من هديه أن يُعَرِّج على المريض أو يجلس عنده، وإنما كان يسأل وهو مار: كيف فلان؟ وهذا أصل يخل به البعض بسبب الجهل بأحكام الاعتكاف، ولذلك تجد الإنسان يدخل إلى معتكفه ويخرج وقد تكون حالته هي هي لم يتغير؛ لأنه لم يستشعر أنه في عبادة تلزمه بالتقيد والانضباط بالحدود الشرعية، بحيث ينصرف عن هذه العبادة بقلبه وقالبه.
    فلذلك: ينبغي على المسلم أن يحفظ هذه الأحكام، وهي: أنه لا يجوز له أن يفارق المسجد إلا من ضرورة وحاجة، فإن وُجدت الضرورة والحاجة جاز له أن يخرج.
    أقوال العلماء في اشتراط المعتكف الخروج لحاجة
    قال رحمه الله: [ولا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه] أما إذا اشترط كأن يشترط أن يتفقد حال أهله أو يعود مريضاً أو يشهد جنازة، فللعلماء قولان: منهم من قال: الأصل الشرعي أن المعتكف لا يجوز له أن يخرج، ولا يجوز له أن يترفه، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الاشتراط في الحج ولم يجزه للمعتكف، فُنْبقي الاعتكاف على ظاهر النصوص، ولا نجيز لأحد أن يشترط فيه، وأصحاب هذا القول يُضَعِّفون القياس في هذا.
    ومنهم من يقول: نقيس الاعتكاف على الحج، فكما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم في الحج أن تشترط المرأة، فإنه يجوز للمعتكف أن يشترط.
    والقول الأول ألزم للأصل؛ وذلك لأنه أوفق، إلا أنه لو قال قائل: لو أن المعتكف في أثناء اعتكافه أو عند دخوله للمعتكف، كانت بنته مريضة أو أمه مريضة أو والده مريضاً وخشي عليهم، أو كان هو نفسه مريضاً وخشي على نفسه فاشترط، كان القياس هنا أقرب إلى الصواب؛ لحديث ضباعة رضي الله عنها حين قالت: ( إني أريد الحج وأنا شاكية ) فكأنها ألزمت نفسها مع وجود المرض، بخلاف من دخل العبادة وهو صحيح قادر.
    فكأن الشرع أعطى فسحة للمكلف الذي دخل العبادة وهو ضعيف؛ لأنه دخل فيها مع وجود الضرر، فألزم نفسه ما لم يَلْزَمْه، ولذلك يقوى أن يقال بجواز الاشتراط، إذا كان في حالة وجود العذر عند الدخول، تحقيقاً لدلالة النص الذي هو أصل في مباحث الاشتراط.
    فعلى القول الثاني: إذا كان عنده مريض من أهله له أن يسأل ويقول: كيف حالك يا فلان؟! وهو مار، ولا يعرج عليه، ولا يقصد إلى غرفته ولا يجلس عنده أو يسأل زوجته عن أبنائه فلا حرج، أما أن يقصد عيادته فلا، وفي حكم ذلك أن يخرج من اعتكافه بقصد الاتصال على أهله للاطمئنان على مريض، فإنه في حكم العيادة، ولذلك لا يعود، وهذا أصل، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما بينت سنة المعتكف قالت: ( أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يخرج إلا لما لابد له منه ) هذه ثلاثة أمور مضت بها السُّنة في المعتكف: أن لا يعود المريض، وأن لا يشهد الجنازة، وأن لا يخرج من معتكفه إلا لما لابد منه، يعني الأمر الضروري.
    مفسدات الاعتكاف
    قال رحمه الله: [وإن وطئ في فرج فسد اعتكافه].
    بعد أن بين رحمه الله حقيقة الاعتكاف، والأمور التي ينبغي على المعتكف أن يلتزم بها في اعتكافه، شرع في بيان ما يفسد الاعتكاف.
    الجماع أعظم مفسد للاعتكاف
    يفسده الجماع، فإنه إذا حصل جماع بينه وبين زوجه، أو جماع محرم -والعياذ بالله- فقد فسد الاعتكاف بإجماع العلماء رحمهم الله.
    والأصل في ذلك: أن المعتكف لا يجوز له أن يجامع لقوله سبحانه وتعالى: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة:187] فحرم الله على المعتكف أن يباشر أهله، فدل على حرمة المباشرة، والمباشرة هنا بالإجماع إذا بلغت غايتها أي: المباشرة بالجماع فإنها محرمة.
    وقال بعض العلماء: إنها مُحَرِّمَة للمباشرة التي يراد بها الاستمتاع؛ إعمالاً للعموم في قوله: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ } [البقرة:187] كالتقبيل والهمز والغمز ونحو ذلك من الأفعال التي تكون مقدمات للاستمتاع بالمرأة، وهذا على ظاهر قوله: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ } [البقرة:187] ومن هنا تنقسم المباشرة إلى قسمين: القسم الأول: أن تكون المباشرة مفضية إلى الجماع أو من مقدمات الجماع كالتقبيل ونحوه، فهذه بالإجماع لا تجوز، فلا يجوز للمعتكف أن يقبل زوجه ولا يجوز له أن يستمتع على سبيل إثارة الشهوة وهذا بالإجماع.
    القسم الثاني: أن تكون المباشرة لغير الشهوة، كأن تسرح المرأة شعر زوجها أو يدني رأسه من المسجد لزوجته لتسرح شعره أو تغسل يده أو نحو ذلك، ويحصل اللمس والمباشرة، لكنها ليست مقصودة للاستمتاع، فهذه جائزة بالإجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيح-: ( كان يدني لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رأسه فترجله وهو معتكف في المسجد صلوات الله وسلامه عليه ) .
    فإن جامع بطل اعتكافه، وأما إن باشر ولم يجامع كأن يقبل أو نحو ذلك، فإذا باشرها ولم يجامع، وحصلت مقدمات الاستمتاع فلا يخلو من ضربين: الضرب الأول: أن ينزل فيفسد اعتكافه.
    الضرب الثاني: أن لا ينزل، فللعلماء فيه قولان، أصحهما: أن اعتكافه لا يفسد.
    وأما إذا جامع فللعلماء قولان: منهم من يقول: يفسد اعتكافه، ولا شيء عليه وهو مذهب الجمهور.
    ومنهم من يقول: يفسد اعتكافه، وتلزمه كفارة الجماع في نهار رمضان وهو رواية عن الإمام أحمد .
    والصحيح القول الأول: أن من جامع زوجته وهو معتكف أنه يفسد اعتكافه، ولا يجب عليه أن يكفر؛ لأن الكفارة خاصة بالجماع في نهار رمضان على ظاهر السُّنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، فالأصل أن ذمته بريئة من المطالبة بالكفارة، ولا دليل على شغلها بالجماع في الاعتكاف، إذْ لو كان الجماع في الاعتكاف موجباً للتكفير لما سكت الشرع عن ذلك.
    ومحل الخلاف في مسألة الكفارة وعدمها: إذا وقع الجماع ليلاً، أما لو وقع جماع المعتكف في نهار رمضان وهو صائم، فإنه تجب عليه الكفارة للإخلال بصيامه، لا من باب إفساد الاعتكاف، وفرق بين كونها تجب للإخلال بالصيام وبين كونها تجب من أجل الاعتكاف.
    على هذا لو سألك سائل وقال: اعتكف رجل وجامع زوجته فما الذي يجب عليه؟ تقول له: فسد اعتكافه بالإجماع.
    وأما الجماع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إن وقع جماعه في نهار رمضان وهو صائم لزمته الكفارة؛ من أجل الصيام لا من أجل الاعتكاف.
    والحالة الثانية: إن وقع جماعه في الليل، فإنه لا تجب عليه الكفارة على أصح القولين، وهو مذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم.
    مستحبات الاعتكاف
    قال رحمه الله: [ويستحب اشتغاله بالقرب]
    الاشتغال بالقرب من مستحبات الاعتكاف الاشتغال بالقرب

    قوله: (يستحب) أي: الأفضل والأكمل والأعظم أجراً للمعتكف أن يشتغل بالقرب، وهي كل ما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى من الاعتقاد والأقوال والأعمال الظاهرة.
    فمن الاعتقاد: التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى، وكذلك استشعار عظيم فضل الله عليك، فإن الإنسان لو تفكر وتأمل وتدبر في نعم الله عز وجل المغدقة عليه؛ فعظّم الله وهابه، وخشي منه سبحانه، كان هذا منه عبادة وقربة، حتى قال بعض العلماء: أعمال القلوب أعظم من أعمال الجوارح، وأعمال القلوب تشمل تعظيم الله سبحانه وتعالى والخوف منه وخشيته وحبه وإجلاله، فهي أعظم من أعمال الجوارح.
    ولذلك غفر الله عز وجل لعبده لما عظمه كما في الحديث الصحيح: ( أن عبداً قال لأبنائه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، وذروا نصفي في البر ونصفي في البحر، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.
    قال: فلما مات صنعوا به ذلك، ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فقال الله للبحر: اجمع ما فيك، وقال للبر: اجمع ما فيك، فإذا هو قائم بين يدي الله، قال الله: عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: خوفك يارب! قال: قد غفرت لك ).
    قالوا: فهذه من أعمال القلوب، ولذلك أثنى الله على أهل هذه العبادة فقال: { وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } [آل عمران:191] فالتفكر والتدبر من أعمال القلوب، فإذا كان الإنسان في معتكفه وتفكر في عظمة الله، وتذكر ذنوبه وإساءته وتفريطه في جنب الله، وذرفت عيناه من خشية الله فهذه قربة بقلبه.
    كذلك إذا سبح وهلل وحمد وكبر، وأثنى على الله بما هو أهله فهي قربة بلسانه، وهكذا إذا قام يصلي فركع وسجد وتلا كتاب ربه، فهي قربة بجوارحه، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
    فالمقصود: انصراف الإنسان في معتكفه إلى الله عز وجل، وهي عبادة مخصوصة المراد منها: أن يستكثر الإنسان فيها من طاعة الله عز وجل.
    لكن لو أن المعتكف تحدث وقتاً في شيء من الدنيا وكان ذلك منه بقدر، فإن هذا لا يفسد الاعتكاف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام مع أم المؤمنين صفية رضي الله عنها يَقْلِبُها، وكانت تأتيه وهو معتكف، فكان صلى الله عليه وسلم يتحدث معها ويباسطها، ثم يقوم يقلبها كما ثبت عنه ذلك في الصحيحين.
    فهذا من سماحة الإسلام، فالإسلام دين وسط، ليس فيه رهبنة بحيث يقبل الإنسان إقبالاً كلياً ينصرف فيه عن أموره الضرورية، وعن الأمور التي هي من جبلة البشر، فإن النصارى غلت في العبادة حتى أصبحت في مقام الرهبنة، والإسلام لا يريد هذا من المسلم، فلا رهبانية في الإسلام؛ وإنما يريد من المسلم أن يعبد الله، ولكن لا يصل إلى درجة الغلو ولا إلى درجة التنطع؛ وإنما إلى درجة معتبرة يصل الإنسان بها إلى مرضات الله عز وجل، متأسياً ومقتدياً بنبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
    فيستحب له الاشتغال بالقرب الظاهرة والباطنة التي يحبها الله ويرضاها، ويستجمع أمرين هامين: الأمر الأول: الندم على ما فات من الذنوب والعصيان؛ فإن الإنسان في أوقات مظنة أن يرحمه الله عز وجل برحمته، فإن مواسم الخير وساعات الطاعة والبر مظنة الرحمة؛ لأن الله فضلها وشرفها واختارها لحكمة منه سبحانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة ) كما في الصحيح من حديث أبي هريرة .
    قال بعض العلماء: وأعظم ما تكون الرحمة إذا كانت في العشر الأواخر؛ لأن الله اختار من الشهر العشر الأواخر، فإذا كان الإنسان معتكفاً في العشر الأواخر واستجمع نفسه في الإقبال على الله، فعليه أن يندم على ما فات من الذنوب والعصيان، لعله أن يخرج من معتكفه كيوم ولدته أمه.
    لأن المقصود من الاعتكاف: أن يصيب ليلة القدر، ومن أصاب ليلة القدر وقامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فكم من أناس تشرق عليهم الشمس في صبيحة ليلة القدر وقد خرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم! فهذا هو المقصود من ليلة القدر، والمقصود من الاعتكاف: أن الإنسان يصيب رحمة الله عز وجل وعفوه ومغفرته.
    الأمر الثاني: الإكثار من الدعاء، وسؤال الله العافية فيما بقي من العمر، ويتضرع إلى الله عز وجل أن يحسن له الخاتمة في ما بقي له من عمره، كما قال تعالى: { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [الأحقاف:15] فالإنسان إذا نظر إلى ما هو قادم عليه من عمره خاف من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وخاف أن يختم له بخاتمة السوء، وخاف أن تزل القدم بعد ثبوتها.
    فلذلك يخشى من الله عز وجل في ما هو قادم عليه، ويسأل الله عز وجل أن يلطف به، فإذا حصّل المعتكف الشعور بالندم على ما فات، احتقر نفسه؛ بسبب تفريطها في جنب الله، وأيضاً أحسن الظن بالله سبحانه وتعالى ورجا أن يرحمه وأن يغفر له.
    وهذه أمور تعين على شغل الوقت بذكر الله عز وجل: الأمر الأول: عليه أن ينصرف إلى الله بكليته، فإذا جاء من يشغله عن ذكر الله، أو جاءه أصحابه أو أحبابه، ورأى منهم الإفراط في الجلوس وإضاعة الوقت والتفريط في الأوقات، فلا يحرص على مثلهم، وإنما يفر منهم.
    ولذلك كلما كان الإنسان بعيداً عن الخلطة كلما كان آنس بالله عز وجل، ومن كان أنسه بالناس أعظم من أنسه بالله فلا خير فيه، إنما يكون الأنس بالله جل جلاله، وإذا كنت تستشعر أن أصحابك وأحبابك يدخلون السرور عليك، فوالله إن سرورك بهم لا يكون شيئاً أمام سرورك بالله عز وجل، وإذا أحس الإنسان بالأنس بالله عز وجل فإنه يقبل على الله بكليته.
    الأمر الثاني: أن يستشعر أنه ما ترك الوالدين ولا الأولاد ولا القَرابات؛ من أجل إضاعة الوقت في القيل والقال، ومن أجل شغل الأوقات في الأمور التي قد يكون فيها الغيبة والنميمة والأمور المحرمة، إنما ترك الوالدين والأولاد من أجل ذكر الله ومن أجل طاعة الله، فيستحب للإنسان أن يستشعر هذا الشعور؛ حتى يستفرغ همته للخير والطاعة والبر، ونسأل الله التوفيق! فإن العبد لا يستطيع أن يصيب الخير إلا بتوفيق الله عز وجل، فكم من محب للخير لا يوفق له، فيحال بينه وبين التوفيق للخير بسبب الذنوب، نسأل الله العظيم أن لا يحول بيننا وبين رحمته بما كان من ذنوبنا وإساءتنا.
    اجتناب المعتكف وغيره لما لا يعنيه
    قال رحمه الله: [واجتناب ما لا يعنيه].
    هذا أصل عام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) أي: من كماله وجلاله وفضله، ومن علو مرتبة الإنسان في الإسلام، وإذا أردت أن ترى المسلم الكامل فانظر إلى الذي يترك ما لا يعنيه، فالله عز وجل كلفك نفسك، وكلفك أن تأمر الناس بالخير وتنهاهم عن الشر؛ استجابة لأمر الله عز وجل، وما وراء ذلك من لمز الناس وأذيتهم، أو الاشتغال بفضول الدنيا فهذا مما لا يعنيك.
    ولذلك إذا فَرَّغ الإنسان نفسه لما يعنيه ساد، فهذا الأحنف بن قيس عندما قال له رجل: كيف سدت قومك وأنت قصير، دميم الخلقة؟ وكان الأحنف من سادات العرب ومن أهل الحلم والفضل، فقال كلمة عظيمة في جواب هذا السائل المحتقر له المزدري له في خلقته قال له: بتركي لما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
    فهذا الأمر -وهو خلقة الله عز وجل- لا تعنيك، وأنت اشتغلت بها مع أنها لا تعنيك، فَسُدتُ قومي حينما تركت الفضول وتركت الاشتغال بالناس وهمزهم ولمزهم واحتقارهم والوقيعة فيهم، فالسيد الذي يتبوأ المنزلة العالية هو الذي يسلم الناس منه.
    وإذا سلم الناس منك أحبوك وهابوك، وكلما كنت عفيفاً عن أعراضهم وعن عيوبهم، فإنهم يعفون عن عرضك وعن عيوبك، كما قال الإمام مالك : أعرف أقواماً عندهم عيوب ستروا عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وأعرف أناساً لا عيوب عندهم تكلموا في عيوب الناس وكشفوها؛ فكشف الله عيوبهم، أي: أوجد الناس لهم عيوباً ليست لهم.
    فلذلك على الإنسان ألاّ يشتغل بما لا يعنيه، خاصة الكلام في الناس، وتتبع عثراتهم والوقيعة فيهم، وخاصةً إذا كانت غيبة ونميمة، وأشد ما تكون إذا كانت في العلماء والأئمة وطلاب العلم والفضلاء.
    بعض الأحيان يجلس المعتكفون ويقعون في الغيبة وهم لا يشعرون، فلان طوّل بنا، وفلان قصّر، وفلان تلاوته أحسن من فلان، وفلان أفضل من فلان، وليت فلاناً قرأ بكذا ولم يقرأ بكذا، وفلان يخطئ، فهذه أمور من الغيبة يقع الإنسان فيها وهو لا يشعر، وفي الحديث ( قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) .
    فلذلك ينبغي على المسلم أن يعلم أن الاعتكاف لله لا لأي شيء سواه، فيشتغل بالأمور التي تعنيه، ويترك عنه فضول الحديث.
    وقد كان السلف رحمة الله عليهم يخافون من فضول الحديث كخوفهم من الأمور المحرمة؛ خوف الاشتغال بها فتوصلهم إلى الحرام، وينبغي للمسلم أيضاً أن يوطن نفسه على اجتناب فضول الكلام، سواءً كان معتكفاً أو غير معتكف، خاصةً طلاب العلم وأهل الفضل؛ لأن الناس تنظر إليهم على أنهم القدوة، والشاب الملتزم الصالح إذا كان بين أهله وإخوانه وقرابته ينظرون إليه أنه قدوة، فإذا وجدوه يكثر من ذكر الدنيا ومن العقارات والبيع والشراء سقط من أعين الناس واحتقروه وازدروه.
    ولذلك يقول العلماء: الأمر في أهل العلم وأهل الفضل آكد، كالأئمة والخطباء والوعاظ والدعاة والعلماء ونحوهم، هؤلاء ينبغي عليهم أن يحفظوا ألسنتهم، وأن يتحفظوا فيما يتكلمون فيه ويسمعونه، فإذا جلس الإنسان في المجلس ووجد فضول الكلام وفضول الأحاديث، اشتغل بما يعنيه من ذكر الله عز وجل والتسبيح والاستغفار، قال أحد الصحابة رضي الله عنه: ( كنا نعد للنبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة: أستغفر الله، أستغفر الله ) لأنه قدوة، ولأنه كان إماماً في الخير وكان معلماً للخير، فكان إذا جلس استغفر الله، فما كان يشتغل بما لا يعنيه صلوات الله وسلامه عليه، فالمنبغي على الإنسان أن يحرص على هذه الخلة.
    فالمعتكف إذا حافظ في هذه العشرة الأيام على أنه لا يشتغل بما لا يعنيه، قد يستمر على هذه الخصلة الكريمة طيلة حياته؛ لأن الاعتكاف مدرسة، فإذا كان وطن نفسه في خلال العشرة الأيام على أن يستجمع قواه فيضغط على نفسه وعلى شهوته، فينضبط في سلوكه وأقواله وأفعاله، فإنه يبقى أثر هذه الطاعة.
    ومن دلائل قبول الاعتكاف: أن تجد المعتكف يخرج بخصلة من خصال الخير، بل يخرج بخصال، فإذا تعوّد على أنه معتكف وأنه مراقب في أقواله وأفعاله، فإنه قد يبقى معه هذا الشعور.
    يقول العلماء: والمقصود من الاعتكاف أن المعتكف حينما يُلْزَم بمكان، ويستشعر أنه ينبغي أن يستفرغ جميع جهده، يحس كأنه في الدنيا من حيث هو مخلوق ينبغي أن يستفرغ وقته في ذكر الله عز وجل، فمثل هذه المواسم وهذه المواقف تعين الإنسان على أن يضبط شهوته، وأن يضبط نفسه، فلا يسترسل في الكلام وفي ما لا يعنيه.
    نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    الأسئلة
    الفرق بين الاعتكاف وغيره من العبادات

    السؤال
    أشكل عليّ مسألة عدم جواز نقل نية النافلة إلى الفريضة، أي: من أدنى إلى أعلى، بينما يجوز في الاعتكاف الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، كمن نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جاز أن يعتكف في المسجد الحرام، فما الفرق بينهما أثابكم الله؟


    الجواب
    أن النية إذا انعقدت بالنافلة فلا يجوز لك أن تصرفها إلى فريضة، فلو أن إنساناً كبر تكبيرة الإحرام، أو صلى ركعتي الوضوء أو راتبة الظهر ناوياً النافلة، ثم فكر وقال: لو أني قلبتها إلى الفريضة.
    فإنه لا يجزيه ذلك؛ لأن النية انعقدت للنافلة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما لكل امرئٍ ما نوى ) والفريضة أعلى من النافلة، ولا يجزئ أن ينصرف من الأدنى فتبرأ ذمته بالأعلى، بدليل: أنه إذا صلى أربع ركعات نافلة ثم نواها عن الفريضة فإنه بالإجماع لا تنقلب فريضة.
    أما مسألة أنه لو نوى الاعتكاف في الأقل كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم مع المسجد الحرام، وانصرف إلى الأعلى، فهذا من جهة الإسقاط، بخلاف الصلاة التي تنعقد بتكبيرة الإحرام، فإن الإنسان إذا كبر تكبيرة الإحرام نافلة فإنها لا تنصرف فريضة، بخلاف الاعتكاف، فإنه في الفضائل، ولأنك لما تعتكف في البيت الحرام فإنك تحصل الواجب وزيادة، ولكن إذا نويت النافلة فإنك تحصل ما دون الواجب، فلا تنتقل إلى الواجب.
    وتوضيح ذلك: أنه عندما يكبر تكبيرة الإحرام للنافلة، فإنها تقع من أول التكبير للأقل، فلا تنتقل للأعلى؛ لأنه أعلى بحكم الشرع وهو الواجب والفرض.
    وأما بالنسبة لمن اعتكف في البيت الحرام، وكان قد نوى الاعتكاف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الفعل الذي يقع منه يقع على الأكمل، فهو صورة عكسية تماماً، وكذلك إذا اعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد نوى الاعتكاف في المسجد الأقصى والذي تكون الصلاة فيه بخمسمائة صلاة، فمعناه: أنه قد حصل الفرض -وهي الخمسمائة صلاة وزيادة- فجاز له أن ينصرف من الأدنى إلى الأعلى.
    وأما إذا كبر تكبيرة الإحرام فقد دخل في الأدنى، ولم يجز أن ينتقل إلى الأعلى في النافلة؛ لأنه لا يحقق الفرض ولا يحقق الزيادة.
    وبناءً على ذلك اختلفت المسألتان فكان الحكم بالجواز في الاعتكاف، و الحكم بالمنع في صلاة النافلة.
    والله تعالى أعلم.

    جواز الطواف حول البيت للمعتكف


    السؤال
    إذا كان الاعتكاف بالمسجد الحرام، هل هناك حرج إذا خرج إلى الطواف؟


    الجواب
    البيت الحرام كله مهيأ للاعتكاف، فمن اعتكف في الدور الأول أو الدور الثاني أو الدور الثالث، أو اعتكف في الساحات فإنه معتكف؛ لأن الله عز وجل أطلق البيت كله، ولذلك قال: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } [البقرة:125].
    فإذا تأملت أن البيت كله مكان للاعتكاف صح أن ينزل للطواف؛ لأنه أثناء طوافه في حكم المعتكف، وأثناء طوافه واشتغاله بالطواف كاشتغاله بالصلاة أثناء الاعتكاف، لأن الطواف صلاة، وكونه ينزل إلى صحن بيت الله الحرام فهو في أفضل الأماكن وأشرفها، وهذا لا يضر ولا يخرجه عن كونه معتكفاً.
    ولذلك قال العلماء: من طاف في أي مكان من البيت، بحيث أنه لم يخرج عن حدود المسجد؛ فإن طوافه صحيح، لكن لو خرج عن حدود المسجد وجاوز المسجد، أو طاف من خارج المسجد بسيارة مثلاً لم يصح طوافه؛ لأنه قال: { طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [البقرة:125] فالطائف لا يصدق عليه أنه طائف إلا إذا كان في داخل البيت، وداخل حدود البيت، أعني: المسجد المبني.
    فالمقصود: أن هذا التعبير بقوله: (بيتي) شامل لجميع المسجد، فالمعتكف ما دام داخل المسجد فإنه لا يضره، وإذا نزل إلى الطواف فقد نزل إلى أفضل الأماكن، خاصة وأنه يجمع بين الاعتكاف وبين الطواف، وهو ضرب من الصلاة بنص حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.
    حكم من اشترط الخروج من المعتكف ليصلي بالناس

    السؤال
    من اشترط الخروج من المعتكف ليصلي بالناس كأن يكون إماماً لمسجد غير المسجد الذي اعتكف فيه؟


    الجواب
    أما بالنسبة لمسائل الاشتراط في الاعتكاف فأنا أتوقف فيها؛ لأنها مبنية على القياس، وأنا أرى أن الأحوط للإنسان أن يبقى على السنة، وأن لا يعتكف إلا بالصورة المعتبرة شرعاً، والأفضل في مثل هذا أن يخرج من الخلاف فيجعل اعتكافه جزئياً، فينوي الاعتكاف ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، حتى إذا قارب وقت أذان الظهر خرج من المعتكف؛ تحصيلاً للواجب الذي عليه، فيصلي الظهر بالناس ثم يرجع، وينوي الاعتكاف بين الظهر والعصر، وهكذا يجزئ الاعتكاف، فهذا يخرج من الخلاف وهو أرفق به، والله تعالى أعلم.
    عدم لزوم تجديد النية من البيت لمن فسد اعتكافه

    السؤال
    هل الذي يفسد اعتكافه يلزمه خروجه من المسجد ورجوعه إلى منزله وأهله لكي يجدد نية الاعتكاف؟


    الجواب
    من فسد اعتكافه وجدد النية صح ذلك وأجزَأَه، ولا يجب عليه الخروج إلى البيت لكي ينوي الاعتكاف من جديد من البيت، فهذا لا أصل له، وإنما يجدد نيته في المسجد، ويصح اعتبار اعتكافه المستأنف، فلو أنه فسد اعتكافه في الساعة الثانية ظهراً بخلل شرعي؛ كخروجه من المسجد من دون حاجة، ثم قال: أستغفر الله! ورجع إلى المسجد، فإنه يكون اعتكافه مستأنفاً بالرجوع الثاني، والله تعالى أعلم.
    حكم الصفرة والكدرة قبل الحيض وبعده

    السؤال
    أحياناً وقبل مجيء العادة الشهرية بيوم أو يومين تأتي صفرة وكدرة فما حكمها، أثابكم الله؟


    الجواب
    الصفرة والكدرة لا تخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تأتي قبل زمان الحيض الذي اعتادته المرأة، كأن تكون عادتها الستة الأيام من أول كل شهر، فإذا جاءتها في نهاية الشهر السابق فإنها تعتبر استحاضة لا تمنع من الصوم ولا تمنع من الصلاة، وتغسلها ثم تضع قطنة في الفرج ثم تصلي.
    الحالة الثانية: أن تكون الصفرة والكدرة أثناء أمد الحيض، فهي حيض على الصحيح من أقوال العلماء؛ لحديث أم عطية : (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الحيض شيئاً) ومفهوم هذا الحديث أنها في الحيض حيض.
    وأما إذا جاءت الصفرة والكدرة بعد انتهاء أمد العادة، كأن تكون عادتها سبعة أيام فجاءتها بعد السبعة الأيام، فإنها استحاضة قولاً واحداً عند أهل العلم.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #211
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (211)

    صـــــ(1) إلى صــ(12)


    شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب المناسك [1]
    الحج ركن من أركان الإسلام، وقد فرضه الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين مرة واحدة في العمر، وذلك عند توفر الشروط وانتفاء الموانع.
    وللحج شروط عدة منها: الإسلام، والحرية، والتكليف، والقدرة والاستطاعة، فإن توفرت هذه الشروط وجب الحج.
    وهناك موانع تمنع من إيجاب الحج على الإنسان منها: الكفر، والجنون، والرق، وعدم البلوغ، وبعض هؤلاء قد يصح منهم الحج نفلاً لا فرضاً، وبعضهم لا يصح منهم الحج لا نفلاً ولا فرضاً.
    مقدمة عن الحج وبيان أهميته

    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: يقول رحمه الله: [كتاب المناسك] هذا الكتاب المراد به بيان أحكام الحج والعمرة، وما يتصل بهما من بيان أحكام الهدي والأضاحي، وما أوجب الله عز وجل في هذه الفريضة العظيمة الجليلة الكريمة، التي هي الركن الخامس من أركان الإسلام.
    ذكر رحمه الله كتاب المناسك عقب كتاب الصيام؛ لأنها الركن الخامس من أركان الإسلام؛ مراعاة للترتيب كما في حديث ابن عمر : ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً ) فلما رتب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأركان بهذا الترتيب، اعتنى الفقهاء رحمة الله عليهم بذكرها مرتبة على هذا الوجه.
    المناسك: جمع منسك، والنسك يطلق ويراد به المعنى العام وهو العبادة وحملوا عليه قوله سبحانه: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } [الأنعام:162] قيل: النسك كل ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون قوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي من عطف العام على الخاص.
    وأيضاً يطلق النسك ويراد به العبادة الخاصة كالذبح، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: ( انسك نسيكة ) كما في حديث كعب بن عجرة في الصحيحين، أي: اذبح ذبيحة، فالنسك يطلق بمعنى الذبح، وهو الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } [الأنعام:162] أي: ذبحي.
    كما قال تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر:2].
    والمناسك المراد بها هنا: أفعال الحج والعمرة، ويشمل ذلك: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، والمبيت بمنى وبقية المناسك، فهذه مناسك الحج.
    كذلك أيضاً مناسك العمرة من الإحرام والطواف بالبيت، والسعي بن الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.
    في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل الشرعية المتعلقة بعبادة الحج وعبادة العمرة.
    لقد فرض الله عز وجل الحج على عباده بقوله: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] وكذلك العمرة -على أصح قولي العلماء- فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده، كما في الحديث الصحيح عند الإمام أحمد في مسنده، و النسائي في سننه: ( أن عائشة رضي الله عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل على النساء جهاد؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة ) .
    فقال: (عليهن) يعني: أنهن ملزمات، فهي صيغة إلزام، مثل : { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } [المائدة:105] أي: ألزموها.
    فدل هذا الحديث على أن العمرة واجبة، فتبين بهذا أن الحج والعمرة كل منهما واجب على الذكر والأنثى، بقيود وشروط سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
    فضل الله الكعبة البيت الحرام وجعلها قياماً للناس يقيمون فيها طاعته، ويتقربون إليه سبحانه بأفضل وأحب وأجل ما يتقرب إليه وهو التوحيد.
    والله سبحانه وتعالى جعل هذا البيت وهذه المشاعر والمناسك لشيء واحد وهو توحيده سبحانه وتعالى، فتكون العبادة خالصة لوجهه، فالمسلم يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، وكذلك يقف بعرفة، ويبيت بمزدلفة، ويفعل سائر أفعال الحج؛ توحيداً لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك ما من منسك من هذه المناسك إلا وفيه معلم من معالم التوحيد، بل معالم عديدة من معالم التوحيد، قصد منها أن يخرج الإنسان من هذه العبادة وهو أخلص ما يكون لله عز وجل في قوله وفعله وظاهره وباطنه.
    وعبادة الحج والعمرة فيها خير كثير من منافع الدنيا، كما أنها تحقق أعظم منفعة في الدين، فإن فيها منافع ومصالح عظيمة دينية ودنيوية.
    أما منافع هذه المناسك الدينية: توحيد الله عز وجل، وجمع المسلمين في صعيد واحد ليستشعروا به أخوة الإسلام، وما ألف الله به بين قلوبهم، حتى يحس المسلم أن الله جمع بينه وبين أخيه المسلم بهذا الدين.
    ورابطة الدين هي أعز وأكرم وأشرف عند الله سبحانه من رابطة النسب والقرابة؛ ولذلك يجمع الله المسلم مع جيرانه وأهل حيه في اليوم خمس مرات، فإذا تم الأسبوع جمعه مع أهل البادية وضاحية المدينة؛ حتى يأتلف الناس ويحسوا أنه لا فرق بينهم، وأن هذه الأشكال والصور والألوان والأماكن والبلدان لا فرق بينها في دين الله عز وجل، فيركعون ويسجدون خلف إمام واحد، ويتقيدون بهذا الإمام وينصتون إليه، فتجد المليون يستمعون إلى رجل واحد؛ حتى نشعر بالألفة وبالأخوة.
    ولا يجتمع على وجه الأرض المليون والمليونان ينصتون لرجل واحد وهو يتكلم؟! ولو اجتمع مائة ألف عجز الناس عن إسكاتهم، ولو جاءوا بعدد من الخلق من أجل أن يُسْكِتُوا هؤلاء المائة ألف لحظة أو ساعة مؤقتة، لكان من الصعوبة بمكان، ولحصل اللغط، ولكن في الإسلام يجتمع المليون والأكثر من المليون ويستمعون لخطيب واحد على صعيد عرفة، لا يتكلمون ولا يهمسون.
    وكذلك أيضاً عندما يجتمعون في صلاة الجمعة؛ من أجل أن يشعر المسلم بأخوة هذا الدين، وأن هذا الإسلام جمع بين القلوب وألف بين الأرواح، وهي دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك جعل الله عز وجل المسلمين بمثابة الجسد الواحد، وأشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( مثل المسلمين في توراتهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .
    فيجتمعون في الأسبوع على مستوى المدينة والأحياء القريبة من المدينة، فإذا كان يوم العيد اجتمعوا على أبعد من المدينة، وتجد الناس تأتي من أماكن بعيدة من أجل شهود العيد داخل المدينة.
    كل ذلك من أجل جمع القلوب وتآلف الأرواح: { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } [الأنفال:63] وهذا هو مقصود الإسلام، ولذلك يقول بعض العلماء: إن الله امتن على عباده بالألفة والأخوة والتواد والتراحم قبل منَّةِ الدين، فقال: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } [آل عمران:103] فجعل نعمة الاعتصام والائتلاف والتواد والتراحم واجتماع الكلمة قبل قوله: { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } [آل عمران:103] وهذا يدل على عظيم أمر الائتلاف والاجتماع والاعتصام بحبل الله عز وجل.
    وهذا مقصود ومراد في الحج، ولذلك يجتمع الناس بإمام واحد، ولا حج إلا بإمام، ويدفعون بدفع الإمام، وتراهم جميعاً بثوب واحد وزي واحد، وعلى هيئة واحدة، وفي مقام واحد وصعيد واحد، كل ذلك لكي يشعروا بأخوة الإسلام وما ربط الله عز وجل بينهم.
    كذلك من مقاصد الحج: أن المسلم يجتمع بأخيه المسلم، يسأله عن حاله وأشجانه وأحزانه، فإن وجد خيراً حمد الله، وأمره أن يشكر الله على فضله، وإن وجد غير ذلك ثبته وقواه، ودعاه إلى الاعتصام بحبل الله، وتواصى المسلمون بالثبات على الحق إلى الممات، والصبر على ما يكون من بلايا الدنيا ومصائبها، فتجدهم متآلفين متعاطفين متكاتفين متراحمين متواصلين كالجسد الواحد، فالمسلم الذي في مشرق الأرض يتأوه لأخيه المسلم الذي في مغرب الأرض؛ وما ذلك إلا برابطة هذا الدين.
    فالمقصود من الحج: جمع الكلمة وائتلاف القلوب.
    أما المنافع والمصالح الدنيوية من المناسك: التجارة وغيرها.
    ولقد فضل الله أهل البيت الحرام فساق إليهم الخيرات، وجعل بلدهم آمناً مطمئناً تجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً منه سبحانه؛ لكي يشكروه ويحمدوه ويعظموه، فحق جيران بيت الله الحرام آكد من غيرهم، فلما رأوا الناس تتوافد عليهم، من كل حدب وصوب شعروا بحرمة هذا البيت، وشعروا بنعمة الله عليهم وفضل الله عليهم بأن جعل القلوب تهوي إلى هذا البيت! يُسأل المسلم في أقصى الشرق عن أمنية عزيزة عليه، فيقول: أتمنى أن أرى البيت الحرام، وأن أحج، وأن أعتمر.
    وهذا كله لاشك يدعو الإنسان أن يشعر بنعمة الله عز وجل عليه.
    ومن مصالح الحج الدنيوية أن يجتمع الناس ويتعرف بعضهم على بعض، وتتعرف على عادات وتقاليد، وترى أشياء وصنوف عجيبة غريبة من تصرفات الناس وأفعالهم، فترى الحكيم بحكمته والجاهل بجهله، فإن وجدت خيراً تعلمته، وإن وجدت غير ذلك حمدت الله على نعمته وفضله عليك.
    ففي الحج غايات عظيمة وأسرار كريمة، فليس المقصود أن الإنسان يحج من أجل أن يصيب هذه العبادات خالية عن هذه المعاني.
    وقال بعض العلماء: من أعظم معاني التوحيد في الحج أن الحج يذكر الإنسان بالآخرة، فإن الإنسان من أول لحظة في الحج إذا خرج من بيته يتوجه إلى الميقات، فيأتيه أمر الله عز وجل في الميقات أن يتجرد من ثيابه، وأن ينزع عنه المخيط.
    فإذا تجرد من ثيابه تذكر إذا جرده أهله من ثيابه حين يموت ليغسلوه، هو اليوم يجرد نفسه؛ ولكنه غداً يُجَرَّدَ.
    ثم إذا لبس ثياب الإحرام فإنه يتذكر لبس الأكفان، وعندما يلبس ثياب الإحرام فإنه يمنع من الطيب، ومن قص الشعر، ومن الترفه، فيتذكر أنه إذا صار إلى قبره يحال بينه وبين أي شيء من ملاذ الدنيا ومتعها وما فيها من الشهوات والملهيات، كذلك هو في حجه يُمنع من هذه الأمور لكي يتذكر الآخرة.
    ثم إذا صار إلى صعيد عرفات تذكر وقوف الناس بين يدي الله عز وجل حفاة عراة غرلاً، فيتذكر مثل هذه المواقف؛ ولذلك يقولون: الحج يعين على تذكر الآخرة.
    ومن غايات الحج وأهدافه وأسراره: أنه يقوي شكيمة المسلم، ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بكونه جهاداً، فتتعود على التغرب عن الأوطان، ولذلك جعل الله عز وجل شهواتك تستجيب لك، ولس مشروعية الحج والعمرة وحكمهما
    يقول المصنف عليه رحمة الله: [الحج والعمرة واجبان على المسلم الحر المكلف القادر] شرع المصنف رحمه الله في بيان حكم الحج والعمرة، وهما النسك.
    فبيّن رحمه الله أن كلاً من الحج والعمرة يعتبر فريضة من فرائض الله عز وجل.
    أما بالنسبة للحج فهذا محل إجماع واتفاق بين أهل العلم رحمهم الله؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] .
    وقال عليه الصلاة والسلام: ( بني الإسلام على خمس ) وذكر منها: حج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
    وأجمع المسلمون على أن الحج ركن من أركان الإسلام.
    أقوال العلماء في فرضية العمرة
    وأما بالنسبة للعمرة ففيها قولان مشهوران لأهل العلم رحمة الله عليهم: القول الأول: إن العمرة سنة وليست بواجبة، وبهذا القول قال فقهاء الحنيفة والمالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وقول للشافعي رحمة الله على الجميع.
    والقول الثاني: إن العمرة واجبة، وبهذا القول قال الشافعية والحنابلة في المشهور.
    فأما دليل من قال: إن العمرة سنة وليست بواجبة فقد استدلوا بظاهر قوله سبحانه وتعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [آل عمران:97] قالوا: ولو كانت العمرة واجبة لقال الله: ولله على الناس الحج والاعتمار، ولكن الله سبحانه وتعالى خص الفريضة بالحج، فدل على أن العمرة لا تأخذ حكم الحج.
    واستدلوا كذلك بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث عبد الله بن عمر في الصحيح ( بني الإسلام على خمس، وفيه: حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر العمرة مع الحج، فدل على أن الحج فريضة والعمرة سنة.
    وكذلك استدلوا بحديث عمر في الصحيحين حينما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فذكر شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، قالوا: ولم يذكر العمرة.
    وكذلك أيضاً استدلوا بحديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه، وذلك أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله فقال: ( زعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
    قال: صدق، فقال بعد ذلك: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.
    فقال صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة ) فقال: لا أزيد على هذا.
    والعمرة زائدة على الحج، فدل على أن العمرة ليست بواجبة.
    كذلك أيضاً استدلوا بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أعرابي عن العمرة أواجبة هي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا وأن تعتمر خير لك ) وهذا الحديث رواه الإمام الترمذي في سننه، وقال: إنه حديث حسن صحيح، وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده.
    قالوا: فهذا الحديث الصحيح يدل على أن العمرة ليست بواجبة، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل: ( أهي واجبة؟ قال: لا ) وهذا يدل على أنها ليست بلازمة، ثم قال: ( وأن تعتمر خير لك ) أي: أنها سنة مستحبة وليست بفريضة واجبة.
    كذلك استدلوا بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحج جهاد والعمرة تطوع ) وهذا الحديث رواه ابن ماجة بسند ضعيف.
    هذه هي حاصل حجج من قال: بأن العمرة ليست بواجبة.
    أما من قال: بأن العمرة واجبة فقد استدل بقوله سبحانه: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196].
    وجه الدلالة: أن الله قرن العمرة بالحج، فدل على أن حكمهما واحد، وهذه الدلالة تسمى عند العلماء: بدلالة الاقتران، وهي دلالة ضعيفة، والدليل على ذلك أن الله يقرن الواجب وغير الواجب كما قال سبحانه وتعالى: { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام:141] فإن الله قرن الأكل بأداء الزكاة، فدل على أنه قد يقرن الواجب بغير الواجب.
    ثم إن هذه الدلالة في الآية محل نظر، وذلك أن الله تعالى قال: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } [البقرة:196] ففي قراءة ( والعمرة لله ) على العطف وهناك قراءة على الاستئناف ( وأتموا الحج والعمرةُ لله ) وعلى هذه القراءة لا يستقيم الاستدلال.
    وكذلك أيضاً استدلوا بالسنة، وذلك لما ثبت من حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه وأرضاه: ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه حيث قال: إن أبي لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، فقال صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك واعتمر ) وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، وكذلك الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه غير واحد من الأئمة، قالوا: إن هذا الحديث أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أبا رزين أن يعتمر عن أبيه، فدل على أن العمرة واجبة.
    واستدلوا أيضاً بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وذلك ( أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل على النساء جهاد؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة ) فقوله: (عليهن) أي: يلزمهن كقوله تعالى: { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } [المائدة:105] أي: ألزموها، فهذه الصيغة صيغة إلزام، وصيغة الإلزام تدل على الوجوب، وبناءً عليه فإن هذا الحديث يدل على وجوب العمرة.
    وبناءً على ذلك قالوا: إن العمرة واجبة، وهذا القول أعني: القول بوجوب العمرة هو أصح القولين والعلم عند الله، وذلك لقوة دلالة الأدلة التي استدلوا بها، وأما الآية فدلالتها ضعيفة هي قوله: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196] لكن الأقوى حديث أبي رزين وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
    وكيف نجيب عن دليل القائلين بالسنة؟ الجواب عن ذلك من وجوه: أقواها ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله من أن الحج ينقسم إلى قسمين: - حج أكبر.
    - وحج أصغر.
    وهذا هو الذي دل عليه القرآن في قوله سبحانه وتعالى: { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ } [التوبة:3] فهناك حج أكبر وهو الحج المعروف، وهناك حج أصغر وهو العمرة، فلما قال: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [آل عمران:97] شمل الحج الأكبر والأصغر.
    وكذلك ما ورد من الأحاديث في قوله: ( وأن تحج البيت ) فإنه يشمل حج البيت بالأكبر والأصغر؛ لأنه مطلق فيشمل الاثنين، وهذا هو أنسب الوجوه؛ لأن الله وصف الحج بكونه أكبر وأصغر.
    وأجيب أيضاً بأن سكوت الأدلة عن ذكر هذه الفرائض في العزائم والأركان لا يدل على عدم وجوبها، وأن وجوبها شُرِعَ متأخراً، وهذا الوجه يختاره بعض الأئمة رحمهم الله.
    وبناءً على ذلك فإنه يترجح قول القائل بوجوب العمرة.
    إذا ثبت وجوب الحج والعمرة فيرد

    السؤال
    هل هذا الوجوب وهذه الفريضة عامة أو خاصة؟ أما بالنسبة للحج فهو واجب وفريضة على المستطيع عموماً بالشروط التي سنذكرها، أما العمرة فللعلماء الذين قالوا: بوجوبها وفرضيتها مسلكان: منهم من يقول: العمرة واجبة على الجميع دون فرق بين أهل مكة وغيرهم.
    ومنهم من يقول: هي واجبة على غير أهل مكة، أما أهل مكة فإنه لا تجب عليهم العمرة.
    والصحيح فرضيتها على الجميع؛ وذلك لأنه لم يدل دليل على استثناء المكي وإخراجه من هذا العموم.
    شروط وجوب الحج
    وأما بالنسبة لقوله: (الحج والعمرة واجبتان على المستطيع): هذا الشروع الذي بدأه المصنف في كتاب المناسك، إنما هو في بيان حكم هذه العبادة.
    وهذه الفرضية وهذا الوجوب مقيد بشروط، بدليل قوله سبحانه وتعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] فقال (حِجُّ) وفي قراءة: (حَجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا) فقيد هذا الوجوب وهذا اللزوم بالاستطاعة، ولذلك قال العلماء: إن هذه الفرضية تتقيد بشروط.
    الشرط الأول: الإسلام
    قوله: (الحج والعمرة واجبان على المسلم ): أي: واجبان على المسلم أما الكافر فلا يجب عليه أن يحج، ولا يجب عليه أن يعتمر، حتى يحقق أصل الإسلام والتوحيد من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ثم بعد ذلك يخاطب بفروع الإسلام، أما الدليل على أن الكافر لا يحج ولا يعتمر فلأن الله سبحانه وتعالى قال: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [التوبة:28] وقوله سبحانه: { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } [التوبة:3] فهذا يدل على أنه لا يجوز دخول المشرك والكافر إلى مكة، ويشمل ذلك الحج والعمرة.
    وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه بعث علياً رضي الله عنه ينادي بندائه: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان )، ولذلك قالوا: لا يدخل الكافر لحج ولا لعمرة، ومُنِعَ المشركون من الحج والعمرة بعد نزول هذه الآية الكريمة.
    الشرط الثاني: الحرية
    قوله: [الحر]: أي: يجب الحج وتجب العمرة على الحر، أما الرقيق فلا يجب عليه حج ولا عمرة؛ لأن الله قال: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] والرقيق ليس عنده مال، فشرط الاستطاعة ليس بمتوفر ولا متحقق فيه، والدليل على أن الرقيق لا يملك المال، ما ورد من حديث ابن عمر الذي ذكرناه في كتاب الزكاة، وبينا أن الشرع أخلى يد العبد عن الملكية، وإذا خلت يدُ العبد عن ملكية المال فإنه لا يتحقق فيه شرط الوجوب، فلا يخاطب بالحج، ولا بالعمرة حتى يعتق.
    لكن لو أذن السيد لعبده بالحج وبالعمرة، فحج أو اعتمر فحجه صحيح وعمرته صحيحة.
    وخالف الظاهرية جمهور العلماء، فقالوا: إن العبد يطالب بالحج لعموم الأدلة، ولكن يجاب عنهم بأن هذا العموم مقيد بشروط، وذلك في قوله: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] والاستطاعة تشمل الاستطاعة المالية، والعبد لا يملك المال فلا يتوجه إليه الخطاب بوجوب الحج، لكن لو حج بإذن سيده فلا إشكال.
    والعبد الذي لا يجب عليه الحج يشمل العبد الذي هو متمحض الرق، والعبد المبعض، أي: الذي بعضه حر وبعضه عبد، فلا يطالب بالحج وذلك لوجود حق السيد فيه، وإذا ازدحم الحقان حق المخلوق وحق الخالق، قدم حق المخلوق لوجود المشاحة فيها.
    الشرط الثالث: التكليف
    قوله: [المكلف]: والمراد بذلك شرطا التكليف: الأول: البلوغ.
    الثاني: العقل.
    والتكليف مأخوذ من الكلفة والمشقة؛ والسبب في ذلك أن شرائع الإسلام فيها مشقة مقدور عليها، وأما المشقة غير المقدور عليها فلا يكلف الله بها، فإذا كان الشرع فيه مشقة وكلفة ظهر المطيع من العاصي، ولذلك حفت الجنة بالمكاره حتى يظهر من يمتثل أمر الله ومن يترك.
    والتكليف شرطه العقل والبلوغ.
    وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل فلا يحكم بكون الإنسان مكلفاً بشرائع الإسلام إلا إذا كان عاقلاً، فالمجنون لا يكلف ولا يجب عليه الحج، وهل إذا حج المجنون وأحرم عنه وليه يصح حجه؟ للعلماء وجهان: الأول: من أهل العلم من قال: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بفج الروحاء، وسألته المرأة وقد رفعت صبياً لها فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولكِ أجر ) قالوا: والمجنون في حكم الصبي، كل منهما فاقد للحلم والعقل، فقالوا: كما صحح النبي صلى الله عليه وسلم حج الصبي يصحح أيضاً حج المجنون.
    وبناءً على ذلك إذا أحرم عنه وليه، واستقامت له أركان الحج وشرائط صحته، حكمنا باعتبار حجه وصحته.
    الثاني: ومن أهل العلم من قال: المجنون لا يصح منه الحج البتة، لا يحرم بنفسه ولا يحرم عنه وليه، وذلك أنهم يرون أن الصبي استثني بالنص وبقي المجنون على الأصل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- المجنون حتى يفيق ).
    والمجنون له حالتان: الأولى: إن كان جنونه مطبقاً فإنه لا يجب عليه الحج ولا العمرة، ولا تجب عليه الشرائع؛ لأنه قد رُفِعَ عنه القلم، وَسَقَطَ عنه التكليف.
    الثانية: أن يكون جنونه متقطعاً، وهو الذي يجن تارة ويفيق أخرى، فإنه إذا حج في حال الإفاقة وكان قادراً مستطيعاً في حال إفاقته، فإنه يجب عليه الحج ويصح منه.
    وأما بالنسبة لشرط البلوغ: فهو أن يبلغ الصبي طور الحلم، وقد بينّا ذلك في كتاب الصلاة، وبينّا تعريف البلوغ وضابطه.
    والمراد بذلك أننا لا نوجب الحج على الصبي، ولكن لو حج الصبي وأحرم عنه وليه صح حجه، ولكن لا يجزيه عن حجة الإسلام وفريضته، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لأنه إذا حج في حال صباه كان له نافلة، والنافلة لا تجزئ عن الفريضة، والرقيق إذا حج حال رقه فإنها كذلك نافلة؛ لأن الله لم يوجب عليه الحج، فإذا عتق العبد وبلغ الصبي لزمهما أن يعيدا حجهما وعمرتهما.
    الشرط الرابع: القدرة والاستطاعة
    قوله: [القادر] وهذا هو الذي نص القرآن عليه بشرط الاستطاعة، فقال سبحانه: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] أي: من استطاع إلى بيت الله سبيلاً، وهذه الاستطاعة تشمل الزاد والراحلة، فلا يجب الحج على من ليس عنده زاد أو راحلة تبلغه البيت، هذا إن كان على مسافة القصر من مكة، أما من كان من أهل مكة فإنما يشترط وجود الزاد، أما الراحلة فلا تشترط؛ لأنه بداخل مكة ويمكنه أن يخرج إلى المناسك ماشياً على رجليه.
    وفي حكم أهل مكة من كان دون مسافة القصر، فهؤلاء يجب عليهم الحج إذا وجدوا الزاد، والمراد بالزاد طعامهم ومئونتهم التي تكفيهم لحجهم، بشرط أن تكون فاضلة عن قوتهم وقوت من تلزمهم نفقتهم كما سيأتي.
    وقد عبّر المصنف رحمه الله بالقدرة، وهذه القدرة تشمل الزاد والراحلة، وقد جاءت في ذلك أحاديث موصولة ومرسلة وموقوفة، قال شيخ الإسلام : إنها أحاديث حسان، وينضم بعضها إلى بعض، ويقوي بعضها بعضاً، وهي تدل على أن شرط الاستطاعة قائم على الزاد والراحلة.
    وبناءً على ذلك فإن العبرة في الزاد نفقة الذهاب ونفقة الرجوع، فيقدر كم يحتاج للسفر إلى مكة ذهاباً وإياباً، ومن أهل العلم من قال: العبرة بالذهاب، أما الإياب فلا يخلو من حالتين: الأولى: أن يكون رجوعه إلى بلده لازماً من أجل من يقوم عليهم من أولاده وأهله، فيكون الشرط بالرجوع لازماً، أي: أنه يشترط أن يكون قادراً على نفقة الذهاب والإياب.
    الثانية: أن يكون لا أهل له ويمكنه أن يبقى بمكة، فزاد الرجوع ليس بلازم.
    وفائدة الخلاف: لو كان الرجل الذي يسافر من المدينة إلى مكة محتاجاً إلى زاد يقدر بمبلغ خمسمائة ريال في الذهاب، وخمسمائة ريال للرجوع، فبلغ ماله خمسمائة وليس عنده ألف، فحينئذٍ إن كان له أهل، ورجوعه إلى المدينة متعين لم يجب عليه الحج، وإن كان لا أهل له ويمكنه البقاء بمكة فيلزمه الحج، ويعتبر مخاطباً بأداء الحج فوراً.
    هذا بالنسبة على القول بأنه تقدر نفقة الإياب كما تقدر نفقة الذهاب.
    ولقوله تعالى: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران:97] يدخل في ذلك الطريق، فإذا كان الطريق مخوفاً لوجود السباع والعوادي، أو كان سفره إلى مكة يتوقف على ركوب البحر والسفر، وكان الزمان ضيقاً، بحيث لم يكن بينه وبين الحج إلا ثلاثة أيام أو أربعة أيام، وهاج البحر فيها، وغلب على ظنه أنه لو ركبه لهلك، لم يجب عليه الحج؛ لأن الله يقول: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة:195] وقال: { وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء:29] فالله لا يخاطب بما فيه فوات الأنفس، إلا ما شرع من الجهاد، وأما ما عدا ذلك من الفرائض فإنها لا تكون لازمة على وجه يؤدي إلى فوات الأنفس.
    وبناءً على ذلك فإنه إذا خاف من الطريق لوجود السباع العادية، أو وجود ضرر كركوب البحر أو نحو ذلك من المسائل؛ فإنه لا يلزمه الحج.
    أما إذا أمن الطريق؛ فحينئذٍ لا إشكال.
    وفصّل العلماء: إذا كان الطريق مخوفاً بين أن يجد بديلاً أو لا يجد، فإن وجد بديلاً كأن يكون الطريق الأول فيه سباع عادية، والطريق الثاني أشق وأكثر كلفة، ولكنه آمن ويمكنه أن يسلكه، فإنه يلزمه أن ينصرف إلى الحج؛ وذلك لوجوبه عليه.
    هذا بالنسبة لشرط القدرة، أما المكي فالأمر فيه خفيف بالنسبة للحج والعمرة؛ والسبب في ذلك أنه لا يفتقر إلى سفر، ومن هنا قالوا: ينظر إلى زاده في الحج، بحيث لو كان عنده نفقة وأمكنه أن يحج، فإنه يجب عليه أن يحج.
    الأسئلة
    أقوال العلماء في الإنصات لخطبة يوم عرفة


    السؤال
    هل يجب الإنصات لخطبة يوم عرفة وتأخذ حكم خطبة الجمعة، وذلك استناداً لقوله صلى الله عليه وسلم قبل خطبته: ( استنصت لي الناس )؟

    الجواب
    حديث جابر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالإنصات إليه يوم عرفة، وفتح الله له قلوب الناس وأسماعهم، فبين شرع الله عز وجل فأحل حلاله وحرم حرامه، وبين نظامه صلوات الله وسلامه عليه، وأعذر إلى العباد، فأقام عليهم حجة الله، وأشهد الله على أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة.
    فبعض العلماء يقول: إن هذا الاستنصات لإقامة الحجة، ولا يلزم الإنصات في خطبة يوم عرفة، كلزومه في خطبة الجمعة.
    وبعضهم يقول: ظاهر الحديث أنه أمر بالإنصات فيجب.
    وفي الحقيقة لا ينبغي للمسلم أن يفرط في هذا الخير، والمسلم إذا استشعر أنه تغرب عن الأوطان وفارق الأهل من أجل هذه الطاعة؛ فلا يفرط في أي شيء ولو كان سنة، ولو كان غير واجب لا يفرط فيه.
    واعلم رحمك الله! أنك إذا جئت إلى خطبة يوم عرفة، وحضرتها كاملة على أتم الوجوه، وصليت في مسجد عرفة، وأصبت أفضل الأماكن كالصفوف الأول، وخشعت وخضعت وتأثرت بالخطبة، وأنصت لها وأحضرت لها سمعك وقلبك؛ فاعلم أن هذا من محبة الله لك، والله عز وجل لا يوفق لطاعته إلا من يحب؛ فإنه يعطي الدنيا من أحب ومن كره، ولكن لا يعطي الدين إلا لمن أحب.
    فاعلم رحمك الله! أن مسألة الإنصات لخطبة يوم عرفة ليست هي الأهم، إنما الأهم أن تعلم أنك ما تغربت إلا من أجل أن تطيع الله سبحانه وتعالى، وأنه بمقدار ما توفق للقيام بالسنن وتتبع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، تكون أحظى بالقبول من الله عز وجل، وهذا مجرب، فإن من أراد أن يجد لذة الحج وحلاوة الحج فليحرص على تطبيق السنة بحذافيرها، ولا يعلم شيئاً من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحبه ولزمه وتأثر به وحرص عليه.
    ولا شك أن أداء المناسك تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم له لذة يعرفها من وجدها، ولا شك أن الإنسان إذا قام بأركان الإسلام على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سنته وعلى طريقته؛ فإنه يكون من الموفقين، وهذا لا شك أنه من محبة الله له، نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل! فينبغي أن يحرص الإنسان على السنة، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يحرص كل الحرص أن لا يزاحم الناس ولا يؤذي الناس، ولكن يحرص كل الحرص على أن يصيب السنة، فإذا لم يوفق لها أو غلبه الناس عليها، فإنك تجده يتمعر ويتغير وجهه، ويقول: إنا لله، أستغفر الله من ذنب حال بيني وبين سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
    هكذا شأن أهل العلم الذين هم قدوة، والإنسان كلما حرص على السنة كلما أصابته الرحمة؛ لأن الله جعل الرحمة والهداية في التأسي به عليه الصلاة والسلام.
    تجد بعض الناس ينتهي من عمرته خلال نصف ساعة، وبعضهم ربما يتسابق مع أصحابه وزملائه على الانتهاء من العمرة، وكنا نصحب بعض العلماء فيبقى في عمرته الساعتين والنصف إلى الثلاث ساعات؛ لأنه يمشي بسكينة ووقار، ويتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أخذ الأشواط بين الصفا والمروة تضرع لله عز وجل، وكرر الدعاء تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر من المسألة والحاجة.
    إذاً تجد لذة العبادة، وتستشعر فعلاً أنك تؤدي عبادة، إذا قمت بها على وجهها؛ لكن بعض الناس كلما علم سنة تركها، وأصبح علمه بالسنة سبباً في تركها! بل قد تجد بعض العوام يحرص على السنة فلا يتركها، بينما تجد بعض طلاب العلم يرى أنها سنة فيتركها، حتى صار العلم وبالاً على بعض الناس وحرم من الخير.
    ولا ينبغي لطالب العلم أن يكون زاهداً في السنن، فالإنصات إلى الخطيب في يوم عرفة، بل الإنصات لكل مذكر بالله عز وجل فيه خير وبركة.
    وبالمناسبة: أن الإنسان إذا عظم الله عز وجل عظم كل شيء يدعو إليه، وكلما كمل التزام الإنسان وكملت هدايته وكمل إيمانه أحب كل شيء يقربه إلى الله.
    ولذلك تجد المهتدي كامل الاهتداء كثير الحب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولهديه، كثير الحب للعلماء والصالحين؛ لأنه يرى أن العالم يدعوه إلى السنة فيحبه، فينبغي على الإنسان أن يحرص على تعظيم شعائر الله عز وجل، وعلى تطبيق السنة، وأن لا يجعل علمه بالسنة سبباً في تركها والزهد فيها.
    نسأل الله العظيم أن يرزقنا التمسك بالسنة والثبات عليها إلى لقائه.
    والله تعالى أعلم.
    دخول العمرة في الحج للقارن والمتمتع

    السؤال
    هل تندرج العمرة تحت الحج، وما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ) وذلك في مسألة وجوب العمرة أثابكم الله؟


    الجواب
    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد: فتندرج العمرة تحت الحج في حج القارن وحج المتمتع؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( دخلت العمرة في الحج ) والسبب في ذلك أن العرب أحدثوا في الجاهلية أحدثوا أموراً خالفت السنن، وخالفت الحنيفية، ومنها أنهم كانوا يحرِّمون على الناس أن يعتمروا في أشهر الحج، فإذا دخل شهر شوال، حرموا على الناس أن يحرموا بالعمرة، وألزموهم بالحج حتى ينسلخ صفر، وقد أشار إلى ذلك حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بقوله: كانوا يقولون -أي العرب في الجاهلية- إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر.
    فرفع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وأبطله.
    ولذلك لما أمر الصحابة أن يفسخوا حجهم بعمرة، وأمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، ( قالوا: يا رسول الله! أي الحل قال: الحل كله، -فاستبشعوا ذلك على ما ألفوه في الجاهلية- وقالوا: يا رسول الله! أنذهب إلى منى ومذاكرنا تقطر منياً؟! ) لأنهم كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور.
    وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن العمرة دخلت في الحج، بمعنى: أنه يجوز للإنسان أن يعتمر في أشهر الحج، ولذلك اعتمر من الجعرانة صلوات الله وسلامه عليه بعد فراغه من فتح الطائف، وقسمته لغنائم حنين، وقد وقعت في أشهر الحج إبطالاً لهذه العادة، وتأكيداً وتقريراً لمبدأ الإسلام بجواز العمرة في أشهر الحج.
    فهذا معنى قوله: ( دخلت العمرة إلى الحج، وشبك بين أصابعه، وقيل: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: لأبد الأبد ) أي: أن هذا الحكم بجواز العمرة في أشهر الحج لأبد الأبد، فهذا هو المراد بقوله : ( دخلت العمرة في الحج ) أي: أنه لا حرج عليك أن تأتي بالعمرة في أشهر الحج.
    فلو سأل إنسان وقال: هل لي أن أعتمر في شهر شوال ثم أرجع إلى بلدي ولا أريد أن أحج؟ نقول: لا حرج، وكذلك لو سأل أنه يريد العمرة في شهر ذي القعدة ثم يرجع إلى بلده لا حرج، ولو أهل شهر ذي الحجة وأراد أن يؤدي عمرته ثم ينطلق إلى بلده لحاجة أو نحو ذلك، كما لو مر بمكة وأراد أن يصيب العمرة نقول: لا حرج؛ لأن الشرع بيّن حكم دخول العمرة في أشهر الحج، وأن هذا الحكم لا يختص بحجته صلوات الله وسلامه عليه، وأنه باقٍ إلى قيام الساعة، لقوله: لأبد الأبد.
    حكم حج من زال عنه المانع فأعاد الوقوف بعرفة

    السؤال
    إذا زال الرق والجنون والصبا بمزدلفة، ثم رجع إلى عرفة ودفع مرة أخرى فهل يصح فرضاً أثابكم الله؟


    الجواب
    يقول بعض العلماء: إذا وقع قبل انتهاء أمد الوقوف صح وأجزأ، وأما إذا وقع بعد انتهاء أمد الوقوف فإنه لا عبرة به ويمضي في حج النافلة حتى يتمه، ثم يحج من عامه الذي بعده إن توفرت فيه شروط الفرضية والوجوب.
    والله تعالى أعلم.
    وجوب إعادة الحج لمن ارتد عن الإسلام ثم أسلم

    السؤال
    من ارتدّ عن الإسلام -والعياذ بالله- ثم أسلم فهل يعيد حجه مرة أخرى أثابكم الله؟


    الجواب
    للعلماء في هذه المسألة قولان، إن وقعت منه الردة ثم أسلم ثانية فالصحيح أنه يعيد؛ لأن الله تعالى يقول: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر:65] .
    فالردة -والعياذ بالله- توجب حبوط العمل، ولو كان العبد من أتقى عباد الله عز وجل وارتد عن الإسلام، فإنه بكلمة الكفر وردته عن الإسلام قد أصبح صفر اليدين؛ لقوله تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان:23] يصبح كأنه لم يعمل خيراً قط، نسأل الله السلامة والعافية! فإذا ثبت بالنص أن العمل يحبط، فإنه يجب عليه إذا أسلم من جديد أن يعيد حجه وعمرته، وكذلك إذا كان ممن يلزمه أن يحج ويعتمر.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #212
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (212)

    صـــــ(1) إلى صــ(15)


    شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب المناسك [2]
    فرض الله الحج على عباده مرة في العمر، وكذا العمرة، ومن رحمة الله أن جعل فرضيته على المستطيع دون العاجز، والاستطاعة إنما تتحقق بوجود الزاد والراحلة فائضاً عن نفقة ممونه حتى يرجع.
    ولذلك تفصيل لابد من معرفته.
    وجوب الحج والعمرة مرة على الفور
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: [في عمره مرة على الفور]: قوله: (في عمره مرة) أي: يجب على المسلم الحر المكلف القادر أن يحج ويعتمر مرة في العمر، فهذه الفريضة تجب على الإنسان مرة في عمره؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف للناس في حجة الوداع، فقال: ( أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقيل: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت عليه الصلاة والسلام وقال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) إلى آخر الحديث.
    وجه الدلالة من الحديث: أنه لم يقل: نعم.
    والصحابي عندما سأل: أفي كل عام؟ لم يجبه بنعم، وإنما قال: لو قلت نعم لوجبت، أي: لوجب عليكم الحج في كل عام، ولكنه لم يقل ذلك، فدل على أن الحج إنما يجب مرة في العمر، وهذا بإجماع المسلمين.
    قوله: [على الفور] فلا يتراخى ولا يتأخر، على أصح قولي العلماء رحمة الله عليهم.
    أحكام تتعلق بحج الصبي ونحوه
    صحة حج من زال رقه وجنونه وصباه قبل غروب شمس يوم عرفة
    قوله: [فإن زال الرق والجنون والصبا في الحج بعرفة وفي العمرة قبل طوافها صح فرضاً] أي: لو خرج الرقيق من المدينة إلى مكة وهو يريد الحج، فإننا ننظر إن وقع عتقه قبل الوقوف بعرفة فللعلماء فيه أقوال: أصح الأقوال أنه يجزيه عن حجة الإسلام، ولا يجب عليه أن يرجع إلى الميقات.
    وقال فقهاء الحنفية: يجب أن يرجع إلى الميقات؛ لأنه وجب عليه الحج من ميقاته، فيرجع لكي يحرم منه، فإن لم يرجع لم يجزه، فقيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأن نيته الأولى وقعت نافلة ولم يكن الحج واجباً عليه، فلما وقعت نافلة فلا ينقلب النفل إلى الفريضة.
    وقال بعض العلماء: يجب عليه أن يرجع إلى الميقات حتى يسقط عنه الدم، فإن حج من مكانه ومضى فإنه يصح حجه ولكن يجب عليه دم.
    فهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم: منهم من يقول: يصح ما دام أنه قد عتق قبل الوقوف بعرفة، أو أثناء وقوفه بعرفة قبل أن يدفع، ويجزيه عن حجة الإسلام.
    ومنهم من قال: يلزمه الرجوع إلى الميقات حتى يخرج بنية الفريضة بدل نية النافلة.
    ومنهم من قال: إنه يلزمه الرجوع إلى الميقات حتى يسقط عنه الدم؛ لأنه سَيُحْرِمُ بالحج الفرض من موضع دون الميقات.
    والصحيح أنه يجزيه في حجه أن يمضي؛ وذلك لما ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً وهو يطوف بالبيت يقول: لبيك عن شبرمة ، لبيك عن شبرمة ، فقال عليه الصلاة والسلام: ومن شبرمة ؟ قال: أخي -أو ابن عم لي- مات ولم يحج، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا.
    قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ) .
    فهذا الحج الذي وقع من هذا الرجل كان في الميقات قد نوى عن شبرمة ، فلو كان يلزمه الرجوع إلى الميقات لقال له: ارجع إلى الميقات وانوِ عن نفسك؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فاغتفر الشرع ذلك وصار من سماحة الشرع ويسره.
    وإلا فالأصول تقوي أن يرجع، فلما استثنى النبي صلى الله عليه وسلم هذا، دل على أن من طرأ له الحكم وانقلبت نيته أن ذلك لا يؤثر، وقد قال علي رضي الله عنه: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد قدم من اليمن، فلم يقل له: ارجع إلى يلملم وجدد النية بما نويت به.
    يقول العلماء: إن هذا يدل على أنه لا يلزم الرجوع إلى الميقات، وأنه إذا عتق الرقيق وبلغ الصبي قبل الوقوف بعرفة، فإنه يجزيهما أن يمضيا في حجهما.
    صحة عمرة من زال رقه وجنونه وصباه قبل طوافه
    أما في العمرة فتنظر إلى أول الأركان، وهذا مسلك الشافعية والحنابلة رحمة الله عليهم: أن العبرة عندهم في العمرة بتغيير النية وانقلابها أن يكون قبل بداية الطواف، فإذا ابتدأ الطواف فقد تلبس بالنسك نافلة، أما لو غير نيته قبل الطواف فإنه يجزيه ذلك.
    ولذلك فمسائل الفسخ من حج إلى عمرة ونحوها من المسائل، إنما تكون قبل أن يتلبس بالطواف، فإذا وقع عتقه قبل طواف الركن، أي: طواف العمرة، فإنه حينئذٍ تجزيه عن عمرة الإسلام وتعتبر عمرته فريضة؛ لأنها وقعت قبل ركن الطواف.
    وذكرنا أنه إذا وقع بلوغ الصبي باحتلام وغيره قبل الوقوف بعرفة، أو أثناء وقوفه بعرفة قبل دفعه أجزأه وصحت حجته عن حجة الإسلام، وإن وقع بلوغه قبل طوافه بالبيت في عمرته أجزأه وانقلبت عمرته إلى فريضة الإسلام.
    قوله: (صح فرضاً): أي: أجزأه عن عمرة الإسلام وحجه.
    الحج والعمرة من الصبي والعبد حال الصبا والرق لا تجزئ عن الفريضة

    [وفعلهما من الصبي والعبد نفلاً] أي: أن الصبي والعبد إذا حج كل منهما أو اعتمر في حال الصبا والرق، فهي عمرة نافلة وحجة نافلة ولا تجزي عن الفريضة، هذا مراد المصنف رحمه الله، وفي ذلك حديث ابن عباس الذي ذكره الشافعي في مسنده وغيره أنه قال: ( أيما صبي حج ثم بلغ فإنه يعيد حجه ) وهذا أصل عند العلماء رحمة الله عليهم، فيقول جمع من السلف: إنه يلزمه أن يعيد حجه، ولا تجزيه الحجة النافلة ولا العمرة النافلة عن فريضة حجة الإسلام وعمرته.
    وجوب الحج على من قدر وأمكنه الركوب
    قال رحمه الله: [والقادر: من أمكنه الركوب] قوله: (والقادر) أي: الشخص الذي يجب عليه الحج لوجود شرط القدرة، والقادر من وجد راحلة، ومسألة وجود المركوب للعلماء فيها وجهان: الأول: لا يجب الحج إلا على من وجد الراحلة.
    وهذا في غير المكي كما سبق، فالخلاف بين العلماء في غير أهل مكة، فلا بد من وجود الراحلة لغيرهم، وهو قول الجمهور.
    الثاني: قال بعض السلف: إذا كان يطيق المشي لزمه الحج؛ لأن الله تعالى يقول: { يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } [الحج:27] فوصفهم بكونهم يأتون رجالاً.
    ولا شك أن اشتراط وجود الراحلة أصح؛ وذلك لوجود الأحاديث التي أشرنا إليها، وأنها بمجموعها تتقوى، وكما وصفها العلماء والأئمة أنها ترتقي إلى درجة الحسن بالاعتضاد، وتقوي شرط الراحلة.
    وبناءً عليه فإنه لا يجب الحج على من أطاق المشي، لكن لو مشى وبلغ مكة وحج فحجه صحيح، وليس هذا بشرط للصحة، وإنما هو شرط وجوب، فلا يجب عليه إلا إذا ملك الراحلة.
    والراحلة في زماننا تشمل أن يكون قادراً على الركوب بالبر أو بالجو أو بالبحر، بأن تكون عنده مئونة الركوب، فإذا كان عنده المال الذي يستطيع أن يكتري به سيارة لبلوغ مكة، أو طائرة أو نحو ذلك؛ فحينئذٍ يجب عليه الحج، فلو كان سفره إلى مكة يحتاج فيه إلى استئجار سيارة بمائتين؛ فحينئذٍ نقول: لا يجب عليه الحج إلا إذا ملك مائتي ريال لركوب سيارته، بحيث تكون زائدة عن حاجته وحاجة أولاده والحقوق الواجبة عليه.
    فلو كان مديوناً وعنده مال لا يفي بسداد دينه لم يجب عليه الحج؛ لأن هذا المال مستحق للغير، وإنما يجب عليه الحج إذا ملك ما فضل عن استحقاق الغير، كذلك أيضاً إذا كان يملك المائتين، ولكن هناك حقوق واجبة عليه: لنذر، أو كفارة، أو عتق، أو نحو ذلك من الحقوق الواجبة، فاحتاج المائتين لشراء طعام الكفارة، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج، ويبدأ بهذه الحقوق الواجبة حتى يخاطب بعد ذلك بما فضل، إن كان يملك به القدرة للحج إلى بيت الله الحرام وإلا فلا.
    فلا بد من أن يكون المال الذي عنده فاضلاً عن حاجته وحاجة من تلزمه نفقته، كزوجته وأولاده، فلو كان الحج يكلفه ألف ريال، أو ألفي ريال، فحينئذٍ نقول: لا يجب عليه الحج إلا إذا ملك هذا المبلغ، فاضلاً عن الحقوق الواجبة عليه لنفسه ولأهله، وهكذا للناس كالديون والنذور والكفارات، أما إذا كانت لله عز وجل فيشترط لها القدرة والاستطاعة.
    إذاً لابد من الزاد، ثم بعد الزاد الراحلة التي يستطيع أن يركب عليها، فلو ملك الزاد وملك الراحلة فلا بد من شرط الاستطاعة البدنية، فقد يكون الإنسان غنياً، وعنده الزاد وعنده الراحلة، ولكنه لا يستطيع أن يركب السيارة، بل قد لا يستطيع أن يقوم بأعمال الحج، وذلك بسبب شلل أو نحو ذلك، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج؛ لأنه لا يستطيع، وإنما فرض الله الحج على المستطيع.
    ولذلك لما سأل أبو رزين العقيلي رضي الله عنه وأرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فريضة الحج التي أدركت أباه شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يحج ولا أن يعتمر، ولا أن يظعن -والظعن هو السفر ومنه قوله تعالى: { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } [النحل:80] - فأمره أن النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج عن أبيه.
    قال العلماء: في هذا دليل على أن الشخص إذا كان عنده قدرة مالية، وعنده أيضاً راحلة يركب عليها، فإنه لا يكفي لوجوب الحج حتى يكون قادراً ببدنه، فإن كان مبتلىً بالمرض نظرنا فيه، إن كان المرض يمنع مثله من الحج، فحينئذٍ لا يخلو من حالتين: إما أن يكون مرضه مرضاً مزمناً فهذا ينظر في توكيله للغير بشرطه.
    وإما أن يكون مرضه مرضاً يرجى برؤه فيسقط عنه الحج في السنة التي مرض فيها، فإن شفي بعد ذلك لزمه أن يحج، وهذا مبني على وجود العذر، والعذر يسقط التكليف مادام موجوداً، فعندنا في شرط الاستطاعة أن يكون واجداً للزاد والراحلة، مع قدرة البدن، فلا يكفي أن يجد الزاد والراحلة، وهو غير قادر ببدنه.
    كذلك أيضاً يشترط أن يكون طريقه آمناً، فإن كان في طريقه من السباع ونحوها ما قد يؤدي إلى هلاكه أو تلفه أو حصول الضرر والبلاء عليه، فكما ذكرنا فيما سبق أنه يعذر حتى يزول عنه المانع.
    أدلة اشتراط وجود الزاد والراحلة لوجوب الحج

    قال رحمه الله: [ووجد زاداً وراحلة صالحين لمثله].
    وهذا مبني على أن العرف محتكم إليه؛ لأن الشرع جعل لكل ذي قدر قدره، فلو وجد سيارة تصلح لمثله، مثل أن يكون الشخص كبير السن، ولا يمكنه أن يحج إلا إذا كانت السيارة فيها وسائل الراحة التي تمكنه من بلوغ البيت، دون أن يصل إلى درجة الحرج والمشقة غير المقدور عليها، فحينئذٍ يجب عليه أن يحج إن وجد هذا النوع من السيارات، لكن إذا لم يجد إلا نوعاً لا يأمن معه زيادة المرض، ولا يأمن معه حصول المشقة الفادحة عليه، فوجود هذا النوع وعدمه على حد سواء، فلا يجب عليه الحج.
    عدم وجوب الحج والعمرة لمن عليه نفقات وواجبات شرعية حتى يقضيها

    قال رحمه الله: [بعد قضاء الواجبات والنفقات الشرعية والحوائج الأصلية] قوله: (بعد قضاء الواجبات والنفقات) كأن يكون عليه دين فيجب عليه أن يسدده.
    والمديون له أحكام تتعلق به تحتاج إلى تفصيل: فالشخص المديون ينبغي أن يبادر بسداد دينه ثم يحج، ولا يجوز للمديون أن يحج بدون إذن أصحاب الدين؛ لأن حقوقهم متعلقة به، والأصل أنه يطالب بسداد ديون المخلوقين، ثم بعد ذلك يوجب عليه الحج؛ ولأنه بتعلق الدين بذمته، أصبح غير مستطيع للحج، فيستأذن أصحاب الحقوق أن يسمحوا له بالحج، فإن سمحوا له بالحج صح حجه وأجزأه، وإن لم يسمحوا له بالحج صح حجه وأثم، فلو كانت عليه ديون ولم يرض أصحاب الدين أن يسافر، فحينئذٍ يأثم بإضاعة حقوقهم؛ لأنه كان المفروض أن يبدأ بسداد ديونه، ثم بعد ذلك يحج ويعتمر، فلما تجاوز هذا الحكم، فإننا نقول: يأثم ويصح حجه.
    وعلى هذا فإنه إذا أذن صاحب الدين باللفظ، أو كان هناك إذن ضمني فإنه يحج ويعتمر، يقول بعض العلماء: إن الديون المقسطة التي تكون على أشهر يجزيه إذا سدد الشهر الأخير الذي هو قبل شهر ذي الحجة أن يحج؛ والسبب في ذلك أنها ديون غير حالة بجميعها، وإنما حلت أقساطاً فيؤدي للناس حقوقهم في أوقاتها، لأنهم إنما أوجبوا عليه الأداء للزمان، فلما أدى قسط ذي القعدة، حل له أن يحج في ذي الحجة، وإذا أدى قسط شعبان حل له أن يعتمر في رمضان، وقس على هذا.
    فلو كان عليه دين خمسة آلاف ريال، ومقسطة في كل شهر ألف ريال، أو بكل شهر خمسمائة ريال فأدى قسط ذي القعدة وبقيت عليه الأقساط الباقية، فإننا لا نقول بوجوب الحج عليه وفرضية الحج عليه؛ لأن ذمته لا تزال مشغولة بهذا الحق حتى يؤديه كاملاً.
    وهكذا إذا كانت عليه حقوق واجبة لله عز وجل، كأن يكون عنده خمسة آلاف ريال، يكفيه لحجه ألفا ريال، فإذا كان يكفيه الألفان، فحينئذٍ ننظر في الخمسة آلاف، فلو كان عليه كفارات تقدر بثلاثة آلاف ريال، وعليه نذور تقدر بألف وخمسمائة ريال، فالباقي معه خمسمائة ريال، فحينئذٍ لا يجب عليه الحج؛ لأنه مطالب بحقوق لا يكون معها قادراً على الحج أو مستطيعاً الحج بماله.
    فإذا أراد أن يحج فعليه أن يترك عند أهله نفقتهم حال غيبته عنهم، فإذا كان يكفيه في حجه ألف وخمسمائة ريال مثلاً وعنده ألفا ريال مثلاً، ونفقة أهله في حال غيبته خمسمائة ريال، نقول: يجب عليه أن يحج؛ لأنه إذا أدى الخمسمائة فقد أدى الحقوق التي عليه، ففضل الفضل الذي يجب بمثله أن يحج.
    وأما إذا كانت الحقوق التي لأهله تحتاج إلى ألف ريال وعنده ألفان، وهو يحتاج لحجه إلى ألف وخمسمائة فقد سقط الحج عنه؛ لأنه لا يكفيه المال للقيام بهذه الفريضة.
    وكذلك الحوائج الأصلية من مأكل ومشرب وملبس، فلو كان الشخص مثلاً في نهاية ذي القعدة يريد أن يسافر للحج، وحوائجه الأصلية في بيته تقدر نفقتها بخمسمائة ريال، وعنده ألف وخمسمائة، وحجه لا يمكن أن يكون إلا بهذه الألف والخمسمائة فوجود العوز في الخمسمائة يسقط الحج عنه، فحوائجه الأصلية لنفقته ونفقة أولاده، وهكذا من تلزمه مئونته تسقط الحج عنه إذا استغرقت ماله على وجه لا يملك به الفضل الذي يجب معه الحج وتجب معه العمرة.
    حكم من عجز عن أداء الحج بسبب كبر أو مرض مزمن

    [وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه] أي: إن عجز عن الحج إلى بيت الله، وذلك بسبب الكبر، فإنه يكون من الحطمة، والدليل على أن الكبر من الأعذار حديث أبي رزين ، وذلك عندما سأل النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وقال: ( إن فريضة الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستقيم على الراحلة ) فهذا يدل على أن الكبر يعتبر من الأعذار؛ لأن الكبر يوهن الإنسان، كما قال سبحانه وتعالى حكاية عن نبيه زكريا عليه السلام لما سأل ربه: { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم:4] فذكر حال الكبر أنه وهن في الداخل ووهن في الظاهر، فقال: { وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } [مريم:4] وهذا وهن الكبر في الداخل { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم:4] وهذا وهن الكبر في الظاهر.
    فالكبر يضعف الإنسان ظاهراً وباطناً، ولذلك لا يجب الحج على من أصابه الكبر، على وجه لا يستطيع معه أن يقيم الفرائض ويقوم بالأركان؛ فالحج يحتاج إلى جلد وصبر وتحمل، ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بكونه جهاداً، والجهاد لا يجب على الشيخ الكبير الحطمة الذي يستضر.
    والكبر نسبي، فبعض الناس يكون كبيراً وهو أجلد من الشاب، فهذا يحج، وبعض الناس قد يعاجله الكبر؛ وذلك بسبب الهموم وما يصيبه ويعتريه من الأمراض، فهذا أمر نسبي لا يتأقت بزمان، فلا نقول: من بلغ خمسين سنة أو ستين سنة فهذا لا يجب عليه الحج، وإنما نرد ذلك إلى أحوال الناس، فقد ترى الإنسان كبير السن والله عز وجل أبقى له العافية، فهذا يجب عليه أن يحج، فليس الكبر عذراً إلا إذا استضر الإنسان ومنعه مانع من القيام بفريضة الحج والعمرة.
    قوله: (أو مرض لا يرجى بؤره): فالمرض يكون مانعاً من الحج إذا كان مزمناً، فإن كان المرض مزمناً مقعداً كالشلل ونحو ذلك من الأمراض والأسقام، وفي حكم ذلك الكسور التي تكون في الإنسان ويلزم بها فراشه فلا يستطيع أن يبرحه، فهذه تعتبر أعذاراً في حال وجودها، فإن انجبر الكسر حج من عام يليه، أما في العام الذي ينكسر فيه ويكون الإنسان لازماً لفراشه، فإنه يسقط عنه الحج في ذلك العام.
    فالمرض له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون مانعاً على الدوام، وهو المرض المزمن، قد يكون الإنسان مصاباً بمرض في قلبه، لا يستطيع معه أن يحج ولا يتحمل معه مشقة الحج، فهذا يسقط عنه الحج.
    الحالة الثانية: أن يكون المرض مؤقتاً؛ وهو الذي يحصل للإنسان في فترة زمنية، فهذا يكون مانعاً مؤقتاً، فالتفصيل في المرض على هذين الوجهين.
    وشرط كون المرض مانعاً من الحج والعمرة أن يكون مؤثراً، وإذا شك الإنسان في مرضه هل يستطيع معه الحج أو لا، فليرجع إلى قول الطبيب العدل المسلم.
    وأما الكافر فمذهب طائفة من السلف: أنه لا تقبل شهادة الطبيب الكافر في ترك النسك والعبادة؛ لأنه متهم في شهادته.
    ومذهب طائفة من العلماء: أن الطبيب الكافر إذا وثق فيه وعرف فيه الأمانة عمل بقوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بشهادة الكافر كما في استئجاره لـ عبد الله بن أريقط ، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة في الفتاوى كلاماً نفيساً بيّن فيه أن هدي الشرع بالرجوع إلى مثله.
    الشاهد أن المرض إذا شهد به الطبيب العدل أو من يوثق بقوله فحينئذٍ يعتبر مانعاً، فإذا شك المريض في وجوب ذهابه إلى الحج فإنه يرجع إلى قول الأطباء الذين عرفوا بالخبرة، وعرفوا بكونهم مهرة في هذا الأمر، ولا يرجع لكل طبيب.
    فإن اختلفت أقوال الأطباء رجح بالأكثرية، فإن لم يستطع وتساوى عددهم رجح بالمهارة، يعني: أن يكون الإنسان معروفاً بمهارته، وهذا أصل ذكره بعض فقهاء الحنفية رحمهم الله في تعارض شهادة أهل الخبرة في مسائل العبادات والعادات.
    إقامة العاجز عن الحج من يحج عنه وأنواع الإجارة في الحج

