كيف تستميل قلوب الناس إليك



عناصر الخطبة
1- نعمة الله علينا في جمع القلوب وأنها من علامات الإيمان.
2- أساس كسب القلوب.
3- وسائل استمالة وكسب القلوب.
4- الفرق بين المداراة والمداهنة.
5- استمالة القلوب بالوسائل المحرمة.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
نعمة الله علينا في جمع القلوب وأنها من علامات الإيمان
سبحان الذي جمع قلوب المؤمنين على المودة، وجعلهم توادهم كالجسد الواحد، ومن علامات الإيمان؛ مودة بعضهم لبعض، وهو عز وجل الذي ألف بين قلوبهم بإيمانهم به، (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِ ينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (سورة الأنفال:62-63)، فاجتمعوا وائتلفوا، ولم يكن هذا بسعي أحد، ولا قوة أحد إلا الله عز وجل، فلا يقدر على تأليف القلوب إلا الله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء"، وهذه المودة التي جعلها الله سبحانه وتعالى في قلوب هؤلاء المؤمنين بسبب هذا الإيمان كما أخبر بذلك سبحانه، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (سورة مريم:96)، أي: يلقي بينهم المحبة، فيحب بعضهم بعضاً، فيتراحمون، ويتعاطفون بما جعل الله في قلوبهم من هذا المحبة التابعة لمحبته.
وأهل المعاصي والفسوق إذا كان بينهم نوع مودة، فإنها سرعان ما تنقلب، وتستحيل إلى عداوة، وكثيراً ما تكون في الدنيا قبل الآخرة، فهو معجل.
وهذه المودة بين المؤمنين ليست لأجل نسب ولا مال.
إنا ولم يكن بيننا نسب *** فرتبة الود تعلو رتبة النسب
وإذا تفكر الإنسان في هذه المودة؛ وجدها من جذوة الإيمان.
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم *** وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً *** وإذا المودة أقرب الأسباب
قال عليه الصلاة والسلام: ((حرم على النار كل هين لين، سهل، قريب من الناس))[1]، وقال: ((المؤمن مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف))[2].
قال ميمون بن مهران: "التودد إلى الناس نصف العقل".
ولهذه المودة أسباب، وطرق في تحصيلها، بالإضافة إلى توفيق الله عز وجل، وأساس الإيمان الذي بنيت عليه، ولقد كثرت الدورات النفسية التي تطل على الناس بمدربين، وكتّاب، ومعاهد، ودورات كيف تصبح محبوباً؟، وكيف تكون رجل علاقات ناجحاً؟، وكيف تكون جذاباً؟، وكيف تكسب مودة الآخرين؟، وغفل كثير من هؤلاء المدربين، والمتدربين عن الأسباب التي وردت في الشرع في تحصيل المحبة، وكسب القلوب.
أساس كسب القلوب
وأساس القضية هو الإيمان، ويوضحه قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)[3]. متفق عليه.
هذه المحبة التي جعلها الله في قلوب الناس لهذا المؤمن الذي اقترب من ربه فأحبه، وهذه المودة الموعود بها(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (سورة مريم:96)؛ إنها مشاهدة في القديم والحديث.
قال سهيل بن أبي صالح رحمه الله: كنت مع أبي في يوم عرفة، فوقفنا لننظر إلى عمر بن عبد العزيز، وكان أمير الحج، وقائد الناس في الموسم، فقلت: يا أبتاه والله إني لأرى الله يحب عمر، فقال: بم؟ - أي: ما الدليل؟- قال: لما أراه دخل له في قلوب الناس من المودة، وأنت سمعت أبا هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه) الحديث.
وسائل استمالة وكسب القلوب
ولذلك لا بد في تحصيل محبة الناس من العودة إلى الأصل، واتباع الأسباب الإيمانية الجالبة لذلك، ومن وسائل استمالة القلوب وكسب محبة الناس:
- متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) (سورة آل عمران:31)، فإذا أحبكم الله، نادى جبريل فنادى أهل السماء، فتوضع المحبة في الأرض، فيجتمع عليك الناس، وتلقى محبتك في قلوبهم، فهم بسلطان التقى اتخذوا قلوب الناس جنداً.
