وقفات مع قيم آداب التأمَّل
يوسف محمد صديق



(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة)(العنكبوت :20).
أما بعد: حمداً الله على نعمه المتظاهرة وأياديه المتظافرة، والصلاة على نبيه محمد ذي المعجزات الباهرة والآيات الزاهرة، وعلى عترته الطاهرة وصحابته الفاخرة.
فهذه وقفات "توافق أمثال التنزيل التي وعد الله - جل وعلا - بها وأوعد، وحرم وأحل، ورجى وخوف، وقرع بها المشركين وجعها موعظة وتذكيراً" (أمثال الحديث: ج: 1، ص: 8). فقد ندب الرحيم - جل وعلا - عبده المؤمن أن يتفكر في آياته - جل وعلا - الكونية، فقال: (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ..) (الأعراف: 185)، وذم الغافلين فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف: 105)، وقال –صلى الله عليه وسلم-: ((لقد أنزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران: 190-191).
التعريف بالتأمل: "الأَمَلُ الرجاء، يقال: أمَل خيره يأمل بالضم أملاً بفتحتين، وأَمَّله أيضاً أْمِيلاً، وتأمَّلَ الشيء نظر إليه مستبينا له" (مختار الصحاح:1/ 10).
وأَنشد:
تَأَمَّلْ صُنْعَ رَبِّكَ غَيْرَ شَرَ *** زَماناً لا تُغنِّثْكَ الهُمومُ
قال الجوهري: "والتَّبصُّرُ: التأمل والتعرف، والتبصِير: التعريف والإيضاح، والمُبْصِرةُ: المضيئة، ومنه قوله - تعالى -: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة..). قال الأخفش: معناه أنها تبصرهم أي تجعلهم بُصَراءَ، والمَبْصَرةُ الحجة، وبَصَّرَ تَبْصيراً صار إلى البصرة، والبصيرةُ الحجة والاستِبصارُ في الشيء، وقوله - جل وعلا -: (بل الإنسان على نفسه بصيرة)، قال الأخفش: جعله هو البصيرةَ". (مختار الصحاح:1/22).
و"التَّفَكُّر التأمل، وأفْكُر في الشيء وفَكَّر فيه بالتشديد، و َفَكَّر فيه بمعنى ورجل، فِكّيرٌ بوزن سكيت كثير التفكر" (مختار الصحاح: ج:1، ص: 213).
وقال ابن منظور: "التَّأَمُّلُ: التَّثَبُّت، وتأَمَّلت الشيءَ أَي نظرت إِليه مُستثْبِتاً له. و تَأَمّل الرجلُ: تَثَبَّت في الأَمر والنظر" (لسان العرب:11/27).
فالقرآن الكريم دعوة إلى التَّبصُّر والتَّأَمُّل والتَّفَكُّر والتَّثَبُّت في إجلاء الحق والحقيقة التي تمتلك الوسائل والطرق والأدلة العديدة لإظهارها، قد خص القرآن التأمل بالصدارة عليها لما لها من تفاصيل شاهدة لجزئيات أدلتها، فالمتأمل يتعرف إلى صفات الله - جل وعلا - من خلال ما يراه ويحيط بأسرار الخلق وبحقيقة هذه الحياة الدنيا ووجود الجنة والنار، ويحصل على فهم أعمق لأهمية كونه إنساناً مرضياً عند الله مستمتعاً بجمالات الكون متأملاً بفوائده، ولا فائدة من قلب متصحر شقي بحياته كلها، ما ذرفت عينه دمعة ولا اقشعر جلده ولا خشع قلبه محبةً لله، أو خوفاً منه، أو شوقاً إليه بل غفلة ولهواً (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ..) (الأنبياء:3)، "أي: ساهية قلوبهم معرضة عن ذكر الله متشاغلة عن التأمل والتفهم، ومن قول العرب: لهيت عن ذكر الشيء إذا تركته وسلوت عنه ألهي لهيا ولهيانا" (تفسير القرطبي: 11/ 268).
