المياه أقسامها وأحكامها
أ.د. حسن عبد الغني أبوغدة*
تعريف المياه: هي لغة: جمع كثرة للماء، وجمع القِلَّة ـ دون العشرة ـ: أمواه، وعرفوا الماء ـ أي: حقيقته ـ بأنه: جوهر بسيط سيَّال، لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة، وإنما يكتسب اللون أحياناً بحسب الإناء الذي هو فيه، كما إذا كان في كأس أزرق اللون
أقسام المياه وأحكامها:
تُقسم المياه شرعاً إلى ثلاثة أقسام: الأول: الماء الطَّهور، والثاني: الماء الطاهر، والثالث: الماء النجس. ونتناول كلاً منها على النحو التالي:
القسم الأول: الماء الطَهور: الماء الطَّهور ـ بفتح الطاء ـ يتصف بصفتين: طاهر في ذاته، ومطهِّر لغيره. والماء الطهور حقيقة هو: الماء المطلق الباقي على أصل خِلْقته.
ومصادره: البحار، والأنهار، والأمطار، والعيون، والآبار، ونحوها، مما ينزل من السماء أو يخرج من الأرض.
حكم الماء الطهور:
يَحِلُّ به رفع ( إزالة ) الحدث الحكمي، من جنابة وحيض ونفاس وحالة عدم الوضوء، كما يحلُّ به إزالة الخبث (النجس) الحسي، من بول وغائط ودم وخمر، وذلك بإجماع الفقهاء. ويدل على طهارة هذا القسم من الماء وتطهيره لغيره قولُه تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}. الأنفال /11. وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أصحاب السنن وغيرُهم في ماء البحر: "هو الطهور ماؤه". فعُلِم من هذا وغيرِه: أن الماء الطهور طاهر في نفسه، ومطهِّر لغيره.
ما لا يُخرِج الماء الطهور عن طهوريَّته: يبقى الماء طهوراً في أربع حالات هي:
الحالة الأولى: إذا اختلط بمادة طاهـرة أبقت فيه وصف الماء، ولم تُغيِّر أوصافه ـ لونه، أو طعمه، أو رائحته، أو سيلانه ورقَّته ـ وذلك كالخَل، والشاي، والعجين، والحِبر، وورق الشـجر، والكلور، والصابون، وفي هذا المعنى يروي ابن ماجه وابن خزيمـة في صحيحه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسـل بقَصْعَة فيها أثر عجين ".
الحالة الثانية: إذا اختلط بمادة طاهرة غيَّرت أوصافه ورقَّته ـ ولم تغيِّر اسمه وحقيقته وأجزاءه ـ وهذه المادة لا تخرج عن أحد أمرين:
1ـ أن تكون ملازمة له عادة ولا يمكن صيانته عنها ولا التحرز منها، كالطحالب، وورق الشجر، وما هو في قرار الماء، ككون الماء كبريتياً، أو جِصِّياً، فيبقى هذا الماء على طهوريَّته المطلقة، ولا يكره استعماله في وضوء أو غُسل؛ لأنه يشق التحرز من ذلك.
2ـ أن تكون المادة الطاهرة غيرَ ملازمة له في العادة، ويمكن التحرز منها، كالصابون، والكلور، وصدأ الحديد، والسمسم، والعسل، والخَلِّ، والشاي، والحِبْر، والزعفران، والحِمِّص...
ولأهل العلم قولان في الوضوء بهذا الماء الأخير: قال الجمهور: لا تحصل الطهارة به, وقال الحنفية وبعض الحنابلة: تحصل الطهارة به مع الكراهة إن لم تُطرَح فيه هذه المواد عمداً, فإن أُلقيَت عمداً وغيَّرت أوصاف الماء فَقَد صفة الطهورية, وانقلب إلى ماء طاهر غير مطهِّر، وما عاد يسمى ماء مطلقاً.
هذا, وقد اتفق العلماء على أن الماء الطهور إذا خالطه طاهر فغيَّر اسمه, وغلب على أجزائه وحقيقته, حتى صار صَبْغاً, أو حِبْراً, أو خَلاً, أو مَرَقاً, أو شاياً, أو طيناً, فهذا يصير طاهراً غير مطهِّر، ولا يجوز الوضوء به ولا الغُسل؛ لأنه لم يعد يطلق عليه اسم الماء الطهور.
الحالة الثالثة: إذا استُعمل الماء في طهارة مستحبة كتجديد وضوء, وغُسل جمعة أو عيد, وغَسْلة ثانية, أو غسلة ثالثة في وضوء أو غُسل, فإن الماء يبقى طهوراً في قولٍ للحنابلة من قولين لهم, لكن يكره استعماله, للخروج من الخلاف الفقهي.