قال زيد رحمه الله: "كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس ولو كرهوا".
وقال بعض السلف: "ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه، حتى يرزقه مودتهم، ورحمتهم".
- الزهد في الدنيا، وقد جاء رجل كان له هم في هذا الجانب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك))[4]. رواه ابن ماجه وحسنه النووي.
فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب الناس، فإذا نازعتهم في محبوبهم حصل ما حصل من النفرة، فإذا استغنيت عما في أيديهم اجتمعوا عليك وأقبلوا.
قال أعرابي لأهل البصرة: من هو سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري، قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.
وكتب أبو الدرداء إلى بعض إخوانه: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله، فإنك إذا فعلت ذلك أحبك الله لرغبتك فيما عنده، وأحبك الناس لتركك لهم دنياهم، والسلام.
- إفشاء السلام، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم))[5] رواه مسلم، أي: إعلان، وإشهار، ونشر، وإكثار، وممارسة عملية السلام باستمرار.
إنه يغرس المحبة، ويزيل العداوة. قال الحسن رحمه الله: "المصافحة تزيد في المودة".
وقال بعض السلف: "تصافحوا يذهب الغل".
وقال إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري: خرجت لأبي جائزته - يعني من الخليفة من بيت المال- فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته، - أي: أدون الأسماء؛ لأن توزيع ما يأتي من الرزق كان من سنن السلف- ففعلت، فقال لي: تذكر هل بقي أحد أغفلناه؟ قلت: لا، قال: بلى، رجل لقيني فسلم عليَّ سلاماً جميلاً صفته كذا وكذا، اكتب له عشرة دنانير.
- الابتسامة، والبشاشة، وطلاقة الوجه، وهذا الذي أخبر به عليه الصلاة والسلام بقوله: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق))[6]. رواه مسلم.
إن نور الوجه حين يبتسم؛ يجعل القلب أسيراً في رضاه، وهذه الابتسامة كلمة طيبة من غير حروف، فلا تكلف كثيراً، لكنها تعني الكثير.
- الزيارة في الله، وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يزور أصحابه.
إن أردتم من صديق وصل ود أو قراره *** فعليكم بالزيارة تارة من بعد تارة
ذكر عليه الصلاة والسلام: ((أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ -يعني تقوم بإصلاحها وتنهض إليه بسببها، علاقة مالية-، قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)[7]. رواه مسلم.
من زار غباً أخاً دامت مودته *** وكان ذاك صلاحاً للخليلين
- الإحسان إلى الناس، وقضاء حوائجهم، فقد جبلت القلوب على الميل لمن أحسن إليها، قال عمر بن الخطاب لسعيد بن عامر: مال أهل الشام يحبونك؟ وكان والياً عليهم، قال: لأني أعاونهم، وأواسيهم.
والإحسان إلى الناس ليس فقط طريقاً إلى محبتهم، وإنما هو أيضاً طريق لمحبة الله لهذا المحسن، قال تعالىوَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)( سورة البقرة:195)، وقال عليه الصلاة والسلام(أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس))[8] .
فالسخاء يأسر القلوب، جاء صفوان بن أمية، -وكان مشركاً- إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: "أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الخلق إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي"[9]. حديث صحيح رواه الترمذي.
من بذل درهمه أحبه الناس طوعاً، أو كرهاً.
- إدخال السرور عليهم مما يجمعهم عليك، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، وهذه عبادة حتى ولو كانت بطرفة، تفرج بها عن أساريره إذ اجتمعت عليه أسباب الكرب، وغموم الدنيا، وهي سنة عمرية مع النبي صلى الله عليه وسلم عندما أشيع أنه طلق زوجاته.
- أما إطعام الطعام، ودعوة الناس إليه، فإنه مما يجعل بينهم محبة لمن أطعمهم.
