قراءة في فواتح سورة الإسراء
الشيخ سليم بن عيد الهلالي

لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن المسلمين سيقاتلون اليهود ( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، حتى يختبىء اليهود من وراء الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود»(1).وهذا تدل عليه -أيضاً- آيات محكمات؛ فالذي يتدبر فواتح سورة الإسراء يرى عجباً، فهي تؤكد أن جولة الإسلام مع اليهود في المستقبل ستكون في جانب المسلمين.
وقد قال بعض المفسرين: إن هذه الآيات تتكلم عما مضى من الزمان، وتخبر عن أحداث انقضت، وسيرة قوم اندثروا.
لكن هذه الآيات لم يصح فيها حديث مرفوع، وليس للسّلف فيها قول معتمد؛ يُعَوَّل عليه، وتطمئن النفس إليه.
وهذه الروايات الكثيرة التي يسوقها المفسرون في هؤلاء المسلطين على بني إسرائيل من الإسرائيليات والموضوعات التي فيها من العجائب والغرائب والمبالغات ما لا يصدق، وفيها ما لا يحتمله الصدق ألبته، وقد نقل ابن جرير الطبري -رحمه الله- كثيراً منها عن ابن إسحاق الذي يذكر صراحة اسم أهل الكتاب، وأنهم يقولون كذا، أو عندهم كذا، وموقف المسلم تجاهها معروف وهو عدم التصديق ولا التكذيب إلا إذا خالفت شرعاً أو عقلاً.
ودعوى إجماع السلف على أن الإفسادين حدثا؛ فمردود منقوض بعدم نقله ابتداء وحصول الخلاف انتهاء.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: «وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم من هم؟ فعن ابن عباس وقتادة: أنه جالوت الجزري وجنوده...وعن سعيد بن جبير: أنه ملك الموصل سنحاريب وجنوده، وعنه -أيضاً- وعن غيره أنه بختنصر ملك بابل، وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في ترقيه من حال إلى حال... وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثاً أسنده عن حذيفة مرفوعاً مطولاً وهو حديث موضوع لا محالة لا يستريب فيه من عنده أدنى معرفة بالحديث، والعجب كل العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره وإمامته، وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي -رحمه الله- بأنه موضوع مكذوب، وكتب على حاشية الكتاب.
وقد وردت في هذا آثار كثيرة لم أر تطويل الكتاب بذكرها؛ لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحاً، ونحن في غنية عنها، ولله الحمد.
وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ورسوله إليهم... ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه لجاز كتابته وروايته، والله أعلم»(2).
ناهيك أن معرفة الماضي على التفصيل من أنباء الغيب التي لا يعلمها إلا الله؛ كما ورد صريحاً في كتاب الله -عز وجل-:{تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} [هود:49]، ولا يمكن معرفة ذلك إلا بوحي صريح ونقل صحيح.
ولذلك دعونا نعود إلى دراستها وتحليلها من جديد؛ لنجد فيها النافع الماتع المفيد؛ فمن علّمه الله تأويل القرآن المجيد كان عنده المزيد... إذ لا مجال للشطحات في تفسير اليقين القرآني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
قال -تعالى-: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً} [الإسراء:4-8].
أولاً: الآيات تثبت إفسادين اثنين يحدثهما بنو إسرائيل، فلو كان المقصود بالإفسادين أنهما فيما مضى من الزمان وانقضى؛ فإن التأريخ يثبت أن بني إسرائيل أفسدوا مرات كثيرة؛ فلم يفسدوا مرتين فقط بل أفسدوا مراراً وتكراراً، ولكن هذين الإفسادين هما قمة فسادهما، ولما كانوا كذلك سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب؛ فقد سباهم بختنصر الكلداني، وسرجون الآشوري، وتيطس الروماني وغيرهم.
قال الحافظ ابن كثير: «وقد أخبر الله عنهم لمّا طغوا وبغوا سلط الله عليهم عدوهم؛ فاستباح بيضتهم، وسلك خلال بيوتهم، وأذلهم وقهرهم جزاءً وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقاً من الأنبياء والعلماء»(3).
ثانياً: لم يذكر في التأريخ كرة بني إسرائيل على من سباهم فيما مضى وانقضى، بينما الآيات تثبت أن لبني اسرائيل كرة على من يسومهم في الإفساد الأول: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم}، فتدبر.
ثالثاً: لو كان المقصود بالإفسادين أنهما مضيا، لم يخبر عنهما بـ «إذا»؛ لأن لفظ «إذا» يفيد معنى الظرفية والشرطية في المستقبل لا في الماضي، فكيف يخبر عن الماضي الغابر بحرف يفيد المستقبل؟!
ولو كان الإفسادان قد وقعا في تلك الأزمنة لاستعملت «لما» بدلاً من «إذا»، وهناك كلمة أخرى تدل على وقوع هذين الإفسادين في المستقبل وذلك بعد نزول الوحي على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وهي قوله -تعالى-: {لتفسدن} فاللام والنون كلتاهما للتوكيد في المستقبل.