لقد ندبنا القرآن الكريم خلال رحلتنا لله - جل وعلا - أن نتفكر ونراقب ما حولنا من آيات الله وإعجازه في خلقه لنقدّره - جل وعلا - حق قدره عندما نتأمل فيها، والمؤمنين عبر تاريخهم المجيد يتفكرون ويتدبرون دائماً، ويستخدمون ألبابهم في الاكتشاف واستخلاص العبر والنتائج من مثل قوله - جل وعلا -: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ) (فاطر:27)، متهدين بآيات الله، محاولين التوصل لمراده - جل وعلا - والغايات الكامنة وراء ما قدره من أحداث وما خلق من محاسن، راغبين في ربط قلوبهم بالله - جل وعلا - الذي جعل التأمل بكل شعور، كما جعل - جل وعلا - مساحة التأمل متسعة مد البصر، والخيال نصب كل فؤاد واعٍ، فالتأمل وسيلة ربانية لغرس العقيدة بالسبل التربوية والتأملية، وهي أكثر توفيراً للوقت من التحفيظ والتلقين، فعندما يهب المرء في الصباح الباكر، يجد الكثير من الأفكار طريقها إليه، فهناك يوم كامل يمتد أمامه، والتأمل به يذكره بقوله - جل وعلا -: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً) (الفرقان:47)، فتعتري الفرد حالة شعورية، تضطرب أحواله النفسية فرحاً وتهدأ حالته العقلية في سكينة، وبالتأمل يثار الحب بالتدليل والفرح والطرب والحماس بالمكاسب المتوقعة في مستقبله، وكل هذا نزر يسير من الأشياء الجميلة التي يفوز بها من يتفكر في هذه الحياة الدنيا، أما الفوز العظيم في الآخرة الذي يناله من يصل إلى الحقيقة عبر التفكر فهو محبة ورضا ورحمة وجنة ربنا - سبحانه وتعالى -.
أما المعطل للتأمل فهو من جنس الدواب، ممقوتٌ عند الله - جل وعلا -: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان:44)، وقال - جل وعلا -: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179)، وقال - جل وعلا -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) ( محمد:12)، المتهربون عن التأمل لهم ساعة فيها سيتأملون رغم أنوفهم، بل أزف ذلك اليوم الذي يتفكرون ويستغرقون فيما لا ينفعهم، بل سيجلب عليهم الخزي والثبور، قال - جل وعلا -: (فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى) (النازعات: 34-35)، ويل يومئذ للغافلين.. "ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره" (تفسير القرطبي: 4/310).
فتبت يدا أعماق أهل الغفلة والذلة القابعين على الرذيلة والكذب في غير مبالاة لخستهم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف:175-176)، قال الإمام أحمد: "مجمعون على مفارقة الكتاب.. ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين" (الرد على الزنادقة والجهمية: ج:1، ص:6)، "وهم مع ذلك يخالفون نصوص القرآن ويطرحون عمومه وخصوصه، فكأنهم يدعون إليه ويبعدون منه وينهون عنه وينأون ما يرد عليهم، من السنة الثابتة ينفرون عنها ويجبنون منها ويسلطون على ما جاء من الأخبار والآيات ما سلطه المتكلمون من التأويل، ويسلكون فيه مسالك أهل الإلحاد والتعطيل" (فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف: 1/29).
مكاسب قَيِّم التَّبصُّر والتَّأَمُّل والتَّفَكُّر والتَّثَبُّت:
التَّثَبُّت من خلال صفات الله - جل وعلا -:
"صفات الله - جل وعلا - لا يقع عليها التكييف" (ابن حبان: 1/ 137)، فلنتأمل غيضاً من فيض من صفات الجبار - جل وعلا - غير المتناهية في صفة واحدة فقط، صفة الرحمة من غير مفاضلة، "ولا يجوز في صفات الله - تعالى - ذكره أن يقال بعضها أفضل من بعض وبعضها خير من بعض" (الطبري:1/481)، لقد أمرنا - جل وعلا - بالتأمل في آثرها على الكون، قال - جل وعلا -: (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (الروم:50). فلنفرح متأملين في صفة الرحمة: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:58)، لتتنزل علينا بسعة لا حدود لها: (يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً) (الكهف:16)، ونحن منكسي الرؤوس طامعين فيها، خائفين وجلين أن نحرمها: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ) (النور:21)، رحمة لا تنفك ولا تعيب: (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (القصص:73)، "رحمة تلاحقنا برفق وتحلو وتلذ أكثر عند ما يبلغ بنا القنوط والكآبة مبلغاً: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ" (الشورى:28).
ولولا رحمة الله بالفتى *** فكل اجتهاده عليه وبال
و في الحديث: ((يد الله ملأى، لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار..)) وقال: ((أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده وكان..)) (البخاري:4/ 1724)، قال أبو حاتم – رحمه الله -: "هذه أخبار أطلقت من هذا النوع توهم من لم يحكم صناعة العلم أن أصحاب الحديث مشبهة، عائذ بالله أن يخطر ذلك ببال أحد من أصحاب الحديث، ولكن أطلق هذه الأخبار بألفاظ التمثيل لصفاته على حسب ما يتعارفه الناس فيما بينهم، دون تكييف صفات الله -جل ربنا- عن أن يشبه بشيء من المخلوقين" (ابن حبان:2/ 504). عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعاً وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً فبها يتراحم الخلق، حتى أن الفرس لترفع حافرها عن ولدها خشية أن يصيبه)) (الزهد لابن المبارك: 1/ 367).
فالنتأمل في رحمة الله - جل وعلا -، ولا نقطع الرجاء، قال أبو هريرة –رضي الله عنه- للفرزدق: "إياك أن تقطع رجاءك من رحمة الله" (مجمع الزوائد: 1/ 215)