حدث أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي النسابة، عن أسامة بن زيد، عن عكرمة، قال: رأيت عبد الله بن العباس وعنده نافع بن الأزرق وهو يسأله، ويطلب منه الإحتجاج باللغة، فسأله عن قول الله جل ثناؤه: " والليل وما وسق " " الإنشقاق: 17 "، فقال ابن عباس: وما جمع، فقال: أتعرف ذلك العرب؟ فقال ابن عباس: أما سمعت قول الراجز:
إن لنا قلائصاً حـقـائقـا مستوسقات لو يجدن سائقا
هذا قول ابن عباس: وهو الحق الذي لا يقدح فيه قادح، ويعرض القول فيحتاج المبتدئ إلى أن يزداد في التفسير.
قوله: حقائقا إنما بنى الحقة من الإبل - وهي التي قد استحقت أن يحمل عليها - على فعلية مثل حقيقة ولذلك جمعها على حقائق ويقال: استوسق القوم، إذا اجتمعوا.
وروى أبو عبيدة في هذا الإسناد - وروى ذلك غيره، وسمعناه من غير وجه - أنه سأله عن قوله عز وجل: " قد جعل ربك تحتك سريا " " مريم: 24 " فقال ابن عباس: هو الجدول، فسأله عن الشواهد، فأنشده:
سلماً ترى الدالج منها أزورا إذا يعج في السري هرهرا
السلم: الدلو الذي له عروة واحدة، وهو دلو السقائين، وهو الذي ذكره طرفة فقال:
لها مرفقان أفتلان كأنما أمرا بسلمى دالج متشدد
والدالج: الذي يمشي بالدلو بين البئر والحوض، وأصحاب الحديث ينشدون: تر الدالي منه أزورا وهذا خطأ لا وجه له.
وروى أبو عبيدة وغيره: أن نافعاً سأل ابن عباس عن قوله: " عتل بعد ذلك زنيم " " القلم: 13": ما الزنيم؟ قال: هو الدعي الملزق، أما سمعت قول حسان بن ثابت:
زنـيم تـداعـاه الـرجـال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع
ويزعم أهل اللغة أن اشتقاق ذلك من الزنمة التي بحلق الشاة، كما يقولون لمن دخل في قوم ليس منهم: زعنفة ، وللجمع زعانف، والزعنفة: الجناح من أجنحة السمك.
قال أبو الحسن الأخفش: كذا قال زعنفة، والناس كلهم يقولون: زعنفة بكسر الزاي، وهو الوجه.
ويروى عن غير أبي عبيدة أنه سأله عن قوله جل اسمه: " والتفت الساق بالساق " " القيامة: 29 "، قال: الشدة بالشدة، فسأله عن الشاهد فأنشده:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرتعن ساقها الحـرب شـمـرا
ويروى عن أبي عبيدة من غير وجه أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: أرأيت نبي الله سليما صلى الله عليه وسلم، مع ا خوله الله وأعطاه، كيف عني بالهدهد على قلته وضؤولته؟ فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد قناء ، والأرض له كالزجاجة، يرى باطنها من ظاهرها، فسأل عنه لذلك، قال ابن الأزرق: قف يا وقاف، كيف يبصر ما تحت الأرض، والفخ يغطى له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه! فقال ابن عباس: ويحك يا ابن الأزرق! أما علمت أنه إذا جاء القدر عشي البصر.
ومما سأله عنه: " الم ذلك الكتاب " " البقرة: 1 - 2 "، فقال ابن عباس: تأويله: هذا القرآن.
هكذا جاء، ولا أحفظ عليه شاهداً عن ابن عباس، وأنا أحسبه أنه لم يقبله إلا بشاهد، وتقديره عند النحويين: إذا قال: ذلك الكتاب أنهم قد كانوا وعدوا كتاباً؛ هكذا التفسير، كما قال جل ثناؤه: " فلا جاءهم ما عرفوا كفروا به " " البقرة: 89 "؛ ويعني بذلك اليهود، وقال: " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " " البقرة: 146 "، فمعناه: هذا الكتاب الذي كنتم تتوقعونه. وبيت خفاف بن ندبة على ذلك وفزارة، فعمد ابنا حرملة: دريد وهاشم المريان عمد معاوية، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه معاوية، فطعنه، وحمل الآخر على معاوية فطعنه متمكناً، وكان صميم الخيل ، فلما تنادوا معاوية: قال خفاف بن ندبة - وهي أمه، وكانت حبشية، وأبوه عمير، وهو أحد بني سليم بن منصور -: قتلني الله إن رمت حتى أثأر به، فحمل على مالك بن حمار - وه سيد بن شمخ بن فزارة - فطعنه فقتله، فقال خفاف بن ندبة:
وإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمداً على عيني تيممت هالكا
وقفت له علوى وقد خام صحبتي لأبني مجداً أو لأثأر هـالـكـا
أقول له والرمح يأطر متـنـه تأمل خفافاً إننـي أنـا ذلـكـا
يريد: أنا ذلك الذي سمعت به. هذا تأويل هذا.
وقوله: يأطر متنه أي يثني. يقال: أطرت القوس آطرها أطراً، وهي مأطورة. وعلوى: فرسه.
ومما سأله عنه قوله عز وجل: " لهم أجر غير ممنون " " فصلت: 8 "، فقال ابن عباس: غير مقطوع، فقال: هل تعرف ذلك العرب؟ فقال: قد عرفه أخو بني يشكر حيث يقول:
وترى خلفهن من سرعة الرج ع منينـاً كـأنـه إهـبـاء
قال أبو العباس: منين، يعني الغبار، وذلك أنها تقطعه قطعاً وراءها.
والمنين: الضعيف المؤذن بانقطاع، أنشدني التوزي عن أبي زيد:
يا ريها إن سلمت يميني وسلم الساقي الذي يليني
ولم تخني عقد المنـين
يريد الحبل الضعيف، فهذا هو المعروف. ويقال: منين وممنون، كقتيل ومقتول، وجريح ومجروح. وذكر التوزي في كتاب الأضداد أن المنين يكون القوي، فجعله فعيلا من المنة، والمعروف هو الأول.
وقال غير ابن عباس: " لهم أجر غير ممنون " " فصلت: 8 " لا يمن عليهم فيكدر عندهم.
ويروى من غير وجه أن ابن الأزرق أتى ابن عباس يوماً فجعل يسأله حتى أمله، فجعل ابن عباس يظهر الضجر، وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن عباس، وهو يومئذ غلام، فسلم وجلس، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئاً من شعرك؟ فأنشده:
أمن آل نعم أنت غـاد فـمـبـكـر غداة غـد أم رائح فـمـهـجـر!
بحاجة نفس لم تقل فـي جـوابـهـا فتبلغ عذراً والـمـقـالة تـعـذر
تهيم إلى نعم فلا الشـمـل جـامـع ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر
ولا قرب نعم إن دنت لـك نـافـع ولا نأيها يسلي ولا أنت تصـبـر
وأخرى أتت من دون نعم ومثلـهـا ونهى ذا النهى لو يرعوي أو يفكر
إذا زرت نعمـاً لـم يزل ذ قـرابة لها كلـمـا لاقـيتـه يتـنـمـر
عزيز عليه أن أمـر بـبـابـهـا مسر لي الشحناء والبغض مظهر
ألكني إليهـا بـالـسـلام فـإنـه يشهر إلمامـي بـهـا وينـكـر
بآية ما قالـت غـداة لـقـيتـهـا بمدفع أكنان أهذا الـمـشـهـر!
قفي فانظري يا أسم هل تعرفينـه أهذا المغيري الذي كـان يذكـر!
فقالت: نعم، لا شك غـير لـونـه سرى الليل يحيي نصه والتهجـر
لئن كان إياه لقـد حـل بـعـدنـا عن العهد، والإنسان قـد يتـغـير
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخـصـر
حتى أتمها، وهي ثمانون بيتاً، فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض، ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه! فقال: تالله ما سمعت سفهاً، فال ابن الأزرق: أما أنشدك:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيخزى وأما بالعشي فـيخـسـر
فقال: ما هكذا قال، إنما قال فيضحى وأما بالعشي فيخصر قال: أو تحفظ الذي قال؟ قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها، قال: فارددها، فأنشده إياها كلها .
وروى الزبيريون أن نافعاً قال له: ما رأيت أروى منك قط. فقال له ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر، ولا أعلم من علي.
وقوله: فيضحى يقول: يظهر للشمس، ويخصر، يقول: في البردن ، فإذا ذكر العشي فقد دل على عقيب العشي، قال الله تبارك وتعالى: " وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى " " طه: 119 "، والضح: الشمس، وليس من: ضحيت، يقال: جاء فلان بالضح والريح يراد به الكثرة، قال علقمة:
أغر أبرزه للضح راقـبـه مقلد قضب الريحان مفغوم
له فغمة، أي رائحة طيبة، يعني إبريقاً فيه شراب؛ وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توجه إلى تبوك جاء أبو خيثمة، وكانت له امرأتان، وقد أعدت كل واحدة منهما من طيب ثمر بستانه، ومهدت له في ظل، فقال: أظل ممدود، وثمرة طيبة، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله في الضح والريح! ما هذا بخير! فركب ناقته ومضى في أثره، وقد قيل لرسول الله في نفر تخلفوا، أبو خيثمة أحدهم، فجعل لا يذكر له أحد منهم إلا قال: دعوه فإن يرد الله به خيراً يلحقه بكم، فقيل ذات يوم: يا رسول الله، ترى رجلاً يرفعه الآل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كن أبا خيثمة "، فكانه.
وإذا انبسطت الشمس فهو الضحى مقصور، فإذا امتد النهار وبينهما مقدار ساعة أو نحو ذلك فذلك الضحاء، ممدود مفتوح الأول.