رابعاً: كذلك قوله -تعالى-: {وكان وعداً مفعولاً} يدل على المستقبل؛ لأنه لا يقال وعد إلا لشيء لم يأت أو أمر لم يتحقق، والوعد يؤخذ على نية أن يكون أو لا يكون، ولكن الوعد من الله أمر حتمي، فمعنى كلامه -سبحانه- أنه يقول للناس لا تأخذوا هذا الوعد على أساس قضية استقبال الوعود من الناس، لأن الناس قد يعدون ما لا يملكون، وقد يعدون ما لا يكون ضمن قدراتهم، ولكن الله الذي قال ذلك لا يخرج شيء عن قدرته، فوعده محقق لا ريب فيه.
خامساً: إن الحكام والأقوام الذين سبوا بني إسرائيل في القدم كانوا كفاراً وثنيين فكيف يصفهم الله بقوله: {عباداً لنا}؟ فإن هذا الوصف يشير إلى أنهم من المؤمنين وليس من المشركين أو عبدة الأوثان؛ لأن هذا الوصف لا يطلق في الأغلب إلا على العباد المؤمنين المخلصين فالإضافة هنا للتشريف ولا شرف ولا عزة إلا للمؤمنين.
ويدل على ذلك قوله -تعالى-: {وعباد الرحمن}، وقوله:{سبحان الذي أسرى بعبده}، وقوله:{فادخلي في عبادي}، وقوله:{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}، وقوله: {يشرب بها عباد الله}، وقوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}..
سادساً: سيكون في الإفساد الثاني تدمير مباني شاهقة عالية، والتأريخ لم يذكر أنه كان لبني إسرائيل في العهد المنصرم هاتيك المباني.
هذه جملة من الحقائق التحليلية لهذه الآيات تؤكد أن الإفسادين سيكونان بعد نزول سورة الإسراء؛ فلنستقرىء التاريخ الذي كانت فصوله بعد نزول هذه الآيات البينات والحجج الدامغات.
سورة الإسراء أو بني إسرائيل مكية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة تتحدث عن تأريخ بني إسرائيل ومواقفهم من الرسالات الآلهية، وتمردهم على أنبيائهم، وإقدامهم على الفساد في الأرض، ثم تنذرهم بأسوأ أنواع العقاب، وتذكرهم بأنهم في آخر الزمان سيجابهون أحداثاً مريرة، تفضي إلى تدميرهم، ودونك تفصيل ما ذكر.
الإفساد الأول:
اليهود قوم اجتمعت فيهم عناصر تقنع الناس بأنهم أعداء للبشرية بأسرها؛ لأنهم يمثلون قمة التحريف في دين الله، وزعموا أنهم سادة البشر ومن دونهم عبيد، وهذا فحوى عقيدة شعب الله المختار.
فما من دولة أو أمة إلا أخرجتهم حينما كشفت فسادهم وحسدهم وضغنهم، ومن شاء أن يعرف مستقبلهم مع الإسلام ومع الدنيا جميعها؛ فليتدبر قول رب العزة: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} [الأعراف:167].
وما عاشوا في أمة من الأمم إلا وكانوا منبوذين في أماكن وأحياء تعرف بأسمائهم؛ كما قال -تعالى-: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة} [آل عمران: 112].
إن تعبيرات القرآن عن اليهود في غاية الدقة؛ لأن قائلها هو الله، فلم يجد اليهود أماناً في أمة من الأمم إلا إذا أعطاهم دين من الأديان أماناً، وهذا معنى قول الله -تعالى-: {وحبل من الله}، أو إذا حالفوا قوماً أقوياء وعاشوا في حمايتهم وهذا معنى قوله -تعالى-:{وحبل من الناس} فلا يدفع الذلة إلا حبل من الله، أو حبل من الناس.
وفي هذه الآية نكتة بلاغية؛ فالله -سبحانه- عندما ذكر الذلة استثنى، ولكنه لما ذكر المسكنة لم يستثن؛ لأن المسكنة أمر ذاتي في نفوسهم لا يرفعه شيء، فليس لهم عزة ذاتية تقابل الذلة، بل عزتهم بحبل من الله، أو بحبل من الناس.
وكذلك تعبيرات القرآن غاية في الدقة حينما تصفهم في البلاد التي عاشوا فيها، فالله -سبحانه- قال فيهم ما صدقه الواقع:{وقطعناهم في الأرض} [الأعراف:168] مزقناهم شر ممزق، فأصبحوا في كل بقعة من الأرض فئة، وهذه الفئة كانت تعيش وكأنها أمة داخل أمة، ولذلك قال الحق: {وقطعناهم في الأرض أمماً}؛ فقد كانوا مجتمعين في البلاد التي سكنوها وسط أحياء تعرف باسمهم.
ولكن بعد أن شتتهم بنيانوس وتيطس لم تقم لهم قائمة، إلا فئة قليلة أتت إلى أرض العرب لأسباب كثيرة منها:
1- أمنية؛ وذلك لأنهم خافوا على أنفسهم من بطش الرومان.
2- ومستقبلية؛ لأنه يوجد في التوراة عندهم أوصاف نبي يظهر في أرض العرب، فأتوا إلى أرض العرب ظانّين أن النبي سيكون منهم، فلذلك كانوا يستفتحون به على القبائل العربية في المدينة، فكانوا يقولون أنه سيأتي نبي؛ لأن أدركناه لنقتلنكم به قتل عاد.
قال -تعالى-: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} [البقرة:89].
وعندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لهم دولة، فبعلمهم بالكتاب أخذوا الريادة الفكرية، وبشغلهم بدنيا المال أخذوا الزعامة الاقتصادية، وكانت لهم سلطة سياسية؛ لأنهم ورثوا العداوة والبغضاء بين الأوس والخزرج.
وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان اليهود قد استأثروا بخيرها، وفرقوا أهلها، وأوقدوا نار الحرب بينهم، وأشعلوا العداوة القاتلة في صفوفهم كلما خبا لهيبها، فكانت الحروب قائمة على قدم وساق، فاستبدوا وكانت لهم مراكز السيطرة، ومناطق النفوذ.
فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ظهر حقدهم، فانقلب فرحهم ترحاً، وقوتهم ضعفاً، وسلطانهم ذلاً، وكان ينبغي أن يستقبله اليهود بالإيمان؛ لأن الله جعل كلام أهل الكتاب حجة يواجه بها الرسول المشركين: {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} [الرعد:43].
ومن العجب أنهم كانوا يستفتحون به على الذين كفروا... قالوا كلامهم، وحماقتهم أنهم قالوه؛ لأنهم لم يفيدوا منه بل أفاد منه قوم آخرون -وهم الأوس والخزرج- فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: هذا الرسول الذي توعدتكم به يهود؛ فلنسبقهم إلى الإيمان به...إذاً لا يعلم جنود ربك إلا هو... حتى الكافرين قد يكونون من جند الله وهم لا يعلمون... وهذه غفلة من أعداء الله؛ لينتصر عباد الله.
ولم يعتد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أحفاد الغدر وأرباب الخديعة نابذوه، وحاولوا قتله، ونقضوا عهده، وألَّبوا القبائل ضده، وبلغ الفساد ذروته بقولهم الفاسد: إن عبادة الأوثان خير من دين التوحيد، والسجود للأصنام أعز من السجود لله؛ فبلغ السيل الزبا، واستشرى فسادهم، واعتدوا على عورات المسلمين، وخانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع الحرج والضيق؛ كما قال -تعالى-: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً} [النساء:51-54].
فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن جهز الجيوش وجاس خلال الديار، فشتت شملهم، ونكل بهم، فاضمحلت قوتهم، وفرّوا من جزيرة العرب خوفاً من العطب، وقضى على بقاياهم في جزيرة العرب الخليفة العادل عملاق الإسلام عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-، عندما طردهم من خيبر تنفيذاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فطهر أرض الإسلام من الرجس والنجس.
إذاً؛ فالإفساد الأول وقع في عهد النبوة بدليل قوله تعالى مخاطباً اليهود: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} [البقرة:11]، وقد اضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تأديبهم، ومعاقبتهم، وإخراجهم من ديارهم، واستئصال شأفتهم وفاقاً لما جاء في فواتح سورة الإسراء: {فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً}؛ كما ورد في قوله -تعالى-: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} [الحشر:2]، وقوله:{وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب} [الأحزاب:26].
وبهذا التأديب النبوي انقطع حبل الله عنهم، فضربوا في الأرض بحثاً عن قوم أقوياء يحالفونهم؛ ليعيشوا في حمايتهم... وهذا ما سنراه -إن شاء الله- في السطور القادمة.
وبهذا التفصيل تأتي الآيات منسجمة مع الأحداث التأريخية؛ لأن القرآن حينما يخبر يأتي الواقع التأريخي حسب ما أخبر؛ لأن واقع الحياة يعلمه الحق، وقائل الكلام هو الحق؛ فلا تضارب ولا تعارض أبداً، فالأخبار بـ{إذا} التي تفيد الظرفية والشرطية في المستقبل تأكدت دلالته، والذين جاسوا خلال الديار هم محمد صلى الله عليه وسلم وجنده المؤمنون المخلصون، فأنعم بهم من عباد لذي الجلال والإكرام -سبحانه وتعالى-؛ فصح وصفهم بـ {عباداً لنا}.



-------------------
( ) متفق عليه.
(2) «تفسير القرآن العظيم» (3/27 - 28).
(3)«تفسير القرآن العظيم» (3/28).