رمضان أحكام وآدابفرصة عظيمة لابد من اغتنامها واستقبالها بما يرضي الله عزوجل


د.عادل المطيرات









أقبل علينا شهر رمضان، شهر البركة والخيرات، واكتساب الأجور والحسنات، والتنافس على القربات والطاعات، وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان كما صح في المسند من حديث أبي هريرة] أن رسول الله[ قال: «أتاكم شهر رمضان شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم»؛ فيالها من فرصة عظيمة ومواسم كريمة، يستطيع الإنسان بعد توفيق الله أن يغتنمها بسهولة؛ فيستقبل هذا الموسم العظيم بما يرضي الله -عز وجل- من صيام وقيام وصدقة ودعاء وصلة رحم، وغيرها من صنوف الطاعات، وهذه بعض الآداب والأحكام المتعلقة بهذا الشهر المبارك أضعها بين أيديكم بأسلوب سهل ميسر لتقرؤها لأنفسكم ولأهليكم في بيوتكم، وفي وظائفكم ومدارسكم، أسأل الله أن ننتفع بها جميعاً.
شهر القرآن
أنزل الله -عزوجل- كتابه المجيد هدىً للناس، وشفاءً للمؤمنين، يهدي للتي هي أقوم، ويبين سبيل الرشاد، في ليلة القدر من شهر رمضان الخير، قال ذو العرش المجيد: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىسَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} (البقرة: 185).
ووصف شهر رمضان بأنه أُنزل فيه القرآن وبناء ما بعده عليه بحرف (الفاء) التي تفيد التعليل والسببية {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يفيد بطريق الإيماء إلى العلة، أن سبب اختيار رمضان ليكون شهر الصوم هو إنزال القرآن فيه.
تصفيد الشياطين
2- تصفيد الشياطين وإغلاق أبواب النيران وفتح أبواب الجنان: في هذا الشهر المبارك يقل الشر في الأرض؛ حيث تصفد وتشد مردة الجن بالسلاسل والأغلال والأصفاد؛ فلا يخلصون إلى إفساد الناس كما كانوا يخلصون إليه في غيره، لاشتغال المسلمين بالصيام، الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن وسائر العبادات التي تهذب النفوس وتزكيها، قال رب العزة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).
لذلك تُغلق أبواب جهنم، وتفتح أبواب الجنان؛ لأن العمل الصالح كثير، والكلم الطيب وفير، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين» متفق عليه.
وكل ذلك يتم في أول ليلة من الشهر المبارك، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلِّقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفتِّحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة» أخرجه الترمذي بسند حسن.
ليلة القدر
وقد اختار الله -جل جلاله- شهر رمضان؛ لأنه أنزل فيه القرآن الكريم، ويمكن استخدام ذلك في القياس بأساليب متنوعة، منها:
أ) أن أكرم يوم عند الله، هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن؛ فيجب أن يُخصَّ بعمل زائد، ويشهد لهذا ما جاء في تحري ليلة القدر وتخصيصها بمزيد من العمل.
ب) أن النعمة إذا حصلت للمسلمين استوجبت مزيداً من العمل شكراً الله، ويشهد لهذا المعنى قول الباري بعد تمام نعمة شهر الصوم: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} (البقرة: 185).
وقوله -تبارك وتعالى- بعد تمام نعمة الحج: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (البقرة: 200).
لماذا نصوم؟
للعبادات الشرعية التي يؤديها المسلمون غايات وأهداف، أراد الله -تعالى- من عباده أن يعلموها ويفهموها ليصلوا إليها ويحققوا مراد الله منها، ومن تلك العبادات صيام شهر رمضان؛ فإن له أهدافاً ينبغي أن يضعها المسلم نصب عينيه، كي يقصدها بقلبه وعمله. ويمكن أن تفصل كالآتي:
1- بلوغ التقوى
قال -تعالى-: { كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)؛ فالصيام وسيلة لبلوغ التقوى، بل عبادة الله كلها وتوحيده وسائل للوصول إلى التقوى، كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21).
والأخذ بالدين والكتاب وسيلة لبلوغ التقوى، قال -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 63)، والتقوى كما عرفها طلق بن حبيب: «هي أن تعبد الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تتجنب معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله».