وإن استُعمل الماء الطهور للتبرُّد بقي طهوراً, ولا كراهة في استعماله ثانية للتطهر به, لا يُعلم في هذا خلاف بين الفقهاء؛ لأن استعمال الماء لم يؤثر فيه شيئاً.
الحالة الرابعة: إذا اختلط الماء الكثير, بنجاسة لم تغير أوصافه, فإنه يبقى طهوراً, لما رواه أبو داود والحاكم وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا بلغ الماء قُلَّتين لم ينجِّسْه شيء". وفي رواية ضعيفة لابن ماجه والدارقطني: "إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه".
والماء الكثير عند الجمهور: ما بلغ قُلَّتين فأكثر , والقُلَّتان: مثنى قُلَّة, وهي: جرَّة كبيرة من قِلال هَجَر, وهجر: قرية قرب المدينة, كانت تصنع القِلال، وتتسع القلَّتان معاً حوالي /200/ ليتر من الماء.
أما الحنفية: فالماء الكثير عندهم ما بلغ عشـرة أذرع طولاً ـ حوالي خمسة أمتار ـ في عشرة أذرع عرضاً, بعمق شِبْر, وقال بعض الحنفية: الماء الكثير: ما إذا حُرِّك أحد طرفيه, لم يتحرك الطرف الآخر, بمعنى أن النجاسة لا تصل إليه.
القسم الثاني: الماء الطاهر:
ويقال له: الماء الطاهر في ذاته, غير المطهر لغيره، وله حالتان:
الحالة الأولى:الماء الذي أزيل به حدث حكمي ـ استعمل في وضوء أو غُسْل ـ وانفصل عن الجسم, فهذا ماء مستعمل, طاهر في نفسه, غير مطهر لغيره, فلا يُتَوضأ ولا يُغْتَسل به ثانية للطهارة, ولا تُزال به نجاسة حسية كبول ودم...
الحالة الثانية: الماء المطلق الذي خالطه طاهر غير ملازم له عادة, فغيرَّ أوصافه واسمه,وربما أجزاءه وحقيقته, وذلك كالخَلِّ، والشاي, فهذا الماء يصير طاهراً غير مطهِّر في قول الجمهور كما تقدم آنفاَ، لأنه ما عاد يقال له: ماء مطلق، بل خل، وشاي، وشراب، وحِبْر ...
حكم الماء الطاهر غير المطهر: يتضح مما سبق أن الماء الطاهر قد فَقَدَ صفة واحدة من صفتي الماء الطهور, وهي صفة تطهيره لغيره, مع بقائه طاهراً في ذاته, بمعنى أنه لا يجوز شرعاً أن يُزال به حدث حكمي أو خبث حسي.
الأدلة للماء الطاهر غير المطهر: روى الشيخان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد جابراً رضي الله عنه من مرض, فتوضأ وصبَّ عليه من وضوئه ". وقد استدل العلماء بهذا الحديث على أن الماء المستعمل في رفع حدث حكمي ـ وهو هنا الوضوء ـ طاهر في نفسه, إذا لا يعقل أن يصب النبي صلى الله عليه وسلم الماء ـ وهو غير طاهر ـ على جابر رضي الله عنه.
وفي حديث آخر لمسلم: "لا يغتسل أحدُكم في الماء الدائم ـ الراكد ـ وهو جنب". وبقيته: "قالوا: يا أبا هريرة, كيف يَفعل؟ قال: يتناوله تناولاً". وهذا الحديث كما يقول العلماء: يدل على أن الماء الطاهر غير المطهر فَقَدَ صفة تطهيره لغيره؛ لأن رفع الحدث ـ وهو هنا الغُسل ـ بالانغماس في الماء القليل ـ كما ورد في أدلة أخرى ـ يُخرجه من تطهيره لغيره, ويُهدر وظيفته الأخرى في القدرة على الانتفاع به في الطهارات...
القسم الثالث: الماء النجس: يصير الماء نجساً في حالات ثلاث:
الحالة الأولى: إذا كـان الماء قليلاً ـ دون قلتيـن ـ ووقعت فيه نجاسـة ـ كميْتة وبول ودم ـ صار نجساً, ولو لم يتغير أحد أوصافه من لون أو طعم أو رائحة, وذلك للحديث السابق عن أبي داوود والحاكم وصححه: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ". فعُلم منه بمفهوم المخالفة: أن ما كان أقل من ذلك يحمل الخبث.