    [لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا] أي: يلزم الشخص الذي لا يستطيع الحج والعمرة؛ لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أن يقيم غيره إن كان قادراً؛ لأن الله عز وجل فرض عليه الحج في نفسه إن استطاع، فإن لم يستطع فهو قادر على استئجار من يقوم بالحج عنه.
    والإجارة تنقسم إلى نوعين: النوع الأول: يسمى بإجارة البلاغ: وهي أن تأخذ من الشخص الذي تريد أن تحج عنه مقدار نفقتك وما يبلغك الحج، فلو كانت النفقة تقدر بثلاثة آلاف ريال للحج متمتعاً أو قارناً تقول: أعطيني ثلاثة آلاف ريال فتذهب وتسافر، فإن نقص المبلغ وجب عليه أن يكمله، كما لو حججت وسرت بالقصد، وعلى حسب الشرط وعلى حسب الاتفاق، فحصل عجز عندك بخمسمائة ريال، فحينئذٍ لزمه أن يدفع الخمسمائة، وإن كان متوفى فإنها تخرج من تركة الميت وتضمن.
    هذه الإجارة جائزة بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، لما فيها من المعونة على البر والتقوى، والإنسان لا يأخذ فيها حظاً لنفسه، وإنما يتقوى بها على عبادة الله عز وجل، وإسقاط الحق عن أخيه المسلم.
    النوع الثاني من الإجارة: يسمى بإجارة المقاطعة والمفاضلة، فيكون فيها الشيء أشبه بالسوم، يقول له: تحج عن ميتي بألفين، فيقول: لا، بل بثلاثة.
    أو قال: بثلاثة.
    فقال: لا، بل بأربعة.
    فيكون السوم بينهم والمقاطعة، كأنه يبحث عن ربح وفضل، فهذا النوع، للعلماء فيه قولان: القول الأول: لا يجوز هذا النوع من الإجارة؛ لأنه يتخذ العبادة وسيلة للدنيا، والحج إنما يراد به وجه الله عز وجل، ولا يراد به أي شيء سواه، وشددوا في هذا النوع من الإجارة.
    القول الثاني: يجوز؛ لأنها قربة ليست بفرض عين، والقرب التي هي من فروض الكفايات يجوز أخذ الأجرة عليها ولو فضلت، كما في الأذان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى الأذان على أبي محذورة فلما أَذَّنَ ألقى عليه أسورة من فضة، قالوا: وهذا يدل على مشروعية المكافأة على الطاعة، إذا لم تكن فرض عين على الإنسان.
    فلما قام بها تفضلاً عن أخيه المسلم جاز له أن يأخذ الفضل والزيادة.
    وفي النفس شيء من هذا القول، فالأفضل أن الإنسان يأخذ أجرة البلاغ حتى يصيب الأجر من الله عز وجل، وهذا في حق طلاب العلم وأهل العلم آكد، لما فيه من صيانة وجوههم، وصيانة العلم وحفظ حقه الذي جعله الله عز وجل نوراً في صدورهم، من أن يكون مظنة الامتهان والابتذال واستخفاف الناس بهم.
    فالأفضل والأكمل على طلاب العلم ونحوهم من أهل الفضل أن لا يأخذوا مثل هذه الإجارة، إلا على سبيل البلاغ، فإن قدرت من نفسك أن تحج تفضلاً فهذا أفضل وأعظم أجراً، وثوابك على الله، ومن كان أجره على الله فنعم الأجر ونعم الثواب في الدنيا وفي المآب، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
    ومن أعظم الإحسان أن تحسن إلى أخيك الميت أو أخيك المسلم فتسقط عنه فريضة، وبذلك يأجرك الله أجر الفريضة، خاصة إذا لم تأخذ عليها مالاً؛ فكأنك حججت فرضاً، وهذا لا إشكال فيه من جهة وجود العناء والتعب والنصب، إذا قصد الإنسان وجه الله عز وجل.
    وجوب الإحرام على الوكيل من ميقات الأصيل
    قوله: [من حيث وجبا]: أي: من حيث وجب عليه الحج والعمرة؛ لأن الوكيل ينزل منزلة الأصيل، فلو كان من أهل المدينة فإن الذي يحج عنه لا بد وأن يحج من المدينة، وهذا أصل شرعي صحيح؛ لأن الحج فرض عليه من المدينة، وهذا الذي يريد الحج إنما يريد الحج عن غيره، فإذا أراد أن يحج عن غيره وجب أن يتقيد بذلك الغير، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو أصح قولي العلماء.
    فالوكيل منزل منزلة الأصيل، وأصول الشريعة تدل على هذا؛ لأنهم أقاموا البدل مقام مبدله، فلما كان المبدل مطالباً ومخاطباً بالحج من حيث وجب عليه الحج، كأن يكون من أهل المدينة، فإنه إذا حُجَّ عنه من الجحفة، أو من يلملم، أو من السيل، فقد حُجَّ عنه من الأدنى، ولا يصح للإنسان أن يحج من الأدنى وقد وجب عليه الحج من الأبعد، وقد فرض الله عليه الحج من ميقات ذي الحليفة، فحينئذٍ يلزمه أن يحج من ميقات ذي الحليفة، وهذا أحوط وأبرأ للذمة وأبلغ في القيام بحق الله عز وجل وأدائه على وجهه.
    قال رحمه الله: [ويجزئ عنه وإن عوفي بعد الإحرام] أي: لو أقام وكيلاً عنه وهو معذور ثم شفي بعد إحرام الوكيل، فإنه يجزئ عنه حجة الوكيل، حتى وإن تغير الحال وزال العذر بعد الإحرام، فالعبرة عندهم بالإحرام.
    وبعض العلماء يرى أن العبرة بالطواف، فإذا طاف بالبيت في عمرته أو وقف بعرفة في حجه، فإنه حينئذٍ يمضي هذا الوكيل، ولا يلزم الموكل بإعادة الحج ثانية، ويجزئه هذا عن حجة الإسلام.
    وقال بعض العلماء: إذا شفي وعوفي أو زال العذر قبل نهاية حجه، فإنه يلزم بإعادة هذا الحج، والسبب في ذلك أنه عذر في حال العجز، فإذا زال العذر عنه رجع الأمر إلى وجوب الحج عليه، وهذه المسألة تعرف بمسألة: زوال العذر، ولها صور: الأولى: أن يزول العذر قبل الشروع.
    الثانية: أن ويزول العذر أثناء الشروع.
    الثالثة: أن يزول العذر بعد الانتهاء.

    فتارة يكون زوال العذر موجباً للقطع، ويكون الاستئناف من الأصل والرجوع إلى الأصل فيه خلاف، مثلاً مسألة المتيمم: إذا تيمم في أول الوقت ثم كبر تكبيرة الإحرام، فرأى الماء أو وجد الماء وقدر على استعماله، فالصحيح أنه يقطع صلاته؛ لأنه قد زال العذر الذي جوز له أن يصلي وهو على تيممه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ) فخوطب بالرجوع إلى الأصل، ولا يمكن الحكم بثبوت العذر إلا إذا تم العمل، حتى يوصف الإنسان بكون ذمته قد برئت على الوجه المعتبر.
    والفقه أنه إذا كان الأصيل مخاطباً بفعل العبادة، وأن هذا الوكيل منزل لحاجة وزالت الحاجة، وشككنا هل يمضي في العبادة أو لا يمضي، أن نرجع إلى الأصل من كون الأصيل أو الموكِّل مخاطباً شرعاً بالقيام بالحج بنفسه، فلما شككنا في إجزاء الوكيل عنه رجعنا إلى الأصل من مخاطبته بالفعل بنفسه.
    الأسئلة
    حكم من جُنَّ بعد أن تلبس بالنسك ولم يتم

    السؤال
    من أحرم بالنُّسك ثم جُنَّ وأفاق بعد زمن، فهل يعتبر ما زال متلبساً بالنسك فيجب عليه الإتمام أثابكم الله؟


    الجواب
    هذه المسألة تسمى مسألة: تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وهي مسألة راجعة إلى التقديرات الشرعية.
    التقديرات الشرعية تنقسم إلى قسمين: - تنزيل المعدوم منزلة الموجود.
    - وتنزيل الموجود منزلة المعدوم.
    وتوضيح ذلك، أن من جُنَّ على حالة فإنه أثناء الجنون يعتبر فاقداً للحالة، مثلاً: لو جُنَّ وهو مؤمن فإنه قبل جنونه مؤمن؛ لكن لما جُنَّ فقد العقل وقد يتكلم بكلمات الكفر فننزل المعدوم من الإيمان منزلة الموجود، ونقول: لما كان مسلماً قبل جنونه فهو مسلم الآن وآخذٌ حكم المسلم، فلو مات دفن مع المسلمين ووُرث وأخذ حكمهم سواءً بسواءٍ، وهذا تنزيل للمعدوم منزلة الموجود، وهذا من باب التقديرات الشرعية وقد تكلم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام.
    لكن البعض يرى أن الإحرام يفسد بزوال العقل، وحينئذٍ عليه أن يعيد النسك كما لو أحرم بالصلاة، فيرى أن العبادة تبطل بزوال العقل وزوال التكليف ويرى أن عليه الإنشاء.
    لكن هناك مذهب لبعض العلماء رحمة الله عليهم وهو: أن المجنون يجوز لوليه أن يحجِّجه كالصبي، وحينئذٍ إذا جُنَّ بعد إحرامه صح من وليه أن يأخذه وأن يؤدي مناسك الحج فعلاً، ويكون الولي هو الذي ينوي عنه، وهو الذي يتلفظ عنه كما هو الحال في الصبي.
    قالوا: إنه لما رفعت المرأة الصبي وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ( ألهذا حج؟ قال: نعم.
    ولكِ أجر ) والصبي لا عقل له فالمجنون مثله، ورد بعض العلماء هذا.
    وهذا القول موجود في مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه، وأشار الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني وكذلك الزركشي في المختصر إلى هذا القول، وأنه يمكن إتمام النسك في حال الجنون؛ وذلك أن النسك يقوم على شيئين: - الفعل.
    - والقول المستصحب للنية وقصد التقرب لله عزَّ وجلَّ.
    فلما فات في المجنون أن يتكلم ويقول بقصد النية ويعمل بنية معتبرة، قالوا: بقي الفعل، والمجنون بإمكانه أن يقف بعرفة، وبإمكانه أن يؤدي الأفعال، فيأخذه وليه ويجعله يؤدي أفعال الحج والعمرة ويتمها، ثم يتحلل كما هو الحال في الصبي سواءً بسواءٍ.
    والله تعالى أعلم.

    صحة حج من كانت نفقته على غيره


    السؤال
    من حج مع رفقة قاموا بنفقة حجه، فهل له ذلك إذا كان حجه للفريضة، أم لا بد من الإنفاق من حر ماله أثابكم الله؟


    الجواب
    هذا حج غنيمة، ما دام أن الله عزَّ وجلَّ يسر له من ينفق عليه، وهذه رحمة ساقها الله إليه، وإذا جاء المال للإنسان من دون مسألة ومن دون استشراف فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى عمر المال وأراد عمر أن يمتنع قال: ( إذا جاءك من غير مسألة ولا استشراف فخذه وتموَّله ) خاصةً إذا كان الذي حج معه له حق عليه، كعمه وخاله وقريبه، أو إنسان أعطاه الله بسطة من المال ويحب طلاب العلم ويكرم العلماء، ولا يقصد بهذا إذلالهم، ولا يريد شيئاً في نفسه من الرياء والفخر، وإنما أراد وجهَ الله ومحبةً لأهل العلم وطلابه، وإكراماً لهم.
    أما إذا وجدت عنده أغراض كأن يقصد مثلاً: الرياء والسمعة وأن ينظر الناس إليه، أو أراد أن يهين طلاب العلم بهذه الطريقة، أو أنك إذا حججت معه ربما يذلك ببعض التصرفات، فلا تُهِن العلم الذي في صدرك؛ فإن الله أكرمك بالعلم فلا تهنه، وحقٌ على من أكرمه الله بالعلم أن يكرم العلم، وهذا العلم الذي يرفعك على رءوس الناس في منبرك، وفي درسك، وفي موعظتك، وفي خطبتك، تكرمه كما أكرمك.
    ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما فحق على أهل العلم وطلاب العلم أن يترفعوا عن مثل هذه الأمور إذا وجدت شائبة، أما إذا لم توجد شائبة وكان الرجل قد عرف بالفضل والصلاح والتقوى، وأوسع الله له في الدنيا، فَأُحِبَّ أن تكون معه؛ تفتي الجاهل وتعلِّمه، وترشد الحائر وتدله، ويكون الخير له ولمن معه من الرفقة، وتكون معونة على البر والتقوى، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( نعم المال الصالح عند الرجل الصالح ).
    فإذا وجدت رفقةً صالحة أو أناساً أثرياء وأغنياء فيهم الفضل، فلا بأس أن تذهب معهم، ففي الأغنياء أناس وضع الله عز وجل في غناهم البركة، فتجدهم يكرمون طلاب العلم، ويكرمون العوام، ويكرمون الضعفاء والفقراء، فأمثال هؤلاء الذين عُرِفوا بهذا الفعل وعُرِفوا بإرادة وجه الله عز وجل تُقبل منهم المكرمة، أما إذا وجدت الشبهة فلا.
    ومع هذا فإن الأفضل والأكمل دائماً لطالب العلم أن يتقي الله في علمه، وأن يكرم هذا العلم.
    وكانوا يقولون: إن من أسباب القبول في العلم الورع، فإذا كان الشخص ورعاً عن أموال الناس قذف الله في قلوب الناس حبه ووُضِع له القبول، ولذلك لا يستشرف إنسان من أهل العلم الدنيا إلا أهانه الله وأذله، ونزع من قلوب العباد القبول فلا تجد لمواعظه تأثيراً؛ لأن أكمل ما يكون العالم إذا كمل يقينه وزرع الله في قلبه عزة النفس، وتعوَّد من بداية طلبه للعلم أن يجعل فقره إلى الله وغناه بالله سبحانه وتعالى، وأحس أنه في نعمة عظيمة، وأنه أوتي شيئاً هو أفضل ما يؤتى، وهو كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فخاف من الله جلَّ وعَلا أن يهين هذا العلم الذي في صدره، فإن الله يكرمه كما أكرم هذا العلم، وإذا لقي الله عزَّ وجلَّ لقيه يوم يلقاه مُكْرِماً لدينه ومُعِزّاً له، ويَشْهَد الله له بأنه أراد وجهه وأراد حفظ دينه، وهذا مظنة المثوبة العظيمة من الله جلَّ جلالُه.
    وكم قرأنا في تراجم العلماء من السلف الصالح رحمة الله عليهم، أنهم لما تورعوا عن الدنيا ملأ الله قلوبهم بالغنى! وكان الرجل منهم يمشي مرقع الثياب؛ ولكنه أغنى الناس بما قذف الله في قلبه.
    وكم من أناس أهانوا العلم! وهذا موجود، فتجده كلما جاءه إنسان يريد أن يعطيه شيئاً من حظ الدنيا، أو تجده دائماً عند أهل المال يطلبهم حظوظ نفسه، فإنك تجده مهاناً مُذَلاً مَقِيتاً، نُزِع من قلوب الناس القبول له.
    نسأل الله السلامة والعافية! ونعوذ بوجه الله العظيم من غضبه وسخطه! فإذا فعل العبد بعلمه هذا وأكل به الدنيا مَقَتَه الله عزَّ وجلَّ.
    وأهل العلم هم أهل الآخرة: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً } [القصص:83].
    ولقد بايع أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يسألوا الناس شيئاً، وكان الواحد منهم يسقط سوطُه فلا يسألُ أحداً أن يناوله، بل ينزل من على فرسه ويأخذ سوطه، وهذا يدل على ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عزة النفس؛ لأن الله شرفهم بعلم الكتاب السنة، فأخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    فمن مظنة الخير لطالب العلم أن تجده دائماً عفيفاً عن أموال الناس، عفيفاً عن الدنيا، مستغنياً بالله عزَّ وجلَّ، مع أنه مديون أو فقير؛ لكن لا يمكن أن يهين العلم الذي في صدره، وهو مع ذلك لا يضيع حقوق الناس، وكذلك تجده لا يمكن أن يريق ماء وجه لأحد من أهل الدنيا أبداً، حفظاً لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو والله ما ضاقت عليه الدنيا إلا جعل الله له فرجاً ومخرجاً، ولا أصبح في ضنك من العيش إلا جاءه الفرج من حيث لا يحتسب، وهذا موجود ومعروف ومعهود؛ لأنه لا أوفى من الله لعبده! وهذا بالمناسبة يشمل طلاب العلم وغيرهم؛ لكننا نؤكد على طلاب العلم؛ لأنهم أحق، والناس كلما وجدت أهل العلم على ورعٍ واستغناءٍ بالله عزَّ وجلَّ أحبتهم، وأحبت العلم الذي في صدورهم، وأحبت العلم من أفواههم، وشعرت أن هذا العلم يخرج من معدنٍ طيب ونفسٍ كريمة؛ لأن الذي يكرم دين الله عزَّ وجلَّ خليقٌ أن يُكْرَم، وخليقٌ أن يُحَب، ولا يمكن للإنسان أن يسيء ظنه بالله عزَّ وجلَّ، فوالله ما أرقتَ ماء وجهك لأحد من أهل الدنيا إلا عَظُم عليك أن ترد هذا الماء بعد إراقته؛ ولكن إذا جعلتَ فقرك لله عزَّ وجلَّ صان الله وجهك عن عباده، وصانه عن ذل المسألة، وهذا لا يكون إلا باليقين في الله جلَّ جلالُه.
    فإن طلاب العلم وأهل العلم يتأكد عليهم هذا الحق؛ لأنهم عرفوا الله بأسمائه وصفاته، ومن صفاته سبحانه وتعالى أنه الغني وأنه الكريم، يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، فطالب العلم عنده اليقين أنه إن أغناه الله لا يفقره أحد، وأنه إن أفقره الله لا يغنيه أحد.
    فإذا أصبح أهل العلم يستشعرون هذه العقيدة، وهم أعلم الناس بالله، وهم أهل خشية الله، وأهل الإيمان بالله عزَّ وجلَّ رفع الله قدرهم بهذا، وصانهم وأجلهم وأكرمهم، وجعل حسن العاقبة لهم، وإذا رأيت الرجل يهين العلم، أو بمجرد ما يطلب العلم يريد أن ينال به حظوظ الدنيا، أو ينال به السمعة والرياء، فإنك لا تجده إلا في فقر وضيعة، حتى إنك تجد عنده الأموال الكثيرة الطائلة، ومع ذلك تجده يزداد كل يوم فقراً إلى فقر نسأل الله السلامة والعافية! هذا الشخص بعد أن أغناه الله وبسط له من رزقه، لا تجده يحمد الله عزَّ وجلَّ من كل قلبه، فيملأ الله عزَّ وجلَّ قلبه فقراً، ويملأ الله عزَّ وجلَّ نفسه شَرَهاً وطمعاً، نسأل الله السلامة والعافية! فالله الله يا طلاب العلم! وكان العلماء والمشايخ كثيراً ما يوصون بهذه؛ لأن هذه ثغرةٌ فساد عظيمة على طالب العلم.
    ولا يقتصر الأمر على كون الإنسان يقبل الشيء، بل حتى جلوس الإنسان مع إنسان من أهل الدنيا، من أجل أن يغنيه أو يحسن إليه، أو نحو ذلك من الأمور التي يفعلها بعض طلاب العلم طلباً للدنيا، فهذا كله مما يضر الإنسان ولا ينفعه: { يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } [الحج:13].
    فالغنى من الله، والفقر من الله وإليه سبحانه.
    أستودع الله أموري كلها إن لم يكن ربي لها فمن لها لنا مليك محسن إلينا مَن نحن لولا فضله علينا تبارك الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه سبحان من ذلت له الأشراف أكرم مَن يُرجى ومَن يُخاف اختار الله منك قلبك، فهو محل النظر من الله عزَّ وجلَّ في كل لحظة، ونظره إلى قلبك لما فيه من توحيده والغنى به سبحانه، والافتقار إليه واليقين به سبحانه، فوالله ما ملأتَ هذا القلب بحسن الظن به إلا تلقاك برحمته وفضله ومنَّه وكرمه، ولا نزع عبد من قلبه اليقين بالله والغنى بالله والفقر إلى الله، إلا ملأ الله قلبه فقراً ولو كان من أغنى الناس، ثم لم يبالِ الله به في أي أودية الدنيا هلك.
    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل فقرنا إليه وغنانا به، ونسأله تعالى أن يرزقنا حسن الظن به، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #213
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (213)

    صـــــ(1) إلى صــ(18)


    شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب المناسك [3]
    من الشروط المعتبرة للحكم بوجوب الحج على المرأة: وجود المحرم لها، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته وتيسيره على عباده، فلا يجوز للمرأة أن تحج بدون محرم، ومن باب أولى لا يجوز لها أن تسافر لغير الحج بدون محرم.
    وبناءً على ذلك فلابد من معرفة من هم المحارم الذين يجوز للمرأة أن تسافر معهم، فإن هذه المسألة من المسائل التي عمت بها البلوى.
    والمحرمية لها ثلاث جهات: محرمية بسبب النسب، ومحرمية بسبب الرضاع، ومحرمية بسبب المصاهرة.
    عدم وجوب الحج والعمرة على من عدمت المحرم
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
    أما بعد: فالمصنف عليه رحمة الله يقول: [ويشترط لوجوبه على المرأة وجودُ محرمها وهو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب].
    شرع المصنف رحمه الله في بيان شرط من الشروط المعتبرة للحكم بوجوب الحج على المرأة، فلا يجب الحج على المرأة إلا إذا وجدت المحرم، ولا يجوز لها أن تخرج لحج ولا لعمرة إلا إذا كان معها محرمها، هذا كله إذا لم تكن بمكة، أما إذا كانت بمكة أو من حاضري المسجد الحرام دون مسافة القصر، فإنه إذا أُمِنَت الفتنة وأمكنها أن تحج مع الرفقة المأمونة فلا بأس؛ لأن خروجها إلى البيت الحرام والمناسك ليس هو بسفر ولا في حكم السفر، وإنما أوجب الله المحرم فيما إذا كان سفراً؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم ).
    فهذا الحديث الصحيح يدل على أن المرأة يجوز لها أن تخرج لما دون مسافة القصر بدون محرم؛ ولكن بشرط أمن الفتنة، ولذلك كان أمهات المؤمنين رضي الله عنهن يخرجن إلى المناصع من أجل البراز وقضاء الحاجة، وهذا خارج عن حجراته عليه الصلاة والسلام وبأطراف العمران بالمدينة.
    وثبت في الحديث: ( أن رجلاً قال: يا رسول الله! إني اكتتب في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك ) .
    قوله: (ويشترط لوجوبه محرمها)، والمحرم: أصله من حرم الشيء يحرم فهو حرام ومحرم، ووصف المحرم بكونه محرماً؛ لأن الله حرم عليه نكاح هذا النوع من النساء، فمن حرم عليه نكاح المرأة؛ بسبب النسب، أو بسبب الرضاعة، أو بسبب المصاهرة، فإنه يعتبر محرماً لهذه المرأة، إضافة إلى الزوج، فإذا حرَّم الله عز وجل عليه نكاحها للسبب المباح، فإنه حينئذٍ يجوز له أن يسافر معها وأن يختلي بها وأن يصافحها، وأن يرى وجهها ويديها ونحو ذلك مما لا فتنة فيه.
    ومسألة المحارم مسألة مهمة ويحتاجها الناس عامة، سواءً كانوا طلاب علم أو لم يكونوا من طلاب العلم.
    فينبغي على المسلم أن يعلم إذا بلغ ما الذي أحل الله له من النساء، أن يختلي بهن وأن يصافحهن وأن يعطيهن حكم المحارم، وما الذي حرم الله عليه الخلوة بهن والسفر معهن وكذلك النظر إليهن ولمسهن.
    وهذه مسألة -كما يصفها العلماء- من المسائل التي تعم بها البلوى، وينبغي تعليم أبناء المسلمين، وينبغي العناية بهذه المسألة خاصة من الخطباء والوعاظ والمرشدين، فالناس يحتاجون إلى بيان من هم المحارم، حتى يكونوا على بينةٍ من أمرهم، فيأتوا ما أحل الله ويذروا ما حرم الله عليهم.
    جهات المحارم المؤبدة والمؤقتة وبيان أحكامها
    والمحرمية لها ثلاث جهات: الجهة الأولى: محرمية بسبب النسب.
    الجهة الثانية: محرمية بسبب الرضاع.
    الجهة الثالثة: محرمية بسبب المصاهرة.

    فأما الذين حرم الله على المسلم نكاحهن والزواج منهن من جهة النسب: فسبع.
    ويأخذ نفس الحكم مَن حرم الله من جهة الرضاعة.
    وأما المصاهرة: فأربعة أنواع من النساء كما سيأتي إن شاء الله تفصيله.
    وسنذكر هذه الثلاث الجهات من جهة النساء.
    فإذا قلنا: الأم فيقابلها الأب بالنسبة للمرأة، فإذا قلنا: أول المحارم الأم، فنحن نتكلم بالنسبة للرجل، أما المرأة فأول المحارم لها هو الأب.
    وإذا قلنا: الأخت بالنسبة للرجل، تعكس المرأة وتقول: الأخ.
    وإذا قلنا: بنت الأخ بالنسبة للرجال، فتعكس النساء ويقلن: ابن الأخ؛ لأنهن يسألن عن المحارم من جهة الذكور، والرجال يسألون من جهة الإناث.
    أنواع المحارم من جهة النسب وحكم كل نوع منها
    أما بالنسبة للجهة الأولى: وهي النسب، فهن سبع من النسوة: الأولى: الأم: والأم هي: كل أنثى لها عليك ولادة سواءً كانت مباشِرة أو كانت بواسطة فهي محرم لك، يشمل ذلك: - الأم المباشرة.
    - وأم الأم.
    - وأم أم الأم، وإن علت.
    - ويشمل أيضاً أم الأب.
    - وأم أب الأب، وإن علا.
    فأم الإنسان المباشِرة حرام، وأم أصوله أم له، فلو سألك السائل وقال: أم أب الأب هل هي محرم لي؟ تقول: نعم.
    ولا يجوز لك نكاحها، ويجوز لك مصافحتها والسفر معها، وأنت محرم لها.
    أما الدليل فقوله سبحانه وتعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [النساء:23]، فنص الآية الكريم جاء بالجمع، قال بعض المفسرين: تنبيه من الله سبحانه وتعالى على أن التحريم لا يختص بالأم المباشِرة، وإنما يشمل الأم المباشِرة والأم بواسطة كأمهات الأصول.
    الثانية: البنت: والبنت هي: كل أنثى لك عليها ولادة سواءً كانت مباشرة: - كبنت الصلب التي هي مباشِرة من صلبك.
    - أو بنت بنتك وإن نزلت.
    - أو بنت أبنك، وإن نزل.
    فجميع الإناث اللاتي ولدن منك أو من فروعك من الذكور والإناث فهن محارم لك.
    وهذا دليله قوله تعالى: { وَبَنَاتُكُمْ } [النساء:23] فجمعت الآيةُ الكريمة تنبيهاً على البنت المباشِرة والبنت بواسطة.
    الثالثة: الأخت: والأخت ضابطها هي: كل أنثى لأحد أصليك عليها ولادة، أو هما معاً، فيشمل ذلك ثلاثة أنواع من الأخوات: النوع الأول: الأخت الشقيقة: لأن الولادة من أصليك.
    والثاني: الأخت لأب: وقد شاركتك في أصل واحد وهو الأب.
    والثالث: الأخت لأم: وقد شاركتك في أصل واحد وهو الأم.
    فالأخت محرم لك سواءً كانت شقيقةً أو كانت لأب أو كانت لأم.
    أما دليل كونها محرماً فقوله تعالى: { وَأَخَوَاتُكُمْ } [النساء:23].
    الرابعة: العمة: العمة هي: كل أنثى شاركت أباك في أحد أصليه أو فيهما معاً، فيشمل: - العمة الشقيقة.
    - والعمة لأب.
    - والعمة لأم.
    فكل أنثى اجتمعت مع والدك سواء من جهة أحد أصليه كالعمة لأب: وهي أختُ الأب من أبيه، والعمة لأم: وهي أختُ الأب من أمه، أو العمة الشقيقة: وهي أخته من أبيه وأمه شاركته في الأصلين معاً.
    العمة محرم، والدليل على ذلك قوله تعالى: { وَعَمَّاتُكُمْ } [النساء:23].
    يستوي في العمات عماتك المباشِرة، وعماتك بواسطة من جهة الأصول: فعمة أبيك محرم لك، وعمة جدك محرم لك، وعمة جدتك محرم لك، وعمة أمك محرم لك، فاجعل العمات والخالات من جهة الأصول عمات وخالات لك.
    ولذلك إذا سألك السائل فقال: عمة جدي هل هي محرم لي؟ تقول: عمة أصلك عمة لك.
    ولو سألك عن عمة أمه أهي محرم له؟ تقول: عمة أصلك عمة لك، فهي محرم لك.
    الخامسة: الخالة: وهي: كل أنثى شاركت الأم في أحد أصليها أو فيهما معاً، فيشمل: - الخالة لأب: شاركت الأم في أحد أصليها وهو الأب.
    - والخالة لأم: لأنها شاركت الأم في أحد أصليها وهي الجدة أم الأم.
    - والخالة الشقيقة: وهي أخت الأم من جهة الأب والأم، شاركت الأم من أصليها معاً.
    فالخالة محرمٌ لك سواءً كانت خالةً مباشِرة وهي أخت أمك لأب أو أم أو لهما معاً، أو خالةً لأصلك.
    فلو سألك سائل عن خالة أبيه: هل يجوز له أن يختلي بها ويسافر معها؟ تقول: نعم.
    خالة أصلك خالة لك، وخالة أب الأب، وخالة جد الأب، كل هؤلاء من النسوة محارم.
    والدليل قوله تعالى: { وَخَالاتُكُمْ } [النساء:23] قال المفسرون بالإجماع: إن خالاتِ الأصول خالاتٌ للفروع، وعماتِ الأصول عماتٌ للفروع.
    السادسة: بنت الأخ: وضابط بنت الأخ هي: كل أنثى لأخيك عليها ولادة، ويشمل: - الأخ الشقيق.
    - والأخ لأب.
    - والأخ لأم.
    - ويشمل الولادة المباشِرة كبنت أخيك الشقيق.
    - والولادة بواسطة كبنت بنت أخيك الشقيق.
    - وبنت ابن أخيك الشقيق.
    فالفروع هنا يأخذن حكم ما تفرعن عنه، فبنت الأخ محرم لك سواء كان أخاً شقيقاً، أو لأب، أو لأم.
    والدليل: قوله تعالى: { وَبَنَاتُ الأَخِ } [النساء:23].
    وأما السابعة: فبنات الأخت: وضابطهن: كل أنثى لأختك عليها ولادة، سواءً كانت مباشِرة أو كانت بواسطة، وسواءً كانت الأخت: - شقيقة.
    - أو لأب.
    - أو لأم.
    فجميع ما تنجبه الأخت يعتبر من محارمك من الإناث سواءً باشَر أو كان بواسطة.
    هؤلاء السبع تحريمهن جاء من جهة النسب.
    والنسب: مأخوذ من النسبة يقال: نسب الشيء إلى الشيء إذا أضافه، وسمي النسب نسباً؛ لأن الابن يضاف إلى أصله، فيقال: محمد بن عبد الله، وعبد الله بن عبد الرحمن، فيضاف الابن لأبيه، والأب للجد، والجد لأبيه وهكذا.
    فهؤلاء السبع إذا تأملتهن وجدت التحريم جاء من جهة القرابة، فتجد إما من جهة الأصول أو من جهة الفروع، أو من جهة فروع الأصول، أو من جهة فروع مَن شارك في الأصول.
    فهؤلاء النسوة من السبع الجهات يعتبرن محارم للرجل.
    والعكس في الإناث: فتقول في الأمهات: الآباء.
    وتقول في البنات: الأبناء.
    وتقول في الأخوات: الإخوة الذكور.
    وتقول في العمات: الأعمام.
    وفي الخالات: الأخوال.
    وفي بنات الأخ: أبناء الأخ.
    وفي بنات الأخت: أبناء الأخت.
    هذا بالنسبة للتحريم من جهة النسب، وكل واحد منا ينبغي أن يكون حافظاً لهؤلاء السبع؛ حتى يعلم أن الله أحل له الخلوة بهذا النوع من النساء ومصافحتهن والسفر معهن، وغير ذلك من أحكام المحرمية المعروفة.
    أنواع المحارم من جهة الرضاع وحكم كل نوع منها

    أما بالنسبة للجهة الثانية فهن المحارم من جهة الرضاع: وجهة الرضاع كجهة النسب سواءً بسواءٍ، فتقول: الأم من الرضاع، وأم أمها، وإن علت، وأمهات الأصول من الرضاع أمهاتٌ للفرع الرضيع.
    كذلك أيضاً: البنات من الرضاع وإن نزلن.
    فبنتك من الرضاع تعتبر محرماً لك، وبنت بنتها، وبنت ابنها، وإن نزل الجميع.
    كذلك أيضاً: الأخت من الرضاع: سواءً اجتمعت معك في المرأة المرضعة من الأصلين، فكان الزوج الذي ارتضعت هذه الأخت من لبنه، فهي أختٌ لك من الرضاع شقيقة، أو كانت بنتاً لهذا الرجل من هذه المرأة التي رضعت منها، فهي أخت لك من الرضاعة شقيقة.
    ولكن هذا الرضاع يعتبر فيه ما يعتبر في النسب، فلو أن هذا الرجل الذي رضعتَ من لبنه من هذه المرأة تزوج امرأة ثانية، أو كانت عنده امرأة ثانية فأنجبت، فجميع ما ينجبه هذا الرجل الذي ارتضعت من لبنه يعتبرون أخوة لك من الرضاعة.
    إن كان من المرأة نفسها فهو أخٌ شقيق وأخت شقيقة، وإن كان من غير المرأة قَبْل أو بَعْد فهو أخ من الرضاع لأب.
    ثم هذه المرأة التي ارتضعتَ منها جميعُ ما تنجبه من قبل هذا الرجل أو من غيره، فإنهم يعتبرون أخوة لك من الرضاع من جهة الأم فقط إذا كانوا من غير الرجل، وإن كانوا من الرجل فيعتبر أخاً شقيقاً من الرضاع وأختاً شقيقةً من الرضاع.
    هذا بالنسبة للرضاع.
    فالأخت من الرضاعة، وكذلك بنات الأخت والأخ من الرضاعة، والعمة من الرضاعة، والخالة من الرضاعة، كل هؤلاء السبع من جهة الرضاع يُنَزَّلن منزلة السبع من جهة النسب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فدل هذا الحديث الصحيح على أننا ننزل الحكم في الرضاع منزلة الحكم الموجود في النسب.
    أنواع المحارم من جهة المصاهرة وحكم كل نوع منها

    أما بالنسبة للجهة الثالثة فهن المحارم من جهة المصاهرة فيشمل أربعة أنواع من النساء.
    والمصاهرة: تقوم على الصهر وهو الزواج من الناس، والإنسان يصاهر القوم إذا تزوج منهم، وصِهْرهم زوج بنتهم أو زوج أختهم.
    أولاً: ما كانت المصاهرة في أصولك، وما كانت المصاهرة من جهة فروعك: - فتنظر إلى أصولك، وهم: آباؤك وإن علوا كالجد.
    - وتنظر إلى فروعك، وهم: أبناؤك وإن نزلوا.
    ثانياً: تنظر إلى المرأة التي تزوجتها: - أصلِها.
    - وفرعِها.
    فهذه أربع جهات: النوع الأول من المحرمات من جهة المصاهرة: زوجات الآباء وإن علوا: فزوجة الأب: هي المرأة التي عقد عليها الأب، وبمجرد عقده عليها تعتبر محرماً لك، سواءً دخل بها أو لم يدخل بها، طلقها أو مات عنها، ما دام أنه قد عقد على هذه المرأة فهي حرام عليك إلى الأبد، وهي مَحْرَمٌ لك إلى الأبد، يستوي في ذلك أن يكون أباً مباشِراً وهو الذي ولد الإنسانَ مباشَرةً، أو أباً لأبيه وإن علا.
    فلو سألك سائل: عن امرأة عقد عليها أبو الأم وهو جدك من جهة الأم أو امرأة عقد عليها أبو الأب.
    تقول: إنه لا يحل لك نكاحها وهي محرم لك.
    ما الدليل؟ قوله تعالى: { وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } [النساء:22].
    والأبُ أبٌ تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث، فإن جدك من جهة الأم كأبيك، يعتبر وفي حكم الأب، ولذلك قالوا: كل من عقد عليها الأب أو أبوه، وإن علا، والجد وجده، وإن علا، فهو محرم للفروع.
    الخلاصة: أن أي امرأة بمجرد ما يعقد عليها الوالد، أو يقع بينه وبين وليها الإيجاب والقبول بحضور شاهدين عدلين يصح بهما العقد، فإنه يحل لك أن تجلس معها، وأن تصافحها، وتختلي بها، وتسافر معها، وأنت محرم لها.
    هؤلاء زوجات الآباء.
    النوع الثاني: زوجات الأبناء: عرفنا أن اللاتي تزوجهن الأصول أنهن محارم، وعكسهن اللاتي تزوجهن الفروع.
    فكل امرأة عقد عليها ابنك أو ابن ابنك وإن نزل، بمجرد العقد تصير محرماً لك.
    فزوجات الأبناء وأبناء الأبناء وأبناء البنات، كل هؤلاء من النسوة محارم لك.
    والدليل على ذلك قوله تعالى: { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } [النساء:23] أي: حرمت عليكم نكاح الحليلة للابن إذا كان من الصلب، ومراده (مِنْ أَصْلابِكُمْ) أن يُخرِج الابن من التبني، وقد كان في الجاهلية كـ زيد بن حارثة كان يقال له: زيد بن محمد ، فقوله: (مِنْ أَصْلابِكُمْ) ليس المراد به قصر الحكم على الابن المباشر وإنما المراد به جميع ما كان من صلبك ومن ولدك، فالابن الذي من صلبك وولدك سواءً كان مباشراً أو كان بواسطة، تمحض بالذكور أو تمحض بالإناث، فإنه ابن لك، وزوجته التي عقد عليها محرمٌ لك، بمجرد ما يعقد الابن تحرم زوجته على أبيه وإن علا، فتحرُم على أبيه وعلى جده وجد أبيه وإن علا، سواءً كان من جهة الذكور أو من جهة الإناث.
    هذا بالنسبة لزوجات الأبناء.
    والدليل على أن مجرد العقد على زوجة الابن يحرِّمها: أن الله تعالى قال: { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ } [النساء:23] فقال: (حلائل) والمرأة حلال للولد بمجرد العقد، فلا يشترط دخول الولد حتى تصير محرماً لأبيه، وإنما بمجرد عقد الابن على هذه المرأة تصير محرماً لأصوله.
    النوع الثالث من المحرمات من جهة المصاهرة: أم الزوجة: هذه الأم تعتبر محرماً لك، وتكون أم الزوجة محرماً لزوج بنتها بمجرد العقد، فلا يشترط الدخول ببنتها، فكل امرأة عقدتَ عليها فإن أمها تعتبر محرماً لك بمجرد عقدك عليها، وحينئذٍ يحرم عليك نكاحها إلى الأبد، سواءً طلَّقتَ بنتها أو بقيت في عصمتك أو ماتت عنك فهي محرم إلى الأبد.
    والدليل على ذلك قوله تعالى: { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } [النساء:23] والمرأة تكون من نساء الرجل بمجرد العقد عليها، ولذلك تقول: هذه من نسائي، بمجرد عقدك عليها ولا يشترط الدخول بها.
    هذا بالنسبة لأم الزوجة فهي محرم لك بمجرد العقد عليها.
    يستوي في ذلك أن تكون أماً مباشرة أو أماً بواسطة، فأم أم الزوجة، وأم أم أم الزوجة تعتبر محرماً لزوج بنتها، وسواءً تمحضت بالذكور أو تمحضت بالإناث فالحكم في ذلك سواء؛ لأن الله قال: { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ } .
    فأم أبي الزوجة تعتبر محرماً لك؛ لأنها أم لزوجتك، ويستوي في ذلك تمحضها بالذكور كأم أبي أبي الزوجة، أو تمحضت بالإناث كأم أم أم الزوجة، فهؤلاء النسوة جميعهن يعتبرن محارم بمجرد العقد على بناتهن.
    النوع الرابع: بنت الزوجة وهي التي تسمى الربيبة: وسميت ربيبة؛ لأنها تتربى عند زوج أمها، وجاء التعبير في القرآن متضمناً لهذا المعنى في قوله تعالى: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } [النساء:23] فقوله: (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب إذا تزوج إنسان امرأةً، ولها بنات من رجل قبله أن يعطف عليهن وأن يربيهن كأنهن بنات له.
    فهذه الربيبة تحرم على الإنسان بشرط الدخول على أمها، وهي التي تنفرد من بين المحرمات بالصهر بشرط الدخول، فلو عقد على أمها فإنها لا تزال أجنبية حتى يدخل بأمها، فإن دخل بأمها حرُمَت عليه؛ وذلك لقوله تعالى: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [النساء:23].
    إذاً الربيبة تنفرد من بين الأربع في المحرمات من الصهر، بحيث يشترط في تحريمها أن يدخل الزوج على أمها، فإن لم يدخل الزوج على أمها فلا تزال حلالاً، وهذا يدل على حكمة الله عزَّ وجلَّ ولطفه بالعباد، فإن أم الزوجة الغالبُ أن تكون أكبر ولا تُرْغَب، ولذلك حرُمَت بمجرد العقد، ولكن بنت الزوجة قد تُرْغَب، ولذلك لو كان مجرد العقد على أمها يحرمها؛ لكان فيه تضييق، فجعل الله في الأمر سعة، فلو عقد على أمها ثم نفر من أمها ورغب في الزواج منها كان الأمر أوسع، ولذلك قالوا: حتى يكون أدْفَعَ للفتنة؛ لأنه ربما افتتن بها أو تعلق بها، فكان ذلك أدعى لدفع الفتنة قبل أن يدخل بأمها.
    ولا يشترط أن تكون ربيبة في حجرك، وقال الظاهرية: يشترط، فلا تحرم عليك بنت الزوجة إلا إذا تربت في حجرك.
    والصحيح أنه لا يشترط، وهو مذهب الجمهور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم حبيبة -لما عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أختها-: ( أترضين ذاك؟ فقالت: إني لست لك بمخلية، وأحب من يشاركني أختي، إني سمعت أنك ناكح، بنت أبي سلمة ؟! فقال عليه الصلاة والسلام: إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة )، ثم قال كلمة هي الحجة والفيصل في هذه المسألة يخاطب زوجته أم حبيبة ( فلا تعرضن عليَّ أخواتكنَّ ولا بناتكنَّ ) فقال: (بناتكنَّ) ولم يقل: اللاتي تربين في حجري، وإنما قال: (بناتكنَّ) وأطلق.
    ففُهِم من هذا أن تعبير القرآن في قوله: { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } [النساء:23] خرج مخرج الغالب، والقاعدة في الأصول: أن النص إذا خرج مخرج الغالب لا يعتبر مفهومه.
    وعلى هذا: فلو كانت بنت الزوجة قد بلغت قبل أن تدخل بأمها، فإنها لا تكون محرماً لك إلا إذا دخلت بأمها، وهكذا لو تربت من باب أولى وأحرى وهي بالإجماع.
    هؤلاء أربع من النسوة من أربع جهات: فتقول: التحريم بالمصاهرة: من جهة أصلي، ومن جهة فرعي.
    فأما من جهة أصلي: فزوجات آبائي.
    وأما من جهة فرعي: فزوجات أبنائي، وإن نزلوا.
    وأما بالنسبة للثالث والرابع منهن: فأم زوجتي، وبنت زوجتي.
    فالأمر فيهن واضح، وجمعهن يكون على هذه الصورة؛ أن تنظر إلى أصولك، وفروعك، وتسند بالزوجية إليهما، وتنظر إلى أصل زوجتك، وفرع زوجتك، فيصبح المجموع أربعة أنواع من النسوة.
    ويضاف إلى المحرمات من جهة المصاهرة أربع من جهة الرضاع.
    هذا بالنسبة للمحرمات وكما قلنا: سبعٌ من النسب.
    وسبع من الرضاع.
    وأربع من المصاهرة.
    إضافة إلى أربع من المصاهرة من جهة الرضاع.
    فأصبح المجموع اثنتين وعشرين امرأة من جميع الجهات، فهؤلاء النسوة يعتبرن محارم بالنسبة للرجل.
    يضاف إليهن: الزوجة، وهي ليست من المحرمات؛ لكنها أبيحت له، ولذلك لا تتعلق بنسب ولا تتعلق برضاع ولا تتعلق بمصاهرة، لا من جهة الأصول ولا من جهة الفروع؛ ولكنها هي التي أحل الله.
    فأصبح عددُ النسوةِ ثلاثاً وعشرين امرأةً.
    هذا بالنسبة للمحرمات على التأبيد.
    أنواع المحرمات على التأقيت وحكم كل نوع منها

    هناك نوع من المحرمات حرم الشرع نكاحهن على التأقيت: أخت الزوجة: حرام على الإنسان أن ينكحها مؤقتاً، فلا نقول: إنها من المحارم، وهذا يغلط فيه البعض، بل بلغني عن بعض طلاب العلم أنه يجلس مع أخت زوجته، ويقول: إن الله عزَّ وجلَّ عدَّها في المحرمات، فهي كالأم وكالبنت، وهذا خطأ؛ لأن التحريم في حقها مؤقت، وإنما تثبت المحرمية في التحريم المؤبد.
    كذلك أيضاً: من التحريم المؤقت: الخامسة من النسوة: فمن كان عنده أربع من النسوة لا يحل له أن ينكح الخامسة، فليست الخامسة حلالاً له، بل يحرم عليه نكاحها؛ لكن تحريماً مؤقتاً.
    وكذلك: المحصنات من النساء: كما ذكر الله في القرآن، من المحرمات؛ لكنهن لسن من المحارم، فليُنْتَبَه إلى قولنا: من المحرمات، ومن المحارم، فالمحارم شيء، والمحرمات شيء آخر؛ لأن المحرمات أعم من المحارم؛ لكن وصف هؤلاء النسوة بكونهن محارم لوجود التحريم من جهة التأبيد.
    بقي إشكال؛ هناك نوع من النسوة يحرمن على التأبيد ولسن من المحارم، ويُلْغِز بعض العلماء في هذا ويقول: امرأة محرمة إلى الأبد ليست بمحرم؟ فجوابه: زوجة الملاعِن، فإن الزوج إذا لاعن زوجته -والعياذ بالله- فُرِّق بينهما فراقاً أبدياً، ولا تحل له إلى الأبد، وهذا التحريم يسمونه: تحريماً مؤبداً؛ لكنه لا يقتضي المحرمية وليست بمحرم له، وإنما هي أجنبية تبين منه بمجرد انتهاء المرأة من قولها -في اللعنة الخامسة والعياذ بالله-: أَنْ غضب الله عليها إن كان صادقاً فيما ذكر، فإذا قالت هذه الكلمة فحينئذٍ يفرق بينهما فراقاً أبدياً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ عويمر العجلاني بعد أن فرغت المرأة من اللعان وقالت الموجبة الخامسة-: ( حسابكما على الله، الله أعلم أن أحدكما كاذب، فقال عويمر : كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها، فطلقها ثلاثاً، فقال: إنها لا تحل لك ) يعني: إلى الأبد، فهذا يدل على أن التحريم إلى الأبد؛ لكن ليست بمحرم.
    وعلى هذا اختص التحريم بالمحرمات من جهة النسب، والمحرمات من جهة الرضاعة، والمحرمات من جهة المصاهرة، إلا أن التحريم من جهة الرضاع يشترط فيه ما يشترط في الرضاع المؤثر، وإن شاء الله سيأتي بيان حدود الرضعات المؤثرة، وضابط ذلك في كتاب النكاح.
    هؤلاء النسوة وما يقابلهن من جهة الذكور، يعتبر محارم للرجال وهم محارم لهن، على التفصيل الذي ذكرناه.
    فلا يحل للمرأة أن تسافر إلى الحج ولا إلى العمرة إلا مع محرم، ومن باب أولى السفر إلى غير الحج والعمرة، مع أن الحج والعمرة واجبتان.
    قد يقول قائل: سفر الحج والعمرة واجب عليها، وإن لم تجد محرماً فإنها تخاطَب بالخروج إبراءً للذمة، فما الدليل على أنه لا يجوز لها الخروج إلا مع المحرم؟

    الجواب
    أولاً: قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم ) وجه الدلالة: أن الحديث عام لم يفرق بين سفر وآخر، فشمل السفر الواجب وغير الواجب.
    ثانياً: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الصحابي: يا رسول الله! إني اكتُتِبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: انطلق فحج مع امرأتك ) ، فدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر وليس معها ذو محرم منها، ولو كان السفر واجباً على المرأة.
    ضرورة توفر السبب المباح في المحرمية
    قوله: [أو سبب مباح].
    يخرج به السبب غير المباح كالبنت من الزنا، والأخت من الزنا والعياذ بالله! فهؤلاء وأمثالهن من النسوة لسن بمحارم للإنسان، أي: لا يسافر مع أخته من الزنا، كأن تزني أمه أو يزني أبوه والعياذ بالله! فتكون له أختٌ من الزنا لأب أو لأم، أو كأن يزني الرجل بالمرأة والعياذ بالله! ثم يتزوجها بعد أن تلد بنتاً، فالبنت التي وقعت قبل الزواج الشرعي بنتُ سفاح، وما كان من بعد ذلك فهو ابن نكاح وبنت نكاح، فلا تكون هناك نسبة بين الحلال والحرام، ولا يجوز لأحد -مثلاً- أن يسافر مع بنته من الزنا ويقول: هذه محرم؛ لأنها بنتي، بل إنها تعتبر أجنبية عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الولد للفراش وللعاهر الحَجَر ) فقطع الصلة بين الزاني وما كان من مائه الحرام.
    ولذلك لو تحقق أن هذه البنت بنته وأن هذه المرأة لم تزنِ بغيره، فهي ليست ببنته وليس له إلا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وللعاهر الحَجَر ) كناية على أنه لا شيء له، ولا تنسب البنت إلا لأمها.
    والحرام لا يحلل، فلو وطأ امرأة بدون عقد وحملت ثم عقد عليها بعد انعقاد الحمل وهو يعلم أن هذا الحمل حمله وولدت بنتاً من الزنا، فهي بنت زنا، ويكون ما وقع من مائه بعد العقد سقيٌ للحرام بالحلال، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم كما في سبي أوطاس لما رأى الرجل يريد أن يلم بالمرأة من السبي وهي قائمة على الباب، فقال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: ( أيغذوه في سمعه وبصره؟! لقد هممتُ أن ألعنه لعنةً تدخل معه إلى قبره ).
    والمراد بذلك أن هذه المرأة السبي كانت قد حملت قبل الغزو، ثم أسرت فأصبح حملها للأول الذي كان يطؤها وهو زوجها، فلما وقعت في السبي حلت بالغنيمة لمن أخذها وأصبحت من سبيه ومن إمائه، ويجوز له وطؤها؛ ولكن لما كانت حاملاً فإنه لا يجوز له وطؤها إلا بعد الاستبراء، وحينئذٍ ينتظر حتى تضع حملها ثم يستمتع بها بما أحل الله؛ لكن الرجل استعجل فقال عليه الصلاة والسلام: ( أيغذوه في سمعه وبصره؟! ) يعني: أنه لو جامعها فأنزل الماء اغتذى الولد وانتشى بمائه، فهذا يدل على حرمة إدخال الماء على الماء.
    ولا يجوز ما يفعله بعض العامة بحيث إذا زنى فيهم الرجل بالمرأة زوجوه بها قبل أن تستبرئ، وهذا لا شك أنه من حكم الجاهلية ولا يجوز ذلك، وإذا أراد أن يتزوجها والعياذ بالله، فإنه لا يتزوجها حتى يتوب توبة نصوحاً، وكذلك حتى تتوب توبة نصوحاً، فإن تابا توبة نصوحاً، فلا يجوز له أن يعقد عليها ولا أن يدخل عليها إلا بعد أن يستبرئها من الحرام، حتى لا يخلط النكاح بالسفاح، وما أحل الله بما حرم الله.
    فالشاهد: أن البنت من الزنا ليست بمحرم لأبيها الزاني، وهكذا بالنسبة لفروعها من الإناث .
    حكم من لزمه الحج ومات قبل أن يحج
    قال رحمه الله: [وإن مات من لزماه أُخْرِجَاْ من تركته].
    قوله: (وإن مات من لزماه): أي: من لزمه الحج ولزمته العمرة، أخرج من تركته بقدر ما يُحَجُّ ويعتمر به عنه، فإن كان موته بالمدينة وَوُجِدَ شخص يحج عنه ويعتمر عنه، نُظِر إلى كلفة ومئونة الحجة والعمرة فإذا كانت ألف ريال أو ألفين فيُخْرَج من تركته قبل قسمتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فدين الله أحق أن يقضى ) ، والميت إذا مات أول ما يقام به مئونة التجهيز من تغسيله وتكفينه وحمله ودفنه، ثم بعد ذلك تقضى عنه ديونه التي عليه إبراءً لذمته، فيشمل الديون التي للآدميين، والديون التي لله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج ديناً فقال: ( فدين الله أحق أن يقضى ) .
    فعلى هذا تخرج الألف أو الألفان من تركته ويُحَجَّجُ عنه، فإن وجد من ورثته من يتبرع عنه المال، فيُتْرَك مالُه حظاً للورثة يقتسمونه بقسمة الله عزَّ وجلَّ في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
    فقوله: (من لزماه): أن من مات ولم يلزمه الحج كأن يموت فقيراً، ولا يجد الزاد الذي يجب معه الحج، فحينئذٍ لا يجب أن يخرج من تركته ما يحجج به عنه، ولو صار غنياً بعد الحج، مثال ذلك: فقير جاءه شهر ذي الحجة من آخر عمره وهو على الفقر طيلة حياته، أي: لا يجد الزاد لكي يؤدي فريضة الحجة والعمرة عنه، فلما ولَّى شهرُ الحج اغتنى، فحينئذٍ إذا اغتنى ينتظر إلى السنة القادمة حتى يحج، فإن عاجله الموت قبل أن يأتي وقت الحج فإنه لا يُخْرَج من تركته ما يحج به عنه؛ لأنه لم يجب الحج عليه، وإنما يجب عليه الحج إذا دخلت أشهر الحج، فحينئذٍ يخاطَب بالحج إلى بيت الله الحرام.
    الأسئلة
    خالة الزوجة وعمتها ليستا محرمين للزوج


    السؤال
    ماذا عن خالة الزوجة وعمة الزوجة أثابكم الله؟


    الجواب
    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
    أما بعد: فخالة الزوجة وعمة الزوجة محرمة على التأقيت، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك كما في الصحيح: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ) والسبب في ذلك: أن النكاح والزواج مظنة الغيرة، وحينئذٍ كأنه بهذا الزواج يقطع الأرحام؛ فتحصل القطيعة بين البنت وعمتها والبنت وخالتها، وفي هذا مفسدة عظيمة تُقَدَّم على المصلحة، فحرم عليه أن يجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، ولكن هذا التحريم يعتبر تحريماً مؤقتاً، والتحريم المؤقت لا يوجب المحرمية، فلا يجوز للزوج أن يختلي بخالة زوجته، ولا بعمة زوجته؛ لأنها ليست بمحرم له.
    والله تعالى أعلم.

    اعتبار أم الزوجة من الرضاع محرماً للزوج


    السؤال
    هل أم زوجتي من جهة الرضاع أُعتبر محرماً لها أثابكم الله؟


    الجواب
    هذا مبني على قوله عليه الصلاة والسلام: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) وقد أشار إلى هذه المسألة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه: جامع العلوم والحكم، وحكى الإجماع على أنه يُنَزَّل الرضاع منزلة النسب، فكما أن النسب في المصاهرة يوجب التحريم، كذلك أيضاً المحرمة بالرضاع تُنَزَّل منزلة النسب، وهذا مبني على أن المعنى واحد، فإننا إذا نظرنا إلى أن الرضاع مُنَزَّلٌ منزلة النسب، فالأب لو تزوج امرأة فإنه حينئذٍ تكون هذه المرأة محرماً لك، كذلك أيضاً الأب من الرضاع؛ لأنك ارتضعتَ لبنه نُزِّل منزلة الأب من النسب، وحينئذٍ تحرم زوجته كما تحرم زوجة النسب.
    كان بعض العلماء يقول: قياس النص يقتضي حِلها؛ ولكن لا قائل به، والسبب في هذا أن الله عزَّ وجلَّ ذكر التحريم بالنسب، ثم أتبعه بالتحريم بالرضاعة، ثم أتبعه بالتحريم بالمصاهرة ثم قال: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء:24] قالوا: هذا يقتضي أن ما كان من الرضاع من جهة المصاهرة حلال؛ وذلك لأنه وإن كان التحريم بالرضاع كالتحريم من النسب إنما هو في النسب، ولا يرى المصاهرةَ آخذةً حكم النسب، فيرى أن قياس النص يقتضي حلها.
    ولكن نقول: لا قائل بهذا، والمعنى واحد فيها.
    والله تعالى أعلم.

    عدم حرمة الربيبة على ابن زوج أمها


    السؤال
    الربيبة لا تحل للرجل وتعتبر محرماً له، فهل نفهم من ذلك أن أبناء الزوج محارم أيضاً للربيبة وكأنها أختهم أثابكم الله؟


    الجواب
    ليست الربيبة بمحرم لأبناء زوج أمها، فهي تحرم على زوج أمها ولا تحرم على أبنائه، فلو أراد الابن أن يتزوج الربيبة، وهي بنت زوجة أبيه حل له ذلك، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فالربيبة حلال لأبناء زوج أمها وإذا كانت حلالاً فإنها ليست بمحرم، ولا يجوز لابن زوج أمها أن يجلس معها ويخلو بها، وليس بمحرم لها في السفر، ولا يجوز له أن يصافحها، فحكمه حكم الأجنبي سواءً بسواءٍ.
    والله تعالى أعلم.

    اقتصار التحريم في الرضاعة على الرضيع دون إخوته


    السؤال
    هل يجوز لأخي أن يتزوج من أخت أختي من الرضاعة أثابكم الله؟


    الجواب
    بالنسبة لأخيك يجوز له أن يتزوج أخت أختك من الرضاعة، بل يجوز أن يتزوج أختك من الرضاعة نفسها إذا لم يكن قد ارتضع معك، ولم تكن هذه الأخت قد رضعت من أمك، بمعنى أن الرضاعة منفصلة عن أمك، فإذا كانت أختك من الرضاعة فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إن كانت أختاً لك من الرضاعة، رضعت من أمك وأصبحت أختاً من جهة رضاعها للبن أمك فهي حرام على إخوانك كلهم، سواءً كانوا أشقاء لك أو كانوا لأم؛ لكن إذا كانت هذه الأخت لها أخت، فإنه يجوز لأخيك أن يتزوج هذه الأخت؛ لأن المحرمية اتصلت بهذه الأجنبية التي دخلت على لبن الأم، أما أختها فيجوز لأخيك أن يتزوجها، فأخت أختك من الرضاعة حل لأخيك من الرضاعة سواءً دخلت أو لم تدخل.
    - الحالة الثانية: أن تكون أختاً لك من الرضاعة برضاعك من أمها، فحينئذٍ ننظر في الأخ الذي يريد أن يتزوجها، إن رضع معك فهي أخته كما أنها أختك، وأما إذا لم يرضع فالتحريم يختص بك، ويجوز لأخيك أن ينكحها ويتزوجها؛ لأنه أجنبي عنها والتحريم مختص بك.
    - وهناك حالة ثالثة: وهي أن تكون أختاً لأختك من الرضاعة بمعنى: أنها أخت لها في الرضاعة من جهة منفصلة عن التي رضعتها كأن تكون هذه الأخت رضعت من امرأة ثم رضعت من امرأة ثانية، فحينئذٍ هي أخت لأختك من الرضاعة وليست بأخت لك، أختك من الرضاعة اسمها: خديجة، وخديجة رضعت من زينب، وأنت رضعت من زينب، فهي أختك من الرضاعة، وكلٌّ منكما قد ارتضع هذا اللبن، خديجة هذه التي هي أختك من الرضاعة لها أختٌ اسمها عائشة، خديجة رضعت مع عائشة من امرأةٍ ثانية عائشة لا تشترك معك في محرمية وليس بينك وبينها محرمية، وإنما دخلت أختاً على أختك برضاع منفصل، فيجوز لك أن تتزوج هذه الأخت لأختك من الرضاعة؛ وذلك لعدم وجود الاتصال في التحريم.
    فالتحريم إنما يتصل بمن يرتضع، فأنت لا تحرم إلا من رضع؛ لأن الأصل الحل حتى يدل الدليل على التحريم، فإذا شاركتك امرأة في الرضاع فهي محرم لك، وتعتبر حراماً عليك من جهة الزواج، وكل من شاركك في الأخوة من الأخوات إن اتصل بالغير بسبب منفصل عنك فإنه أجنبي، ووجود هذه الصلة وعدمها على حد سواء، فلما كانت الأخت من الرضاعة قد ارتضعت من امرأة أجنبية غير التي رضعتها، فقد أدخلت على نفسها أخوَّة غير الأخوَّة التي بينك وبينها، وحينئذٍ يجوز أن تتزوج من أختها من هذه الرضاعة الأجنبية ولا حرج عليك.
    والله تعالى أعلم.

    جواز الجمع بين المرأة وبنت خالتها أو بنت عمتها

    السؤال
    ما حكم الزواج من بنت خالة الزوجة أثابكم الله؟


    الجواب
    الجمع بين المرأة وبنت خالتها، والمرأة وبنت عمتها فيه خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم.
    والأقوى والأصح أنه لا حرج في الجمع بين المرأة وبنت عمتها والمرأة وبنت خالتها؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى حرم الجمع بين الأختين، وحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وبقي ما عدا هؤلاء داخلاً في عموم قوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء:24].
    ولذلك: فالأصلُ حِلُّه حتى يدل الدليل على التحريم.
    وعليه فإنه يجوز الجمع بين المرأة وبنت عمها، وبنت خالها، وبنت خالتها، وبنت عمتها، ولا حرج عليه في ذلك.
    والله تعالى أعلم.

    تزوج الأم أثناء رضاعها لولدها لا يجعله محرماً لنساء الزوج الثاني


    السؤال
    تزوج خالي من امرأة لها ولد وعمره سنة، فدخل بها فأتم هذا الولد مدة الرضاع وهو تحت خالي، هل يعتبر ولداً لخالي من الرضاعة فيجوز لأمي أن تقابله وتصير عمة له أثابكم الله؟


    الجواب
    بالنسبة لهذا الولد الذي أتم مدة الرضاع بعد أن تزوجت أمه، فهو يرتضع من لبن أبيه؛ لأنه فضلة ما أبقى والده سواء كان ميتاً أو حياً طلق أمَّه، فهذا اللبن الذي ارتضعه الولد في السنة الأولى من الزوج الأول واضحٌ أنه أبوه؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك لبن إلا من أبيه؛ فإذا كان هذا اللبن الذي ارتضعه خلال السنة من اللبن الأول الباقي من أبيه فلم يدخل خالك عليه بماء جديد؛ لأنه إنما يكون ولداً لخالك لو حملت من خالك ثم وضعت ثم ارتضع اللبن بعد وضعها من خالك.
    أما هذا اللبن الموجود فيعتبر للزوج الأول الذي هو والده، وكون خالك عقد على هذه المرأة وهي تُرْضِع هذا الولد، فهذا لا يغير في اللبن شيئاً؛ لأن اللبن للفحل الأول، ولا يؤثر إلا إذا حملت بحمل جديد وولدت منه وثاب اللبن، فإن ثاب لبن من وطء خالك ثم ارتضع اللبن بعد الإنجاب فحينئذٍ هو محرم، وأما إذا لم يرتضع فلم يتغير في الحال شيء، وعقد خالك لا يغير من الحقيقة شيئاً؛ لأن الشرط في الرضاع أن يكون قد ثاب اللبن من مائه، أما إذا ثاب من ماء غيره فهو للأصل وهو والده، والولد أجنبي عن نساء الزوج الثاني، إلا من أمه.
    والله تعالى أعلم.

    حرمة حلائل الأبناء من الرضاع كحرمة حلائل الأبناء من النسب


    السؤال
    يقول الله تعالى: { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } [النساء:23] هل هذا القيد يُخْرِج حلائلَ الأبناء من الرضاع أم أثابكم الله؟


    الجواب
    قوله تعالى: { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } [النساء:23] المراد به إخراج ما كانت العرب في الجاهلية تفعله من ولد التبني، كان الرجل يتبنى ولداً لغيره ويقول: هذا ابني، فينسب إليه، ويقال: فلان بن فلان، وهذا هو الذي ألغاه الإسلام وحرمه الله عزَّ وجلَّ بقوله: { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [الأحزاب:5]، وأمر المسلمين أن يردوهم إلى الأصل، ومن الظلم للأب الأول أن ينسب ولده إلى غيره.
    فالآية أخرجت هذا، وأما بالنسبة لمسألة الرضاع، فقد جاءت السنة تدل بعمومها على أن التحريم من الرضاع يُنَزَّل منزلة التحريم من النسب، فكما يسري التحريم من النسب مصاهرةً يسري كذلك رضاعاً.
    ثم هو من جهة النظر واضح: فإن الابن من الرضاعة بينك وبينه الاغتذاء بلبنك كالابن من النسب، وحينئذٍ تكون موطوءته كموطوءة النسب ولا فرق، ولذلك تجد قوة الرضاعة كقوة النسب، وصريح السنة يقوي ما ذكرناه.
    والله تعالى أعلم.

    زوج الخالة أجنبي وإن رضعت ابنته من خالتها


    السؤال
    تقول السائلة: ابنة خالتي رضعت من والدتي رضاعةً كاملة دون أن تقوم والدتها بإرضاعي، هل والدها وإخوانها وأبناؤها محارم لي أثابكم الله؟


    الجواب
    بالنسبة لبنت خالك إذا ارتضعت من أمك فإن والدها أجنبي عنك.
    زوج الخالة أجنبي؛ والسبب في هذا أن رضاعة بنته من أمك لا تقتضي سريان الحكم لكِ إليه، بل يبقى أجنبي، إنما يسري الحكم أنْ لو ارتضعت من الخالة فتكوني بنتاً له من الرضاعة، أما لو جاءت إحدى بناته، أو جاء واحد من أبنائه وارتضع من أمك، فالتحريم يتعلق بهذا الذي ارتضع من أمك، ويبقى زوج الخالة على أجنبيته، ولا يعتبر محرماً بدخول ابنه على الأجانب، فهن أجانب بالنسبة له؛ ولكنهن محارم لابنه.
    وقد تكون المرأة محرماً للأب ولكنها أجنبية للابن مثل: الربيبة هي محرم للأب لكنها ليست بمحرم لولده.
    المقصود: أن كون هذه البنت وهي بنت خالتكِ قد ارتضعت من أمكِ، فإنها بنت لأمكِ ولا يسري ذلك إليكِ، فلستِ ببنت للخالة، وإنما أنت بنت للأم، وهذه التي دخلت وهي بنت خالتكِ تعتبر محرماً لإخوانكِ من جهة أبيكِ الذي ارتضَعَتْ من لبنه، ويسري التحريم عليها، أما أبوها فإنه ليس بمحرم لكِ ولا بمحرم لأخواتكِ وإنما هو أجنبي؛ لأن زوج الخالة وزوج العمة يعتبر أجنبياً.
    والله تعالى أعلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #214
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (214)

    صـــــ(1) إلى صــ(30)





    شرح زاد المستقنع - باب المواقيت
    باب المواقيت من الأبواب الهامة التي لابد للحاج والمعتمر من الإلمام بها، فللحج ميقات مكاني وميقات زماني، وأما العمرة فليس لها إلا ميقات مكاني، وأما الزمان فإنها تؤدى في سائر أيام السنة، ويتناول هذا المبحث الكثير من الأحكام والمسائل المتعلقة بالمواقيت، ومنها: صور الإهلال، وكيفية إحرام من مر على الميقات بالطائرة، وحكم من أحرم بعد الميقات وغير ذلك.
    معنى المواقيت
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
    أما بعد: يقول رحمه الله: [باب المواقيت]: المواقيت: جَمْع ميقات، وأصله: مِوْقات، ثم أبدلت الواوُ ياءً، فصار ميقاتاً.
    الميقات مأخوذ من قولهم: أقَّت الشيء يؤقته تأقيتاً إذا حدده، سواء كان الشيء المحدد بالزمان أو بالمكان، فإذا حُدَّ بالزمان فهو مؤقتٌ زماناً، وإذا حُدَّ بالمكان فهو مؤقتٌ مكاناً.
    مواقيت الحج والعمرة نوعان زمانية ومكانية

    عبادة الحج لها ميقات زماني وميقات مكاني، وعبادة العمرة لها ميقات مكاني، وأما الزمان فإن العمرة تؤدَّى في سائر أيام السنة ولا كراهة أن تؤدى في أيام التشريق، ولا حرج في ذلك خلافاً لمن قال من السلف إنها تكره.
    فالعمرة ليس لها حد معين بالنسبة للميقات الزماني ولكن لها ميقات مكاني، وأما بالنسبة للحج فله ميقات زماني وميقات مكاني.
    والأصل في المواقيت: الكتاب والسنة.
    فأما الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال في الحج: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة:197].
    وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى جعل الحج الشرعي في أشهر معلومات، فدل على أنه لا حج في غير هذه الأشهر المعلومات التي أقَّتها الله عزَّ وجلَّ وحددها.
    وبناءً عليه فإنه يقال: إن الحج يصح في زمان ولا يصح في زمان آخر، وينعقد إحرامه في زمان ولا ينعقد في زمان، وأما بالنسبة للعمرة فإنه ليس لها ميقات زماني، ويدل على ذلك القرآن، فإن الله عزَّ وجلَّ قال: (الْحَجُّ)، ولم يقل: الحج والعمرة، ولذلك أجمعت الأمة على أن العمرة ليس لها ميقات زماني، بمعنى أنه يجوز أداؤها في سائر أيام السنة.
    وقد كانت العرب في الجاهلية تمنع من العمرة في أشهر الحج، ويعدُّون ذلك من أفجر الفجور، وكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر) وهذه يسمونها: مختلقات العرب في الجاهلية، أو مسائل العرب في الجاهلية التي أحدثوها على الحنيفية وبدلوا بها دين الله عزَّ وجلَّ، فاختلقوا أنه لا يُعْتَمَر في أشهر الحج، وكانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبطل ذلك وبيَّن أن العمرة صالحة في أشهر الحج كما هي صالحة في غير أشهر الحج.
    وأما بالنسبة للميقات المكاني فهي أمكنة حددها الشرع لا يجوز لمن مَرَّ عليها مريداً الحج أو مريداً العمرة أو مريدهما معاً أن يجاوز هذه الأمكنة إلا وقد أحرم، فهو مؤقت بمكان واحد معين لا يجوز له أن يجاوزه، وهذه المواقيت جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثين في الصحيحين: الأول: حديث عبد الله بن عمر ، والثاني: حديث عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع.
    يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ).
    وهو في الصحيح.
    حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيح: ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن المنازل، وأهل اليمن من يلملم ).
    فهذان الحديثان أصلٌ في تأقيت وتحديد الحج والعمرة بالمكان؛ حيث لا يجوز لمن مر بهذه المواقيت وعنده نية الحج والعمرة أن يجاوزها إلا وقد أحرم منها.
    المواقيت المكانية
    ميقات أهل المدينة ذو الحليفة

    يقول المصنف عليه رحمة الله: [وميقات أهل المدينة ذو الحليفة] قد تقدم أن للحج والعمرة ميقاتين، الميقات الأول يُسمى بالميقات الزماني، والميقات الثاني يُسمى بالميقات المكاني.
    وابتدأ المصنف رحمه الله ببيان الميقات المكاني، وهي أماكن حدَّها الشرع لا يجوز لمن أراد الحج أو العمرة أو هما معاً قاصداً إلى مكة أن يُجَاوِز هذه الأمكنة حتى يُحرِم منها، وقد بيَّنت السنة هذه المواقيت، وذلك في حديثين هما أشهر ما وَرَد في المواقيت، حديث عبد الله بن عمر وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع، بيَّن فيهما النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت المكانية مفصَّلة.
    فابتدأ المصنف رحمه الله بميقات أهل المدينة، والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام: ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة )، وهذا حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وحديث عبد الله بن عباس : ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدنية ذا الحليفة ).
    والحلَيْفَة: واحدة الحَلفَى، وهو نوع من الشجر، والسبب في ذلك أن هذا الوادي -وهو ذو الحليفة- كانت فيه شجرة، أي في وسطه، وقيل إنه كان يكثر فيه هذا النوع من الشجر، وهو الوادي الذي يسمى في المدينة بوادي العقيق، ويسمى في عرف العامة اليوم وادي عُروة؛ لأن عروة بن الزبير رحمه الله كانت له مزارع في هذا الوادي، وهذا الوادي ثبت في الصحيح من حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هذا الوادي بكونه مباركاً، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة )، فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فاجتمعت السنة القولية والسنة الفعلية على اعتبار ميقات المدينة وهو ذو الحليفة، وهذا الميقات هو أبعد المواقيت عن مكة، ولذلك يبعد عنها فوق عشر مراحل، وبينه وبين مكة ما لا يقل عن عشرة أيام بسير الإبل في الأزمنة الماضية.
    ويقع هذا الوادي أو المِهَل الذي أَهَلّ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحذاء جبل عَيْر، فيَحُدُّ هذا الوادي من الجهة الشرقية إلى الجهة الجنوبية جبل عَيْر وهو آخر حدود المدينة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ما بين عير إلى ثور )، فهذا الجبل المعترض وهو جبل عير، يكون طرفه مشرفاً على وادي العقيق وعلى المِهَل مِهَل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يسميه الناس اليوم بأبيار علي.
    وهذا الميقات أجمع العلماء رحمهم الله على أنه ميقات أهل المدينة، ومن مر من غير أهل المدينة بالمدينة وفي نيته أن يحج أو في نيته أن يعتمر أو في نيته أن يجمع بين الحج والعمرة فيقرنهما معاً؛ أنه يجب عليه أن يهل من المدينة إلا الشامي فلهم فيه تفصيل.
    ميقات أهل الشام إذا نزلوا المدينة
    فأهل الشام خلاصة ما يقال فيهم إذا مروا بالمدينة ونزلوا بها كما هو موجود اليوم في الحملات التي تأتي من جهة الشام: أنهم يدخلون المدينة ويصلون بمسجدها، فحينئذٍ يتعين عليهم أن يُحرِموا من المدينة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )، فنصَّ على أن من أتى على هذه المواقيت من غير أهلها أنه يلزمه الإحرام منها.
    فأهل الشام إذا نزلوا المدينة ومرَّوا بها ولو ساعة فإنه يلزمهم أن يُحرِموا من ميقاتها، وهل إذا مروا بحذاء المدينة ولكنهم لم ينزلوا بها وأخذوا طريق الساحل الذي يُعرف الآن بطريق جدة القديم ولكنهم لم ينزلوا بالمدينة، مثل أن يأخذوا من أطراف المدينة أو من الشوارع التي بأطراف المدينة لكن لا يدخلون المدينة؛ فحينئذٍ ميقاتهم رابغ، والسبب في ذلك أنهم لم يأتوا على الميقات حقيقة فهم مارون بالمدينة وليسوا بنازلين بها حتى يأخذوا حكم أهلها، ولأنهم سيمرُّون بميقات ثانٍ على الطريق هو ميقات لهذا الطريق وهو الذي يسمى بطريق الساحل، فطريق الساحل إذا سُلِك من أهل الشام أو من أهل مصر أو من أهل المغرب فإنهم حينئذٍ يُحرِمون من رابغ، لكنهم إذا نزلوا بالمدينة ولو ساعة أو دخلوا المدينة، فقد وجب عليهم أن يُهلوا من ميقات المدينة ولو كانوا مارين بطريق الساحل.
    صور الإهلال وبيان أفضلها
    قال عليه الصلاة والسلام: ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة )، هذا الإهلال يأتي على صورتين، الصورة الأولى وهي الأكمل والأفضل؛ لما اشتملت عليه من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، وهي أن تَنْزِل في الوادي وتصنع ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاغتسال، ثم بعد ذلك تصلِّي الفريضة وتهل بعد الفريضة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات، اغتسل وأصبح ينضخ طِيباً بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ثم أَهَلّ بَعْدَ الفريضة، وعلى هذا فالأكمل أن الإنسان يغتسل في الوادي، ثم بعد ذلك يُصلِّي الفريضة وينشئ عمرته أو ينشئ حجه.
    كذلك أيضاً إذا لم يتيسر له الفرض واغتسل وصلَّى ركعتي الوضوء يُهِل بعدها، وليس للإحرام صلاة مقصودة تُسمى سنة الإحرام، إنما هو يقع بعد الفريضة أو النافلة حتى ولو كانت نافلة مطلقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر في الصحيح: ( أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة )، وفي رواية: ( صلِّ في هذا الوادي المبارك ...)، فاستحبوا أن يقع الإحرام عقب الصلاة، ولا تُشترط صلاة مقصودة.
    هذا الأكمل والأفضل، ويكون الإهلال والنية والإنسان جالس في مصلاه، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
    أما الصورة الثانية وهي صورة الإجزاء، فهي أن تمر بالوادي مروراً وتقول: لبيك حجاً، لبيك عمرة، ولا يُشترط النزول وليس بلازم ولا واجب، بحيث نقول لا بد وأن تنزل إلى الوادي ثم تحرِم، فلو مررت بمحاذاة الميقات وقلت: لبيك عمرة، لبيك حجاً؛ فقد انعَقَد إحرامك وصح، لكن فاتك الأفضل والأكمل الذي هو التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا إن تيسر لك النزول نزلت وإذا لم يتيسر لك النزول فحينئذٍ تعتبر المحاذاة.
    كيفية إحرام من مر على الميقات بالطائرة
    بقيت مسألة وهي مسألة الطائرة، إذا كان الشخص مسافراً بالطائرة من المدينة إلى جدة وهو محرِم بالحج أو العمرة أو بهما معاً، أو سافر من أي صقع من الأصقاع وهو يريد أن يصل إلى جدة، وهي ليست بميقات، وعلى هذا فإنه من أَحرم منها لا يُحرِم منها إلا إذا كانت نيته مبتدَأَة في جدة، أما إذا كان قد قدم على جدة وهو في نيته أن يحج ويعتمر فيعتبر المواقيت التي ذكرناها.
    فمن مر بالطائرة على الميقات فإنه لا يستطيع النزول فحينئذٍ بمجرد محاذاته للميقات يُلبِّي وينوي ويصح منه ذلك ويجزيه، فإذا لم يمكنه أن يطلع ولا يعرف الأماكن، فيحسِب بالزمان، فيكون له التقدير الزماني، ففي المدينة يكون إقلاعها على حالتين، في حالة يكون الإقلاع والطائرة متجهة إلى جدة فتكون المسافة قصيرة جداً، بمجرد إقلاعها لا تأخذ إلا في حدود دقيقة أو أقل من دقيقة أو دقيقة ونصف حتى يحاذي الإنسان أبيار علي، لكن إذا كان -مثلاً- إقلاعها على الجهة التي هي خلاف جهة مكة أو جهة القبلة؛ فإنها تأخذ وقتاً حتى تعتدل وتأخذ مسارها، وحينئذٍ قد تصل -كما يقول بعض المختصين- إلى ثلاث دقائق، فهذا لا بد من ضبطه و معرفته على حسب المواقيت ولا يختص بالمدينة.
    فإذاً عندنا صورتان، الصورة الأولى: أن يتمكن الإنسان من النزول في الوادي وإصابة سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيغتسل ويتنظف ويتطيب تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلي الركعتين ثم بعد ذلك يحرم، وإن كانت فريضة فإنه يحرم عقب الفريضة.
    ولا حاجة بعد الفريضة أن يصلي ركعتين لكي يَحرِم بعدها، بل إنه إذا فعل ذلك خالف السنة؛ لأن السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بعد الفريضة، وبعض العوام يفعل هذا الجهل، فإنهم يصلون الفريضة ثم بعد الفريضة تجدهم يقومون لركعتين لينشئوا الإحرام، وهذا مُصادِم للسنة تماماً، فإن الأفضل والأكمل أن يقع إحرامه في هذه الحالة بعد الفريضة مباشرة.
    وأما الإجزاء فإنه بمجرد مروره على الوادي يُحرِم .
    حكم من خالف في الإحرام من الميقات

    المسألة الثانية: عرفنا الآن أن الشخص يحرم من الميقات كمالاً وإجزاءً بقيت مسألة فرضية وهي: هل يُحرِم قبل الميقات أو من الميقات؟ أما إحرامه قبل الميقات فإنه خلاف الأفضل، فالأفضل والأكمل أن يُحرِم من الميقات، فلو اغتسل وتطيب في المدينة ولبس الإحرام ولبَّى، فللعلماء وجهان: بعضهم يقول إنه أفضل؛ لأنه سيكون تعبه أكثر، والقاعدة في الشرع أن ما كان تعبه أكثر فأجره أعظم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: ( ثوابكِ على قدر نصبكِ )، فهذا سيتعب أكثر؛ لأنه سيكون مانعاً نفسه من محظورات الإحرام من أكثر من سبعة أو ثمانية كيلو تقريباً قبل الميقات، هذه المسافة تقرَّب فيها إلى الله بطاعة زائدة فقالوا: هذا أفضل، وكما لو أَحرَم من مكانٍ أبعد من المواقيت الأُخَر، كأن يحرم -مثلاً- من الرياض، فإنه إذا أحرم من الرياض قبل ميقاته وهو قرن المنازل لاشك أنه ستمضي عليه مئات الكيلو مترات وهو متلبِّس بالطاعة والنسك، قالوا: فهذا أفضل.
    والصحيح ما ذهب إليه طائفة من السلف أن الأفضل والأكمل أن يؤخر إلى الميقات، وأن من أحرم قبل الميقات فإنه لا يُعتبر مصيباً للسنة، فالسنة والأكمل والأفضل أن يكون من الميقات.
    ولذلك سئل الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمة الله عليه، قال له رجل: يا أبا عبد الله إني أريد أن أحرم من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له الإمام مالك رحمة الله عليه: لا تفعل، فقال: إني أريد أن أفعل، قال: لا تفعل، قال: ولم رحمك الله؟ قال: إني أخاف عليك الفتنة، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الميقات، وإنك إن أحرمت من المسجد خالفتَ أو ظننتَ أنك أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } [النور:63].
    فلا شك أن كون النبي صلى الله عليه وسلم يُؤخِّر إحرامه إلى الميقات يدل دلالة واضحة على أن الأفضل والأكمل أن يحرم من الميقات.
    إذا قلنا: أن الأفضل والأكمل أن يُحرِم من الميقات، فلو لبَّى قبل الميقات وعَقَدَ إحرامه؛ فإنه قد دخل في النسك، ويُعتبر حينئذٍ متلبساً بالنسك وعليه ما على مَن أحرم ويمتنع من المحذورات، فإن مر بالميقات جدد النية.
    حكم من أحرم بعد الميقات
    ما هو حكم الإحرام بعد الميقات؟ الإحرام بعد الميقات -سواء ميقات المدينة أو غيره من المواقيت- يُعتبر خلاف الشرع، فيَأثم من قصده.
    فلو أن إنساناً تعمَّد وهو من المدينة وقال: لا أريد أن أحرم من ميقات المدينة وأخَّر إلى جدة، فإنه يأثم؛ لأنه خالَف الشرع وعصى، ثم يلزمه دم جبران لهذا النقص، وهذا الدم سيأتي إن شاء الله بيانه ودليله، وفتوى جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة رحمة الله عليهم به، ووجه استنباط حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه له من كتاب الله عز وجل وعمل الأئمة في فتاويهم به.
    هذا الدم جبران للنقص، وحينئذٍ من جاوز الميقات لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تعقد النية وتصمم وتمضي فتحرِم من بعد الميقات ولو بكيلو واحد أو بنصف كيلو، فحينئذٍ يلزمك الدم الذي ذكرناه ويُعتبر إخلالاً بالنسك كما ذكرناه.
    الحالة الثانية: أن يتذكر الإنسان كأن يكون ناسياً، أو يتعمد مجاوزة الميقات فلا يلبِّي ولا ينوي، فيلزمه أن يرجع، فإن رجع إلى الميقات ونوى من الميقات سقط عنه الدم، وحينئذٍ يُعتبر متلافياً للإخلال ولا شيء عليه.
    إذاً هناك حالتان لمن جاوز الميقات: إما أن يستمر وينوي بعد الميقات ولو بيسير، فعليه الدم ويُعتبر آثماً بتعمده، وإما أن يتدارك ويرجع، فإن رجع وتدارك سقط عنه الدم.
    ميقات من كان دون المواقيت