فالغاية من الصيام هي التقوى وليس الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة فقط، بل الله -تعالى- غني عن صيام هذه الطائفة، كما قال صلى الله عليه وسلم : «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس الله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» رواه البخاري، وقال أيضاً: «ورُبَ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش» رواه أحمد؛ فينبغي أن نتذكر أن الهدف والغاية من صيامنا هو: التقوى، وزكاة النفس، والابتعاد عن المعاصي والذنوب.
والصيام في نفسه من أعظم ما يحجب عن ارتكاب المحرمات، ويصد عن مواقعتها، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصيام جنة؛ فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم - مرتين - والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها»، وفي رواية: «الصيام جنة من النار» أخرجها النسائي.
2- الثواب الجزيل
كما قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه في الحديث السابق: «الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها»، وقوله: «الصيام لي وأنا أجزي به» يدل على عظمة العطاء؛ فإن الكريم إذا قال: أنا أعطيه بنفسي، دل على عِظم العطية.
3- الصوم ترويض للنفس
وتعويد لها على الانقياد لله -سبحانه وتعالى- ولرسوله صلى الله عليه وسلم في الصيام عن الأكل والشرب والنكاح في وقت معين، ويتعود من ذلك منع نفسه من الشهوات المحرمة في سائر الأوقات؛ لأن نفسه أصبحت مطيعة له.
ولأن الشيطان أقدر على النفس الشهوانية الحيوانية، فإذا انقطعت عن شهواتها ضاقت مجاري الشيطان ومداخله على النفس، وقد جاء في الحديث الصحيح: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» متفق عليه.
4- الصيام يشفع لصاحبه
لحديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان». رواه أحمد.
5- تكفير الذنوب
صيام رمضان يكفر الذنوب لقوله صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر». رواه مسلم، وذلك مشروط باجتناب كبائر الذنوب كما في الحديث؛ إذ لابد لها من توبة خاصة بها، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه». متفق عليه.
إيماناً: أي أنه ينبغي على من يصوم رمضان أن يكون مؤمناً بفرضيته ووجوبه، واحتساباً: أن يكون محتسباً للأجر. فيكون صيامه إخلاصاً الله لا تقليداً لمجتمعه وأهله وعاداتهم.
بلوغ شهر رمضان نعمة فاغتنمها
قال معلى بن الفضل: كانوا، أي (السلف) يدعون الله- تعالى- ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم. وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمني رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً.
بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم، ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فرؤي في المنام سابقاً لهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أليس قد مكث هذا بينهما سنة فأدرك رمضان فصامه وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟ فلما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض». رواه البيهقي بسند صحيح.
من رُحم في شهر رمضان فهو المرحوم، ومن حُرم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود فيه لمعاده فهو ملوم.
أتى رمضان مزرعة العباد


لتطهير القلوب من الفساد

فأد حقوقه قولاً وفعلاً

وزادك فاتخذه للمعاد

فمن زرع الحبوب وما سقاها

تأوه ادماً يوم الحصاد

يا من طالت غيبته عنا، قد قربت أيام المصالحة، يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة، من لم يربح في هذا الشهر؛ ففي أي وقت يربح؟! من لم يتقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يبرح. كم ينادي: حي على الفلاح وأنت خاسر؟! كم تُدعى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابر؟!
إذا رمضان أتى مقبلاً


فأقبل فبالخير يستقبل


لعلك تخطئه قابلاً

وتأتي بعذر فلا يقبل
فكم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله، فصار قبله إلى ظلمة القبر، كم من مستقبل يوماً لا يستكمله، ومؤمل غداً لا يدركه. إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغروره.