رَمَضَانُ شَهْرُ التَّوْبَةِ وَالْغُفْرَانِ

الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر





إن هذا الموسم العظيم والشهر الكريم، موسم رحمةٍ، مهداة من رب العالمين للعباد، لإقالة العثرات، ومغفرة الزلات، والتوبة عن الخطيئات والسيئات؛ فما أرحمه -سبحانه- وأحلمه هيّأ لعباده كل ما يقربهم منه ويردهم إليه؛ فأمر عباده المؤمنين أمراً مطلقاً بالتوبة النصوح في كل حين وزمان ومكان، ليحصل لهم تكفير السيئات، وإقالة العثرات، ورفع الدرجات، والفوز بالجنات؛ فقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (التحريم:8)، وقال -سبحانه-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(الن ور:31)، وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ»، وفي رواية له «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ».
بل الله يشتد فرحه بتوبة عبده إليه، روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ؛ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ».
الواجب على المسلم
والواجب على المسلم أن يدرك أهمية التوبة وشدّة احتياجه إليها وأن يدرك كذلك خطر الذنوب وشدّة ضررها على أهلها في الدنيا والآخرة؛ فهي سبب لنزول المصائب والعقوبات والقوارع، قال -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30)، وقال -سبحانه-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63)، وقال -سبحانه-: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}(الر عد:31) .
سبب الشرور والأدواء
وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟! فمن الذي أغرق أهل الأرض جميعاً حتى علا الماء رؤوس الجبال؟ ومن الذي سلط الريح على قوم هود حتى ألقتهم موتى كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ ومن الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم؟ ومن الذي قلب قرية قوم لوط فجعل عاليها سافلها ثم أتبعهم حجارة فأبادتهم؟ ومن الذي أغرق فرعون وقومه؟ ومن الذي خسف بقارون وماله وأهله؟ ومن الذي بعث على بني إسرائيل قوماً أولي بأس شديد؛ فجاسوا خلال الديار، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية؛ فأهلكوا وما قدروا عليه وتبروا ما علوا تتبيراً؟ إن السبب لهذا كله إنما هو الذنوب والمعاصي، قال -تعالى-: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت:40)، وقال -سبحانه-: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} (نوح: 25).
آثار الذنوب
قال ابن القيم -رحمه الله- في كلام عظيم له يوضح فيه شيئاً من آثار الذنوب الخطيرة وأضرارها العظيمة وعواقبها الوخيمة: «اقشعرّت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة, وذهبت البركات، وقلّت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة, بكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة, وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح. وهذا والله منذرٌ بسيل عذاب قد انعقد غمامه, ومؤذِنٌ بليلِ بلاءٍ قد ادلهمّ ظلامه؛ فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح، ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غَلِق وبالجناح وقد عَلِق {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (الشعراء: 227). اشترِ نفسك اليوم؛ فإن السوق قائمةٌ، والثمن موجود،ٌ والبضائعَ رخيصةٌ, وسيأتي على تلك السوق والبضايع يومٌ لا تصل فيها إلى قليل ولا كثير {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}(ال تغابن:9), {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْه}(الفرقان :27) اهـ.
الانشغال عن التوبة
هذا وإن من الناس من غلبته الشواغل والمغريات والملهيات وأصبحت عائقاً وحجر عثرة له عن التوبة والرجوع إلى الله، يصبح ويمسي وهو في ترفٍ وبذخ، وإسرافٍ وتبذير، ولعبٍ وسهر، ونومٍ وكسل، وظلمٍ وفجورٍ وطغيان؛ فشهر رمضان فرصة لأمثال هؤلاء الغافلين للتوبة النصوح والإقبال على الله، وإذا لم تتحرك النفس في هذا الموسم العظيم للتوبة؛ فمتى تتحرك؟! وإذا لم يقبِل العبد على الله في هذا الشهر المبارك؛ فمتى يقبل؟! . والله -عز وجل- قد فتح باب التوبة لعباده ووعد بالقبول، قال -تعالى-: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (الشورى: 25)، وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»؛ فليغنم المفرطون المقصرون شهر الغفران بالتوبة النصوح مستوفين شروطها، وهي ثلاثة شروط إن فُقِد أحدها لم تصح التوبة:
- أولها: أن يقلع عن المعصية إقلاعاً تاماً، وعلامته مفارقة الذنب فوراً .
- الثاني: الندم على فعلها، وعلامته طول الحزن على ما فات .
- الثالث: العزم ألا يعود إلى المعصية أبداً، وعلامته التدارك لما فات وإصلاح ما هو آت.
فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي زاد شرط رابع وهو: أن يبرأ إلى الله من هذا الحق وذلك بِرَدِّه إلى صاحبه أو استحلاله منه.