    بقي السؤال في ميقات المدينة الموجود الآن، فخط الهجرة يَمُر بالمدينة ثم يمر بقرى دون ميقات المدينة كاليُتَمَة، ووادي الفرع، والمهْد ونحو هذه القرى؛ فهل يُحرِمون بمحاذاة رابغ، ويُعتَبرون بالميقات الأدنى أو يعتبرون دون المدينة لأنهم في سمت المدينة؟

    الجواب
    أنهم يُعتبرون دون المدينة، فمن كان من أهل اليُتَمة وأراد الإحرام فإحرامه من اليُتَمَة نفسها ولا يُحرِم من دون اليتمة بمحاذاة رابغ، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ )، والإشارة راجعة إلى المواقيت، فالذي يكون في المهْد أو يكون في اليُتَمَة أو يكون في وادي الفرع فليُحرِم من مكانِه، ولو أنه في وادي ريم والذي يبعد عن المدينة قرابة ستين كيلو فإنه يُحرِم من وادي ريم، وقد دل على ذلك فعل السلف الصالح فإن ابن عمر رضي الله عنهما وهو راوي حديث المواقيت كانت له مزرعة بوادي الفرع، فلما أراد الحج أنشأ النية منها، فأَحرم من وادي الفرع ولم يؤخر إلى محاذاة رابغ، فالتأخير إلى محاذاة رابغ خطأ بالنسبة لهؤلاء.
    لكن الذين هم على الساحل مثل أهل بدر ومثل القرى التي يكون مرورها بطريق الساحل، فإنهم دون ميقات المدينة لكن طريقهم على طريق الساحل، فهؤلاء ميقاتهم ما يُقدِمون عليه -رابغ- وإن أحرموا من موضعهم كأهل بدر يحرمون من بدر، وأهل الروحاء يحرمون من الروحاء فهذا حسن وأفضل، لكن لو أن البدري أو من بالروحاء يريد أن يمر عن طريق خط الهجرة الموجود الآن؛ فإنه يدخل بمحاذاة سمت المدينة فيحرم من موضعه، مثل أن يُحرِم من بدر، لأنه سيكون دون ميقات المدينة من بلده.
    هذا حاصل ما يقال بالنسبة لميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة، قال بعض العلماء: إنه أفضل المواقيت وفضله من جهة كونه أبعد، ولا شك أن الأبعد أكثر عناءً وأكثر نصباً وأكثر تعباً، والقاعدة أن الأكثر تعباً يُعتبر أعظم أجراً، وهذا لقوله عليه الصلاة والسلام: ( ثوابكِ على قدر نصبكِ )، فعلى هذا قالوا إنه أفضل، ولأن الله عز وجل اختاره لنبيه فهو أبعد المواقيت عن مكة، وقد أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ميقات أهل الشام ومصر والمغرب الجحفة
    قال رحمه الله: [وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة].
    وميقات أهل الشام وأهل مصر والمغرب الجحفة.
    والجُحْفَة مأخوذة من قولهم: اجْتَحَفَ السيلُ القريةَ إذا أخذها بما فيها من بناءٍ ومن ماشيةٍ ومن زرع ونحو ذلك.
    سُمِّيَت بذلك لأنها كان بها قوم عصاة فأرسل الله عليهم السيل فاجتَحَفَهُم عن بكرة أبيهم -والعياذ بالله- إلى البحر فأغرقهم الله عز وجل فسميت الجحفة، وهذا الموضع كان معروفاً إلى ما قبل الإسلام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل المدينة كانت المدينة فيها الحمَّى وهي التي تُسمى اليوم في عصرنا بالملاريا، كانت وبيئة والسبب في ذلك السيول التي تحيط بها والمستنقعات بها كثيرة، قالت أم المؤمنين عائشة : ( قدمنا المدينة وبطحان نجلا ) يعني كالمستنقعات، فلكثرة المياه فيها كانت وخيمة ووبيئة، فلمَّا قدم الصحابة على المدينة أصابتهم الحمى واستضر بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر و بلال وقصتهم في الصحيحين مشهورة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وهم يَحِنُّون إلى مكة فقال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد )، أي: وأشد؛ لأن أو بمعنى الواو، كقوله تعالى: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [النجم:9]، أي: وأدنى، { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات:147]، أي: ويزيدون، فقال: ( حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد )، فاستُجِيبت دعوته عليه الصلاة والسلام وإلا لقد كانت المدينة لا تُطَاق لا ينزل بها أحد إلا أصابته حُمَّى.
    ولذلك العرب في الجاهلية كانوا يسافرون بالعير إلى الشام فإذا قدموا من الشام ينهق كما ينهق الحمار وذلك خوفاً من حمى يثرب، كما أشار إلى ذلك بعض الفضلاء بقوله: واختلقوا التعشير أن يُعشَّر من النهيق بحذاء خيبراً واختلقوا يعني أهل الجاهلية وهي من المسائل التي أحدثوها.
    فكانوا يخافون من حُمَّى المدينة فيظنون ويعتقدون أن هذا النهيق يَعصِم صاحبه من حُمَّى المدينة، وهي من أمور الجاهلية التي كانوا يحدثونها، فكانت معروفة بالوباء، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بنقل الوباء إلى الجحفة، فالشاهد أنه لما نقل الوباء إلى الجحفة امتنع الناس منها -ولا تزال خربة- خشية أن يُصيب الإنسان الحمى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أن يُنقل الوباء إليها، وأصبح الناس يُحرِمُون من رابغ بحذاء الجحفة، ولذلك إذا سمعت الجحفة أو رابغ فالمعنى واحد والخطب يسير، إنما هو ميقات معدول به خوف الوباء، فالجحفة هو ميقات أهل الشام وميقات أهل مصر والمغرب.
    سبب تفريق العلماء بين من سلك طريق الساحل ومن لم يسلكه

    والسبب في ذلك أنه قبل شق قناة السويس كان حجاج أفريقيا وبلاد المغرب وبلاد الأندلس يأتون على مصر، ومن مصر يأتون من جهة العقبة على شمال المملكة، ثم يأخذون طريقاً يُسمى بطريق الساحل كان مَسْلكاً للتجارة والعير فيمرُّون برابغ ومنها يفيضون إلى قُدَيْد، ثم إلى عسفان، ثم إلى مكة، فهذا طريق في القديم فجُعِل ميقاتهم الجحفة، وهذا الذي جعل العلماء يفرقون بين من سلك طريق الساحل ومن سلك طريق غير الساحل، فأصبح من يسلك طريق الساحل كأنه يخرج عن حدود ميقات المدينة ويصبح كأنه صار في حكم الشامي والمصري الذي يَقدُم من الشام أو مصر، وحينئذٍ يكون ميقاتهم الجحفة، وهذا الميقات هو الذي يلي ميقات المدينة في البُعد عن مكة، وهو يبعد فوق مائتي كيلو عن مكة، وهذا الميقات ميقات من ذكرنا، وأشار إليه المصنف لحديث عبد الله بن عباس قال: ( ولأهل الشام الجحفة )، وقال في حديث ابن عمر : ( وأهل الشام من الجحفة )، أي: ويهل أهل الشام من الجحفة.
    ميقات أهل اليمن وميقات نجد
    قال رحمه الله: [وأهل اليمن يلملم].
    أهل اليمن ميقاتهم يَلََمْلَم، وهي التي تسمى اليوم بالسعدية، وتبعد عن مكة مرحلتين، وهذا الميقات نصّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولأهل اليمن يلملم )، وهو ميقات في حكم ميقات قرن المنازل.
    من المواقيت الباقية قرن المنازل التي تسمى بالسَّيل الكبير، وذات عِرق، ويلملم، هذه الثلاثة المواقيت متقاربة في البعد؛ ولذلك تكون في حكم الميقات المتقارب، لكنها اختلفت في الجهات.
    خطأ بعض المعاصرين في جعل جدة ميقاتاً

    وبسبب قرب هذه المواقيت أخطأ بعض المعاصرين فجعل جدة ميقاتاً؛ لأنه سَامَت بها يلملم وسَامَت بها السيل الكبير فقال: إن المسافة واحدة فمن نزل بجدة فإنه يحرم منها؛ وهذا خطأ فاحش، فليست جدة بميقات لأن جدة كانت معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما سئِل ابن عباس عن قصر الصلاة إلى الجموم قال: (لا.
    ولكن إلى جدة وعسفان والطائف)، فجدة ليست بميقات ولذلك لم يسمِّها النبي صلى الله عليه وسلم ميقاتاً.
    والسبب الذي جعل بعض المتأخرين يقول إن جدة ميقات كما هو موجود عند بعض متأخري الحنفية هو وَهَمٌ وَقَع في بعض كتب المتقدمين من الحنفية، فإنهم ذكروا أن من قدم من البحر فميقاته من طرف جدة، وذلك إذا سامَت البحر قدر ما يَبْعُد عن مكة مثل بُعد الجحفة، وهم يريدون بذلك أن يُحرِم وهو في داخل البحر، مقدِّراً مسافة تساوي في بعدها الجحفة.
    فإذا كان قادماً من إفريقيا عن طريق البحر الأحمر، فحينئذٍ يُقدِّر المسافة التي هي في مثل بُعْد الجحفة من مكة، فيزيد عن بُعد جدة ما فَضَل من الفرق، فلو كان -مثلاً- بُعْد جدة يصل إلى خمسة وسبعين كيلو، وكانت الجحفة تَبْعُد مائتي كيلو؛ فتَحسِب مائة وخمسة وعشرين كيلو في البحر حتى تُسَامِت الجحفة، وهذا هو الذي عُنِي، وهو من باب الرأي والاجتهاد.
    فهذا معنى قولهم: غربي جدة -في بعض كتب الحنفية- أي: من داخل البحر في الغرب، بحيث يقدِّر مسافة قبل وصول الباخرة والسفينة إلى الميقات بقدر بُعْدَ المراحل الموجودة في الجحفة، وهذا يسمونه ميقات السَّمْت.
    أما القول بأن جدة ميقات فهو قول يخالف النصوص، فليست جدة بذاتها ميقاتاً.
    وعلى ذلك الفتوى قديماً وحديثاً، ولا زال علماؤنا ومشايخنا نسأل الله أن يحفظهم ويرعاهم يفتون أن جدة ليست بميقات، وهو الذي أدركنا عليه أهل العلم.
    وعلى هذا يمكن أن تكون ميقاتاً بالمحاذاة، وذلك إذا كان في عَرْض البحر، وقَدَّر مسافةً تُسَامِت الجحفة؛ لأنه في بعض الأحيان لا يتيسر لمن كان في البحر أن يُسامِت الجُحفة، كأن يأتي ولا يمكنه أن يُسَامِت الجحفة بالعرض، فإذا استطاع أن يسامت جدة مباشرة، مثل أن يأتي من شاطئ مِصر فيُقَدَّر المسافة الموجودة وهو في عَرْض البحر حتى يسامِت البُعْد الموجود في الجحفة عن مكة، فإذا كان بنفس السمت الموجودة فيه الجحفة فحينئذٍ يُحرِم.
    على هذا يتخرج أنه لو كانت الطائرة لا تمر بالجحفة، فعليه أن يُقَدِّر المسافة الزمنية التي تقطع بها المسافة المكانية التي يكون بها في حدود المواقيت، أعني ميقات الجحفة، فحينئذٍ له أن يُحرِم.
    قال المصنف: [وأهل نجد قرن، وأهل المشرق ذات عرق] ولأهل نجد قرن المنازل، وهذا الميقات نَصَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يُعرَف الآن بالسيل الكبير، فهذا الميقات ميقات أهل نجد، ومن جاء من المشرق كأهل خراسان وبخارى وسمرقند ونحوهم، كل هؤلاء كانوا في القديم يقدُمُون من جهة الشرق ويكون ميقاتهم هذا الميقات، ويكون في حكمها ذات عِرْق.
    قرن المنازل وذات عرق سمتها واحد وبعدها متقارب
    وذات عرقٍ ميقات يسامت ميقات قرن المنازل، فقرن المنازل وذات عرق هي الضريبة سمتها واحد وبُعْدُها متقارب، وثَبَت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه وَقَّتَها، واختلف العلماء هل عمر هو الذي وَقَّتها أو النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّتها.
    وسُئِل عمر عن ميقات يُسامِت السيل الكبير الذي هو قرن المنازل، فوقَّت لهم ذات عرق، فوافق اجتهاده سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كان رضي الله عنه وأرضاه محدَّثاً مُلْهَماً، فالصحيح أن ذات عرق تُعتبر ميقاتاً مؤقتاً من النبي صلى الله عليه وسلم وليس باجتهاد من عمر ؛ لأن الحديث صحيح في توقيته عليه الصلاة والسلام لأهل المشرق ذات عرق.
    الانتقال من الميقات الأقرب إلى الأبعد والعكس

    قال: [وهي لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم].
    لو أن رجلاً من أهل المدينة سافر إلى الرياض وهو يريد الحج فلا يخلو من حالتين: إن مضى من الرياض إلى مكة فميقاته قرن المنازل، فيحرم من قرن المنازل، ويُعتبر آخذاً حكم أهلها.
    وأما إذا كان يريد أن يرجع إلى المدينة فميقاته ميقات المدينة.
    ولو أن رجلاً من أهل الرياض أراد أن يسافر إلى الحج ولكن قال: أريد أن أذهب إلى المدينة ثم أحج؛ فحينئذٍ سفرته الأولى تمحَّضت إلى غير النسك فلا يلزمه أن يُحرِم من قرن المنازل وإنما يؤخِّر إلى أن يذهب إلى المدينة فيُحرِم من المدينة.
    لو كان ماراً على قرن المنازل وهو يريد المدينة: كأن ينزل من الرياض إلى الطائف ومن الطائف إلى المدينة؛ فحينئذٍ يكون ميقاته ميقات أهل المدينة.
    فله سفران: السفر الأول: تمحض إلى المدينة قَصْداً وليس بسفر النُّسك، وقَصَد به موضعاً آفاقياً خارجاً عن المواقيت؛ فأصبحت سفرة ليست للنسك بذاتها، أي ليست هذه السفرة آخذة حكم من مَرَّ بقرن المنازل حتى يُلزَم بالإحرام من قرن المنازل، فلا يلزمه إذا مر بالسيل الكبير أن يُحرِم، وإنما يتأخر إلى أن يأتي المدينة ثم يُحرِم، هذا يسمونه الانتقال من الأقرب للأبعد ولا إشكال فيه؛ لأنه لو انتقل إلى المدينة فسيُحصِّل المسافة التي في ميقاته وزيادة.
    لكن الإشكال لو أن طالباً يدرس في المدينة وأراد أن يسافر إلى أهله في الطائف، وعنده نية أن يحج هذه السنة، فحينئذٍ أراد أن يقصد إلى الطائف، ومن الطائف يريد أن ينزل إلى مكة، أو كان يريد مثلاً تَرَبَة أو يريد موضعاً بعد الطائف؛ فحينئذٍ نقول له: لك أن تسافر إلى أهلك ولا يلزمك ميقات المدينة؛ لأنه سيسافر إلى أُفُق وليست سفرته الأولى متمحضة للنسك، وإنما هي لخارج المواقيت.
    ومن سافر السفرة الأولى لخارج المواقيت فلا يلزمه أن يحرم من الميقات الذي يمر عليه، فيؤخِّر إلى أن يأتي الطائف لأنه في حِل وليس في حدود المواقيت، فإذا جاء إلى الطائف أَحرَم من ميقات أهل الطائف، وحينئذٍ يكون منتقلاً من الأبعد إلى ما هو أدنى.
    وهكذا لو كان في رابغ وأراد أن يسافر إلى المدينة ثم يحج فنقول له: أخِّر إِحرامك بالنسك إلى وصولك للمدينة حتى تأخذ حكم أهلها.
    والعكس لو أن طالباً يدرس في المدينة وعنده نية أن يحج، ولكن قال: أُرِيد أن أمر على أهلي بينبع أو أريد أن أمر على حاجة لي في ينبع، فحينئذٍ تمحض سفره إلى مكان هو من الأفق وخارج عن حدود المواقيت، وسفرته هذه ليست بسفرة النسك أصلاً، فحينئذٍ يكون ميقاته ميقات أهل الساحل ويُحرِم من رابغ؛ لأنه خرج عن حدود المواقيت فلم يأخذ حكم أهلها .
    ميقات من كان دون الميقات أو آفاقياً أو في حرم مكة
    قال رحمه الله: [ومن حج من أهل مكة فمنها وعمرته من الحل].
    عندنا ثلاثة أنواع، النوع الأول: يسمى الآفاقي ومن كان في حكم الآفاقي، وهذا هو الذي يكون من حدود المواقيت فما فوق في الأصل، وفي حكمه من هو دون المواقيت لكن نعتبره نوعاً مستقلاً.
    والنوع الثالث: من كان من أهل مكة، فهؤلاء ثلاثة أنواع: - أن يكون فوق المواقيت.
    - أن يكون دون المواقيت وقبل مكة ولو بيسير كأهل النّوَارِية مثلاً.
    - الثالث أن يكون داخل حدود الحرم ومكة ويكون من أهلها.
    فأما بالنسبة للنوع الأول، وهم الذين يكونون في حدود المواقيت فما فوق فيلتزمون بالمواقيت والحكم على حسب الميقات الذي يمرون به.
    النوع الثاني من كان دون المواقيت، خارج حدود الحرم فيُحرِم من موضِعه، فيحرم أهل النوارية من النوارية، وأهل عُسفان من عُسفان، وأهل خُليص من خُليص، وأهل قديد من قديد، وقِس على هذا؛ فإنهم يَعتبرون المكان الذي هم فيه ميقاتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الثلاثة الأنواع.
    قال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس : ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وقال: هن لهن ولمن أَتَى عليهن من غير أهلهن ).
    (فمن كان دون ذلك)، هذا النوع الثاني، (فمن حيث أنشأ)، ومن كان دون ذلك فينقسمون إلى قسمين: من كان ساكناً دون المواقيت كأهل قديد وعُسفان وخُليص والنُّوارية، فيُحرِمون من موضعهم.
    والنوع الثاني من هؤلاء: مَن كان مُنشِئاً النية -طرَأَت عليه النية- وهو دون المواقيت كرجلٍ خرج من المدينة لغرضٍ له في جدة، وهو لا يريد الحج ولا يريد العمرة، فخرج إلى جدة وهو يريد -مثلاً- معاملة له في جدة، أو رحماً يصله، أو والدين يبرهما، فلما وصل إلى جدة وجد الوقت متسعاً فقال: لو أني اعتمرت، أو قويت نفسه وعزيمته على الحج فقال: لو أني حججت، فطرأت له النية فيكون في حكم من كان دون المواقيت.
    فإذاً الذي دون المواقيت ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون ساكناً دون المواقيت ويحرم من موضعه فلا إشكال، وإما أن يكون شخصاً طرأت عليه النية وهو دون المواقيت؛ فحينئذٍ نقول له: حيث طرأت عليك النية يَلزَمك الإحرام.
    بناءً عليه أهل جدة يكون إحرامهم إذا أحرموا من المكان الذي أنْشَئُوا فيه، ولا يؤخِّرون إلى طرف جدة كما يفعله بعض العامة اليوم، حيث يؤخرون إلى المحطات التي تكون خارج جدة، ومن فعل فإنه يلزمه الدم.
    قال بعض العلماء : لو أنشأها في بيته لا يخرج من بيته إلا وهو مُحرِم، ولو أنشأها من مسجد فإنه لا يخرج من ذلك المسجد حتى يحرم، فيغتسل ويتهيَّأ وينوي من ذلك الموضع، ولا يؤخِّر إلا إذا كان سيذهب إلى بيته وهو أبعد، كأن يكون المسجد مثلاً في طرف جدة من جهة مكة وبيته في داخل جدة، حينئذٍ يذهب إلى بيته ويغتسل؛ لأنه ينتقل إلى أبعد ولا حرج.
    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #215
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (215)

    صـــــ(1) إلى صــ(30)




    لكن لو أنه أنشأ النية وهو في مسجد -مثلاً- في طرف جدة من جهة المدينة، وبيته في طرف جدة من جهة مكة؛ فأراد أن يقترب وهو يأخذ بعض الأحيان عشرة كيلو وهو ناوٍ للنسك غيرَ مُحرِم به؛ فلا يصح له أن يعقد النية من الطرف الأدنى وقد انعقدت نيته من الطرف الأبعد، لأن السنة نصَّت وقالت: (إحرامه من حيث أنشأ)، وهذا يدل على التأقيت بالموضِع، وأنه لا يجوز له أن يجاوز ذلك الموضع إلى موضع أدنى منه، وأَنَّ من خرج إلى المحطات التي هي خارج جدة؛ يُعتبر مجاوزاً لميقاته ويَلزَمه ما يَلزَم المجاوز لميقاته ولو كان بفرق كيلو واحد بل ولو بنصف كيلو؛ لأنه حينئذٍ خالف النص الذي قيده بالموضِع: (فإحرامه من حيث أنشأ).
    بقي النوع الثالث: وهم أهل مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: ( حتى أهل مكة من مكة )، أي: حتى أهل مكة تكون نيتهم وإحرامهم من مكة، هذا في الحج، وجاء ما يُبَيِّن الحكم في العمرة وذلك بأمره عليه الصلاة والسلام لـ عائشة أن تخرج إلى الحل، ولذلك تقول عائشة في الرواية عنها: (والله ما ذكر التنعيم ولا غيره)، ولكنها طلَبَت التنعيم لأنه أرفق بها، والأصل أنه يخرج إلى أدنى الحل حتى يجمع بين الحِل والحَرَم.
    وبناءً على حديث عائشة أنت بين أمرين: إما أن تقول عائشة من أهل المدينة وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تخرج إلى الحل، فيكون دليلاً على أن أهل المدينة يجوز لهم أن يتركوا ذا الحليفة وأن يحرموا من طرف مكة وأن يدخلوا مكة مُحرِمين، وهذا لا قائل به وهو خلاف السنة، فإما أن تقول إن عائشة آفاقية، وإما أن تقول إنها مَكِّية، وليس هناك فرضٌ ثالث، فأصبَحت إما مَكِّية وإما آفاقية.
    فلما أَمَرها أن تخرُج إلى الحِل فهِمْنا من هذا أن العمرة يُجمع فيها بين الحل والحرم، بخلاف الحج فإنه لو أحرم من الحرم سيخرُج إلى عرَفات، وهي خارج حدود الحرم فيجمع بين الحل والحرم في نُسُكه.
    فالحج يكون إحرامه من حيث أنشأه، واستُثْنِيَت العمرة لورود النص عنه عليه الصلاة والسلام في عائشة تنبيهاً من الشَّرع.
    ولذلك يقول بعض العلماء: لولا حديث عائشة لأشكل الأمر في عمرة المكي -هذا على القول بأن المكِّي لا يعتمر-؛ لأنه لو كان يُحرِم من مكانه وموضعه كان الأفضل له أن يطوف بالبيت، وهذا الذي جعل بعض علماء السلف كـ عطاء وغيره لا يرى لأهل مكة أن يعتمروا؛ لأنهم يرون أن عمرتهم أن يطوفوا بالبيت؛ لأنه إذا كان يُحرِم من نفس مكة فالأفضل بدل أن يذهب إلى بيته وأن ينوي من بيته ويرجع هذه الخطوات، الأفضل أن يقضيها وهو يطوف بالبيت.
    ولذلك قال: لا أدري هؤلاء الذين يذهبون إلى التنعيم -يعني يتكلَّفون الذهاب إلى التنعيم والخُطَى إلى التنعيم- هلا جعلوا هذه الخطى في الطواف بالبيت! فهذا أفضل وأكمل؛ لأن المقصود من العمرة أن يزور البيت وأن يطوف بالبيت.
    فهذا هو وجه تشديد بعض السلف في عمرة المكي، وهو يَقْوَى على مَذْهَب من يقول إن المكي يُحرِم من نفس موضعه من مكة، وهو قولٌ ضعيف، لكن لما أَلحَّت عائشة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم -وكان لا يرد سائلاً سأله بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- أَذِن لها، وهذا الإلحاح من عائشة كان فيه خير للمسلمين، فقد بَتّ في هذه المسألة، وبيَّن أن المكِّي إن نوى العمرة فإنه ينويها من الحِل، ولو قلنا: إن المكِّي لا يعتمر فإنه قد يعتمر ويُشرع له أن يعتمر، كأن يريد أن يعتمر عن أبيه؛ لأنه حينئذٍ يخرج إلى الحل.
    فحتى عند من يقول إن المكي لا يعتمر فقد تكون عمرة عن الغير، فيُحتَاج إلى أن يُعرَف ما ميقاته، فهو يقول: لولا حديث عائشة لأشكل الأمر.
    يعني: كيف أن المكي يُحرِم من موضعه، فيستوي حينئذٍ هو والطائف، فيمكن أي شخص وهو يطوف بالبيت أن ينويها عمرة وهو مكي.
    ولكن لما جاء حديث عائشة وأمرها أن تنزِل إلى حدود الحِل؛ دلّ على أن المكِّي في عمرته لا بد أن يجمع بين الحِل والحرم، كما أنه في نسك الحج قد جمع بين الحل والحرم.
    فهذا بالنسبة للثلاثة الأنواع، من كان آفاقياً، ومن كان دون المواقيت وليس من أهل مكة، ومن كان داخلاً في حدود حرم مكة.
    يستوي في المكي أن يكون من أهل المساكن -هذا في القديم- أو ضواحي مكة التي لا تخرج عن حدود الحرم، لأنه في القديم كان هناك المساكن، وهي مكة القديمة التي هي بمساكنها، وكان الإنسان إذا وصل إلى قبور المعلاه لم يجد مساكن، ويبدأ في مُنْقَطَع الطريق، ولذلك يقولون: أهل مكة ومن في حكمهم ممن هم داخل الحرم.
    أما يومنا هذا تكاد تكون مكة ممتلئة، ولهذا يقول العلماء أهل مكة وذي طِوى، وهو الوادي المعروف الذي يسمى الآن بالزاهر، فهذا الوادي كان قديماً فيه زروع ومساكن فكانوا يقولون: أهل مكة ومن في حكمهم ممن هم داخل حدود الحرم .
    ميقات الحج الزماني وأحكامه
    قال رحمه الله: [وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة].
    بعد أن فرغ رحمه الله من بيان ميقات الحج المكاني، شَرَع في بيان ميقات الحج الزماني، وميقات الحج الزماني دلّ عليه الكتاب في قوله سبحانه: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [البقرة:197]، وحَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداءً، فقال عليه الصلاة والسلام : ( من صلَّى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا )، وهذا في يوم عيد الأضحى صبيحة يوم النحر، فقوله: ( من صلى صلاتنا هذه )، يعني بمزدلفة ( ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه وقضى تفثه )، فكأنه جعل ميقات الزمان ينتهي بطلوع الفجر من صبيحة اليوم العاشر، وفي الحقيقة عشرٌ من ذي الحجة ليست بكاملها داخلة في الميقات؛ لأنه لو أحرم بعد طلوع الفجر الصادق في يوم العيد لم يصح إحرامه بالحج.
    وهكذا لو أَحْرَم ولكن لم يدرك الوقوف بعرفة لحظةً قبل طلوع الفجر من صبيحة يوم النحر، فحينئذٍ يتحلَّل بعمرة ويقضي حجه من العام القادم، وعليه دم كما هو قضاء عمر في هبّار بن الأسود لما فاته الحج.
    الشاهد أن هذا الميقات ميقات زماني، وتعبير الفقهاء بذكر عشر من ذي الحجة ليس المراد أنه يمكن أن ينوي الحج في اليوم العاشر؛ لأنه لا يتأتى منه ذلك، لكن هذا من دِقَّة العلماء رحمة الله عليهم.
    فإنه ينتهي اليوم التاسع -يوم عرفة- بمغيب الشمس، فالأصل أن تسع من ذي الحجة تنتهي بمغيب الشمس، لكن لما مَدَّ الشَّرع الموقِف إلى طلوع الفجر دخل اليوم العاشر؛ لكن لم يدخل بكماله، وإنما دخل بصورة مؤقتة محددة معروفة معهودة.
    فكذلك يقولون: وعشرٌ من ذي الحجة، على سبيل التنبيه على ليلة النحر أنها داخلة في الإحرام فيجوز لك أن تُحرِم وأن تقف بعرفة وتكون مدركاً للحج، لا أن العَشر بتمامها وكمالها تُعتبر محلاً للنُّسُك، فهذا لا يقول به أحد.
    لو جاء صبيحة يوم العيد بعد طلوع الفجر وقال: لبيك حجاً لم ينعقد حجه، وهل تنقلب عمرة أو يَفْسُد إحرامه؟ وجهان مشهوران عند العلماء رحمة الله عليهم إذا لم يكن الزمان زمان حج.
    لكن قالوا: عشرٌ من ذي الحجة، لأن كل يوم عشيته في الليلة التي تسبقه.
    فاليوم تسبقه ليلته ثم بعد ذلك النهار، ولكن في يوم عرفة يكون العكس، حيث يكون النهار ثم بعد ذلك عشية عرفة، وهذا الذي دعا بعض العلماء أن يقول: رمي الجمار يستمر في أيام التشريق إلى طلوع الفجر، فسَحَب الليالي فجعل ليلة الحادي عشر لما بعد، لأن ليلة النحر تكون في ليلة التاسع حكماً، ولذلك صَحّ فيها الإحرام، ثم في يوم العيد ترمى جمرة العقبة إلى طلوع الفجر من صبيحة الحادي عشر وحينئذٍ كأنك سحبت ليلة الحادي عشر إلى العاشر، ثم تسحب ليلة الثاني عشر للحادي عشر، وتسحب ليلة الثالث عشر للثاني عشر، هذا بالنسبة لمن يقول بأن الرمي يستمر إلى طلوع الفجر، فكأنهم رأوا أن استمرار الوقوف إلى طلوع الفجر صبيحة يوم النحر يقوي هذا، وهذا هو السر في قول العلماء وعشرٌ من ذي الحجة فهذا بالنسبة لابتداء الحج.
    وانتهاء الحج له ميقات آخر: شوال وذو القعدة وذو الحجة بمعنى أنه إذا طاف طواف الإفاضة قبل مغيب شمس آخر يوم من ذي الحجة فإنه لا فدية عليه؛ لأن الركن وقع في الميقات الزماني، وأما إذا أوقعه بعد مغيب شمس آخر يوم من ذي الحجة؛ فحينئذٍ يكون أشبه بالقضاء ويَلزَمه دم جبران لهذا النقص.
    فحينئذٍ إذا قالوا أشهر الحج: شوال وذي القعدة وعشر من ذي الحجة؛ فقَصْدُهم الابتداء أي: الدخول بنية النسك، وإن أرادوا التمام والكمال أي: إتمام المنسك يقولون: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
    فيقع بعض الأحيان لبس، حتى إن بعض طلاب العلم قد يستغرب يقول: كيف يقولون إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة كاملة؟ وكيف يُقال إنها شوال وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجة؟ فوجهها أنه تارةً يُؤقَّت الحج ابتداء، وتارةً يؤقَّت الحج انتهاءً.
    وفائدة الخلاف فيمن أَخَّر طواف الإفاضة؛ لأن بعض العلماء يرى أنك إذا قلت: عشر من ذي الحجة تأقِيتاً، أنه يلزم أنه لو طاف طواف الإفاضة في اليوم الأول من أيام التشريق لزمه دم؛ لأنهم يرون أنه لا بد من إيقاعه في يوم النحر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَوقَعه في يوم النحر، وحينئذٍ يرونه تأقِيتاً وإلزاماً بيوم النحر .
    الأسئلة
    حكم من أحرم بعد الميقات ثم عاد إلى الميقات وأحرم


    السؤال
    من أحرم دون الميقات ثم عاد إلى الميقات فماذا يفعل؟


    الجواب
    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصبحه ومن والاه.
    أما بعد: من أحرم دون الميقات ثم رجع إلى الميقات وأحرم وجدَّد النية للعلماء فيه قولان: القول الأول: أنه لا يسقط عنه الدم وأن إحرامه انعقد من دون الميقات، وحينئذٍ لا يفيده الرجوع شيئاً، ولا يُسقِط عنه الدم سواءً كان ناسياً أو متعمداً.
    فلو نَسي وبعد أن جاوز الميقات تذكَّر فأَحرَم ثم رَجَع، أو قَصَد أن يجاوز الميقات فأَحرَم مُجَاوزاً للميقات، ففي كلتا الحالتين يلزمه الدم رجع أو لم يرجع، وهذا هو الصحيح؛ لأنه نوى وقد لزمه الإحرام بالنية؛ لأنه إذا لبَّى ونوى فقد دخل في النسك إجماعاً، فحينئذٍ يكون رجوعه بعد انعقاد الإحرام، وانعقاد الإحرام كان بعد الميقات، وبناءً على ذلك يلزمه الدم، ولا يفيده الرجوع شيئاً؛ لأنه لا يرفع الثابت، بدليل أنهم حكموا بكونه محرماً، والإحرام منعقد بالموضع الذي أحرم منه من دون الميقات.
    فبالإجماع أنه لو مضى لوجهه صح إحرامه، إذاً معنى ذلك أن الإحرام قد انعقد وأن الرجوع لا يغني شيئاً، وإذا كان الإحرام منعقداً فالإخلال موجود، فيكون رجوعه لما بعد ذلك لا يرفع الثابت والباقي، فلزِمه الدم من هذا الوجه.
    وقال بعض العلماء: إذا رجع ملبياً سَقَط عنه الدم، وهذا القول لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة وهو قول مرجوح، والصحيح أن الدم لا يَسقط بأي حال ما دام أنه قد أحرم ونوى، سواءً رجع أو لم يرجع، وهو أصح أقوال العلماء.
    والله تعالى أعلم.
    سبب إعمال المسامتة في المواقيت المكانية

    السؤال
    أشكل عليَّ أن المواقيت أماكن خصَّصها الشرع ولكننا نُعمِل المسامته، فهل المسامته من باب القياس؟


    الجواب
    القياس حجة، والشرع اعتَبَر القياس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سأَلته المرأة أن تحج عن أمها قال: ( أرأيتِ لو كان على أُمِّكِ دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى ).
    فجاء رجل فقال: ( يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، قال: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حُمُر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقاً، قال: فأنى كان ذلك؟ قال: لعله نزعها عرق، قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق ) فقاس دفع الشبهة لإسقاط القذف على الحيوان، وهذا قياس صحيح.
    كذلك لما قال عليه الصلاة والسلام: ( أرأيت لو وَضعها في الحرام أكان عليه ورز )، فهذا يدل على القياس.
    فالشاهد أن الشَّرع يعتبر القياس حجة، والرجل هنا في منطقة لا يستطيع أن يمر فيها بذي الحليفة، ولكنه يُسامِت ذا الحليفة تماماً، فحينئذٍ نقول: حكمه حكم من مرّ بذي الحليفة يَعتَبِر المسافة التي تسامت.
    ألسنا نقول: إنه إذا ركب الطائرة وركب السيارة أنه بمجرد المحاذاة يلبِّي؟ فالمحاذاة كالمسامته لا يوجد فرق ما دام أنه في نفس الجهة، فكأن الشرع قصد أن لا يمر من هذه الجهة إلا وقد أَحرَم، فيكون العبرة بالسمت والجهة، وحينئذٍ نقول بالسمت لأن الشرع يشهد له.
    وهذا نظر صحيح وقياس صحيح، فتصوَّر الآن لو أن الشَّرع أَراد أَن يُحدد المواقيت فهو -بالقسمة العقلية والفرض العقلي كتشريع- بين أمرين.
    مثلاً: بالنسبة للمدينة ميقاتها ذو الحليفة، وهي تبعد عن مكة عشر مراحل لعشرة أيام، فبالنسبة للأربعمائة كيلو التي بين مكة وذي الحليفة، فهو فيها بين أمرين: إما أن يحدد جهة المدينة ثم يذكر ما يسامت جهة المدينة من القرى والمنازل، فيأتي النص من النبي صلى الله عليه وسلم يُعدِّد هذه القرى والمنازل ويقول: المواقيت ذو الحليفة وكذا وكذا وكذا وكذا، حتى يذكر جميع القرى التي تسامتها.
    الطريق الثانية أن يقول: يلزم هؤلاء الذين يأتون من الجهات البعيدة أن يذهبوا ويتحولوا إلى المدينة، وحينئذٍ كأنه يقول: لا يصح إحرام لأهل المدينة ومن كان بجوارهم أو من سامتهم إلا من ذي الحليفة، والنص لم يأت بهذه الصفة، بل وَقَّتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، وسَكَتَ عن غيرهم حتى يَجتَهِد العلماء فيثابوا على اجتهادهم، فنزَّلوا غير المنصوص عليه على المنصوص عليه، وأَلَحَقوا المسكُوت عنه بالمنطوق به، ورأَوا أن الشَّرع نبَّه بهذا على هذا، وحينئذٍ يكون الحُكم واحداً، وتطمئن النفس إلى أنهم يأخذون حكم أهل المدينة.
    وبناءً عليه فإننا نقول: مَن سَامَت المدينة يَعْتَبِر سَمْتَ ذي الحليفة إذا كان في الطريق على السَّمْت.
    لكن لو كان في جهة غير جهة المدينة، مثلاً: المدينة واقعة شمال مكة، فهو في شمالٍ منحرف إلى الشرق -شمال شرق- ولكنه لا يمر بميقات المشرق؛ فحينئذٍ نقول له: أنت بين أمرين، إما أن يكون تدخل على محاذاة سمت المدينة فتُحِرم عند دخول الطريق، مثل الذين هم في شرق الخط السريع (خط المدينة) كالمَهْد فنقول: لا يلزمك الإحرام ما لم تدخل في الخط حتى تكون بسمت أهل المدينة فيلزمك حينئذٍ أن تُحرِم بدخولك، لقوله عليه الصلاة والسلام: ( فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ).
    أما إذا كان على نفس السمت كاليتمة ووادي الفُرْع ونحوها، فقد بيَّنا حكمه وأنه يحرم من موضعه، والله تعالى أعلم.
    ميقات أهل الطائف

    السؤال
    هل ميقات وادي مَحْرَم مسامت لقرن المنازل؟ وأهل الطائف بالخيار بأن يحرموا من قرن المنازل أو وادي مَحْرَم؟


    الجواب
    نعم هم يقولون أنه بالمحاذاة، خاصة بالمراحل على التقدير القديم أن المرحلة مسيرة يوم وليلة، وفي حكم بُعْد قرن المنازل وذات عرق عن مكة، وهؤلاء يعتبرون بالسمت والمحاذاة، فإن شاءُوا أحرموا من وادِي مَحْرَم وإن شاءوا أحرموا من السيل، ولكنهم إن أحرموا من وادي مَحْرَم فإنه ينعقد إحرامهم ويصح.
    والله تعالى أعلم.
    حكم تجديد الإحرام عند الميقات لمن أحرم قبل الميقات

    السؤال
    ذكرتم أن من أَحرم قبل الميقات فإنه يجدد إذا مر بالميقات، فهل التجديد واجب؟


    الجواب
    التجديد لازم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت، وهذا التأقيت على سبيل التحديد، وفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( خذوا عني مناسككم )، فأقته وحدده، ولا يصح أن يمر بالميقات دون أن يجدد نيته بالإحرام بالعمرة والحج أو بهما معاً، والله تعالى أعلم.
    ميقات من خرج إلى الطائف بعد أن نوى الحج في مكة

    السؤال
    رجل نَوَى الحج من مكة ثم خرج إلى الطائف لزيارة أهله ثم أحرم من ميقات أهل الطائف ماذا عن هذا الإحرام؟


    الجواب
    أن المكي إذا نوى الحج ثم انطلق إلى الطائف فيجب عليه أن يحرم من ميقات أهل الطائف، والسبب في ذلك أنه يتمحَّض سفره الثاني للنسك وقد مر بالطائف فأخذ حكم أهلها، فيلزمه حينئذٍ أن يحرم من ميقات أهلها، وهكذا لو خرج إلى المدينة أو إلى جدة، فإنه يلزمه أن يُحرِم من ميقات المدينة أو أن يحرم من جدة؛ لأنه لا يصح منه أن يدخل إلى مكة بعد هذه النية إلا وقد أَحْرَم بالنسك الذي أراده.
    والله تعالى أعلم.
    حكم من أحرم من الميقات ثم رجع إلى دون الميقات لعذر

    السؤال
    هذا سائل يعرض مسألةً وقعت له: وهو أنه قَدِم من القصيم بالطائرة وأحرم فيها لما حاذى الميقات، لكن الطائرة لم تستطع الهبوط في جدة نظراً للأحوال الجوية وهبطت في المدينة، فماذا يفعل؟


    الجواب
    من أحرم ثم رجع إلى دون المواقيت فلا يزال مُحْرِماً وحينئذٍ يبقى بإحرامه، وإذا رجع إلى مكة يرجع بالإحرام الأول ولا يلزمه إحرام ثانٍ، ولذلك قلنا: إن من أحرم دون المواقيت ورجع ثانية لم يسقط عنه الدم، وهكذا الحال بالنسبة لمن أحرم فطرأ عليه العذر فرجع، فإنه لا يزال متلبساً بالإحرام الأول.
    أما الدليل على كونه لا يزال متلبساً فظاهر قوله سبحانه: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196]، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أنه لما مر بالميقات في السفر الأول ونوى انعقدت نيته وصحت وثبتت، فتوجه عليه خطاب الشرع أن يُتِم هذا الحج ويتم هذه العمرة لله، فحينئذٍ لا تدخل عمرة ثانية ولا تدخل حجة ثانية، أي: لا تدخل نية عمرة وحجة ثانية فوق النية الأولى، بل يبقى بإحرامه الأول، ورجوعه إلى دون المواقيت لا يضرُّه بشيء.
    والله تعالى أعلم.
    ميقات من نوى أن يحج عن غيره نافلة

    السؤال
    هل يلزم من حج عن غيره نافلة أن يرجع من حيث فُرِض عليه الحج، أم يختص ذلك بالحج في الفريضة؟


