وقفات بين يدي رمضان

ياسر برهامي


جعل الله -سبحانه وتعالى- لهذه الأمة مواسم خير لتتذكر فيها آخرتها، وتعد عدتها للقاء الله -سبحانه وتعالى-، وجعل -سبحانه وتعالى- بيْن يدي رمضان شهر شعبان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيِّن فضل الصيام فيه بأنه شهرٌ تُرفع فيه الأعمال إلى الله، ويحب أن يُرفع عمله وهو صائم، ولاسيما مع غفلة الناس عن هذا الشهر بيْن رجب ورمضان، وجعل الله فيه ليلة النصف مِن شعبان ليستدرك الإنسان ما قد يحدث في قلبه مِن غلٍّ أو حسد أو غش للمسلمين؛ فيداوي قلبه مِن ذلك حتى تأتي عليه ليلة النصف التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغفر الله فيها لخلقه جميعا إلا لمشرك أو مشاحن؛ فيكون مِن المغفور له بإذن الله -تعالى.



ولابد أن ننتبه هنا إلى أن البغض في الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليس مِن المُشاحَنة المذمومة؛ فإنه عبادة لله -سبحانه وتعالى-؛ فمَن أبغض الكافر لِكُفره والفاسق لفسقه، والمبتدِع لبدعته، والعاصي لمعصيته لا يكون داخلًا في الوعيد، وإن كان في كثير مِن الأمور يحصل نوع مِن النزاع الذي يأخذ شكلًا دينيًّا؛ لكن يدخل فيه نوع مِن حظ النفس؛ فلابد أن يحذر الإنسان على نفسه مِن ذلك، وليوطِّن نفسه أنه إذا تاب الكافر مِن كفره، والمبتدِع من بدعته، والعاصي مِن معصيته؛ فهو أخونا في الدين، ويوطِّن نفسه على حبه إن فعل ذلك، كما قال ربنا -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة:11)، وهذا المعنى به يتخلص الإنسان مِن حظِّ نفسه في النزاعات التي يكون فيها ظاهر الاختلاف بسبب الدين مع أهل الكفر والفسوق والبدع.

سلامة القلب

والله -سبحانه وتعالى- جعل سلامة القلب مِن أعظم الأمور وأهمها التي يُسعى إليها في شهر رمضان؛ فلنتذاكر معًا بيْن يدي هذا الشهر بعض الأمور المتعلقة به؛ فإن من رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- بعبادة المؤمنين أن يَسَّرَ لهم وشرع لهم ما يُحَصِّلون به غاية وجودهم التي أوجدهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- من أجلها، وهي تحقيق عبادة الله وتقواه، قال -عَزَّوَجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21.

مِن رحمة الله

وهذا مِن رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- بعباده، وهو أنه -عَزَّوَجَلَّ- شرع لهم ما يحصلون به التقوى، والصيام مِن أعظم العبادات التي يحصل بها المؤمن التقوى؛ فيتطهر قلبه ويَسلم، ولا ينجو إلا مَن سلم قلبه لله -عَزَّ وَجَلَّ-، كما قال الخليل -عليه السلام-: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(الشعراء :88-89).

رحمة مِن الله

لذلك كان شهر رمضان رحمة مِن الله -عَزَّ وَجَلَّ- بعباده ليحصلوا كل هذه الأمور، وشرع الله -عَزَّوَجَلَّ- فيه مِن الصيام عن الطعام والشراب والشهوة المحرمة، حتى الشهوة التي أباحها الله -عَزَّوَجَلَّ- في غير نهار رمضان جعلها في نهاره محرمة؛ ليكون الإنسان أملك لإربه ولنفسه، فإذا كان يمتنع مِن الحلال في النهار فهو أملك أن يمتنع عما حرم الله مطلقًا في الليل والنهار: مِن الفروج المحرمة، والنظر إلى العورات المكشوفة، وغير ذلك مِن الشهوات.

آداب الصيام

إذا تحكم الإنسان في هذه الشهوات ثم علم أن مِن آداب الصيام ومِن واجباته أن يمتنع عن قول الزور، والغيبة والنميمة، والعمل بكل باطل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» (رواه البخاري)، وقال: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ» (رواه أحمد وابن ماجه، وقال الألباني: حسن صحيح)؛ فمَن لم يصن سمعه، وبصره، وآذى جيرانه ومَن حوله، واغتاب ونَمَّ؛ لم يكن صائمًا الصوم المشروع! وهذه هي خُلطة الفساد التي يفسد الإنسان بها فيما حوله؛ فهذا ليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، كما قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك، ودع أذى الجار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء!».

الاعتكاف

ثم إذا اقترب الشهر مِن نهايته في الثلث الأخير شرع الاعتكاف؛ ليتخلص الإنسان مِن فضول الاختلاط المباح، فضلا عن أنه تخلص في أثنائه مِن الاختلاط المحرم؛ فإذا اعتكف في المسجد إلى آخر الشهر كان ذلك عونًا له على تحصيل حياة قلبه، وإخلاصه لله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر مِن رمضان، ويلتمس ليلة القدر، التي قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر:3)، ثم شرع في أثناء رمضان وفي خاتمته خصوصًا إنفاق الأموال في طاعة الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فالصدقة في رمضان مضاعفة كما تضاعف الأعمال الأخرى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يأتيه جبريل -عليه السلام- فيدارسه القرآن؛ فكان الرسول صلى الله عليه وسلم أجود بالخير مِن الريح المُرسَلة.

