تفسير سورة العصر
محمد بن صالح الشاوي



الخطبة الأولى:
الحمد لله الحكيم العليم، العزيز الكريم، الحي القيوم، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالكمال والجلال، قائمًا بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وصفوة خلقه، أرسله إليهم بالنور والهدى، فقام فيهم مقام النبوة العليا، فصفح عن مسيئهم، وعفا عن أخطائهم العديدة، حتى أقام الدولة الإسلامية على أساس العلم والنور والحكمة والقرآن الحكيم، وما ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته، ومن استن بسنتهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
اعلموا - رحمكم الله - أن الله - سبحانه - تعالى - يقول: بسم الله الرحمن الرحيم: (وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإْنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1 3].
ففي هذه السورة الكريمة: أقسم الله - تبارك وتعالى – بالعصر - وهو الزمن الطويل المديد - بأن الإنسان لفي خسارة وخسران، أي: حابط عمله وخاسر مسعاه، ولا نصيب له من عمله إلا التعب والنَّصَب والخسارة الدائمة في الدنيا والآخرة.
ثم استثنى - تبارك وتعالى - من هؤلاء الناس الخسارى قسمًا: هم الذين آمنوا بالله ورسوله، وبما جاء عن الله وعن رسوله، وعملوا الصالحات من صيام وصدقة وحج وبر وزكاة، وصلة رحم وأداء للأمانة، وأمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر، وحفظوا ألسنتهم من النميمة والغيبة، والأيمان الباطلة، والشهادات الكاذبة، وحفظوا فروجهم عن المحرمات، ونفوسهم وضمائرهم من الغش والخيانة.
ثم بعد ذلك تواصوا بالحق، والحق أحق أن يتبع، والرجوع إلى الحق خير من التمادي بالباطل، ومن التواصي بالحق: الأخذ بمعالي الأمور، ورفع النفس عن سفاسفها، والسمو بالنفس إلى الأهداف السامية النافعة في العاجل والآجل، والاهتمام بمصالح المسلمين، والعمل على رفع مستواهم المادي والأدبي والمعنوي، والعمل بإخلاص، والنصح لعامتهم وأئمتهم، وإرشاد ضالهم، وإسداء المعروف والبر إلى فقيرهم وضعيفهم وقريبهم وبعيدهم.
ثم ختم - تعالى - هذه السورة الكريمة بالحث على الصبر، فقال: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، والصبر هو أعظم سلاح يواجه به العبد الصالح متاعب الحياة وآلامها ومنغصاتها.
فالمؤمن هو من يصبر عن المعاصي ويصبر على المصائب، وعلى ما يلاقيه في سبيل إعلاء كلمة الله من ضر وآلام وإيذاء، وكذلك الطاعات والدوام عليها يحتاج إلى صبر وقوة إيمان وإدراك.
فها أنتم أيها المسلمون ترون أن هذه السورة مع قصرها قد جمعت ما يحتاج إليه الإنسان، قال الشافعي - يرحمه الله -: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم، وهي: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإْنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1 3)]".
فيا أيها الإخوة: كونوا خير أمة أخرجت للناس، وآمنوا بالله واعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ومن لم يؤمن بالله ويمتثل أوامر الله فأولئك هم الفاسقون.
أقول هذا، وأسأل الله لنا ولكم ولسائر المسلمين العون والمغفرة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الأولى والآخرة، وهو على كل شيء قدير.
والصلاة والسلام على صفوة الخلق البشير النذير، النبي الأمي، الذي أُعطي جوامع الكلم وخُتمت به النبوة، محمد صلى الله عليه وعلى صحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وقد صلى عليه الله وملائكته، فقال - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك محمد، وآله وصحبه الذين هدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط العزيز الحميد.
أما بعد:
فاعلموا وفقكم الله أن الله - سبحانه - حكم وأقسم أن الإنسان لفي خسار وهلاك، إلا من آمنوا به بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم، وسادت بينهم المحبة والأخوة والتواصي بالحق، والأمور النافعة لهم في الدنيا والآخرة، من أداء للطاعات واجتناب للمحرمات، وتواصوا بمعالي الأمور وتناهوا عن سفاسفها وسفساطها، ونزهوا أنفسهم وضمائرهم من الغش والحقد والرياء والربا، والأيمان الكاذبة والشهادات الباطلة والزور والنفاق، نزهوا أنفسهم وضمائرهم عن هذه الجراثيم والأوبئة الفتاكة التي تفتك بالمجتمعات، وتجعل الناس ينهش بعضهم بعضًا، ويطعن بعضهم بعضًا، ويلوم بعضهم البعض الآخر، وينتهك عرضه، حتى يكونوا كالمنافقين تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتَّى.
وبهذا تتفرق كلمتهم، وتضعف شوكتهم، ويصبحوا عضوًا أشل، ومطمعًا لكل غاصب.
فلابد أيها المسلمون من الاجتماع والاتحاد، ولا بد من أن تتواصوا بالحق وتتواصوا بالصبر، لأن ذلك لا يتم إلا إذا تواصيتم بالصبر وقمتم بالحق خير قيام.
عباد الله: اعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وها أنتم ترون سورة صغيرة قصيرة من سُوره قد جمعت من المعاني ما يكفل السعادة للبشرية في الدنيا والآخرة.
فعليكم بكتاب الله وبسنة نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهي خير السنن، قال - تعالى -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر: 7]، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
أسأل الله - تعالى - أن يولَّيَ علينا خيارنا، وأن يصلح ولاة أمور المسلمين، وأن يوحد كلمتهم وقيادتهم على الحق يارب العالمين، اللهم واجمعهم وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اشف مرضانا ومرضاهم وفرج كروبهم إنك سميع مجيب.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِْحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النحل: 90، 91].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله خبير بما تعملون