    الجواب
    يختص ذلك بحج الفريضة أما بالنسبة للنافلة فإنه من حيث أنشأ، والسبب في ذلك أنه إذا نوى أن يحج عنه نافلة فمن حيث أنشأ نيتَه، فأصبحت النية بالنسك ناشئة بخلاف النية المستقرة في الذمة، فإنه إذا مات وقد قصَّر في حجه من المدينة فقد توجه عليه خطاب الشرع أن يحج من المدينة، وحينئذٍ يلزم من حج عنه أن يحج من ميقات المدينة ولا ينتقل إلى ما دون ذلك.
    والله تعالى أعلم.
    المعتبر في محرم المرأة في السفر

    السؤال
    ما مقدار السن المعتبر في المحرم حتى يصح للمرأة أن تسافر معه؟


    الجواب
    العبرة في المحرم في السفر أن يكون قوياً على الدفع، أما إذا كان عاجزاً ومن الحُطَمة الذين لا يدفعون فهذا يُفَوِّت مقصود الشرع، فمثلاً لو كان مشلولاً فمثل هذا بعض العلماء يعتبره محرماً للسفر لكنه يُفَوِّت مقصود الشرع، قالوا: فلو سافرت بصبي صغير لا يَدْفَع فإنه لا يُعتَبر محرماً موجباً لحل السفر، والسبب في ذلك أن مقصود الشرع من وجود المحرم أن يدفع عنها، فإذا كان صغير السِّن وهو الذي دون البلوغ فإن وجوده وعدمه على حد سواء.
    ولا بد أن يكون المحرم من الرجال، ويكون قادراً على الدفع، بحيث لو طرأ على المرأة من يؤذيها أو يتعرض لها، أو تعبت المرأة واحتاجت إلى معونته أو أن يحفظها؛ فإنه يكون جلداً قوياً على ذلك أما إذا كان مشلولاً أو كان صغيراً فهذا وجوده وعدمه على حد سواء، ولا بد من وجود المحرم الذي يدفع، وعليه فالصغير لا يجزئ بالحج والنسك إذا لم تجد غيره ولا بد أن يكون المحرم بالغاً قادراً على الدفع عنها؛ لأن مقصود الشرع هو حصول دفع الضرر عن المرأة.
    والله تعالى أعلم.
    حكم كون المرأة محرماً للمرأة في السفر للحج

    السؤال
    ما حكم سفر العمة مع ابن أخيها وأن تصطحب معها بناتها، فهل تعتبر الأم بمثابة المحرم لبناتها وذلك في رفع الحرج ومشروعية السفر، ومثل ذلك سفر الزوجة مع زوجها بصحبة أختها ونحو ذلك؟


    الجواب
    نعم الأم تكون محرماً لبناتها إذا انقلبت ذكراً ورجلاً! كيف ندخل هذا في هذا؟! فالمحرم لا يكون إلا رجلاً فهذا من غرائب ما يكون عند بعض العامة، يقولون: يسافر مع عمته ومعها بناتها، فالأم محرم لبناتها وهو محرم للعمة، وهذا لا شك أنه من غرائب ما يكون من الفقه، ولم يقل أحد بهذا؛ لأن المرأة لا تكون محرماً للمرأة، المراد وجود الرجل: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم )، ما قال (ذات)، فإذا انقلبت الأم ذكراً فنعم.
    أما ما ذكره السائل فلا يقول به أحد، ولا يعتد به أحد، وقد انتشر عند بعض الناس اليوم أن المرأة للمرأة محرم، تسافر الزوجة ومعها أختها أو بنت أختها، فالزوجة محرم أختها أو بنت أختها، والزوج محرم للزوجة، على هذا يصح أن تسافر مائة امرأة وكل امرأة معها امرأة محرم، يعني يجوز لها أن تنكشف عليها وتصافحها وتكون معها، ثم يسافرون بذكر واحد محرم لواحدة، وتكون بقية النساء كل واحدة محرم لمن معها، هذا ما يقول به أحد.
    وعلى العموم فلا بد من وجود الذكر، الرجل مَحْرَم لعمته وأما بنات العمة فأجانب، ولا يصح سفرهن مع أمهن إلا بوجود أخ أو بوجود محرم منهن.
    والله تعالى أعلم.
    حكم من اعتمرت ونسيت التقصير وهي متزوجة

    السؤال
    امرأة اعتمرت ونسيت أن تُقَصِّر ولم تذكر إلا بعد أسبوعين وهي متزوجة، فماذا تفعل؟


    الجواب
    من أحرم بالعمرة أو الحج ولم يتحلل ونسي أن يُقَصِّر ففي العمرة لا يزال متلبساً بمحظورات الإحرام حتى يتحلل كما سَنَّ الله عز وجل وشرع، فإذا تركت المرأة التحلل ناسية ثم أصابت المحظورات تفرع الحكم على الوقوع في المحظورات نسياناً، فما كان منها لا ينجبر كقص الأظافر وقص الشعر ونحو ذلك فهذا تلزم فيه فدية، وما كان منها منجبراً كالطيب يُغسل ويُزال فحينئذٍ يسقط بالنسيان على القول بأن النسيان يُنَزَّل منزلة الجهل لحديث الجعرانة.
    فعلى هذا لو جامعها زوجها فسَدَت عمرتها، وتُقَصِّر حتى تخرج من العمرة الأولى وتتحلل؛ لأن العمرة الفاسدة تُتَم؛ لأنه إذا وقع الجماع قبل التقصير فإنه يُفْسِد العمرة، ويدخل في ذلك أن تكون ناسية له أو متعمدة له، لأنها لا تتحلل من نُسُكها الذي دخلت فيه إلا بتقصير، وحينئذٍ كونها طافت وسعت لا يُخرِجها من الحرمة التي هي فيها، فإن وقعت إصابة زوجها لها قبل أن تُقَصِّر فإنها حكمها حكم من جامع أهله قبل أن يتحلل من العمرة، فتُتِم العمرة الأولى بالتحلل منها، وقد أجمع العلماء على أن فاسِد الحج والعمرة يُتَم، لظاهر قوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196]، فُتتم هذه العمرة الفاسدة إن جامعها زوجها، ثم تأتي بعمرة بدلاً عن هذه العمرة، ويلزمها الدم جبراناً لوطئ زوجها لها.
    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #216
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (216)

    صـــــ(1) إلى صــ(23)


    شرح زاد المستقنع - باب الإحرام

    شرع الله سبحانه وتعالى الإحرام وجعله نية لنسك الحج أو العمرة، وجعل له أحكاماً وسنناً بينتها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمها: حكم الغسل والطيب قبل الإحرام، والمخيط المنهي عن لبسه للمحرم، واللباس الخاص بالمحرم.
    ومن رحمته تعالى بعباده أن نوّع لهم مناسك الحج لتكون ملائمة لأحوال العباد وقدراتهم، وبيَّن السبيل والطريق للمرأة الحائض إذا خشيت فوات الحج.
    صفة الإحرام
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الإحرام] بعد أن بين لنا المصنف الأحكام المتعلقة بمواقيت الحج والعمرة، ناسب أن يبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتفرع عليه من المسائل والأحكام المتعلقة بالإحرام؛ لأن الإنسان إذا خرج من بيته يريد الحج أو العمرة أو هما معاً، فإنه أول ما يكون من أمره أن يصل إلى الميقات، فبيَّن المؤلف أحكام المواقيت، ثم بعد أن بيَّن ما هي المواقيت شرع في بيان صفة الإحرام، وكيف يدخل الإنسان في نسك الحج ونسك العمرة، فقال رحمه الله: (باب الإحرام).
    والإحرام: مأخوذ من قولهم: أحرم الرجل يحرم إحراماً فهو محرم، إذا دخل في الحرمة، وأحرم الرجل إذا دخل في الحرمات، سواء كانت زمانية كالأشهر الحرم، أو كانت مكانية كحدود حرم مكة والمدينة، فتقول للرجل إذا دخل حدود حرم مكة: أحرم، بمعنى: أنه دخل داخل الحرم، وتقول: هو حرمي، أي: هو ساكنٌ داخل حدود حرم مكة.
    والعرب تقول: أحرم إذا دخل في الحرمات كأنجد إذا دخل نجداً، وأتهم إذا دخل تهامة.
    ومراد العلماء بقولهم (الإحرام): نية أحد النسكين أو هما معاً، إما الحج وإما العمرة، فإن كانت نيته أن يدخل في الحج فهو حاج، وإن كانت نيته أن يدخل في العمرة فهو معتمر، وإن نواهما معاً فهو حاج قارن لحجه.
    يقول رحمه الله: (باب الإحرام) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بكيفية الإحرام والدخول في نسك الحج ونسك العمرة، وذلك أن الدخول في نسك الحج والعمرة يفتقر إلى نية مخصوصة، وينبغي لمن دخل في هذه العبادة -أعني الحج أو العمرة- أن يراعي أموراً فرضها الله عز وجل عليه، وأن يتقي أموراً حرمها الله عليه، وهي التي تسمى بمحظورات الإحرام، فالإحرام كأنه حد للدخول في هذه العبادة.
    أهمية الإحرام والتلبس بنية النسك
    قوله رحمه الله: [الإحرام نية النسك].
    الإحرام -في عرفنا معاشر الفقهاء-: نية النسك.
    أي: نية الدخول في الحج أو الدخول في العمرة أو هما معاً، وليس مجرد كون الإنسان يخرج من بيته للحج والعمرة كافٍ، فقد تخرج من بيتك وأنت تريد الحج والعمرة، ولكن لا يحصل بهذه النيةِ النيةُ المعتبرة، ولا يقال: إنك محرم.
    مثال ذلك: لو كنت في المدينة أو في الرياض فخرجت من المدينة إلى ذي الحليفة، فإنه منذ خروجك من بيتك قبل الميقات وأنت ناوٍ للحج أو العمرة أو هما معاً فليست هذه نية، ولكن الدخول لا يكون إلا في الميقات، وحينئذٍ يصدق عليك أنك قد تلبست بالنسك.
    حكم الغسل للإحرام
    قوله: [سن لمريده غسل أو تيمم] أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل، فأول ما يبدأ به الإنسان إذا أراد الحج أو العمرة أن يغتسل لحجه أو عمرته؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه اغتسل في الوادي المبارك، وهو وادي العقيق، وهو الذي يسميه الناس اليوم بوادي عروة، وموضعه أبيار علي، فاغتسل في ذي الحليفة، وقد طاف على نسائه صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك تطيب واغتسل وتنظف صلوات الله وسلامه عليه.
    والسبب في الاغتسال: أن الإنسان إذا دخل في الحج والعمرة قد تمضي عليه أيام وهو متلبس بهذه العبادة ولا يتطيب، ولا يقلم أظافره ولا يقص شعره، فهو مظنة الشعث، ولذلك جاء في الأثر: ( انظروا إلى عبادي، أتوني شعثاً غبراً )، خاصة في الأزمنة القديمة، حيث كان بين ميقات المدينة وبين مكة ما يقرب من عشر مراحل يسيرونها عشرة أيام بالإبل، وحينئذٍ يتضرر ويتضرر من معه، ويتضرر الناس من حوله، وإذا شهد الجماعات أو الصلاة مع الناس آذاهم برائحته وببخره، ولذلك سن له أن يغتسل.
    وهذا الاغتسال في حق الحائض والنفساء آكد، حتى ذهب جمع من العلماء رحمة الله عليهم إلى أنه يجب عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، والسبب في ذلك وجود القذر كما سيأتي -إن شاء الله- ذكره.
    فيسن للمحرم أن يغتسل فيزيل ما يعلق ببدنه من الروائح الكريهة والأوساخ، فيكون طيباً في بدنه، ويدخل لهذه العبادة على أتم الصفات وأكملها.
    قال بعض العلماء: كأن الإنسان إذا أراد الحج أو العمرة ونزل في ميقاته، وأراد أن يغتسل وتجرد من مخيطه؛ يتذكر حينما يجرد من الدنيا ويخرج منها صفر اليدين إلا من رحمة الله عز وجل، فحينما يغتسل لإحرامه ويتجرد وهو بقوته واختياره كأن هذه بداية العظة له، إذ يتذكر حينما ينزع من الدنيا وينزع من بين أهله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
    قوله: [أو تيمم لعدم] إذا لم يستطع الاغتسال لمرض أو لعدم وجود الماء، أو كان الزمان بارداً شديد البرد، ولا يستطيع أن يدفئ الماء، أو يستطيع أن يدفئ الماء ولكنه يخشى إذا اغتسل ولبس ثياب الإحرام أن لا يحسن الاستدفاء، فحينئذٍ يعدل إلى التيمم، وهو أحد قولي العلماء.
    وقال بعضهم: لا يتيمم؛ لأن المقصود من الغسل النظافة، والتيمم لا ينظف، حساً، بخلاف ما إذا اغتسل فإنه ينقي بدنه، ولكلا القولين وجه، فمن تيمم فلا حرج عليه، ومن ترك التيمم فلا حرج عليه.
    كيفية التنظف للإحرام
    قوله: [وتنظف] التنظف يكون بتقليم الأظفار، وقص الشعر من رأسه إذا كان يخشى طوله، وهكذا بالنسبة للشعر الذي يكون في بدنه، فينتف إبطه ويحلق عانته، ونحو ذلك من الأمور التي يتهيأ بها البدن على أحسن وأفضل الهيئات وأكملها؛ تشريفاً لهذه العبادة وتأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
    حكم التطيب للإحرام
    قوله: [وتطيب]: أي: يسن له أن يتطيب، والطيب: ما طاب ريحه، وسمي الطيب طيباً لطيب رائحته، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أطيب الطيبين بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، طيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها في حله قبل حرمه، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت، فدل على أن السنة لمن أراد أن يحج أو يعتمر أن يتطيب.
    مسألة: هل يضع الطيب في بدنه قبل الغسل أو بعد الغسل؟ أجمع العلماء على أنه يجوز للإنسان أن يتطيب في بدنه قبل الغسل، ثم إذا غسل بدنه فإن بقي شيء من الطيب؛ فإنه مغتفر بإجماع العلماء، ولكن الخلاف فيما لو اغتسل ثم تطيب قبل أن ينوي، أي: قبل أن يدخل في النسك.
    فمذهب الشافعية والحنابلة وأهل الحديث أن من السنة أن يغتسل ثم يضع الطيب في بدنه، ولا بأس أن يكون الطيب في شعره أو صدره أو مغابنه.
    وذهب المالكية والحنفية إلى أنه يتطيب أولاً ثم يغتسل، فإن بقي بعد غسله شيء فهو مغتفر، وعلى هذا فإن أصحاب القول الثاني لا يجيزون أن يتطيب بعد الغسل، وكأنهم يرون أنه مغتفر بعد غسله.
    والصحيح أنه يجوز أن يتطيب قبل الغسل وبعده؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها كما في صحيح مسلم قالت: ( طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه ) وهذا يشمل ما بعد الغسل وقبل النية.
    ثم إذا وضع الطيب في بدنه فإن كان في أعالي البدن كالرأس، أو في المواضع التي لا يحتك بها الثوب فلا إشكال، ولا حرج عليه أن يبقى أثر الطيب في بدنه، كأن تبقى صفرة الطيب في شعره، أو على صدره أو نحو ذلك؛ وذلك لأن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: ( كنت أرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله عليه وسلم وهو محرم ) -أي: لمعان الطيب- لأنه كان يفرق شعره نصفين، وقيل: مفرقه في أصل الشعر، فدل على أنه يجوز أن يبقى الطيب بعد الغسل وبعد النية، ولكن إذا سقط شيء من هذا الطيب وعاد إلى البدن بعد سقوطه، فحينئذٍ قال بعض العلماء: تلزمه الفدية.
    أما لو تطيب في صدره وعلق الطيب بثوب الإحرام -الذي هو الرداء- أو تطيب على أسفل بدنه ومغابنه فتعلق بالرداء، فحينئذٍ إن كان الرداء باقياً عليه ولم ينزعه فلا إشكال، ولكن إذا نزع الرداء عنه فإنه لا يعيده مرة ثانية؛ لأنه يغتفر استصحاباً ما لا يغتفر استئنافاً، لكن لو خلع الرداء المطيب عنه ثم أراد لبسه فكأنه يلبس بعد إحرامه ثياباً مسها الزعفران والورس، هذا عند من يقول: يغتفر إصابة الطيب للثوب، لأنه لما رئي على رسول الله صلى الله عليه وسلم دل على جواز أن يكون في ثوب الإحرام.
    ولكن الأحوط والأكمل أن يتحفظ من إصابة الطيب لثوبه؛ لأنها رخصة جاءت في البدن، فلا يقاس غير البدن عليه، وعلى هذا: فإنه إذا أصاب ثياب الإحرام الطيب فإن الأحوط له أن يغسله، وأن يخرج من العهدة بيقين ويستبرئ لدينه، فهذا أكمل.
    لكن من قال من العلماء إنه يغتفر ورأى فيه المسامحة قياساً على ما في البدن، فحينئذٍ يفرقون بين أن يكون الرداء على الإنسان، وبين أن ينزعه ثم يلبسه، فإنه إذا لبسه فكأنه يلبس ثوباً مسه الطيب.
    والدليل على أنه لا يجوز له أن يلبسه بعد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام للرجل لما لبس الجبة وعليها الطيب: ( انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ) وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما-: ( ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس ) فدل على أنه يتقي في ثيابه أن تصيب الطيب، والرخصة في البدن، وأما الثياب فإنه لم يرد التصريح بالرخصة فيها.
    حكم لبس المخيط للمحرم
    قوله: (وتجرد من المخيط) المخيط هو الذي يحيط بالبدن، فالقميص يعتبر مخيطاً؛ لأنه يحيط بصدر الإنسان ويحيط بيده، ولذلك قالوا: قد يكون المخيط مخيطاً ولا خيط فيه، فلو أخذ رداء الإحرام وعقده بشوك فأحاط بالبدن حتى صار كيد الثوب فهو مخيط؛ لأنه محيط بالبدن، فالعبرة بالإحاطة بالبدن، لا بعدم وجود خيط، ولذلك كانت العمامة في حكم المخيط؛ لأنها تحيط بأعلى الرأس، مع أنها ليست مخيطة، مما يدل على أن المراد: الإحاطة بالعضو.
    أما بالنسبة للدليل على أن المحرم لا يلبس المخيط -أي: المحيط بالبدن جزءاً أوكلاً-: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله الرجل فقال: ( يا رسول الله! ما يلبس المحرم؟ قال: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف ) وهذا الحديث إذا تأملته وجدت كمال بلاغته عليه الصلاة والسلام، وما أوتي من جوامع الكلم! فإنك إذا تأملت هذا الحديث وجدت أنه نهى عن العمامة: والعمامة تكون غطاء لأعلى الرأس، ثم (القميص): وهو يكون للصدر وأعلى البدن، ثم (السراويل): وهي لأسفل البدن، ثم (البرانس): وهي التي فيها غطاء الرأس وغطاء جميع البدن، فكأنه بهذا يمنع المخيط الذي يحيط بالبدن أجزاءً أو كلاً، فجمع قوله: ( لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ) بين تغطية أعلى البدن وأوسطه وأسفله، ثم جاء بما يجمع الكل فقال: (ولا البرانس)، وهو جمع برنس، ولذلك قالوا: يحظر عليه أن يلبس ما يحيط بالبدن ولو لم يكن له خياطة، وهو مخيط إذا أحاط بالبدن.
    والإحاطة بالبدن جزءاً كأن يحيط بيده أو برجله كما في السراويلات ونحوها، فعلى المحرم أن يتجرد من السراويل، والفنايل التي تسمى بهذا في زماننا، وهي سترة الصدر، وكذلك يتجرد من القمص وما في حكمها مما يسمى اليوم بالكوت أو نحوه؛ لأنه يستر أعالي البدن، فجميع ذلك يلزمه أن يتجرد منه، ويتجرد مما يغطي الرأس من العمائم والغتر والأشمغة، وهكذا بالنسبة للطواقي ونحوها فإنها غطاء للرأس، فيتجرد من جميع ذلك.
    مسألة: لو كان الإنسان في طائرة، وعنَّ له وهو قادم من الرياض -مثلاً- أن يحرم بالعمرة، ولكن ليس عنده إزار يستر أسفل بدنه، وليس باستطاعته أن يتجرد، فحينئذٍ يجوز له أن يلبس السروال، ويكون السروال عوضاً عن الإزار؛ لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في يوم عرفة وقال: ( السراويل لمن لم يجد الإزار ) فحينئذٍ يتجرد من المخيط إلا إذا لم يجد ما يستره؛ فيجوز له أن يستتر بالمخيط حتى يجد غير المخيط، وهذا من كمال الشريعة ومن رحمة الله عز وجل بعباده، وهو من اليسر الذي بعث به نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
    لباس المحرم
    قال رحمه الله: [ويحرم في إزار ورداء أبيضين] كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: ( خير ثيابكم البيض ) وقال: ( كفنوا فيها موتاكم ) ، وثبت في الصحيح عنه أنه كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، وقد قالوا: إن إحرام الإنسان كالكفن، فمن هنا استحب جماهير العلماء رحمة الله عليهم البياض في إحرام الإنسان.
    لكن لو لم يجد إزاراً ورداء أبيضين، ووجد إزاراً ورداءً بلون آخر، فلا حرج أن يلبسه ولا عتب عليه، فالبياض من باب الأكمل والأفضل، ولكن إذا وجد الأبيض وغيره فإنه يستحب له أن يتحرى الأبيض؛ لما فيه من تحري السنة ولأنه خير ما لبس من الثياب.
    حكم صلاة ركعتين قبل الإحرام
    قال المصنف رحمه الله: [وإحرام عقب ركعتين] أي: والسنة أن يحرم عقب الركعتين، وهذا من ترتيب الأفكار، وهو يقول لنا: أولاً يتجرد من المخيط في ثيابه، ثم بعد ذلك يغتسل ويتطيب، وهذا بعد أن ينظف بدنه مما علق به، وينتف إبطيه ويحلق عانته، فإذا ما تم هذا كله؛ قال: وإحرام عقب ركعتين.
    فالسنة أن يقع الإحرام عقب صلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بعد الفريضة، ولكن إذا كان الوقت ليس بوقت فريضة فحينئذٍ يغتسل، ثم ينوي ركعتي الوضوء، ويحرم عقب ركعتي الوضوء، وليس للإحرام سنة مقصودة، وإنما يغتسل أو يتوضأ ثم يصلي ركعتي الوضوء لما فيها من الفضل، ثم يحرم بعد ذلك؛ لأن فيه شبهاً بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ بعد الصلاة، وهذا قول جماهير العلماء رحمة الله عليهم.
    وقد جاء في حديث عمر المشهور في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي فقال: أهِلَّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة )، والمعنى: أنه رأى رؤيا وقال بعض العلماء: بل أتاه حقيقة، أي: يقظة وليس بمنام وفي رواية: ( صلِّ في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة ) ولذلك ثبت في رواية الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يمر بهذا الوادي -وادي العقيق- وهو مسافر إلا صلى فيه رضي الله عنه وأرضاه؛ تأسياً بهذه السنة.
    فأحرم عليه الصلاة والسلام عقب الفريضة، وهذا هو هديه، فإذا صلى الإنسان الفريضة وأراد أن يدخل بنية النسك فإنه يدخل عقب الفريضة، ولا يتكلف ركعتين؛ لأن هذا خلاف السنة، بل قال بعض العلماء: لو صلى الفرض ثم قام يصلي ركعتين خاصة لإحرامه فهو إلى البدعة أقرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف الركعتين بعد الفريضة، فلما تكلفهما وخالف هديه بالإحرام عقب الفريضة مباشرة كان هذا خلاف السنة، وكأنه يعتقد فيها مزية فضل، فكان أقرب إلى البدعة من هذا الوجه.
    حكم النية والاشتراط في الإحرام

    قال المصنف رحمه الله: [ونيته شرط].
    أي: أن نية النسك شرط في صحة الإحرام، وقيل: إنها ركن.
    ولا يصح الإحرام ولا ينعقد إلا بنية، فلو أن إنساناً مر بالميقات ولم يوجب الإحرام ولم ينو؛ فإنه لا يصح منه ذلك ولا يجزيه، ولا يزال حلالاً حتى يعود ويحرم من الميقات، فإن أحرم من دونه فعلى التفصيل الذي ذكرناه في مسألة من أحرم دون المواقيت.
    وقوله: [ويستحب قوله: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي، وإن حبسني حابس؛ فمحلي حيث حبستني] هذا اللفظ جاء في حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها، قالت: ( يا رسول الله! إني أريد الحج، وأنا شاكية -يعني: مريضة- فقال عليه الصلاة والسلام: أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني ).
    وللعلماء في هذا الحديث وجوه: الوجه الأول: أن هذا الحديث يعتبر أصلاً عاماً، وأن كل من يريد أن يهل فله أن يقول هذه الكلمة، ويجوز له أن يشترط؛ بل ويستحب له تلافياً لما يطرأ عليه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله.
    الوجه الثاني: أن هذا الحديث خاص بـ ضباعة .
    فهو عكس الوجه الأول، فالوجه الأول يرى أنه عام في الحال وفي الأفراد، سواء وجد عذر أو لم يوجد عذر، والوجه الثاني يقول: هذه قضية عين، والقاعدة في الأصول: (أن قضايا الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم)، ولا يوصف الحديث بكونه قضية عين إلا إذا كان الأصل خلافه، وتوضيح ذلك: أن الأصل في المريض أنه يفتدي إن أصابه المرض، وأنه إذا أحصر ومنع من البيت؛ فإنه حينئذٍ يتحلل كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال الله تعالى: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة:196]، لكنه بالاشتراط يخرج من هذا كله: من الفدية ومن إراقة الدم في الإحصار، فصارت قضية عين من هذا الوجه.
    وتوسط بعض العلماء وهو المذهب الراجح، وبه يقول جمع من الشافعية والحنابلة: أن هذا الحديث مخصوص بالشخص الذي يكون مريضاً قبل الحج أو العمرة، فيكلف نفسه الحج أو العمرة، وكأن الشرع أعطاه بتكلفه مع المرض سعة، أما الصحيح القادر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم على الميقات لم يقل للصحابة: أهلوا واشترطوا، ولا شك أن الاشتراط يخفف عنهم التبعة.
    فكونه يقال: إن كل من أراد أن يحرم يستحب له أن يقول هذا غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به الصحابة، ولو كان سنة ماضية للجميع لأُمِر به الصحابة، والفقه أننا نعتبر كل نص بمورده وطريقته، ونحمل النصوص على مواردها، فلما كان الأصل في الإنسان الصحيح القادر أنه يحرم ويمضي لوجهه، فإن طرأ له عذر يمنعه من البيت صار محصراً، وأحكام المحصر معروفة، وإن كان مريضاً فأحكام المريض معروفة: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة:196] فهذا هو الأصل.
    وأما إذا كان على صفة ضباعة ، أراد الحج وتكلفه وهو مريض، فحينئذٍ يصح أن يشترط، وحينئذٍ نكون قد أعملنا النصوص على وجهها، فأبقينا الأصول كما هي، واستثنينا ما ورد به حديث ضباعة رضي الله عنها وأرضاها، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس: أن الاشتراط لا يكون إلا للمريض على صورة حديث ضباعة ، وهو أعدل الأقوال في هذه المسألة، وأولاها بظاهر الحديث الوارد بالرخصة في ذلك.
    قوله: [ويستحب قول: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي] والمسلم لا شك أنه يدعو ربه في أي عبادة أن ييسر له الخير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيث ما توجهت ) فهذا من نعم الله على العبد أن ييسر له الخير، ولكن في مواطن العبادات لا يستحب شيء إلا بنص، فلا يستحب ذكر مخصوص ولا لفظ مخصوص في موضع مخصوص إلا بدليل يخص هذا اللفظ وهذا الموضع بهذا الذكر، ولذلك الأصل أن يقتصر على النية، فيقول: (لبيك حجاً، لبيك عمرة، لبيك حجاً وعمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: حجة وعمرة ).
    فهذا نص يدل على أنه لا يزاد على هذه النية، ولذلك قال أنس رضي الله عنه: ( ما تعدوننا إلا صبياناً، لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها ) أي: كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه، لأنه كان ربيباً عند أبي طلحة زوج أم سُليم ، و أم سُليم هي أم أنس ، وكانت ناقة أبي طلحة مع ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يكادان يتساويان مع بعضهما، فكان أنس من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول: ( لقد كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرة وحجة ) فهذا يدل على أنه يقتصر على ذكر النسك، وأن في ذلك الكفاية.
    أنواع النسك في الحج ومشروعيتها
    قال المصنف رحمه الله: [وأفضل الأنساك التمتع، وصفته: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه].
    هناك أنساك ثلاثة لمن أراد الحج: فإما أن يفرد فينوي الحج وحده.
    وإما أن يذهب بعمرة في أشهر الحج يتمتع بها، ثم إذا قضى العمرة وانتهى منها تحلل وتمتع، ثم يحرم بعد ذلك بالحج.
    وإما أن يكون قارناً -وهو النسك الثالث- وهو أن ينوي الحج مع العمرة، فيجمع بين نية الحج والعمرة، يقول: لبيك عمرة وحجة.
    وقد أجمع العلماء على مشروعية الأنساك الثلاثة: الإفراد، والقران، والتمتع.
    ودليل هذا الإجماع ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى الميقات قال: ( من أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل ) فخيرهم بين الأنساك الثلاثة.
    وخالف ابن عباس جماهير الصحابة رضوان الله عليهم، ومنهم الخلفاء الراشدون المأمور باتباع سنتهم، فقال رضي الله عنه وأرضاه: (إن من طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وكان لم يسق الهدي؛ فيجب عليه أن يتحلل بعمرة)، وهذا كأنه نسخ للإفراد؛ لأنه إما تمتع بالقران وإما تمتع بالتمتع المعروف، فكأنه نسخ للإفراد، وهي من المسائل التي انفرد بها ابن عباس رضي الله عنهما، وخولف في ذلك من جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم.
    ومن مفرداته التمتع بالنساء، وقوله بجواز ربا الفضل، ونحوها من المسائل التي انفرد بها رضي الله عنه وأرضاه.
    فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي أن يتحلل وأن يجعلها عمرة، فهم رضي الله عنه وأرضاه أن التخيير الذي وقع عند الميقات منسوخ بأمره عليه الصلاة والسلام بفسخ الحج بعمرة.
    وخالفه في هذا الفهم جماهير الصحابة؛ لأن السنة الصحيحة دلت على صحة الإفراد، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه عروة بن مضرس وهو في صبيحة يوم النحر قال: ( يا رسول الله! أقبلت من جبل طيء، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، وما تركت جبلاً ولا شعباً إلا وقفت عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: من صلى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار؛ فقد تم حجه ) وهذا يدل على صحة حج الإفراد؛ لأن عروة كان مفرداً بالإجماع؛ ولم يدرك إلا الوقوف بالليل، فلم يكن هناك عمرة، ولم يستطع أن يتمتع، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ العام، ولم يقل: من كان مثله متأخراً عن الحج يجوز له، ومن لم يكن مثله فإنه يجب عليه الفسخ.
    يتبع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #217
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (217)

    صـــــ(1) إلى صــ(23)