صدقة الفطر

وشرع في آخر رمضان وجوبًا صدقة الفطر، عن كل صغير وكبير، وحُر وعبد، وذكر وأنثى مِن المسلمين؛ فإذا تمكن الإنسان مِن هذه النفقات تمكن مِن التخلص مِن تعلق القلب بالمال، وتخلص مِن عبودية الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة، وكذلك شرع له أن يفطر الصائمين: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا» (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وذلك ولو حتى على شربة ماء أو تمرات أو غير ذلك، وليس المقصود ساعة الفطر فقط، بل يدخل في ذلك كل طعام يُطعمه إياه؛ فلا يتحتم ليأخذ الإنسان أجر الصائم أن يكون الذي أطعمه ساعة فطره دون ما يلي ذلك، فلو كان يفطره -مثلًا- على تمرات ثم يطعمه بعد ذلك؛ فكل ذلك داخل في إفطار الصائم.

حب الخير

وهذا يعوِّد المسلم حب إخوانه، وسلامة صدره لهم، والحرص على الخير لإخوانه المسلمين، والشعور بمشاعرهم، ومشاركة بعضهم بعضًا هذه المشاعر الطيبة التي تدل على حياة هذا الجسد الواحد الذي وصف النبي صلى الله عليه وسلم حال المسلمين بتشبيهه به، فقال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (رواه مسلم)، وشرع كذلك في شهر رمضان الإمساك عن فضول الكلام؛ وذلك أن الإنسان إذا تكلم كثيرًا كان ذلك مِن أسباب وقوعه في الباطل غالبًا، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُت» (متفق عليه)؛ ولذا كان انشغال السلف بالقرآن في شهر رمضان؛ وذلك لأنه يشغل الإنسان بالطاعة ويوقد في قلبه حقائق الإيمان، وينور صدره وقلبه بنور الله -عَزَّ وَجَلَّ- المنزل مِن عنده -سبحانه وتعالى-؛ فيهتدي الإنسان إلى الصراط المستقيم، ويتغير سلوكه وتتغير حياته إلى ما يحب الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويرضى.

تلاوة القرآن

وكلما أكثر الإنسان مِن تلاوة القرآن وتدبره استيقظ مِن غفلته، وأدرك أن الحياة هي أقصر ما يكون، وأضيق ما يكون، وأصغر ما يكون، وأن الحياة الحقيقية ليست في هذه الدنيا، وإنما هي في الدار الآخرة: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:64).

تهذيب النفس

إن أسباب تهذيب النفس وإصلاحها تدور حول هذه الأشياء، وإن الناس قد سلكوا في ذلك مسالك مختلفة؛ فتجد مَن يحرم نفسه تمامًا مِن اللذات، ويصوم عمره كله عما أباحه الله -عَزَّوَجَلَّ-: كالرهبان في الصوامع مِن الأديان المختلفة، الذين أوجبوا على أنفسهم الحرمان التام، وحرَّموا على أنفسهم طيبات ما أحلَّ الله لهم، وفي الحقيقة دخل الشيطان إليهم مِن أبواب الرياء، والكبر والعجب، وإرادة الشهرة بيْن الناس، وغير ذلك مما هو معلوم عندهم، كما أن الشهوات لم تنتهِ ولم تضمحل مِن نفوسهم، بل لا يزالون يتطلعون إليها؛ وكان الكثير منهم يقع فيها مِن وراء الناس، وأما الإسلام فقد جاء بهذه الوسطية الخيرية التي يجمع الإنسان فيها بيْن تحصيل أعظم أسباب الصلاح ودفع المضار، والتوازن بيْن الروح والبدن والوسطية بيْن الإفراط والتفريط، وبيْن الغلو والتقصير؛ فيحصل للإنسان مِن أسباب التقوى والهداية ما لا يدركه في غير هذا الشهر الكريم، وقد جمع الله -عَزَّوَجَلَّ- فيه أسباب التقوى لأهل الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البق رة:183).

هذا يقتضي منا اهتمامًا بالغًا بإصلاح القلوب، وإصلاح الألسنة، وإصلاح الأخلاق؛ فإن لم تصلح في رمضان فمتى تصلح إذا؟! ولكن التوفيق بيد الله -عَزَّوَجَلَّ-، وصدق الرغبة فيما عند الله، وصدق الالتجاء إليه في أن يهيئنا ويمدنا بأسباب فضله، وأن نعلم أن الأمر ليس بأيدينا؛ إنما هو بتوفيق الله وإعانته، فإذا لجأنا إليه أعاننا ووفقنا؛ فاللهم بَلِّغْنا رمضان، وأعِنَّا فيه على الصيام والقيام والاعتكاف وتلاوة القرآن، ووفِّقنا وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.