- إهداؤهم، فله أثر عجيب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((تهادوا تحابوا))[10].
وقال أنس: يا بني تبادلوا بينكم - يعني الهدايا- فإنه أود لما بينكم، فهي تسل السخيمة، وتجلب المودة، وتزرع المحبة، وتنفي الضغينة، وتصير البعيد قريباً، والعدو صديقاً، والبغيض ولياً، والثقيل خفيفاً.
ثلاث تكسبك محبة الناس: التواضع، والإهداء، والإصغاء.
- حفظ الجوار، فإنك إذا بذلت له ما بذلت، وعدته في مرضه، وعزيته في مصيبته، وهنأته في فرحته، وصفحت عن زلته، وسترت عورته، فإنه يحبك بلا ريب.
- الثناء على الناس بالحق، فهو يستجلب القلوب، وقد كان عليه الصلاة والسلام يثني على أصحابه بالحق، ليلفت أنظار الآخرين إلى ما تميز به فلان وفلان.
قال عبد الله بن أحمد: جاء رجل إلى أبي فذكر أنه كان عند بشر بن الحارث فذكروه - يعني ذكروا أحمد بن حنبل في مجلس بشر-، فأثنى عليه بشر وقال: لا ينسى الله لأحمد صنيعه، ثبت وثبتنا، ولولاه لهلكنا، - يعني في المحنة بالقول بخلق القرآن-، قال عبد الله بن الإمام أحمد: ووجه أبي يتهلل، فقلت: يا أبتِ أليس تكره المدح في الوجه، قال: يا بني إنما ذكرت عند رجل من عباد الله الصالحين، وما كان مني فحمد صنيعي، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن مرآة المؤمن))[11]. فمدحه بالحق، وكان شهادة بغير طلب، وليس كما يفعل اليوم من طلب المدح، واستجلابه بالمال، وشهادة زور تقال في أبيات لا تغني عند الله شيئاً، ولذلك قال: ((احثوا في وجوه المداحين التراب)[12]، فهذا المدح بالباطل، هو الذي جعل الشاعر فيه بضاعته المدح يستأكلون به الممدوحين، وأما المدح بالحق دون طلب، وتأتي شهادة يجريها الله على ألسن عباده بالثناء على صلاح أحد من الصالحين، أو معروفه، فهذه شهادة بالحق، وهي من عاجل بشرى المؤمن، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((أنتم شهداء الله في الأرض))[13].
- الدعاء بالشكر، إذا قصرت يداك بالمكافأة، فليطل لسانك بالشكر والدعاء.
- حسن الكلام، والكلمة الطيبة لها أثر في تأليف القلوب، واستجلاب المحبة.
كسبت مطلقة زوجها مرة أخرى بحلاوة منطقها وطيب خلقها، فقد طلق الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه، امرأتين؛ قرشية وجعفية، وبعث إلى كل واحدة منهما بعشرين ألفاً، وقال للرسول: احفظ ما تقول كل واحدة منهما، فقالت القرشية: جزاه الله خيراً، وقالت الجعفية: متاع القليل من حبيب مفارق، أي: كل هذا المال بجانب المفارقة قليل، فهو أثمن من المال، فهي لا زالت تحبه مع أنه فارقها، كلمات وجيزة معبرة، فأعجبه قولها فأعادها وأرجعها.
قال أحد الصالحين: لا يكسب محبة الناس في هذا الزمان إلا رجل خفيف المئونة عليهم، وأحسن القول فيهم، وأطاب العشرة معهم.
وكم تأتي هذه الكلمة الطيبة بحسنات، تجمع القلوب، وتسوي صفوفاً قد تمزقت، وتزيل أحقاداً في نفوس قد اجتمعت.
- حسن الإصغاء، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا حدث أحدٌ، التفت إليه بوجهه، وأصغى إليه، ولا يقطع عليه كلامه.
من لي بإنسان إذا أغضبته *** وجهلت كان الحلم رد جوابه
وتراه يصغي للحديث بطرفه *** وبقلبه ولعله أدرى به
قال عطاء: "إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه، وقد سمعته قبل أن يولد".
- إظهار التوقير، واحترام الناس، وإنزالهم منازلهم مما يجمع المحبة في القلب، لهذا الذي أعطي الفخر الذي في نفسه.
وقد استعمل النبي عليه الصلاة والسلام هذا مع سادات الجاهلية؛ كالأقرع بن حابس، وأبي سفيان، وعيينة بن حصن، وثمامة بن أثال، وهكذا، فأسلموا، ودخلوا في الدين، يدخل عليه هذا فيكرمه ويبسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي عنده، وهذا يقول: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن))[14]، وهكذا من إنزال الناس منازلهم، وإشباع ما في نفوسهم من أمور لا تتعارض مع الشرع، بل هي من المداراة. ومن إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، ورحمة الصغير.
- مراعاة الطبائع، فهي تستجلب المحبة، وقد قسم الله الأخلاق كما قسم الأرزاق، فمن الناس من هو هين لين يترقرق البشر من وجهه، ومنهم من هو فض غليظ، صعب المراس كأنما قُدَّ وقطع من صخر، ومنهم من هو مبتغٍ بين ذلك سبيلاً.
قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك))، أي: هذه ألوان الطين والتراب في العالم، فجاء منها البشر، لكن أليس من الأرض صخرية، ورملية، وطينية، تمسك، ولا تمسك، وتخضر، وقاحلة مجدبة، ((والسهل والحزن والخبيث والطيب))[15]. رواه أبو داود، يعني: كذلك نفوس الناس الذين خلقوا من هذه القبضة التي هي من جميع الأرض، جاءت نفوسهم بحسب طبائع هذه التربة التي خلقوا منها.
وبهذا يعلم أن معاملة الناس على حسب طبائعهم سنة نبوية تستجلب القلوب، وقد عامل النبي عليه الصلاة والسلام أصنافاً من البشر كانت في نفوسهم صعوبة، وكان فيها مشاكسة، وفي بعضهم شدة وغلظة.
فعن عبد الله بن أبي مليكة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أهديت له أقبية من ديباج - حرير- مزررة بالذهب، وهذه تصلح للإهداء للنساء، وتعطى للرجال ليعطوها نساءهم، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، وعزل منها واحدة لمخرمة بن نوفل، فجاء مخرمة ومعه ابنه المسور بن مخرمة فقام على الباب، فقال: ادعه لي، -واضح طبيعة هذا الرجل-، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فأخذ قباءً، فتلقاه به، واستقبله بأزراره، فقال: ((يا أبا المسور خبأت هذا لك، يا أبا المسور خبأت هذا لك))، وكان في خلقه شدة.[16] رواه البخاري. فهذه ملاطفة، وعطية، وحسن استقبال تزول به الشدة، وتستصلح النفوس.
اللهم حسن أخلاقنا، واجمع على الحق كلمتنا، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً، واجعلنا ممن يحبك، ويحب من يحبك، واجعل محبتك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله، أشهد أنه رسول الله، والداعي إلى سبيله، أرسله الله رحمة للعالمين، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى أصحابه، وآله، وخلفائه، وأزواجه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين يا رب العالمين.
عباد الله:
علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم مداراة الناس، فهي تجعل العدو ولياً حميماً.
استأذن رجل فيه شدة وفجور وفسق على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام قبل أن يدخل هذا الرجل: ((بئس أخو العشيرة))، وهذه صفة ذم، فلما دخل الرجل، وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل وذهب، قالت عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه، تعني: لما دخل وجلس إليك اختلف الكلام عن التعليق عليه قبل أن يدخل عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة متى عهدتني فحاشاً، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره).[17] رواه البخاري.
فهذه المداراة لهؤلاء العتاة؛ مهمة لجلبهم إلى طريق الحق، ولم يتنازل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من الدين، فلم يقل عن باطل أنه حق، أو عن حق أنه باطل، ولم يغير الأحكام الشرعية من أجل هذا الرجل، ولا من أجل غيره.
الفرق بين المداراة والمداهنة.
فالمداراة شيء، والمداهنة شيء آخر، فالمداراة لين الكلام، وبشاشة الوجه؛ لأجل استمالت هؤلاء الأعداء، وهؤلاء العصاة، وأما المداهنة فهي الثناء عليه بالباطل، وقول الباطل بين يديه، ونحو ذلك.
والناس يحبون المتواضع، وصاحب لين الجانب، (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (سورة المائدة:54)، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (سورة آل عمران:159)، فاللين والتواضع هو الذي جمعهم عليه.
وعندما تستقبل أخاك فتوسع له في المجلس المزدحم لا يجد مكاناً يجلس فيه، وتدعوه بأحب الأسماء إليه، فإنه لا ينسى لك هذا المعروف.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "ثلاثة لا أكافئهم، يعني: لا أستطيع أن أقابلهم بمعروفهم، رجل بدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إليَّ يريد السلام عليَّ".
أنا الذي يكون اسمي عاليا *** بين البوادي ظاهراً وباديا
فاحفظ ودادي أيها المناديا *** إن كنت تريد مني وداديا
وهكذا يتودد الإنسان إلى هؤلاء الإخوان بما يستجلب قلوبهم، واجتماع قلوب المؤمنين من مقاصد الشريعة؛ لأن الشريعة تريد أن يكون المجتمع الإسلامي متآلفاً مجتمعاً، وأن يكونوا يداً واحدة؛ ولذلك فإن استعمال هذه الأسباب الشرعية عظيم جداً.
- ومن الوسائل: السماحة في المعاملة، ((رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى))[18] يعني: طالب بحقه وطالب بدينه.
- التنازل عن الحقوق، والعفو والصفح، (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (سورة فصلت:34)، فإذا قطعوك صلهم، وإذا أساؤوا إليك فأحسن إليهم، وإذا ظلموك فاعف عنهم، وإذا اشتدوا عليك فعاملهم باللين، وإذا هجروك فاقترب منهم، فطيب الكلام مع بذل السلام، مع الدعوة للطعام، تأتي بالنتائج العظام، ((وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً))[19]، (وَالْكَاظِمِين الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (سورة آل عمران).
كان بين حسن بن الحسن وابن عمه علي بن الحسين شيء من الخصومة، فما ترك حسن شيئاً إلا قاله، وعلي ساكت، فذهب حسن، فلما كان في الليل أتاه علي بن الحسين، بعدما هدأت الأمور، وانتهى ذلك المجلس الذي فيه تلك القذائف، وطرق عليه الباب وقال: يا ابن عم إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
قال معاوية: يا بني أمية فارقوا قريشاً بالحلم، فو الله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتماً وأوسعه حلماً، فأرجع وهو لي صديق، إن استنجدته أنجدني، وأثور به فيثور معي.
وما وضع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرماً.
- ومما يستجلب مودة القلوب: حسن السمت، وحسن اللباس، وطيب الرائحة، ((إن الله جميل يحب الجمال))[20].
وقال عمر: إنه ليعجبني الشاب الناسك، يعني: العابد، نظيف الثوب، طيب الريح، فكيف بمن يأتي بيت الله بثوب النوم، دون أدنى إزالة لما علق به من بعد قيامه من نومه.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: ما رأيت أحداً أنظف ثوباً، ولا أشد تعهداً لنفسه، وشاربه، وشعر رأسه، وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً، وأشده بياضاً من أحمد بن حنبل. يعني أباه.
قال الله عن موسى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي) (سورة طه:39)، هناك محبة يلقيها الله، وهنالك أسباب تكملها، وهذه المحبة التي يلقيها الله عز وجل فضل ونعمة منه، ولكن أساسها الإيمان، وإرضاء الله عز وجل، ثم لا يضرك يا عبد الله أن تعلن محبتك لأخيك المسلم إذا كنت صادقاً؛ لأن ذلك مما يزيدها شداً، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه إياه))[21]، وفي رواية مرسلة ((فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة))[22].
- ترك المراء، ومجادلة الناس للتغلب عليهم، وإظهار عوارهم في النقاش، وفضح موقفهم، مما يزيل النفرة، ويبعدها، ويستجلب المودة؛ لأن المراء يقسي القلب.
والنبي عليه الصلاة والسلام علمنا في الجملة من محاسن الأخلاق، وطيب المعاشرة، واللطافة، والزهد، ولين الجانب، ما نستجلب به قلوب من نعاشرهم، والإنسان اجتماعي بطبعه فلا بد من أناس يعاشرهم في البيت، وفي المكتب، وفي الحضر، وفي السفر.
قال أحد السلف يوصي ابنه: يا بني إن أباك قد فني وهو حي، وعاش حتى سئم العيش، وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته، فاحفظ عني: ألن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر بشيء عليهم يسودوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم، ويكبر على مودتكم صغارهم، واسمح بمالك، واحم حريمك، وأعزز جارك، وأعن من استعان بك، وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ - في الإغاثة- فإن لك أجلاً لا يعدوك، وصن وجهك عن مسألة أحد شيئاً فبذلك يتم سؤددك.
استمالة القلوب بالوسائل المحرمة.
عباد الله:
من الناس من يحاول أن يستميل القلوب بوسائل محرمة؛ كالسحر، ومنه الصرف، والعطف، وكالرشوة، والظلم إرضاءً لمن يريد استمالته فيظلم آخرين من أجله، وكالمدح الكاذب، والنفاق، والثناء بغير حق، والإسراف في الولائم من أجله، والنميمة له ليتقرب إليه، ويتحبب على حساب من نمَّ عنهم وظلمهم، والسكوت عن منكراتهم.
كتب معاوية إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنه: أن اكتبي إليَّ كتاباً توصيني فيه، ولا تكثري عليَّ، فكتبت عائشة رضي الله تعالى عنها إلى معاوية: سلام عليك أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس))[23] والسلام عليك. رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
إرضاء الله، ثم إرضاء الله، ثم إرضاء الله.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، واجمع على الحق كلمتنا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم اجعلنا ممن عبدوك كما تريد، أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، أقض ديوننا واستر عيوبنا، أغننا من فضلك، أغننا عمن سواك، أغننا بحلالك عن حرامك، اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا الفردوس الأعلى، وأن تعيذنا من النار، اللهم إنا نسألك صلاح النية والذرية، اللهم أمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، وأغفر لنا يا عزيز يا غفور، انصر دينك، اللهم اقمع المنافقين، وأذل أعداء الدين، وعجل بفرج المسلمين، يا أرحم الراحمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
[1] رواه أحمد (3928) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3135).
[2] رواه البيهقي في الشعب (7252) وصحح الألباني في صحيح الجامع الصغير بمعناه (6662).
[3] رواه البخاري (3209) ومسلم واللفظ له (2637).
[4] رواه ابن ماجه (4102) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (922).
[5] رواه مسلم (54).
[6] رواه مسلم (2626).
[7] رواه مسلم (2567).
[8] رواه الطبراني في الأوسط (6026). وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2623).
[9] رواه الترمذي (666). وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (4808).
[10] رواه مالك (1658) وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3004).
[11] رواه أبو داود (4918). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (6655).
[12] رواه مسلم (3002).
[13] رواه البخاري (1367) ومسلم (949).
[14] رواه مسلم (1780).
[15] رواه أبو داود (4693) والترمذي (2955). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1759).
[16] رواه البخاري (3127).
[17] رواه البخاري (6032).
[18] رواه البخاري (2076).
[19] رواه مسلم (2588).
[20] رواه مسلم (91).
[21] رواه الترمذي (2392) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (280).
[22] رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان (69) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (280).
[23] رواه الترمذي (2414). وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (6097)