    وقد فهم الصحابة أن إيجاب فسخ الحج بالعمرة خاص، ولذلك قال أبو ذر كما في الرواية الصحيحة عنه: (متعتان لا تصلح إلا لنا أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم: متعة النساء ومتعة الحج)، أي: أن إيجاب فسخ الحج بعمرة كان في ذلك العام للتشريع، وتأكيداً على جواز العمرة في أشهر الحج؛ لأنهم كانوا حديثي العهد بالجاهلية، وكان الناس قد قدموا من كل صوب وحدب، وأقبلوا طائعين للإسلام، فكانوا على ما ألفوه أن العمرة في أشهر الحج فجور، وقالوا: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟! وقالوا: ( يا رسول الله! أي الحل؟ قال: الحل كله ) فلذلك كان الأمر بالعزيمة، وأمروا بفسخ الحج والعمرة، وبقي الأمر بعد ذلك على السعة.
    وقد حج أبو بكر جميع سنوات خلافته وهي سنتان من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها مفرداً، وهذا بإجماع العلماء، كما أن عمر رضي الله عنه وأرضاه في جميع سنوات خلافته -قرابة العشر السنوات- ما حج إلا مفرداً، وكذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه ما حج إلا مفرداً، وهذا على ما كانوا يختارونه، حتى كان عمر رضي الله عنه يرى أن إتمام الحج والعمرة بأن يحرم بهما من دويرة أهله.
    فالمقصود أن هذا وقع في الخلافة الراشدة، وكان أبو بكر رضي الله عنه هو الذي يقيم للناس حجهم، فلو كان الإفراد منسوخاً لما صح حج الناس؛ لأن الخلفاء وهم: أبو بكر و عمر و عثمان رضي الله عنهم كلهم حجوا بالناس مفردين، ولذلك قال العلماء: إن هذا من مفردات ابن عباس رضي الله عنه، وهو مأجور على اجتهاده وما أدى إليه قوله، ولكن قول جماهير الصحابة الموافقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أولى وأحرى، والقول بوجوب فسخ الحج بالعمرة إنما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وأما من عداهم فقد بقي الأمر على التخيير.
    ذكر الخلاف في أفضل الأنساك وأدلته
    قال المصنف رحمه الله: [وأفضل الأنساك التمتع] مسألة: هل الأفضل أن يفرد أو يقرن أو يتمتع؟ قال الشافعية والمالكية: الأفضل أن يفرد.
    وقال الحنفية: الأفضل أن يقرن.
    وقال الحنابلة: الأفضل أن يتمتع.
    ولهم جميعاً حججهم رحمة الله عليهم، فمن قال: الإفراد.
    احتج بأن الأفراد ليس فيه دم الجبران؛ لأنهم يرون أن الدم الذي في التمتع والذي في القران دم جبران؛ قالوا: فكان المفروض على من تمتع بالحج والعمرة أن يرجع بعد العمرة إلى الميقات ويحرم من الميقات، ولذلك لو تمتع المكي سقط عنه الدم؛ لأنه أحرم من ميقاته، وهذا يدل على أن الدم لمكان النقص الذي وقع بين الحج والعمرة بالتمتع أو لكونه لم يرجع إلى الميقات؛ بدليل سقوط الدم عن حاضري المسجد الحرام؛ لأنهم أحرموا من ميقاتهم.
    فقالوا: الإفراد ليس فيه نقص، والتمتع فيه نقص.
    والتمتع بنوعيه: القران والتمتع المعروف، وقالوا: إن أبا بكر رضي الله عنه و عمر و عثمان ، والخلافة الراشدة ظلت أكثر من عشرين عاماً والحج بالإفراد، وما هذا إلا لفضيلة الإفراد.
    وقال الحنفية: إن الأفضل القران؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة، وقد قرن عليه الصلاة والسلام منذ ابتداء نسكه إلى نهايته، ولذلك قال: ( إني لبَّدتُّ شعري وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر )، وقد ثبت عنه الصلاة والسلام عن طريق أكثر من خمسة وعشرين صحابياً أنه قرن الحج بالعمرة.
    قالوا: ولو كان غير القران أفضل لما اختار الله لنبيه المفضول، فكونه عليه الصلاة والسلام لم يحج إلا حجة واحدة، ومع ذلك يختار الله له إحراماً من فوق سبع سماوات أن يقرن الحج بالعمرة يدل على أنه أفضل، وأكدوا هذا بما يلي: أولاً: لو كان الإفراد أفضل -وذلك أنكم تقولون: إن المفرد يأتي بسفر مستقل لعمرته وسفر لحجه- فإننا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر أكثر من عمرة، ومع ذلك لم يقع اختيار الله له للإفراد، وإنما اختار الله له القران، فلو كان الإفراد أفضل لما اختار الله لنبيه المفضول.
    وقالوا: إن القران كان أوحي به من فوق سبع سماوات ولم يكن باختيار النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي، وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة ) فقرانه عليه الصلاة والسلام إنما كان بوحي وباختيار من الله، وهي حجة واحدة ولا يختار له إلا الأفضل.
    ثالثاً: إنه قد اعتمر أكثر من عمرة، ومع ذلك أمر أن يقرن عمرته مع حجه، فدل على فضيلة قرن الحج بالعمرة.
    رابعاً: أن القارن يفضل المتمتع؛ لأن المتمتع يشارك القارن في جميع ما ذكروه من هذه العلل، فقالوا: فينفرد القارن عن المتمتع بأن القارن بعد العمرة يبقى بإحرامه، ولكن المتمتع يتحلل فيتمتع بالنساء ويصيب الطيب، والقارن يبقى على إحرامه، والقاعدة: (أن الأكثر تعباً أعظم أجراً)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دل على هذه القاعدة كما في الصحيح: ( ثوابكِ على قدر نصَبكِ )، قالوا: فإذا كان القارن لحجه بعمرته يوافق المتمتع في كون كلاً منهما يصيب النسكين، إلا أن هذا يتعب أكثر من المتمتع؛ لأنه يبقى على إحرامه بعد العمرة، وحينئذٍ يكون أفضل.
    رد أهل التمتع بأن هذا التمتع الذي يقع بين العمرة والحج إنما هو بإذن شرعي.
    وأما قولكم: إن الأكثر تعباً أعظم أجراً؛ فقد يكون الشيء أقل تعباً ويصيب به الإنسان ما هو أكثر فضيلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( لقد قلت من بعدكِ كلمات لو وزنت بما قلتِ لرجحتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ) ، قالوا: فهذا يدل على أنه قد يكون الشيء أقل عملاً ولكنه أكثر أجراً.
    ثم أكدوا فضيلة التمتع بأن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى التمتع، وقال: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة ) قالوا: ولا يتمنى إلا الأفضل، وقولكم: إنه أحرم واختار الله له إحرام القران ينسخه ما بعده من التمني.
    رد الأولون بأن هذا التمني لم يقع ابتداءً وإنما وقع لسبب، وهو أن الصحابة لما أمرهم أن يتحللوا امتنعوا، فطيب خواطرهم بهذه الكلمة.
    وفي الحقيقة إن أعدل ما ذكر في هذه المسألة وهو اختيار بعض المحققين ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو أن في المسألة بالتفصيل: فإن كان الرجل يستطيع أن يأتي إلى البيت ويفرد حجه عن عمرته فالإفراد أفضل، وإن كان يستطيع أن يسوق الهدي معه فالقران أفضل، وإن كان لا يستطيع أن يسوق الهدي، أو يصعب عليه -كحال أكثر الناس اليوم حينما يقدمون من خارج المملكة- فالتمتع له أفضل؛ لأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بسفر مستقل لعمرتهم، وبناء على ذلك يجمعون بين التمتع بالتحلل ثم يحرمون بعد ذلك بحجهم لصعوبة سوقهم للهدي، وعلى هذا يكون الجمع بين النصوص من جميع الأوجه، ففضل التمتع من وجه، وفضل القران من وجه، وفضل الإفراد من وجه، ويكون هذا جمعاً بين هذه النصوص والأوجه المختلفة.
    خلاف العلماء فيمن يجوز له التمتع
    مسألة: من الذي يتمتع؟ ينقسم الناس في التمتع إلى قسمين: مكي، وغير مكي.
    حاضر المسجد الحرام وغير حاضر المسجد الحرام، أما الذين هم من حاضري المسجد الحرام فللعلماء فيهم أوجه، وأقوى ما قيل في حاضري المسجد الحرام أن المراد بهم: أهل مساكن مكة أو من كان دون حدود الحرم، أو من كان دون مسافة القصر، فالمكي ومن كان داخل حدود حرم مكة فهو من حاضري المسجد الحرام.
    وللعلماء قولان فيمن يجوز له أن يتمتع: قال جمهور العلماء: المكي وحاضر المسجد الحرام يتمتعون، وإن تمتعوا فلا دم عليهم، وعلى هذا فأهل مكة يجوز لهم أن يأتوا بالعمرة في شوال وما بعد شوال، ثم يحجون من عامهم فهم متمتعون، ويصيبون فضيلة التمتع ولا يلزمهم الدم.
    وقال الحنفية رحمة الله عليهم: المكي ومن كان من حاضري المسجد الحرام لا يتمتع، وإن تمتع فعليه دم.
    فلا يرون لأهل مكة أن يتمتعوا، وإن تمتعوا فعليهم الدم.
    وسبب الخلاف الآية الكريمة في قوله تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة:196].
    فلما قال الله: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة:196] اختلف في مرجع الإشارة: (ذلك)، فالجمهور يقولون: (ذلك) عائد إلى إيجاب الدم: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة:196] فأعادوه إلى أقرب مذكور؛ لأن الإشارة تعود إلى أقرب مذكور، فيكون قوله: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) أول الآية منفصل عن آخرها، ويكون قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة:196] المراد به: إيجاب الدم، فيقولون: يصح التمتع لعموم قوله: { فَمَنْ تَمَتَّعَ } [البقرة:196] ولا يجب الدم لقوله: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة:196].
    والحنفية يقولون: (ذلك) عائد إلى أول الآية، بدليل أنه اسم الإشارة (ذلك) للبعيد، فقالوا: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة:196] عائد إلى صدر الآية: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } [البقرة:196] فالتمتع لمن لم يكن من حاضري المسجد الحرام.
    قالوا: والدليل الثاني عندنا على هذا أنه قال: { ذَلِكَ لِمَنْ } [البقرة:196] فلو كان الدم -كما يقول الجمهور- لقال (ذلك على من لم يكن).
    فدل على أن المراد مشروعية التمتع وليس وجوب الدم.
    رد الجمهور بأن (ذلك) جاء اسم إشارة لصيغة البعيد لوجود الفصل: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة:196] فنظراً للفصل بالبدل عن الواجب جاء باسم ( ذلك )، حتى لا يفهم منه أن هذا الإيجاب مختص بمن يكون على خلاف هذه الحال.
    وأجابوا عن قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ } [البقرة:196] أن (اللام) تأتي بمعنى (على) كما قال تعالى: { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء:7] أي: فعليها، فيكون قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ } [البقرة:196] أي: ذلك الدم على من لم يكن من حاضري المسجد الحرام.
    ومذهب الجمهور أقوى، وعليه: فإن أهل مكة يتمتعون، وإن تمتعوا فلا دم عليهم.
    فالمتمتع إما أن يكون من حاضري المسجد الحرام، وإما أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام، فيشمل الذين كانوا خارج حدود الحرم أو خارج مسافة القصر، فالآفاقيون الذين هم غير حاضري المسجد الحرام يشرع لهم التمتع بإجماع العلماء.
    شروط التمتع بالعمرة إلى الحج
    قال المصنف رحمه الله: [وصفته أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه].
    شروط التمتع: أن تكون هناك عمرة في أشهر الحج، فمن اعتمروا في أشهر الحج صح له أن يتمتع بهذه العمرة إلى الحج، بشرط البقاء بعد فعل هذه العمرة بمكة، وعدم الرجوع إلى الميقات أو ما يحاذيه أو إلى مسافة القصر، وأن يحج من ذلك العام، فهذه شروط لا بد من توفرها للحكم بصحة التمتع.
    أما الشرط الأول -أن يأتوا بعمرة في أشهر الحج- ففيه تفصيل: أشهر الحج تبدأ من ليلة العيد، فمن أوقع العمرة في ليلة عيد الفطر فما بعدها من شوال أو ذي القعدة فحينئذٍ يصدق على هذه العمرة أنها عمرة تمتع إن بقي بعدها وحج، لكن إن وقعت عمرته قبل ليلة العيد، ثم بقي بمكة وحج من عامه؛ فليس بمتمتع بالإجماع؛ لأن عمرته ليست في أشهر الحج، وعمرة التمتع يشترط فيها أن تكون في أشهر الحج.
    لكن لو أحرم قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان، وغابت عليه شمس آخر يوم من رمضان قبل أن يتم، فأوقع بعض أفعال العمرة في رمضان وبعض أفعالها في شوال، فهل نقول: العبرة بالابتداء، أم العبرة بالانتهاء، أم يفصل؟ خلاف بين السلف، قال بعض العلماء: العبرة بالنية، فإذا دخل في النسك ونواه قبل غروب الشمس ولو بلحظة؛ فإنه لا يعتبر متمتعاً، فهم يعتبرون أول لحظة من العمرة، وهي نية الدخول في النسك، فإن غابت عليه الشمس ثم نوى ولو بلحظة بعد مغيبها فإنه متمتع، وهذا مذهب الظاهرية.
    القول الثاني: العبرة بدخوله إلى مكة، فإن وقع دخوله مكة قبل غروب الشمس؛ فعمرته ليست تمتعاً، فهو مفرد إن حج من عامه، وإن وقع دخوله لمكة وحدود الحرم بعد مغيب الشمس، وبقي بعد هذه العمرة وحج فهو متمتع، فالعبرة عندهم بدخول حدود الحرم، وهذا مذهب طائفة من السلف ومنهم عطاء .
    القول الثالث: العبرة بابتداء الطواف، فننظر متى ابتدأ الطواف، فإذا ابتدأ طوافه قبل غروب الشمس ولو بلحظة، فهو مفرد إن حج من عامه، وإن ابتدأ طوافه بعد غروب الشمس ولو بلحظة؛ فهو متمتع إن حج من عامه، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
    القول الرابع: العبرة بأكثر الطواف، وهذا مذهب الحنفية، فيقولون: إن طاف أربعة أشواط قبل غروب الشمس؛ فمفرد إن حج من عامه، وإن طاف الثلاثة الأشواط قبل غروب الشمس والأربعة بعد الغروب؛ فإنه متمتع إن حج من عامه.
    فتجد أن مذاهب الأئمة اعتبرت بالطواف؛ لأن الطواف أول أركان العمرة.
    وهناك قول خامس: وهو أن العبرة بالتحلل، وهو مذهب المالكية، قالوا: ننظر متى يقص شعره أو يحلق رأسه، فإن وقعت حلاقته أو قصه لشعر رأسه قبل غروب الشمس فإنه مفرد إن حج من عامه، وإن وقع القص والتحلل بعد غروب الشمس ولو بلحظة فإنه متمتع إن حج من عامه.
    وأصح هذه الأقوال والعلم عند الله: أن العبرة بابتداء الطواف لما ذكرنا؛ وذلك لأنه يكون حينئذٍ قد دخل في ركن عمرته فإذا كان قد ابتدأ طوافه قبل غروب الشمس فإنه حينئذٍ يكون قد أوقع الركن -الذي هو ركن العمرة- قبل غروب الشمس، وحينئذٍ لا يصدق عليه أنه تمتع بعمرته إلى الحج.
    الشرط الثاني من شروط التمتع: بقاؤه بمكة وهذا هو نص القرآن: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } [البقرة:196] فإنه يشترط في كونه متمتعاً أن يبقى بعد العمرة إلى أن يحج من نفس العام، فلو رجع بعد عمرته إلى بلده أو إلى ميقات بلده؛ فإنه لم يتمتع بسفره الأول -وهو عمرته الأولى- لحجه، وحينئذٍ كأنه أنشأ سفراً ثانياً، وعليه فيكون مفرداً ولا يكون متمتعاً على ظاهر القرآن.
    وشذ طاووس فقال: هو متمتع وإن رجع إلى بلده.
    والعلماء يقولون: شذ طاووس كما عبر به غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم في هذه المسألة، وإذا قال العلماء: شذ.
    فليس المراد تحقير العالم، ولكن الخلاف عندهم في المسائل على مراتب، فتارة يكون المخالف مصادماً للنصوص أو مصادماً لجماهير العلماء، فيقولون عنه: شذ؛ تنبيهاً إلى أن العمل عند الأئمة والسلف والعلماء وأكثر الأمة على عدم قبول هذا القول؛ لمخالفته للنصوص القوية، فيعبرون عن ذلك بالشذوذ مثلما يقولون: شذ ابن عباس فقال بالمتعة.
    وليس المراد منه تحقير ابن عباس رضي الله عنه، وإنما المراد أن قوله هذا خالف الأصول وخالف الجماهير، ولذلك فإن خلاف الشذوذ يكون في المسائل التي تخالف النصوص، كالقول بجواز ربا الفضل وبجواز المتعة، ونحوها من المسائل المفردة.
    فعند طاووس من سافر إلى بلده بعد عمرته وحج من عامه فإنه يعتبر متمتعاً، وهذا قول شاذ كما ذكرنا لمخالفته لظاهر الآية الكريمة، وجماهير السلف والخلف على خلاف ذلك، وأن من رجع إلى بلده أو أنشأ السفر بعد عمرته فإنه لم يتمتع على ظاهر الصفة التي نص عليها كتاب الله عز وجل.
    والشرط الثالث من شروط التمتع: أن يحج من عامه، ويحكى عن عبد الله بن الزبير : أنه لو أتى بالعمرة في هذه السنة، ثم أتى بالحج من العام القادم أنه متمتع، ولكن جماهير السلف رحمة الله عليهم على خلافه، والإجماع على أنه لا يكون متمتعاً إلا إذا حج من ذلك العام.
    حكم من تمتع بالعمرة إلى الحج وليس من حاضري المسجد الحرام
    قال المصنف رحمه الله: [وعلى الأفقي دم] أي: وعلى الأفقي دم إن تمتع، وفهم من ذلك أن غير الأفقي لا يلزمه دم.
    أما بالنسبة لإيجاب الدم على الأفقي فلقوله تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [البقرة:196] فأمر الله سبحانه وتعالى من تمتع بالعمرة إلى الحج أن يريق الدم، وهذا الدم ستأتي مباحثه ومسائله في الفدية، ونبين إن شاء الله ما هو المعتبر في هذا الدم، وأين محله، وما هو الواجب، والسن الواجب في هذه الدماء، سواء كانت في قران أو تمتع.
    حكم المرأة الحائض إذا خشيت فوات الحج
    قال رحمه الله: [وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج أحرمت به وصارت قارنة].
    هذا إذا كانت المرأة متمتعة، والمرأة الحائض في الإحرام قبل الحج على صور: الصورة الأولى: أن يأتيها الحيض قبل نية النسك، فحينئذٍ إذا كان هناك وقت قبل الحج ويمكنها أن تتمتع بالعمرة؛ فالأفضل أن تصيب فضيلة التمتع، فتحرم بالعمرة، ثم تتحلل من العمرة، ثم بعد ذلك تتم مناسك الحج، مثال ذلك: لو أن امرأة أقبلت على الميقات في شهر ذي القعدة، وجاءها الحيض، وحيضها ثمانية أيام، فقد بقي من الوقت ما يسعها أن تطهر ثم تؤدي العمرة قبل أن تتلبس بالحج أي: قبل أيام الحج، فحينئذٍ تحرم بالعمرة، ويجوز لها وهي حائض أن تنوي العمرة، ولكن تمتنع من الطواف بالبيت، لقوله عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين عائشة حيث كانت معه في حجه وأصابها الحيض فقال: ( ما لكِ أنفستِ؟ قالت: نعم.
    قال: ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ) فهذا يدل على أنه لا يجوز لها أن تطوف بالبيت، ولا يجزئها أن تطوف وهي حائض على ظاهر النص، فتمكث حتى تخرج من عادتها وتطهر، فتغتسل ثم تؤدي عمرتها وتتحلل منها، هذه الصورة الأولى.
    الصورة الثانية: أن يطرأ الحيض بعد نيتها للنسك، فإذا طرأ الحيض بعد نيتها للنسك فلا يخلو من حالتين: إما أن يمكنها أن تؤدي العمرة قبل أيام الحج، وإما أن يضيق الوقت ولا يمكنها أن تؤدي عمرتها قبل أيام الحج، كأن تكون عادتها ثمانية أيام، وبقي على الحج ثلاثة أيام أو أربعة أيام، فإذا طرأ عليها الدم وكانت قد دخلت في النسك فلا تخلو نيتها.
    إما أن تكون مفردة فحينئذٍ تمضي إلى عرفات، وتتم مناسك الحج، حتى إذا طهرت طافت طواف الإفاضة ولا إشكال.
    وأما إذا كانت متمتعة -أي: كانت معتمرة- فإنه لا يمكنها أن تؤدي عمرتها قبل حجها؛ لأنه وقت ضيق، فتنقلب قارنة لمكان الضرورة، لقول عليه الصلاة والسلام: ( اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )، فدل على أنها كانت متمتعة بمنعه إياها من الطواف بالبيت، وقد ثبت أنها كانت متمتعة، فحينئذٍ انقلبت إلى القران لقوله عليه الصلاة والسلام لها في آخر الحج: ( طوافكِ بالبيت وسعيكِ بين الصفا والمروة كافيكِ لحجكِ وعمرتكِ ) فدل هذا على أن الذي وقع منها إنما هو القران؛ لأنه لم يمكنها أن تتحلل، فلما منعها من الطواف دل على أنه يجوز لها أن تنقلب قارنة، وحينئذٍ تؤخر طوافها بالبيت إلى طهرها، وهذا هو قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
    وهكذا الحال إذا كان طرأ العذر، فإذا أحرمت بالتمتع فطرأ الحيض فإنها تحرم وينقلب نسكها القران، على ظاهر هذه السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    التلبية
    قال المصنف رحمه الله: [وإذا استوى على راحلته قال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
    يصوت بها الرجل وتخفيها المرأة].
    تحقيق الخلاف في وقت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم في حجته
    قوله رحمه الله: (وإذا استوى على راحلته).
    السنة أن يلبي وهو في مصلاه، فقد أوجب عليه الصلاة والسلام وهو في مصلاه، وأوجب وهو على الراحلة، وأوجب وهو على البيداء، وهذا كله ثابت عنه، ولذلك فضل ابن عمر و ابن عباس رضي الله عنهما ذلك فيما ثبت وصح عنهما، وكان ابن عمر يقول: ( بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أهل إلا من عند الشجرة )، وقد بين ابن عباس السبب في ذلك، وهو أن الناس كانوا كثيرين.
    وقال أنس رضي الله عنه: ( كنت أنظر أمامي فأرى الناس مد البصر، وأنظر عن يميني فأرى الناس مد البصر، وأنظر عن شمالي فأرى الناس مد البصر، كلهم يقولون: كيف يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما نزل إلى الميقات وصلى عليه الصلاة والسلام أدرك أناس تلبيته وهو في مصلاه )، وأدرك أناس تلبيته وهو عند الشجرة، وأدرك أناس تلبيته وهو قد استوى على راحلته، وأدرك أناس تلبيته وهو على البيداء؛ لأن الميقات -وهو الذي يسمى بأبيار علي- واد، ومنخفض الوادي في بطنه المسجد والمصلى، هذا المنخفض يكتنفه شقي الوادي الأيمن والأيسر، أيسر الوادي من جهة جبل عير الذي هو حد المدينة، وأيمن الوادي الذي هو صفحته اليمنى بعد أن تخرج من المسجد وتصعد هذه الربوة التي هي أعلى الشط الأيمن للوادي وهي تسمى بالبيداء، وهي ما ارتفع من الأرض من مائتي متر إلى ثلاثمائة متر، وبعد البيداء وأنت في طريقك إلى مكة متجهاً إلى جهة جنوب غرب تقريباً تأتي منطقة تسمى ذات الجيش، وهي التي انقطع فيها عقد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وكان لـ أسماء ، في قصة التيمم، فالبيداء هذه كانت هي الربوة العالية التي بعد الوادي، بمعنى أنك إذا خرجت من الوادي وصعدت فأول ما يواجهك البيداء، فكان الناس يعتقدون أن التلبية تبدأ من البيداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رقى البيداء لبى؛ لأنه كان من سنته إذا علا النشز أن يلبي، فأدرك أناس تلبيته بالبيداء، فظنوا أن السنة هناك، وأدرك أناس تلبيته عند الشجرة فظن أن السنة هناك، وأدرك أناس تلبيته أول ما أوجب.
    فالسنة أنه يلبي وهو في مصلاه، ثم إذا ركب على راحلته -وفي حكمها السيارة الآن- يلبي، وإذا علا البيداء أو صعد من شط الوادي لبى؛ تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، سواء صعد على الخط القديم -الذي هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم في القديم- أو صعد على الخط الجديد -الذي يسمى بالهجرة-؛ لأن الجهتين اللتين تكتنفان الوادي بمثابة واحدة من حيث العلو والنشز، فالسنة فيهما واحدة، فكان ابن عمر يقول: ( بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) تكذبون: الكذب يطلق بمعنى الكذب المذموم، وبمعنى مخالفة الحقيقة، وليس المراد به ذم صاحبه، فقال: ( تكذبون ) يعني: أنكم تقولون بها أمراً غير الذي وقع منه عليه الصلاة والسلام، ولا يقصد أصل الكذب الذي ورد في الوعيد، فمراده: أن الأصل أن التلبية كانت في بطن الوادي، فالسنة أن تكون التلبية على هذه الصورة.
    معنى التلبية
    أما قوله: ( لبيك اللهم لبيك )، (لبى): اختلف العلماء في أصلها، قيل: (لبى) بمعنى أجاب، تقول: لبيت النداء، أي: أجبته، وهذا مبني على قوله تعالى: { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا } [الحج:27] حيث أوحى الله بذلك لإبراهيم فقال: (ربي وما يبلغ صوتي.
    قال: أذن وعلينا البلاغ، وهو حديث رواه الحاكم في مستدركه، وصححه غير واحد، فأذن وقال: ( أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا ) فمن كتب الله عليه الحج والعمرة فإنه يلبي هذا النداء بقوله: لبيك.
    أي: إجابة لداعي الله عز وجل، هذا على القول بأنها مشتقة من إجابة النداء.
    وقيل: (لبى) بمعنى: لب الشيء وخالصه، والمراد بذلك: إن إخلاصي لك يا ألله.
    فمعنى (لبيك): أي إخلاصي؛ لأنها كلمة التوحيد، ولذلك قال جابر : (أهل بالتوحيد).
    فقالوا: إن المراد بها إخلاص العبادة لله عز وجل، وهو الأصل الذي من أجله أمر الله عز وجل بالحج إلى بيته، فتكون أول كلمة من الإنسان بالتلبية شعارها التوحيد والإخلاص لله سبحانه وتعالى بالعبادة، وإفرادها له جل شأنه، فقالوا: إنها مأخوذة من لب الشيء، وهو خالصه.
    وقيل: مأخوذة من (ألب بالمكان)، إذا أقام به، أي: أنا مقيم على طاعتك طاعة بعد طاعة، أي: أنه ثابت على طاعة الله مستديم عليها.
    وقيل: إنها من (ألب) بمعنى: واجه، وتجاه الشيء وجهته تقول: (داري تلب بدارك) أي: تواجهها، كأنه يقصد بقوله: (لبيك اللهم) أي: اتجاهي لك يا ألله في كل صغير وكبير، فلا يسأل إلا هو، ولا يستعان إلا به، ولا يستغاث إلا به، ولا يستجار إلا به، فكأنه يقول: (وجهت وجهي لك كلاً) كما قال تعالى: { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام:79] فهذه أوجه ذكرها العلماء في معنى: ( لبيك اللهم) أي: لبيك يا ألله.
    صفة التلبية
    للتلبية صفتان: الصفة الواردة المشروعة، والصفة الزائدة من المكلف ثناءً على الله عز وجل.
    أما بالنسبة للصفة المشروعة: فالتي ذكرها المصنف: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) هذه الصفة الواردة، وهناك حديثان في السنن، أولهما: ( لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً ) وهو حديث أنس ، والثاني: ( لبيك إله الحق ) وهو حديث أبي هريرة ، والصحيح الأول، وأما الصيغتان الأخريان ففيها كلام وفي سندهما مقال، وبعض العلماء يحسن إسناد: ( لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً ).
    أما بالنسبة للصفة الزائدة عن الوارد، كأن يقول: لبيك يا رحمن، لبيك يا عظيم، لبيك يا كريم .
    ونحو ذلك، فللعلماء قولان: قيل: لا يجوز أن يحدث غير الصفة الواردة، وقيل: يجوز، وهذا هو الصحيح؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الصحابة يقولون: لبيك ذا المعارج ) فلم يأمرهم بالتزام اللفظ الوارد، ولذلك قال جمهور العلماء بجواز الزيادة وهو فعل السلف، ولذلك كان ابن عمر يقول: (لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) والأفضل: أن يقتصر على الوارد؛ لأنه إذا اقتصر على الوارد أجر بأجرين: الأول: أجر التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والثاني: أجر اللفظ الوارد.
    حكم التلبية
    الصحيح وجوبها، وهو أصح قولي العلماء، ولذلك من نوى ولم يلبِ حتى فرغ من نسك العمرة أو الحج، يلزمه دم جبراناً لهذا الواجب وهي التلبية، قال صلى الله عليه وسلم: ( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ).
    والدليل على وجوب التلبية: قوله عليه الصلاة والسلام: ( أتاني الليلة آتٍ من ربي وقال: أهل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة ) قالوا: إن هذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لبيك عمرة وحجة ).
    كما في حديث أنس في الصحيح، قالوا: فقوله: ( أهل في هذا الوادي المبارك، وقل ) الإهلال: هو النية، وقل: المراد به التلبية، فيكون أمراً وهو دال على الوجوب.
    حكم رفع الصوت بالتلبية
    السنة رفع الصوت بالتلبية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية )، وهذا ثابت في الصحيح، فدل على أن السنة في التلبية أن يرفع بها الصوت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( الحج: العج والثج ) أما (العج): فهو رفع الصوت بالتلبية، وأما (الثج): فهو نحر الهدي ونحوها مما يتقرب به إلى الله عز وجل في الأنساك في الحج.
    وقت قطع التلبية للحاج والمعتمر
    أما المعتمر، فقال طائفة من العلماء: يقطع التلبية عند الحرار التي تبدو قبل مكة، وهي الحرار التي قبل التنعيم، وهو المأثور عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال به جمع من فقهاء المدينة.
    والقول الثاني: أنه يقطع التلبية عند دخوله لحدود الحرم؛ لأنه يلبي إلى الحرم، فإذا بلغ الحرم فإنه يقطع التلبية.
    والقول الثالث: أنه يقطع التلبية عند ابتداء الطواف.
    وهو أصح الأقوال في العمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : ( أنه لم يزل يلبي حتى استلم الحجر )، فدل على أن التلبية تنقطع عند استلام الحجر، يعني: عند ابتداء الطواف.
    وأما الحاج فقال جمع من العلماء: يقطع التلبية إذا مضى إلى الوقوف بعرفة، وذلك بعد الزوال؛ لأنه يبتدئ الوقوف بعد الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل خارج عرفة وذلك بنمرة، وهو المنبسط الذي قبل الوادي الذي بين حدود الحرم وبين الوادي الذي هو وادي عرنة، هناك منبسط يقرب من خمسمائة متر يسمى بنمرة، نزل فيه عليه الصلاة والسلام، فابتدأ وقوفه ومضيه إلى عرفات بعد الزوال، وبعد أن زالت الشمس ركب صلوات الله وسلامه عليه وخطب الناس، قالوا: فيقطع التلبية بعد الزوال من يوم عرفة، وكان يفعله علي رضي الله عنه و عائشة رضي الله عنها، وأكدوا هذا بأن التلبية للحج، والحج عرفة، ويكون وقوف عرفة بعد الزوال فيقطع عند الزوال.
    القول الثاني: أنه يقطع عند ابتداء رمي جمرة العقبة، وهو مذهب الجمهور.
    والقول الثالث: أنه يقطع عند آخر حصاة يرمي بها جمرة العقبة، وهو رواية عن أحمد وقول إسحاق بن راهويه وجمع من أهل الحديث، وهو الصحيح؛ لحديث الفضل أنه قال: ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يلبي حتى رمى آخر حصاة من جمرة العقبة ).
    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #218
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (218)

    صـــــ(1) إلى صــ(19)


    شرح زاد المستقنع - باب محظورات الإحرام [1]
    الحج شعيرة عظيمة، يخرج فيها العبد عن أهله ووطنه، ويخرج كذلك عن إلفه ورفاهيته، ولذلك حظر على المحرم عدة أمور ما تحصل بها الرفاهية؛ ليكون أبلغ في التعبد لله، منها: الأخذ من الشعر والأظافر، وتغطية الرأس، ولبس المخيط للذكر، واستخدام الطيب.
    محظورات الإحرام
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    معنى محظورات الإحرام وعددها
    فيقول المصنف رحمه الله: [باب: محظورات الإحرام]: المحظورات: جمع محظور، يقال: حُظر الشيء إذا مُنع، والمراد بهذا الباب أن يبين رحمه الله جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بما ينبغي على المحرم أن يجتنبه.
    والسبب في ذلك: أن الله سبحانه وتعالى حرم على المحرم إذا أحرم بالنسك من حج أو عمرة أو هما معاً أن يفعل أشياء في بدنه أو متعلقة بالغير، وهذه الأشياء جاءت بها نصوص الكتاب ونصوص السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء رحمهم الله على أكثرها، ولا يجوز للمسلم إذا أحرم بالنسك أن يتلبس بها، وتوصف بكونها محظورات؛ لأن الله حظرها على المحرم؛ تعظيماً لهذه الشعيرة، وإشغالاً لعبده بما هو أهم، ولذلك يكون له الأجر والمثوبة بالامتناع والانكفاف عن هذه الأمور التي حرمها الله عليه.
    أما مناسبة هذا الباب لما قبله: فبعد أن بيّن رحمه الله الإحرام شرع في بيان ما ينبغي على المحرم أن يجتنبه، وهذا ترتيب صحيح؛ لأن أول ما يفعله الحاج والمعتمر أن يحرم، فإذا أحرم تقول له: لا تفعل أو افعل، فإذا قلت له: لا تفعل، فهذه هي المحظورات، فيكون الكلام عن المحظورات بعد وقوع الإحرام وبيان أحكامه.
    قوله: [وهي تسع].
    أي: المحظورات تسع، وهذا أسلوب إجمال قبل البيان والتفصيل، يهيئ السامع ويشوقه إلى معرفة هذه التفاصيل، بخلاف ما إذا بدأ بها سرداً.
    وهذه المحظورات التسع منها ما يتعلق ببدن الإنسان، ومنها ما يتعلق بغيره، ومنها ما يعين على تفرغ القلب لذكر الله عز وجل، ومنها ما شرع الله عز وجل للمحرم أن ينكف عنه ابتلاء واختباراً.
    المحظور الأول: حلق الشعر
    قال رحمه الله: [حلق الشعر]: وهو المحظور الأول، والمراد بذلك جزّه، وجزّ الشعر يكون بالموس ويكون بالسكين وما في حكمهما من الآلات.
    أي: يحرم على المحرم أن يحلق شعره، والأصل في ذلك التحريم قوله سبحانه وتعالى: { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [البقرة:196] ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إني لبدت شعري وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر ) ، فلا يجوز لمن أحرم بالنسك أن يحلق شعره.
    وعمم رحمه الله في الشعر، فشمل شعر أعالي البدن كشعر الرأس وشعر اللحيين والشارب، وكذلك شعر الصدر وشعر اليدين، وأسافل البدن، فيشمل ما يكون حول الفرجين، وعلى الساقين، فكل ذلك حظر على المحرم أن يزيله.
    وتقع الإزالة بالحلق كما تقع بالنتف، وكذلك بالتقصير، فهذه ثلاثة أوجه للاعتداء على الشعر: إما بالحلق، وإما بالتقصير، وإما بالنتف، فالحلق والنتف كلاهما في حكم واحد، والتقصير دلت السنة على أنه في حكم الحلق، أي: من ناحية التأثير وإن كان دونه من ناحية الفضل، ولذلك يصح أن تتحلل من العمرة والحج بالتقصير كما تتحلل بالحلق، فأنت منهي عن قص الشعر كما أنك منهي عن حلق الشعر، وهما في مرتبة واحدة من حيث الحكم، وإن كان الحلق أفضل من التقصير.
    وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم أن يحلق كما لا يجوز له أن يقصر؛ لأن الله عز وجل نص على هذا التحريم في كتابه، وكذلك نتف الشعر، كنتف شعر الإبطين ونحو ذلك، فهذا بالإجماع يعتبر محرماً، خلافاً لمن شذ في مسألة النتف، فإن النتف فيه إزالة أبلغ من إزالة الحلق، وعلى هذا فلا يجوز له أن يحلق، ولا أن يقصر، ولا أن ينتف، سواء كان التقصير لأغلب الشعر أو كان لأقله، فلو أخذ قدراً يسيراً من الشعر وقصه فإنه كأخذ الشعرة نفسها، فالتقصير في حكم الحلق سواء بسواء.
    فحلق الشعر محظور من محظورات الإحرام، والعلماء رحمهم الله أجمعوا عليه، لكن بينهم خلاف في بعض التفاصيل، أما من حيث كونه محظوراً فهذا ليس فيه خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.
    قال بعض العلماء: إن الله عز وجل ابتلى الحاج بأن يكون على شعث وعلى حالة وهيئة تخالف حال المترفّه، ولذلك يترك الشعر حتى يكون أبلغ في تقربه لله سبحانه وتعالى، وأبعد عن الترفّه الذي يشغله عن العبادة.
    المحظور الثاني: تقليم الأظافر
    قال رحمه الله: [وتقليم الأظافر]: أي: المحظور الثاني: تقليم الأظافر، والمراد بذلك قصها، وقص الأظافر من خصال الفطرة، كما ثبت بذلك الحديث في الصحيحين، ولكن الله عز وجل حرم على المحرم أن يقلم أظفاره؛ لأنه من التفث، وقد نهي المحرم عن تقليم الأظفار لما فيه من الترفه، والدليل على ذلك قوله سبحانه: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } [الحج:29] ، قال بعض السلف: إن التفث المراد به إزالة الأظفار بقص وتقليم ونحو ذلك، وعلى هذا جماهير أهل العلم.
    [فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم].
    إذا كان المسلم مأموراً باجتناب حلق الشعر وتقليم الأظفار، فمتى يكون الإخلال كاملاً في قصه للشعر أو حلقه له أو نتفه له، وكذلك في تقليمه للأظفار؟ قال جمع من العلماء: إن الله سبحانه وتعالى قال: { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } [البقرة:196] ، قالوا: ولا يمكن أن يكون مخلاً إلا إذا أزال ثلاث شعرات فأكثر، وهي أقل ما يصدق عليه الجمع، فمن أزال شعرة واحدة فليس عليه فدية ولكن عليه أن يتصدق بحفنة من طعام، ومن أزال الشعرتين فإنه يتصدق بحفنتين من طعام حتى يبلغ قدر الإخلال بثلاث شعرات، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم كما درج عليه المصنف رحمه الله؛ والسبب في ذلك: صيغة الجمع في آية البقرة.
    المحظور الثالث: تغطية الرأس
    قال رحمه الله: [ومن غطى رأسه بملاصق فدى].
    أي: هذا هو المحظور الثالث: وهو تغطية الرأس حال الإحرام بالحج أو العمرة، فلا يجوز للمسلم أن يغطي رأسه بملاصق؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل كما في حديث ابن عمر في الصحيحين قال: ( يا رسول الله! ما يلبس المحرم؟ قال: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ) ، قالوا: فقال قال عليه الصلاة والسلام: (ولا العمائم) والعمائم جمع عمامة، سميت بذلك لأنها تعم الرأس بالتغطية، قالوا: فكأن مقصود الشرع أن لا يغطي المحرم رأسه، ومن هنا قالوا: من محظورات الإحرام أن يغطي المحرم رأسه بملاصق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه فقال: (ولا العمائم) وهي التي تلاصق، وكذلك نص عليه في قوله: (ولا البرانس) لأن البرنس يكون غطاء ملتصقاً بنفس الثوب، قالوا: فهذا النص الصحيح يدل دلالة واضحة على أن المحرم لا يجوز له أن يغطي رأسه، بل يضحى حتى يكون أبلغ في تذلله لله سبحانه وتعالى، ويكون رأسه مكشوفاً.
    فلا يجوز للمحرم الذكر أن يغطي رأسه بالإجماع، وإذا غطى رأسه بغير الملاصق كأن يأتي تحت جدار، أو يأتي مثلاً تحت غطاء السيارة الذي من أعلى يستظل من الشمس، أو جاء تحت شجرة، فلا حرج في ذلك؛ لأنه ليس بملاصق، وهو وإن غطى الرأس من جهة كونه يحول بين الرأس وبين السماء لكنه ليس بملاصق مؤثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نص على تحريم الملاصق، ومن هنا تجد العلماء رحمهم الله يقولون: بملاصق، أي: أن يغطي رأسه بملاصق، فخرج غير الملاصق، ولو حمل على رأسه شيئاً فللعلماء وجهان: قال بعض أهل العلم: لا يجعل ذلك الشيء يلتصق برأسه، فلو حمل متاعاً قالوا: عليه أن يبينه عن الرأس، ولا يجعله ملتصقاً بالرأس.
    ومن أهل العلم من فصل فقال: إن وضعه على الرأس بقصد حمله فإنه يجوز؛ لأن التغطية جاءت تبعاً، ويجوز في الشيء تبعاً ما لا يجوز قصداً كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكما لو أراد الطبيب أن يقطع من جلدة يده وعليها شعر، فإنه إذا زالت الجلدة والشعر عليها فليس عليه فدية؛ لأنه لم يحلق ولم ينتف ولم يقص، وجاءت إزالة الشعر تبعاً ولم تأت أصلاً وقصداً، ففرقوا بين ما كان أصلاً وبين ما كان تبعاً، فقالوا: يجوز له أن يضع المتاع على رأسه، ولا فدية عليه.
    ولكن المذهب الذي ينظر إلى صورة الظاهر أبلغ وأقوى؛ وذلك لأنه يوافق معنى النص في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
    المحظور الرابع: لبس المخيط للذكر
    قوله رحمه الله: [وإن لبس ذكر مخيطاً فدى].
    هذا هو رابع المحظورات: والمخيط: هو الذي يحيط بالعضو، سواء كان لأعلى البدن كالقميص، أو كان لأسفل البدن كالسراويل وأمثالها، أو كان جامعاً بين أعلى البدن وأسفله كالثياب الموجودة اليوم، فهذا كله من محظورات الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس )، فدل على عدم جواز ستر أعلى البدن أو أسفله أو كله بالمخيط، وعلى هذا قالوا: إنه يعتبر محظوراً، وهذا محل إجماع بين أهل العلم رحمهم الله.
    والمراد بالمخيط كما ذكرنا سابقاً أن يكون محيطاً بالعضو.
    فلو ستر بغير المخيط، كأن أخذ الرداء فوضعه على كتفيه أو على عاتقيه فإن هذا هو شأن المحرم، وكذلك أيضاً لو التحف ببطانية أو نحوها على كتفيه فلا بأس، ولا نقول: إنه ستر بدنه بمخيط؛ لأن البطانية ليست مفصلة على الجسد، بخلاف ما إذا لبس عباءة أو بشتاً أو نحو ذلك، فإنه إذا وضعه يعتبر في حكم اللابس، وللعلماء وجهان في البشت: قال بعضهم: لو وضعه على كتفيه ولم يدخل يديه فيه لم يكن لابساً ولا تلزمه الفدية، وإنما تلزمه الفدية إذا حصلت الإحاطة، وذلك بإدخاله اليدين في الأكمام، أما لو وضعه على عاتقيه لشدة برد فلا يلزمه شيء؛ لأنه ليس بلابس حقيقة، وإنما هو مستتر به من شدة البرد فأشبه البطانية أو اللحاف، وهذا قوي وله وجهه، ولكن الورع والأفضل أن لا يفعل الإنسان ذلك، وإن كان لا يصدق عليه من جهة النظر أنه لابس حقيقة إلا بالإدخال، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا) ففرق بين الأمرين، ولذلك لو أخذ العباءة ووضعها دون تفصيلها على كتفيه فإنه لا تلزمه الفدية.
    فالمخيط ضابطه: أن يكون مفصلاً للعضو، فلا يصدق عليه أنه لابس إلا إذا أدخل يده في الأكمام، لأن الرداء لا يوجب الفدية بالإجماع، ولا يعتبر محظوراً من محظورات الإحرام لعدم اشتماله على الإحاطة بالعضو.
    حكم استخدام الدهان للمحرم
    قال رحمه الله: [أو ادهن بمطيب].
    كأن يوجد معجون -كالموجود في زماننا- فيه طيب فادهن به، وفي حكم الادهان أن يغتسل بالطيب، كالصابون الذي يكون مطيباً، فإن الادهان والاغتسال كله إصابة لظاهر البدن، فالجميع لا يجوز، فلو كان هناك دهان شعر أو دهان بدن يحتاجه حتى ولو كان لمرض، وهذا الدهان الذي للمرض فيه رائحة طيب فلا يجوز، ويستوي في الادهان أن يكون الطيب قصداً، كأن تأخذ الورد وتدهن به، أو يكون مركباً مع شيء آخر، فإنه ككونه منفرداً، ويستوي الحكم في ذلك ما دام أن الرائحة موجودة والطيب موجود، وهو آخذ حكم التطيب كما ذكرنا.
    ويستوي أن يكون الطيب منفرداً كأن يأخذ الورد أو العود ويدهن به، أو يكون مخلوطاً بغيره كالصابون المطيب برائحة ذكية يقصد منها أن يكون له أثر، فهذا لا يجوز أن يغتسل به، ولو وجد في الدواء -كالأدهنة التي يتعالج بها- ما فيه رائحة طيبة فإنه يرجع للأطباء ويسألون، فيقال لهم: هذه الرائحة الطيبة هل هي نكهة مضافة للدواء؟ لأن الأعشاب أو المستخلصات الطبية تكون رائحتها نتنة، فيحتاج لإزالة هذه الرائحة بوضع طيب، فحينئذٍ تجب الفدية، فيجوز له لمكان المرض أن يستخدم هذا الدهان، وتكون الفدية لازمة له، فوجود الأذى ووجود الضرر لا يمنع من الفدية، ولذلك قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة:196] ، وكما لو حلق رأسه لضرر القمل كما في حديث كعب رضي الله عنه، وبسببه نزلت آية الفدية.
    الشاهد: أنه إذا كان الدهان دهان علاج وطب وسألنا الأطباء فقالوا: هذا الطيب موضوع في الدهان لتطييب رائحته، لزمت الفدية بلا إشكال؛ لأن الطيب موجود وأثره موجود، لكن لو كانت هذه الرائحة الذكية في نفس الدواء والدهن، فجاءت من خلط الأعشاب ببعضها وليست الأعشاب بذاتها، ولكن طبيعة خلطها أخرج هذه الرائحة، فليس هذا من جنس الطيب، ولا يأخذ حكم الطيب؛ لأنها لم تأت قصداً وليست بطيب حقيقة وإنما حصلت اتفاقاً، وعلى هذا فإنه لا يلزم في هذا النوع من الدهن الفدية، ويجوز له أن يضعه لعلاج أو نحو ذلك ولا فدية عليه.
    كذلك أيضاً: إذا كان الصابون الذي يغتسل به فيه طيب ورائحة فإنه حينئذٍ يتقيه ولا يغتسل به؛ لأن الله عز وجل حرم على المحرم أن يصيب الطيب، واستوى في ذلك أن يكون على سبيل الاغتسال أو يكون على سبيل الوضع مباشرة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( ولا تمسوه بطيب ) وأجمع العلماء رحمهم الله على عدم جواز أن يصيب المحرم الطيب ويدهن به.
    وفي حكم الادهان وضع اليد على موضع فيه طيب، كما لو وضع على الحجر الطيب، أو وضع على الركن اليماني الطيب ورأيته فإنك لا تلمسه؛ لأن اللمس سنة وإصابة لفضيلة، واجتناب الطيب وعدم مس البدن له واجب على المكلف أن يفعله بتعاطي الأسباب، فقدم ما يلزم المكلف على ما هو فضيلة ومستحب، وعلى هذا قالوا: لو رأى على الحجر أثر الطيب فإنه لا يلمسه ولا يقبله، وإنما يترك غيره من الحل يلمسه، فإذا لمسه وبقي أثر الطيب الذي هو الرائحة فذلك لا يضر، وإنما الذي يضر جلب الطيب ومادته.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #219
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (219)

    صـــــ(1) إلى صــ(19)


