قال ابن القيم -رحمه الله- في مفتاح دار السعادة ، دار عالم الفوائد مكة المكرمة ، (ط1: 2 / 567 - 569) :
(والنظرُ في هذه الآيات وأمثالها نوعان:
* نظرٌ إليها بالبصر الظَّاهر؛ فيَرى- مثلًا- زُرقة السَّماء ونجومَها وعُلوَّها
وسَعَتَها؛ وهذا نظرٌ يشاركُ الإنسانَ فيه غيرُه من الحيوانات، وليس هو المقصود بالأمر.
* والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتُفْتَحُ له أبوابُ السَّماء، فيجولُ في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها،
ثمّ يُفْتَحُ له بابٌ بعد باب، حتى ينتهي به سيرُ القلب إلى عرش الرحمن، فينظرَ سَعَته وعظمتَه وجلالَه ومَجْدَه ورِفْعَتَه، ويرى السَّموات السَّبعِ والأرضينَ السَّبعَ بالنسبة إليه كحَلْقَةٍ مُلقاةٍ بأرضٍ فلاة، ويرى الملائكةَ حافِّين من حوله، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمرُ ينزلُ مِن فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمُها إلا ربُّها ومليكُها.
فينزلُ الأمرُ بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قومٍ وإذلال آخرين، وإسعاد قومٍ وشقاوة آخرين، وإنشاء مُلْكٍ وسَلْب مُلْك، وتحويل نعمةٍ من مَحِلٍّ إلى محلٍّ، وقضاءِ الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها؛ مِنْ جَبْر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كَرْب، ومغفرة ذنب، وكشف ضُرٍّ، ونَصر مظلوم، وهداية حيرانَ، وتعليم جاهل، ورَدِّ آبِق، وأمان خائف، وإجارةٍ لمستجير، ومَدَدٍ لضعيف، وإغاثةٍ لملهوف، وإعانةٍ لعاجز، وانتقامٍ من ظالم، وكفٍّ لعدوان.
فهي مراسيمُ دائرةٌ بين العدل والفضل، والحكمةِ والرَّحمة، تَنْفُذُ في أقطار العوالم، لا يَشْغَلُه سمعُ شيءٍ منها عن سمع غيره، ولا تُغَلِّطُه كثرةُ المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها واتحاد وقتها، ولا يتبرَّمُ بإلحاح المُلِحِّين، ولا تنقصُ ذرَّةٌ من خزائنه، لا إله إلا هو العزيزُ الحكيم.
فحينئذٍ يقومُ القلبُ بين يدي الرحمن مُطْرِقًا لهيبته، خاشعًا لعظمته، عَانٍ لعزَّته، فيسجدُ بين يدي المَلِك الحقِّ المبين سجدةً لا يرفعُ رأسَه منها إلى يوم المزيد.
فهذا سَفَرُ القلب وهو في وطنه وداره ومحِلِّ مُلكِه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صُنعِه؛ فيا له من سفَرٍ ما أبركَه وأروحَه، وأعظمَ ثمرتَه وربحَه، وأجلَّ منفعتَه وأحسنَ عاقبتَه!
سفرٌ هو حياةُ الأرواح، ومفتاحُ السَّعادة، وغنيمةُ العقول والألباب، لا كالسَّفر الذي هو قطعةٌ من العذاب).