وقال الفقهاء في سبب تحديد المقدار بقلتين: إن العادة جرت في إمكان حفظ الماء القليل عن النجاسات, وذلك بتغطيته، أو وضعه في آنية, وذلك أمر ميسور ومقدور عليه, بخلاف الماء الكثير الذي يبلغ قلتين أو يزيد عليهما.
الحالة الثانية: إذا كان الماء كثيراً ـ قلَّتين فأكثر ـ ووقعت فيه نجاسة وغيرت أحد أوصافه صار نجساً؛ وذلك لحديث القلتين الآنف ذكره, برواية أبي داود ورواية ابن ماجه.
الحالة الثالثة: يصير الماء نجساً إذا كان قليلاً وأزيلت به نجاسة, وذلك لتغيرُّه بها: وملاقاته إياها بمروره عليها, ولأنه انفصل عن محل محكوم بنجاسته, وذلك كمن غسل ثوباً نجساً بماء طهور, فالماء الطهور ينقلب إلى نجس, لملاقاته النجاسة واختلاطه بها.
حكم الماء النجس: لا يحل الوضوء ولا الغسل بالماء النجس, ولا يحلُّ شربه, ولا استعماله في طبخ ونحوه, ولا يطهر به ثوب نجس ولا مكان نجس؛ لأنه فقد وصف الطهورية, فصار كالخمر, قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} المائدة /90. وهو كالميتة أيضاً, قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ ...}. المائدة /3.
وللعلماء أقوال في سقي الماء النجس للحيوانات: قيل: يُسقى لما يؤكل لحمه كالبقر والغنم والدجاج في وقت غير قريب الذبح. وقيل: يسقى لما لا يؤكل لحمه كالهرة والكلب.
أحكام أخرى في المياه
استعمال الماء المسخَّن والمبرَّد: يجوز بغير كراهة استعمال الماء المسخن بالشمس، أو بوقود ولو كان نجساً, ما لم يتحقق وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء, فينجسه إذا كان يسيراً. وممن روي عنه أنه قال بجواز الوضوء بالماء المسخَّن عمر، وابنه, وابن عباس, وأنس رضي الله عنهم, بل إن عمر رضي الله عنه كان له قُمقُمة (آنية) يسخن فيها الماء, وروي أيضاً أن الصحابة رضي الله عنهم استعملوا ماء الحمامات الساخن.
أما ما روي من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها عن تسخين الماء بالشمس، فهو ضعيف عند العلماء .
والحكم في استعمال الماء المبرَّد كالحكم في استعمال الماء المسخَّن, أما إذا كان الماء شديد الحر أو شديد البرد, ولا يمكن استيفاء الطهارة به حسَّاً وحقيقة, فلا تتحقق به الطهارة لنقصها، وكذا لا يجوز استعماله إذا كان فيه ضرر للصحة والجِلْد؛ للآية: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }البقرة/195.
تطهير الماء النجس: تقدم أن الماء النجس هو القليل الذي خالطته نجاسة, ولو لم تُغيِّر أحد أوصافه, والكثير الذي خالطته نجاسة فغيرت أحد أوصافه.
وهذا الماء النجس يطهر بعدة طرق منها:
1ـ زيادة ماء طهور كثير معه, حتى تزول علة النجاسة, فيصير ماء كثيراً, أو تذهب أوصافه النجسة, كما لو سال المطر عليه, فإنه يطهر.
2ـ نَزْحُ كثير من الماء النجس ـ إذا كان في بئر ونحوه ـ حتى تزول الأوصاف المتغيرة.
3ـ تنقية مياه الصرف الصحي ـ المجاري ـ بالأدوات والطرق المعاصرة، إن لم يبقَ لها طعم ولا لون ولا ريح.
الشك في طهارة الماء: الأصـل في كل مـاء أنه طهـور؛ لقوله تعالى: {...وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} الفرقان /48. فإن قام دليل على نجاسته فهو نجس، وإن شك أحدٌ في وقوع نجاسة في الماء الطهور, فلا عبرة بالشك؛ للقاعدة الفقهية المشهورة: (اليقين لا يزول بالشك).
فإن أخبره ثقة بنجاسة الماء فلا يقبل قوله حتى يبِّين سببها، لاحتمال اعتقاد المخبِر نجاسة هذا الماء، وهو خلاف ذلك شرعاً. فإن أخبره واقتنع بكلامه، لزمه قبول قوله.
* أستاذ الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية بجامعة الملك سعود