    المحظور السادس: قتل الصيد للمحرم
    قال رحمه الله: [وإن قتل صيداً مأكولاً برياً أصلاً].
    أي: هذا هو المحظور السادس وهو قتل الصيد، وهذا المحظور أجمع العلماء رحمهم الله عليه؛ لأن الله نص عليه في كتابه، وكذلك بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، قال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [المائدة:95] ، وقال سبحانه وتعالى: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } [المائدة:96] فنص سبحانه على أن المحرم لا يصيد.
    والصيد ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون صيد بر، وإما أن يكون صيد بحر، وأصل الصيد الحيوان المتوحش، ولذلك كان الحيوان في الأصل ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون مستأنساً، وإما أن يكون متوحشاً، فالحيوان المستأنس كالإبل والبقر والغنم، ومن الطيور كالدجاج والحمام إذا كان في منزل الإنسان، فهذه توصف بكونها مستأنسة؛ لأنها تأنس بالإنسان، وتألفه ويألفها، ولا تفر منه إذا جاءها، فهذا النوع من الحيوان يأمرك الشرع إذا جئت لتأكله أن تذكيه الذكاة الشرعية، إما بالذبح وإما بالنحر، أما الذبح فكالشاة والغنم، وأما النحر فكالإبل تطعنها في وهدتها وتنحرها، وما يكون جامعاً للأمرين فكالبقر يصلح فيه الذبح ويصلح فيه النحر، على خلاف بين أهل العلم رحمة الله عليهم، فهذا يسمى بالمستأنس، وذكاته ذكاة المستأنس.
    هناك نوع ثانٍ: وهو المتوحش، ولا يمكن لك أن تصيبه إلا باحتيال أو مغافصة ومغالبة وقهر، كأن تغلبه حتى تمسك به، أو تجري وراءه فتمسكه، أو تطلق عليه السلاح فتعقره أو تقتله، فهذا يسمى بالصيد، وهو الحيوان الذي لا يأنس للإنسان ويفر عنه.
    ويشمل الصيد الظباء والوعول والغزلان وبقر الوحش وحمار الوحش وتيس الجبل ونحوها مما خلق الله من الدواب التي يصيدها الإنسان ويحل له أكلها، وهذه من قسم المتوحش، وهو الصيد الذي أحله الله.
    وكما ذكرنا في المستأنس أن فيه من الطير كالحمام والدجاج ونحوها من الطيور، ويكون أيضاً من الدواب كالإبل والبقر والغنم، فكذلك المتوحش في الصيد يكون من الدواب على وجه الأرض، كالظباء والوعول والغزلان والريم ونحوها، ويكون من الطيور فيشمل الحباري ويشمل الطيور التي ليست بيد الإنسان فهذه كلها توصف بكونها متوحشة وصيداً، لكن بشرط أن لا تكون من الطيور من الجوارح ذوات المخلب، فلا يجوز أكل الصقر ولا الباز ولا الشاهين ولا الباشق ولا النسر ولا العقاب ونحوها، فانقسمت الحيوانات إلى هذين القسمين: الصيد ويكون للمتوحش، وغير الصيد الذي يكون من المستأنسات.
    وهناك نوع ثالث ليس من هذا ولا هذا، وهو الذي حرم الله من السباع العادية ذات الناب، كالأسد والنمر ونحوه، وذي المخلب من الطير كما ذكرنا في البواشق والنسور والصقور، فهذه كلها لا يجوز أكلها كما سيأتينا إن شاء الله في باب الذبائح.
    فانقسمت الحيوانات إلى هذين القسمين، والله عز وجل حرم على المكلف إذا كان مُحْرِماً أن يصيد المتوحش منها، فلا يجوز له أن يصيده سواء كان برياً أو كان من الطيور؛ لأنه لا يجوز له إذا كان محرماً أن يصيده ولا أن يصاد له، ومحل التحريم إذا كان برياً، والعلماء يصفون ما كان برياً مما ذكرنا من الريم والغزلان والظباء والوعول، ويصفون الطيور أيضاً بأنها برية وأنها صيد بر؛ لأنها تأوي في الليل إلى أكنانها، ولا تستطيع أن تنفك عن الإيواء إلى أكنانها، فتأخذ حكم صيد البر.
    هناك نوع ثانٍ: وهو صيد البحر، والمراد بذلك السمك والحوت، وهناك خلاف في غير السمك والحوت هل يدخل في صيد البحر، فيحل لنا جميع ما في البحر إلا ما كان ساماً أو عرف أنه يضر بالإنسان، أم أن الحكم خاص فقط بالسمك والحوت؟ أصح المذاهب في هذه المسألة مذهب الجمهور: أن الله أحل لنا ما في البحر، فيشمل جميع ما في البحر، إلا إذا كان ضاراً أو مستخبثاً، فهذا النوع من الصيد وهو صيد البحر حلال بإجماع العلماء لقوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } [المائدة:96] ثم قال بعد ذلك: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ } [المائدة:96] عطفاً على صيد البحر، فدل على أن صيد البحر في الأصل حلال، سواء كنت محرماً أو غير محرم، فالمحرم يجوز له أن يصيد صيد البحر، ولكن لا يجوز له أن يصيد صيد البر.
    إذا عرفنا هذه المقدمة، وأن الحيوان منه ما هو بري ومنه ما هو بحري، فيبقى السؤال عما جمع بين البر والبحر، وهو الذي يسمى بالبرمائي، هل يحرم على المحرم أن يصيده، أو لا يحرم؟ والبرمائي ينقسم إلى قسمين: منه ما لا يمكن له العيش والتكاثر والتوالد غالباً إلا في الماء كالضفادع ونحوها، فهذا يأخذ حكم ما في الماء، ويكون صيده صيد بحر، ومنها ما يكون تكاثره وغالب وجدانه في البر كالسلحفاة ونحوها فتأخذ حكم ما في البر، ويكون الحكم في حلها وحرمتها راجعاً إلى هذا التفصيل.
    إذا تبين هذا فصيد البحر جائز بالإجماع؛ لنص الآية، أما صيد البر فلا يجوز لك إذا أحرمت أن تصيده، ولا أن تعين على صيده كأن تقول لرجل: انظر إلى هذه الحمامة أو هذا الطائر، أو أدرك الحمامة، أو صد الحمامة، ولا يجوز أن تشير إلى مكان الصيد، كأرنب ونحو ذلك، فتقول له: هو في هذا الموضع، بل يجب عليك أن تسكت حتى ولو رأيته أمامك.
    ولا يجوز أن يصاد من أجلك؛ فلو صاد إنسان صيد بر وقصدك به وأنت محرم فلا يحل لك، ولا يحل أيضاً هذا الصيد الذي صيد للمحرم، وتكون تذكيته لاغية فيعتبر كالميتة، لا يجوز أكله ولا بيعه، فإذا صاد المحرم أو أعان على الصيد أو صيد من أجله فإن هذا الصيد يعتبر في حكم الميتة، لا يجوز أكله لا للمحرم ولا للحلال، فلو قلنا: إن المحرم لا يجوز له، كذلك أيضاً غيره؛ لأنه في هذه الحالة ينتقل إلى حكم الميتة على تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله سيأتينا بيانه إن شاء الله في باب الأطعمة.
    كذلك أيضاً: لا يصاد للمحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أهدى له الصعب بن جثامة رضي الله عنه وأرضاه حمار وحش فرده عليه -لم يقبل الهدية، وقد كان بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه لا يرد الهدية- فلما ردها على الصعب تغيّر وجه الصعب رضي الله عنه وأرضاه، فقال عليه الصلاة والسلام يطيب خاطره: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ) أي: لكوننا حرماً وأنت صدته من أجلنا فإن هذا اقتضى عدم حله لنا، فإذا قيل: ما الدليل على التفصيل بين كونه يصاد له، أو لا يصاد له؟
    الجواب
    أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية الصيد مرة وهو محرم، ولم يقبله مرة وهو محرم، فقبله في قضية أبي قتادة وهي ثابتة في الصحيحين، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد عمرة الحديبية خرج من المدينة، فبلغه أنه ربما جاءت بعض الأرسال والبعوث من المشركين تريد أن تؤذيه وهو محرم بالعمرة، فأرسل سرية لـ أبي قتادة وقال: ( خذوا ساحل البحر )، فأرسلها من الجهة الغربية للمدينة على جهة الساحل، فأحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم، وهذا يدل على أن من جاء من المدينة وقصد جهة رابغ أو جهة ينبع، أنه لا يلزمه الإحرام من ذي الحليفة؛ لأن أبا قتادة أخر إحرامه.
    فأخذوا ساحل البحر، وقال: كونوا على ساحل البحر حتى نلتقي، وإذا حدث من العدو شيء يكون النبي صلى الله عليه وسلم على علم به، فلما أخذوا ساحل البحر كانوا كلهم محرمين إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم، فسنح لهم حمار الوحش فجلس أصحابه ينظر بعضهم إلى بعض، ولم يخبره أحد بأن هناك صيداً، فالتفت أبو قتادة فإذا هو بحمار الوحش، فركب فرسه فسقط سهمه، فسألهم أن يناولوه فلم يعنه أحد ولم يناوله، فنزل عن فرسه وأخذه ثم عقر منها وصاد رضي الله عنه وأرضاه، فلما صاد هذا الصيد أكلوا، فلما أكلوا قالوا: أنأكل ونحن محرمون؟ فاشتبهوا، فتوقفوا عن الأكل حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ( هل أحد منكم أشار إليه؟ قالوا: لا، قال: هل أحد منكم أعانه؟ قالوا: لا، قال: هل بقي عندكم منه شيء؟ فأعطي عليه الصلاة والسلام من فضلته وقال: كلوا )، وأذن لهم أن يأكلوا.
    فدل على أنه لا يعان الحلال من المحرم على الصيد، لا بإشارة، ولا بسلاح ونحوه، وأن المحرم يبقى ساكتاً مهما رأى، ولا يشير إليه بإشارة فعلية ولا ينبهه بالقول، فإذا نبهه بالقول حرم عليه الصيد، وإذا صاد المحرم فيحرم عليه أن يأكل الصيد أو ينتفع بما في الصيد، فلا يجوز له أن يأكل بيض الصيد؛ لأن هذا الصيد حرام عليه، والفرع تابع لأصله، ولا يجوز له أن ينتفع بفرعه إذا كان قد صاده هو، وإنما يرسل هذا الصيد حتى يأخذه على وجه شرعي معتبر، وحينئذٍ يحل الانتفاع به.
    قوله: (برياً أصلاً) أي: يكون الصيد برياً أصلاً، فخرج البرمائي، فإن البرمائي ليس ببري أصلاً، ولو كان أكثر عيشه في البر فإنه لا يوصف بكونه برياً أصلاً.
    وعلى هذا: خرج صيد البحر؛ لأنه ليس ببري أصلاً، وخرج ما جمع بين وصف البري والبحري معاً.
    حكم قتل الحيوان المتولد من مأذون وغير مأذون
    قال رحمه الله: [ولو تولد منه ومن غيره]: هذه مسألة ما إذا تولد الحيوان من مأذون وغير مأذون، فهل نغلب جانب التحريم فنمنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غلب جانب التحريم وقال: ( إذا نهيتكم فانتهوا ) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) ، والأصل أن هذا الحيوان يعتبر حراماً من جهة تذكيته وإعمال الذكاة به، حتى تتحقق أنه من جنس ما أحل الله أكله، هذا قول.
    القول الثاني: إذا تولد من الحرام والحلال حل أكله؛ لأن الأصل أن الله سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، فلما لم نتحقق من الخروج عن هذا الأصل فيحل لنا أكله.
    القول الثالث: ننظر إلى أم الحيوان، إن كانت أمه من الحلال فحلال، وإن كانت أمه من الحرام فحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) ، فالشاهد أنه لا بد وأن يكون برياً أصلاً؛ لأن هذا أصل عند الحنابلة سنتكلم عليه إن شاء الله في باب الأطعمة.
    قال: [أو تلف في يده فعليه جزاؤه].
    سنتكلم إن شاء الله على جزاء الصيد، إذا قتله المحرم، وما هي الفدية وجزاء الصيد الذي أوجب الله على من قتل الصيد سواء كان متعمداً، أو كان مخطئاً، أو كان ناسياً؟ وهل هذه الفدية تخييرية، أو ترتيبية؟ كل هذا سنتكلم عليه في باب الجزاء إن شاء الله.
    حكم صيد البحر ومحرم الأكل
    قال رحمه الله: [ولا صيد البحر].
    أي: ويحل له صيد البحر، فإنه ليس بحرام بنص الآية: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ } [المائدة:96] فدل على أن التحريم يختص بالبر دون البحر، وهذا بالإجماع.
    قال: [ولا قتل محرم الأكل]: ولا يحرم على المحرم أن يقتل محرم الأكل، كالسباع العادية، فلو قتل أسداً أو نمراً فإنه لا يضر؛ لأن هذا ليس بصيد ولم يسمه الشرع صيداً؛ لأن الأسد والنمر ليس من جنس الحيوانات التي أباح الشرع أكلها، فلو أن إنساناً سألك وقال: كنت محرماً فلقيت أسداً وقتلته، هل يلزمني شيء؟ تقول: هذا ليس بصيد، ولا يلزمك جزاء الصيد، سواء عدا عليه الأسد أو لم يعدُ، وكذلك بالنسبة كذلك للفواسق، لو قتل حيةً أو عقرباً أو غراباً أو فأرة فهذا كله ليست فيه فدية، وليس فيه جزاء الصيد، وليس عليه شيء لقتله.
    حكم قتل الصائل للمحرم
    قوله: [ولا الصائل].
    لو قتل صائلاً صال عليه، وهو الذي يهجم على الإنسان يريد أن يؤذيه في نفسه.
    وهذا الصائل له حكم خاص في الشرع، قال: ( يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار ) ، فالصائل الذي يصول على النفس أو يصول على العرض أو يصول على المال، فيأتي مشهراً سلاحه، سواء في بر أو غيره، هذا الصائل في الأصل فيه تفصيل: فإن أمكنك أن تفر عنه وتبتعد عنه، فلا يجوز لك قتله؛ لأن نفس المسلم محرمة، والأصل أنه محرم الدم، فلا يجوز لك أن تستبيحه إلا عند الحاجة، فإذا كان يمكن تلافي ضرره بالفرار فيجوز لك أن تفر ، بل يجب عليك أن تفر، ولا يجوز لك قتله، فإن قتلته مع القدرة على الفرار كان الحكم كحكم قتل العمد في قول طائفة من العلماء؛ لأنه لا يرخص لك بقتله، وقال بعض العلماء: يسقط القصاص ويكون حكمه حكم شبه العمد وتغلظ الدية، على تفصيل يأتي -إن شاء الله- في باب القصاص.
    الحالة الثانية: أن يأتي وهو يريد العرض، فيمكنك الفرار أو يمكنك دفعه، يأتي -مثلاً- شاهراً سلاحه، فيمكنك أن تضربه في يده فتسقط السلاح من يده، أو تعقره بضربة لا يستطيع أن يقتلك بها، فحينئذٍ لا يجوز لك أن تعدل إلى قتله مع القدرة على عقره.
    فالحالة الأولى: أن يمكنك الفرار عنه، أو تضع شيئاً بينك وبينه لتأمن ضرره، فحينئذٍ لا يجوز لك قتله، أو تستطيع أن تصارعه أو تدافعه فتأمن ضرره، فتصارعه وتدافعه ولا تقتله؛ لكن إذا تعين ولم تستطع أن تدفع ضرره إلا بالقتل فحينئذٍ يحلّ لك قتله ودمه هدر؛ وذلك لأنه اعتدى، وباعتدائه على المسلم سقطت حرمة نفسه فإذا لم يمكنك دفع ضرره إلا بالقتل فإنه يقتل ويكون مهدر الدم، هذا إذا اعتدى على النفس.
    وكذلك إذا اعتدى على العرض، كأن يكون اعترض الإنسان في طريقه، فإن أمكنه أن يدفع ضرره فبها ونعمت، ولا يجوز له أن يقتله في هذه الحالة، لكن إذا كان معه من السلاح أو الضرر ما لا تستطيع معه دفعه ولا تستطيع معه الفرار، وغلب على ظنك أنه سيصل إلى الحرام، وأنه لا سبيل إلى كف ضره إلا بقتله حلّ لك قتله في هذه الحالة، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم.
    الأسئلة
    حكم أخذ الظفر إذا كان مؤذياً للمحرم


    السؤال
    من انكسر ظفره وتأذى من ذلك، فهل له أن يقلمه؟


    الجواب
    فرق جمع من أهل العلم رحمهم الله في الشعر والظفر بين أن يكون الأذى في نفس الشعر وفي نفس الظفر، فرخصوا في القلع والقص والحلق والإزالة، وبين أن يكون الضرر في شيء في الشعر كالقمل ونحوه، فتلزم الفدية إذا أزال الشعر، وتوضيح ذلك: أنه إذا كان ظفره منكسراً وكان يجرح، وكلما مشى آذاه وأضره، فالأذى والضرر في نفس الظفر، فيرخص له لمكان الضرورة، ولا فدية عليه إذا قصه، وهكذا لو تدلى شعره على عينه فأصبح يؤذيه في بصره أو يؤذيه في نظره أو نحو ذلك، جاز له أن يقص منه على قدر الحاجة ولا فدية عليه؛ لأن الضرر تعلق بنفس الشعر وبنفس الظفر.
    وأما إذا تعلق بشيء في الشعر كالقمل في داخل الشعر، فإن إزالة الشعر جاءت تبعاً ولم تأت أصلاً، وعلى هذا قالوا: تلزم الفدية إذا كان الشعر تابعاً لضرر وليس الضرر في نفس الشعر، وأما إذا كان الضرر من نفس الشعر والأذى من نفس الشعر فإنه يرخص له أن يزيله ولا فدية عليه.
    والله تعالى أعلم.
    حكم تذكية ما صيد قبل الإحرام بعد الإحرام
    السؤال
    لو أن إنساناً صاد صيداً قبل أن يحرم، ثم أحرم والصيد معه، هل يجوز له أن يذكيه ويأكل منه؟


    الجواب
    إذا صاد الصيد وأمسكه وبقي عنده، ثم أحرم ولو بعد إمساكه بلحظة، فإن هذا الصيد مستأنس وآخذ حكم المستأنس، يحل له أكله والانتفاع به، ولا حرج عليه؛ لأنه لم يصده بعد الإحرام، وإنما صاده في حال الحلّ، فيجوز له أكله والانتفاع بما يكون منه.
    والله تعالى أعلم.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #220
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,269

    افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

    شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
    (كتاب المناسك)
    شرح فضيلة الشيخ الدكتور
    محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
    الحلقة (220)

    صـــــ(1) إلى صــ(20)


    شرح زاد المستقنع - باب محظورات الإحرام [2]
    تحقيقاً لمقصود الحج من ترك الدنيا وما يتعلق بها فإنه يحرم على المحرم عقد النكاح له أو لغيره، وكذلك الجماع، أو مباشرة زوجته، والمرأة كالرجل في كل المحظورات إلا في اللباس، فإنها تلبس ما تريد إلا أنه يحرم عليها أن تلبس شيئاً يغطي وجهها ويديها.
    تابع محظورات الإحرام
    المحظور السابع: عقد النكاح للمحرم

    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد: فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ ويحرم عقد نكاح ولا يصح ولا فدية ].
    ما زال المصنف رحمه الله يبين لنا محظورات الإحرام، فقال رحمه الله: (ويحرم عقد نكاح)، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح، سواء كان في حج أو كان في عمرة، ولذلك يعتبر عقد النكاح المحظور السابع من محظورات الإحرام التي ذكرها المصنف رحمه الله.
    والعقد في اللغة: التوثيق، يقال: عقد الحبل إذا شد وثاقه، وكذلك يقال: عقد إذا أبرم الشيء، وأما في الاصطلاح: فإن المراد به الإيجاب والقبول، فالإيجاب هو قول الرجل: زوجتك، والقبول قول الزوج: قبلت، فإذا قال الولي: زوجتك، وقال الزوج: قبلت، فقد عُقد النكاح، وإذا قال الموجب: بعتك، وقال المشتري: اشتريت، فقد عُقد البيع، وإذا قال: أجرتك داري بمائة ألف لمدة سنة، فقال: قبلت، فهو عقد إجارة، وقس على ذلك.
    فإذا وجدت الصيغة المشتملة على الإيجاب والقبول فإنه يوصف ذلك بالعقد، وهذا في الاصطلاح عند العلماء رحمة الله عليهم، فإذا وجدت كتب الفقهاء ينصون فيها على كلمة العقد فمرادهم بها الإيجاب والقبول، وعلى هذا يقول المصنف: (يحرم عقد النكاح) أي: يحرم على الإنسان إذا أحرم بالحج أو العمرة أن يتزوج أو يزوج غيره، كأن يكون ولياً لبنت أو أخت أو امرأة من أقربائه، أو تكون المرأة المحرمة بحج أو عمرة منكوحة، بمعنى: أنه يراد تزويجها، فلا يجوز أن يعقد النكاح، سواء كان زوجاً أو كانت زوجة، خاصة على القول بأن للمرأة أن تلي عقد النكاح كما هو مذهب الحنفية، وكذلك أيضاً أن تكون ولياً.
    دليل التحريم ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب )، وهذا الحديث اتفق الشيخان على صحته وثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله: (لا ينكح المحرم) لم يفرق بين محرم لحج أو عمرة (ولا يُنكح) أي: إذا كان امرأة، وهذا يدل على أنه لا يجوز له أن يكون في عقد النكاح لا زوجاً -وهو الأصيل- ولا وكيلاً، فلا يجوز للمحرم أن يكون وكيلاً في عقد النكاح بأن يقبل النكاح من غيره، أو يوجبه للغير.
    وهذه المسألة للعلماء فيها قولان: القول الأول يقول: لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن ينكح ولا أن يخطب، وهذا هو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله على الجميع، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المحرم عقد النكاح سواء كان زوجاً أو زوجة أو ولياً أو وكيلاً، وذلك هو نص الحديث الثابت عنه والذي ذكرناه.
    القول الثاني: ذهب فقهاء الحنفية رحمهم الله إلى القول بجواز أن ينكح المحرم وأن يُنكح، وأن يخطب، لكن بعضهم ينص على جوازه مع الكراهة، أي: أنه يكره له ذلك، ولكن يجوز، والعقد صحيح، واحتج هؤلاء العلماء بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم ) ، فأثبت أن الزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ميمونة وقع وهو محرم، قالوا: فدل دلالة واضحة على أنه يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يزوج الغير وأن يخطب، وأما ما ورد من النهي عن النبي صلى عليه وسلم فإن فعله صلوات الله وسلامه عليه يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، وهذا مسلك يعمل به جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم: وهو أنه إذا ورد النهي وجاء ما يدل على الجواز صرف ظاهر النهي من التحريم إلى الكراهة.
    والذي يترجح بنظري والعلم عند الله: هو القول بالتحريم، وهو مذهب جمهور السلف كما ذكرنا؛ وذلك لما يلي: أولاً: لصحة دلالة السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم.
    ثانياً: أنه يجاب عن حديث ابن عباس من وجوه: الوجه الأول: أن القاعدة: إذا تعارضت رواية أكابر الصحابة مع رواية أصاغر الصحابة قدمت رواية أكابر الصحابة على الأصاغر؛ والسبب في هذا واضح، وهو أن أصاغر الصحابة في الغالب يروون بواسطة، وأكابر الصحابة في الغالب يروون مباشرة، فتقدم رواية الأكابر؛ لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمهم بحاله أكثر من أصاغر الصحابة.
    الوجه الثاني: أن حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم ) عارضته ميمونة صاحبة القصة، وعارضه أبو رافع السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم و ميمونة ، ومن المعلوم أن ميمونة رضي الله عنها -وهي خالة ابن عباس - أعلم بحال النبي صلى الله عليه سلم حينما تزوجها، فلما أثبتت أنه تزوجها وهو حلال، دل هذا على ضعف ما ذكره ابن عباس ، ومن هنا قال الإمام أحمد : إن هذا الحديث خطأ، وهذا الخطأ قد يكون من الرواة أو يكون من سماع ابن عباس عن غيره من الصحابة رضوان الله عليهم.
    وهناك وجه ثالث في الترجيح: أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما له معارض، وحديث التحريم صريح في التحريم لم ترد له صيغة معارضة، وإذا تعارض النصان أحدهما له وجه معارض، والآخر لا معارض له قدم الذي لا معارض له؛ لأن له مزية، وأنت إذا تأملت أحاديث النهي لم تجد ما يعارضها في الروايات نفسها، ولكن إذا تأملت حديث ابن عباس الذي يدل على الإباحة تجد أنه قد عارضه أبو رافع وعارضته ميمونة فلم يتمحض حديث ابن عباس في القوة في الدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حلالاً.
    الوجه الرابع في الترجيح: أن القاعدة أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح أنه يقدم النص الحاظر على النص المبيح؛ لما فيه من زيادة العلم، ولما فيه من زيادة الاحتياط، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم نهيه على أمره، فكيف بتقديم نهيه على ما يكون من حاله محتملاً الخصوصية، فهذا من باب أولى وأحرى، ولذلك قال: ( إذا نهيتكم فانتهوا )، وقال في الأمر: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ، فهذا يدل على قوة أدلة التحريم ورجحانها على أدلة الجواز.
    الوجه الخامس: أن حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم ) يحتمل أن يكون خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصيات حتى في النكاح، ولذلك قال سبحانه: { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [الأحزاب:50]، فالله خصه بخصائص كما نص على ذلك كتاب الله عز وجل: { وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } [الرعد:41] .
    فلما خاطب عليه الصلاة والسلام عموم الأمة بقوله: ( لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب ) دل على أننا مطالبون بامتثال هذا النهي، ولما فعل هو عليه الصلاة والسلام -على القول بأنه تزوجها وهو محرم- فإننا نقول: هذا خاص به؛ لأن القاعدة: إذا تعارضت دلالة القول مع دلالة الفعل احتملت دلالة الفعل الخصوصية، فتقدم دلالة القول؛ لأنها تشريع للأمة.
    الوجه السادس: أن قول ابن عباس : (تزوج ميمونة وهو محرم) كما أنه ضعيف من جهة السند فلا يقوى على معارضة النص الصحيح الصريح فإننا نقول: هو في لفظه محتمل؛ وذلك أن قول ابن عباس : (تزوج ميمونة وهو محرم) يحتمل أن يكون مراده: (وهو محرم) أنه عقد عليها داخل حدود الحرم، وهذا له مغزىً دقيق، وهو من فقه ابن عباس ، كأنه يريد أن ينبه على مسألة فقهية من مسائل الهجرة، وذلك أن من هاجر من بلد فإنه لا يرجع إليه إذا تركه لله ورسوله، ولذلك ثبت في النص الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لكن البائس سعد بن خولة ) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.
    ولذلك قال العلماء: من خرج من بلد كفر مهاجراً عنها فإنه لا يرجع إليها، ولذلك لم يرجع المهاجرون إلى مكة إلا بقدر الحاجة، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم في الإقامة فيها ثلاثة أيام فقط، فدل على أنه لا يجوز لمن هاجر من بلد أن يقيم فيها بعد هجرته؛ لأنه تركها لله عز وجل، ولو عادت بلد إسلام بعد ذلك، وإذا ثبت هذا ورد سؤال هو: هل يجوز له أن يتزوج من أهل هذا البلد؟ وهل زواجه من أهل هذا البلد وعقده فيه يعتبر بمثابة الإقامة؟ فرد ابن عباس رضي الله عنهما هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، أي: داخل حدود الحرم، والعرب تسمي من كان داخل الحدود محرماً، ومنه قول حسان بن ثابت يرثي عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع: قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ومن المعلوم أن عثمان إنما قتل في حرم المدينة ولم يقتل وهو محرم بالحج أو بالعمرة، فدل على أن من كان داخل حدود حرم مكة أو حرم المدينة فإنه يوصف بكونه محرماً.
    فالعرب تسمي من دخل في الزمان الحرام -كالأشهر الحرم- أو دخل في المكان الذي له حرمة، تسميته محرماً، وعلى هذا يكون حديث ابن عباس له مغزىً خارج عن مسألتنا، أي: أنه لا يدل على أنه تزوجها حال إحرامه صلوات الله وسلامه عليه.
    وبناء عليه يترجح مذهب الجمهور الذين يقولون بأنه لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، وهذا الحكم يستوي فيه أن يكون المحرم أصيلاً عن نفسه، كأن يتزوج لنفسه، أو وكيلاً عن غيره، كأن يقول له رجل: اذهب واخطب لي فلانة، وأنت وكيلٌ عني، فإن الوكيل ينزل منزلة الأصيل، وعلى هذا فإنه يستوي أن يكون وكيلاً عن محلّ أو وكيلاً عن محرم، ويستوي في ذلك أن يكون الوكيل ذاته وكيلاً عن إنسان محرم، أو يكون في حال إحرامه كما ذك
    حكم عقد النكاح إذا قام به المحرم
    قال رحمه الله: [ويحرم عقد نكاح، ولا يصح، ولا فدية].
    أي أنه لو وقع الإيجاب والقبول من المحرم زوجاً أو ولياً فإنه لا يصح، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ويركبونه من أن النهي هنا استغرق زماناً لا يصح فيه الإيجاب والقبول، كأن الشرع جعل هذا مدة، إحرام الإنسان إلى أن يتحلل غير صالحة للإيجاب والقبول، فإذا وقع الإيجاب والقبول لم يقع معتداً به شرعاً، وحينئذٍ يكون من اللغو، فوجوده وعدمه على حد سواء، لكن لو عقد وهو محرم وتزوج المرأة ودخل بها وجاء له منها أولاد، فإن هذا يعتبر نكاح شبهة إذا كان يظن أن هذا جائز، ولكن لا يوجب حرمة نسله؛ لأن نكاح الشبهة كما هو معلوم تسري عليه أحكام النكاح الصحيح، ولكن يفسخ ثم يطالب بتجديده بعد ذلك.
    قوله: [ولا فدية].
    أي: أن هذا المحظور ليست فيه فدية، فلو أن رجلاً سألك وقال: عقدت نكاحاً وأنا محرم بحج أو عمرة، فما الحكم؟ تقول له: إن النكاح لا يصح ولا فدية عليك، وإنما عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل.
    حكم مراجعة المطلقة حال الإحرام
    قال: [وتصح الرجعة]: أي: إذا كان النكاح لا يصح، والخطبة لا تجوز، حيث لا يجوز للمحرم أن ينكح، ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، ف

    السؤال
    لو أن رجلاً طلق امرأته طلاقاً رجعياً، ثم ارتجعها في عدتها، فهل الرجعة تأخذ حكم الابتداء؟ أولاً -حتى تكون الصورة واضحة-: إذا طلق الرجل امرأته فإن طلاقه لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون طلاقاً رجعياً.
    والحالة الثانية: أن يكون طلاقاً بائناً.
    فأما الطلاق الرجعي فهو: أن يطلقها الطلقة الأولى، فالشرط فيها: أن تكون الطلقة بعد الدخول، وأن تكون في غير خلع.
    فإذا طلقها طلقة واحدة بعد دخوله بها في غير خلع وفي غير طلاق من القاضي أو من الحكمين -على القول بأن طلاق القاضي والحكمين يوجب البينونة- فحينئذٍ تبقى المرأة في عدتها من الطلقة الأولى، ما لم تضع حملها، أو تستتم الثلاثة الأشهر إن كانت من ذوات الأشهر، أو تمضي عليها ثلاثة قروء إذا كانت من ذوات الأقراء، وخلال هذه المدة يجوز له أن يرتجعها ولو بغير رضاها.
    فلو أن رجلاً طلق امرأته بعد الدخول طلقة واحدة ثم أراد أن يراجعها في أي وقت، فما دام أنها لم تخرج من عدتها، فإنه تصح رجعته وتلزم المرأة بالرجوع بغير رضاها، حتى ولو كان يريد أن يرجعها بدون رضاها؛ لأن الله تعالى يقول: { وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا } [البقرة:228] .
    فمن حقه أن يرتجع زوجته ما دامت في عدتها، وإذا ثبت أن من حقه أن يرتجعها ما دامت في عدتها فهذا يسمى بالطلاق الرجعي، ويقع بعد الطلقة الأولى ويقع بعد الطلقة الثانية، أما لو طلقها الطلقة الثالثة فإنها تبين منه، وتكون البينونة هنا بينونة كبرى؛ لأن الطلاق البائن ينقسم إلى قسمين: طلاق بائن بينونة كبرى.
    وطلاق بائن بينونة صغرى.
    فالمطلقة طلاقاً بائناً بينونة كبرى هي التي لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا بينه الله تعالى بقوله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } [البقرة:230] يعني: الطلقة الثالثة { فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } [البقرة:230] فنص سبحانه على حرمة ارتجاعه لها، وأنه لا يجوز له أن ينكحها إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، كما ثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    والبينونة الصغرى تقع على صور: منها: أن يطلقها قبل الدخول، كأن يعقد على امرأة ثم يحصل بينه وبينها ما يحصل فيقول لها: أنت طالق، فإذا طلقها قبل الدخول فإنها تبين منه بينونة صغرى.
    والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن البينونة الصغرى يستحق فيها أن يرتجع المرأة لكن بعقد جديد، ولكن لا يلزمها أن ترجع إليه إلا برضاها، بمعنى أنها لو امتنعت أو امتنع وليها فمن حقها ذلك ولا يستطيع ارتجاعها، على خلاف الرجعية فلا خيار لها.
    ففارقت البينونة الصغرى الرجعية بأن الرجعية يردها على رغم أنفها حتى ولو أبت، وأما في البينونة الصغرى فإنه لا يمتلك ارتجاعها إلا بعقد جديد فهي كالأجنبية، ولكن يجوز له أن يرتجعها.
    والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن في الكبرى لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وفي البينونة الصغرى تحل له بعقد جديد ولا يشترط أن تنكح زوجاً غيره.
    وعلى هذا يرد السؤال في هذا النوع من الطلاق وهو الطلاق الرجعي: لو أن زيداً من الناس قال لامرأته: أنت طالق، ثم أحرم بحج وعمرة، فأراد أن يرتجعها، فهل يجوز له أن يرتجعها أثناء تلبسه بالإحرام بحج أو عمرة، هذه هي صورة المسألة.
    و

    الجواب
    أنه يجوز له أن يرتجعها؛ لأن الاستدامة لا تأخذ حكم الابتداء، فاستدامة المحظور ليست كابتدائه، ومثل هذا أنه يجوز أن يستصحب الطيب في بدنه إذا تطيب قبل إحرامه، كذلك يجوز له أن يستديم النكاح؛ لأنه ثابت قبل إحرامه؛ لأن المرأة الرجعية في حكم المرأة التي في عصمة الإنسان، فإنه حينئذٍ يجوز له أن يرتجعها ولو كان في حج أو عمرة.
    فلو سألك سائل وقال: إن الله عز وجل حرم على المحرم أن ينكح أو يُنكح أو يخطب كما ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد طلقت زوجتي طلقة واحدة أو الطلقة الثانية، وأريد أن أرتجعها أنا محرم، فهل يجوز لي ذلك؟ تقول: نعم، يجوز لك ذلك؛ لأن الارتجاع ليس كالعقد، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم النكاح ولم يحرم الارتجاع، فدل على أنه باقٍ على الأصل الذي يدل على جوازه ومشروعيته، فيجوز له أن يرتجع امرأته.
    المحظور الثامن: الجماع
    قال المصنف رحمه الله: [وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما].
    هذا المحظور الثامن من محظورات الإحرام: وهو الجماع، وقد حرم الله عز وجل على المحرم ثلاثة أمور في النساء: الأول: أن يعقد.
    والثاني: أن يباشر بما دون الفرج.
    والثالث: أن يجامع.
    فهذه ثلاثة محظورات ذكرها المصنف مرتبة، فابتدأ بالعقد ثم أتبعه بالجماع ثم أتبعه بالمباشرة، وأعلاها وأقواها الجماع.
    فالجماع محرم بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك قال تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة:197] ، فحرم الله عز وجل الرفث الذي هو مقدمات الجماع، بل قالوا: إنه أقل ما يقال من الكلمات التي تثير النساء، فإذا حرم الله عز وجل الكلمة اليسيرة التي تثير الشهوة كما نص على ذلك جمهور السلف رحمهم الله فالجماع أولى.
    فسر ابن عباس و عطاء وغيره من تلامذته رحمة الله عليهم جميعاً الرفث، فقالوا: إن المراد بالرفث الكلمات التي تستثار بها غرائز النساء، فلا تحل ولا تجوز للمحرم، فهي من المحظورات؛ فإذا حرم هذا فمن باب أولى الجماع، ولذلك انعقد الإجماع على أنه لا يجوز الجماع في الحج ولا في العمرة، فلو وقع الجماع فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قبل الوقوف بعرفة.
    والحالة الثانية: أن يكون بعد الوقوف بعرفة.
    فإن وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة، أي: قبل أن يستتم وقوفه بعرفة وينصرف منها، فإن حجه باطل بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فمن جامع أهله في يوم التروية وهو محرم بالحج أو جامعهم صبيحة يوم عرفة أو عشية عرفة قبل أن يدفع، فإنه حينئذٍ يفسد حجه.
    وبعض العلماء يقول: ما لم يقف بعرفة، وعلى هذا فإن الجماع إذا وقع قبل استتمام الوقوف والاعتدال به فإنه يعتبر موجباً لفساد الحج.
    وإذا فسد الحج فإنه يلزمه أن يمضي في هذا الحج الفاسد، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196]، والحج والعمرة عبادتان لو أفسدهما المكلف ألزم بإتمامهما مع الفساد بإجماع العلماء؛ لأن الله أمر بإتمام هذين النسكين ولم يفرق بين فاسد أو صحيح.
    ولذلك قالوا: من جاء بعمرة ولبى وأحرم ثم بعد الإحرام ولو بلحظة قال: لا أريد العمرة، وأراد أن يفسخ عمرته فإنه يبقى محرماً إلى الأبد حتى يؤدي عمرته؛ لأن الله قال: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة:196]، فهذا يدل على أن النسك لا بد من إتمامه على وجهه المعتد به شرعاً، قالوا: فإذا وقع جماعه قبل وقوفه بعرفة فإنه حينئذٍ يحكم بفساد الحج على الأصل، وهذا محل إجماع، ثم يطالب بإتمام وقوفه، والمضي في بقية مناسكه، ثم عليه الحج من قابل وعليه بدنة، وهذا قضاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجامع.
    قضى به عمر و علي و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس وبه قال أبو هريرة رضي الله عن الجميع، فهؤلاء الصحابة الأجلاء قالوا بهذا، وحكموا به، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أنه لو وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة أنه يوجب فساد الحج، وعلى من جامع والمرأة التي جومعت المضي في حجهم الفاسد، ثم عليهم الحج من قابل، يستوي أن يكون جماعه لامرأة تحل له، أو بشبهة كخطأ في الوطء، أو بحرام كزناً، أو نحو ذلك من المحرمات فإنه يعتبر حجه فاسداً وجهاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.
    وأما إذا وقع الجماع بعد الوقوف بعرفة فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قبل التحلل الأول.
    والحالة الثانية: أن يكون بعد تحلله الأول.
    فإذا وقع الجماع قبل التحلل الأول فقد أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: [وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما].
    بأن وقف بعرفة، ثم مضى إلى مزدلفة، فوقع جماعه ليلة المزدلفة، فهذا يعتبر قبل التحلل الأول، فاختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول يقول: إذا وقع الجماع قبل التحلل الأول فسد حجه، وبه قال الجمهور، كما يفسد قبل الوقوف بعرفة.
    والقول الثاني يقول: إذا وقع جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فحجه صحيح، وهو مذهب الحنفية.
    والقول: بأن حجه فاسد أقوى، وقد قال الحنفية، حجه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الحج عرفة )، قالوا: فإذا وقف بعرفة ووقع جماعه بعد وقوفه فإننا لا نحكم بفساد حجه، وقد قال عليه الصلاة والسلام لـ عروة بن مضرس : ( من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه ) .
    والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لأنه إذا كان قبل التحلل الأول فإنه في حكم ما إذا كان قبل الوقوف بعرفة؛ وذلك لبقاء الركن وهو طواف الإفاضة.
    وقد صحح بعض العلماء مذهب الجمهور: أنه إذا وقع جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فإن حجه يعتبر فاسداً؛ وذلك لأن الشرع قد جعل هذا التحلل لمعنى، ولذلك يستوي فيه أن يكون الإخلال قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بعرفة؛ لأنه ما وصف بكونه تحللاً إلا وهو مؤثر في حل النكاح، وموجباً لجوازه، فكأن النكاح يتأقّت والجماع يتأقّت بهذا التحلل، فاستوى أن يقع الإخلال قبله مباشرة أو قبل الوقوف بعرفة.
    فمسلك الجمهور من جهة النظر قوي، ولذلك قال الله تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج:29] حتى يحصل التحلل الكامل، فقالوا: إن التحلل ينقسم إلى قسمين: تحلل أول، وتحلل عام، وهو الذي يقع بعد طوافه للإفاضة.
    فقالوا: إذا كان الشخص قد وقع منه الإخلال قبل التحلل الأول، فإنه في حكم من جامع قبل الوقوف بعرفة، وهذه المسألة توقفت فيها كثيراً، وكنت لا أفتي فيها لتعارض النظر فيها، ولذلك أحكي فيها مذاهب العلماء على ما ذكره أهل العلم رحمهم الله.
    قال: [ويمضيان فيه ويقضيانه ثاني عام].
    هذا قضاء الصحابة: عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب و عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر و أبو هريرة رضي الله عنهم أجمعين.
    المحظور التاسع: مباشرة المرأة
    قال رحمه الله: [وتحرم المباشرة].
    هذا هو المحظور الأخير، أشار إليه رحمة الله عليه بقوله: (وتحرم المباشرة) أي: لا يجوز للمحرم أن يباشر زوجته بتقبيل أو غمز أو نحو ذلك مما يستمتع به من المرأة فيما دون الجماع، لقوله سبحانه: { فَلا رَفَثَ } [البقرة:197] وهو يشمل الرفث بالقول والرفث بالفعل، لأن النفي المسلط على النكرة يفيد العموم.
    أي: لا رفث عموماً، سواء كان بقول أو كان بفعل، فلا يجوز للرجل أن يستمتع بامرأته بما دون الفرج على أي وجه كان.
    وقوله: [فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه وعليه بدنة ].
    أي: فإن فعل المباشرة، فلا يخلو من حالتين: إما أن يفعل المباشرة ولا يقع منه شيء، وإما أن يفعل المباشرة ويقع منه شيء.
    فإن فعل المباشرة ولم ينزل ولم يمذِ فلا إشكال في صحة حجه، وعدم تأثير المباشرة في تلك الصحة، ولكنه آثم، ويعتبر نقصاناً في أجره، وإذا تاب تاب الله عليه.
    ولكن لو باشر فأنزل، فإن الإنزال لذة وهي تقارب اللذة الكبرى بالجماع، ولكن لا يفسد حجه؛ لأن الأصل صحة الحج حتى يدل الدليل على الفساد، وإنما وقع إجماع الصحابة وفتوى الصحابة على الفساد بالجماع، وبقي ما عدا الجماع على الأصل من كون الحج صحيحاً حتى يدل الدليل على الفساد؛ لأن الأركان والشرائط موجودة، فقالوا حينئذٍ: يحكم بصحة حجه؛ لأنه لم يصل إلى الجماع الذي يفسد الحج كما عليه فتوى الصحابة، وعليه العمل، فحينئذٍ يلزمه أن يجبر هذا النقص.
    وقضوا فيه بالبدنة، والأصل أنهم نظروا إلى أن فعل الصحابة رضوان الله عليهم حينما أفسدوا الحج أفسدوه بالجماع، وقضوا بالبدنة حينما نظروا إلى وجود الإنزال غالباً في الجماع، فقالوا: إذا حصل الإنزال فإنه حينئذٍ يلزمه أن ينحر بدنة؛ جبراً لهذا النقص، وهو مبني على النظر، وله أصل من فتوى الصحابة من جهة العلة كما ذكرنا، وبناء عليه قالوا: لا بد من وجود الإنزال، ويستوي أن يكون الإنزال بالمباشرة، وحقيقة المباشرة أن تفضي البشرة إلى البشرة، أو يكون الإنزال بالاحتكاك سواء كان بحلال أو بحرام، فإنه لو تحكك واستثيرت غريزته على الوجه المحظور فإنه حينئذٍ يلزمه ما ذكرنا من جبر النقص؛ لقول من قلنا من أهل العلم، ويختاره المصنف وفقهاء الحنابلة رحمهم الله.
    لو حصل منه إمذاء، والمذي دون الإنزال، وهي القطرات التي تخرج عند بداية الشهوة، فلو باشر امرأته فحصل منه الإمذاء فإنه لا يفسد حجه بالإجماع، ولا يلزمه بدنة، وإنما عليه الندم والتوبة والاستغفار.
    فهذه أحوال: الحالة الأولى: أن يباشر ويقع الجماع، وذلك إما أن يكون قبل الوقوف بعرفة أو يكون بعد الوقوف بعرفة، على التفصيل الذي بيناه.
    الحالة الثانية: أن تكون المباشرة بإنزال ولا يقع فيها جماع، فحينئذٍ يبقى الحج صحيحاً ويلزم ببدنة.
    وقال بعض أهل العلم: إذا وقع هذا قبل التحلل الأول فإنه ينزل إلى الحل ويأتي بعمرة حتى يقع طوافه للإفاضة على صورة معتبرة دون وجود نقص أو إخلال.
    الحالة الثالثة: إذا وقعت المباشرة ولم يحصل بها إنزال ولا جماع، وإنما وقع بها الإمذاء، فإنما عليه التوبة والندم والاستغفار.
    قال: [لكن يحرم من الحل لطواف الفرض].
    فيمضي إلى التنعيم أو يمضي إلى عرفات أو غيرها مما هو خارج عن حدود الحرم ويأتي بعمرة، حتى يقع طوافه في نسك لا إخلال فيه.
    الفرق بين إحرام الرجل وإحرام المرأة
    قال رحمه الله: [وإحرام المرأة كالرجل إلا في اللباس].
    أي: إذا علمت هذه المحظورات فإن المرأة يحظر عليها أن تقص شعرها أو تحلقه، وكذلك حلقها للعانة، وكذلك نتفها للإبطين ونحو ذلك، فلا يجوز لها أن تزيل الشعر، ولا يجوز لها أن تقلم الأظفار، وكذلك أيضاً لا يجوز لها أن تتطيب لا في بدنها ولا في ثيابها، وكذلك أيضاً لا يجوز لها الصيد، ولا الإعانة على الصيد، ولا الأكل مما صيد لها إذا كانت محرمة، ولا يجوز لها أن يعقد عليها النكاح، ولا يجوز لها مباشرة الزوج، فكل ما يقال في الرجل يقال في المرأة، إلا أنها في اللباس لا تنتقب ولا تلبس القفازين، فمحظورها في اللباس ينحصر في تغطية وجهها ولبسها للقفازين في يديها.
    والأصل في هذين المحظورين حديث عبد الله بن عمر في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين ) رواه البخاري في صحيحه.
    قالوا: نص عليه الصلاة والسلام على أن المرأة لا تنتقب، وإذا كان النقاب تكشف فيه المرأة عن إحدى عينيها لتنظر الطريق أو نحو ذلك محظوراً، فمن باب أولى البرقع فإنه أبلغ من النقاب، فإن النقاب أن تكون ساترة لوجهها ولكنها تكشف عن عينها حتى تنظر في طريق أو نحو ذلك، فقالوا: إن هذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، والشرع ينبه بالأدنى على الأعلى، وينبه بما هو أعلى على ما دونه من باب أولى.
    وعلى هذا فلا يجوز للمرأة أن تلبس البرقع والنقاب، فكأن الشرع قصد أن لا تستر وجهها بالنقاب ولا ببرقع ونحوه، ولكن إذا مر بها الركب تسدل خمارها؛ لحديث أسماء رضي الله عنها: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر بنا الركب سدلت إحدانا خمارها فإذا جاوزنا كشفنا ) وهذا هو الأصل، والسدل أن يكون هناك حائل بين الناظر وبين وجهها؛ لأنه حقيقة السدل كما تقول: سدلت الستار ونحو ذلك.
    وكذلك بالنسبة للبسها القفازين لا تلبس قفازين في حال الإحرام، وهذا يدل على مشروعية لبسه في غير الإحرام؛ لما فيه من كمال الستر، ولما فيه من كمال التحفظ من رؤية الأجانب، وهو يدل على أن إحرام المرأة كما يقول الجماهير في وجهها وكفيها.
    يتبع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •