والجبـال أوتاداً
حسن باحفظ الله



لقد احتوى القرآن الكريم وحي الله المنزل على خاتم أنبيائه محمد – صلى الله عليه وسلم- على آيات الهداية والرشاد، وكان وما زال معجزاً في بيانه، معجزاً في أخباره، ومعجزاً في إتيانه وتقريره لأمور وسنن كونية ما كان للإنسان أن يدركها ناهيك عن أن يقررها في وقت نزول هذا الوحي ولم يحط بها ويدركها تماماً إلا في وقت متأخر جداً، قدره المولى - عز وجل - وقرره في قوله: (لكل نبأ مستقر وسوف تعملون)(الأنعام: 67)، وفي قوله –تعالى-: (ولتعلمن نبأه بعد حين)(ص:88)، ولسوف نتناول في مقالنا هذا حقيقة علمية ذكرها القرآن الكريم وأشار إليها في عدد من آياته ألا وهي ظاهرة "الجبال شكلاً ووظيفة"، والتي لم يستطع الإنسان أن يصل إليها كحقيقة معروفة إلا بعد التقدم والتطور العلمي والتقني الهائل الذي حصل في القرنين الأخيرين من عمر البشرية.
لقد عرف الإنسان الجبال منذ القدم وتعامل معها وعاش في أكنافها واستفاد منها ومن مكوناتها المستفادة المباشرة التي عرفها من خلال شكلها الظاهري، فقد عرف الجبل بأنه: كل ما علا عن سطح الأرض واستطال وتجاوز التل ارتفاعاً. فهل يفي هذا التعريف الجبل حقه الآن؟
إجابة على هذا التساؤل، سنجول ونقلب في صفحات تاريخ الجبال على مدى القرون الثلاثة الأخيرة والتي تميزت بالكثير من الكشوف العلمية الهامة في شتى المجالات الكونية.
لقد فتن الإنسان بالجبال شكلاً وجذب إليها لما فيها من منافع، واكتفى بمعرفتها ظاهرياً إلى بداية القرن الثامن عشر عندما تنبه (بير بوجر - Griviational Attraction) والذي كان يرأس بعثة إلى جبال (الأنديز) إلى أن قوة الجذب المقاسة في هذه المنطقة لا يتناسب مع كتلة هذه الجبال الهائلة وإنما هي أقل بكثير مما هو متوقع، معتمداً على الانحراف في اتجاه القمم البركانية في تلك المنطقة، والملاحظ على قياس الجذب التقليدي الذي كان متوفراً لديه والمسمي (بميزان البناء - Plumb Bab)، ونتيجة لهذه الملاحظة الأولية افترض "بوجر" ضرورة وجود كتلة صخرية هائلة غير مرئية ليس لها مكان إلا أسفل تلك الجبال البارزة، ولقد حفلت بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بالكثير من أعمال المسح الجيولوجي التي قامت بها بعثات جيولوجية بريطانية في شبه الجزيرة الهندية وفسرت من خلالها الكثير من الظواهر. غير أن ظاهرة الشذوذ في قراءات الجاذبية قريباً من "جبال الهيمالايا" والتي اشتهرت باسم "لغز الهند" لم تفسر تفسيراً منطقياً إلا في منتصف ذلك القرن من خلال أعمال المسح التي كان يتولى الإشراف عليها "سير جورج أفرست"، والتي كانت تشير بوضوح إلى أنه لا يمكن تفسير هذا الشذوذ إلا بافتراض وجود امتدادات لهذه الجبال الهائلة منغرسة في جوف القشرة الأرضية إلى مسافات عميقة، وأن هذه الامتدادات إما أن تكون من نفس مادة الجبال البارزة أو أكثر كثافة منها. بهذه الفرضية أمكن حل مشكلة الفارق الملاحظ في قياس المسافة بين محطة "كاليانا" الواقعة في أحضان جبال الهيمالايا "وكاليان بور" البعيدة نسبياً عن جبال الهيمالايا والواقعة في المنطقة المنبسطة والذي قدر بحوالي (153 متراً)، هذا الفرق كان قد لوحظ عندما قيست المسافة بطريقتي قياس مختلفتين: الأولى: تعتمد على حساب المثلثات وتسمى بطريقة (المسح الثلثي -Triangulation Technique)، والثانية: تعتمد على موقع النجم القطبي وتسمي بطريقة (المسح الفلكي -Astronoical Technique)، وقد عزى الشماس (جون هاري برات - Archdeacan John Henry Pratt) هذا الفارق إلى تأثر الطريقة الثانية المستخدمة في القياس بقوة جذب كتلة غير منظورة لم يتم إدخالها في المعادلات المستخدمة لإنجاز الحسابات النهائية للقياسات. وبعبارة أخرى: كان يشير إلى وجود جذور (Roots) لجبال الهيمالايا ممتدة أسفل منها وهي التي أثرت على القياسات، وأظهرت الفارق سالف الذكر.
في عام (1865م) تقدم "سير جورج أيري" بنظرية مفادها: أن القشرة الأرضية لا تمثل أساساً مناسباً للجبال التي تعلوها، وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبال لا تمثل إلا جزراً طافية على بحر من صخور أعلى كثافة. وعليه فلا بد للجبال لضمان ثباتها واستقرارها على هذه المادة الأكثر كثافة أن تكون لها جذور ممتدة من داخل تلك المنطقة العالية الكثافة.
إن التفسير العلمي لنظرية "جورج أيري" أتى من خلال النموذج الذي قدمه الجيولوجي الأمريكي "دتون" في عام (1989م) (Theory of Isostasy)، شارحاً به نظريته المسماة بنظرية (الاتزان والمتمثل في مجموعة من حوض مملوء بالماء شكل المجسمات الخشبية المختلفة الارتفاعات طافية في... تبين من هذا النموذج أن الجزء المغمور في الماء من المجسمات الخشبية يتناسب طرداً مع ارتفاعه، ذاكراً أنها في حالة اسماها بحالة (الاتزان الهيدروستاني -State of Hydrostatic Balance)، أما التمثيل الطبيعي والتقليدي لهذه الحالة فهي في الواقع حالة جبال الجليد العائمة (Iceebergs).
ثم تطورت العلوم وتوالت الكشوف وانتقلت قضية جذور الجبال من مرحلة النظرية إلى الحقيقة والواقع الملموس، وذلك بفضل من الله ثم بتقدم معرفتنا بتركيب الأرض الداخلي عن طريق القياسات (السايزمية تحت السطحية)، والتي كشفت لنا أن القشرة الأرضية الصلبة التي نحيا عليها لا تمثل إلا طبقة رقيقة جداً قياساً بما تحتها من طبقات وتراكيب أخرى، وأن هذه الطبقة في الواقع تطلق على طبقة أعلى كثافة منها ولكنها في حالة مانعة تسكي بالوشاح، ثم عرفنا حقيقة أخرى تتمثل في أن استقرار واتزان القشرة الأرضية بما تحمله من جبال وتلال ووديان لا يتم على طبقة الوشاح إلا من خلال امتدادات من مادة القشرة داخل نطاق الوشاح، وأن هذه الامتدادات لا يمكن أن تمثل عملياً إلا بودر الأوتاد في تثبيت الخيمة على سطح الأرض لضمان ثباتها وعدم اضطرابها.
أخيراً: وصلنا كبشر إلى مرحلة من المعرفة مكنتنا -بعون الله- من رسم العديد من الخرائط تحت السطحية في أجزاء عديدة من الكرة الأرضية، أمكن من خلالها إثبات أن الجذور التحت سطحية تتناسب طرداً مع ما يعلوها من تراكيب، فهي ضحلة في حالة المنخفضات وعميقة جداً في حالة الجبال العالية. ليس هذا فقط، بل أمكننا أن نقيس أطوال هذه الجذور وتوقع تركيبها وخواصها الطبيعية والكيميائية.
هذا ما قاله العلم، فماذا قال القرآن؟؟ أليست هذه الحقائق التي ثبتت الآن بيقين هي ما أشار إليها كتاب الله الكريم بإيجازه المعجز قبل ما ينوف على أربعة عشر قرناً عندما قال -جل من قائل-: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) [النحل :15]، مشيراً إلى ما خفي على الإنسان من دور ووظيفة الجبال في ثبات واستقرار الأرض التي يعيش عليها هذا الإنسان، وفي قوله –تعالى-: (والجبال أوتاداً) [النبأ:7]، مشيراً إلى الشكل الحقيقي للجبل وجذره الخفي الممتد أسفل منه. كل ذلك في كلمتين سهلتين واضحتين، ولقد أدرك علماء المسلمين الأوائل هذه الحقائق من كتاب ربهم عندما تعرضوا لتفسير هذه الآيات الكريمة.
مقارنة بين مقولة المفسرين ومقولة الموسوعة البريطانية:
ولتقارن أيها القارئ الكريم بين ما قاله هؤلاء العلماء منذ مئات السنين وبين ما قالته الموسوعة البريطانية (Encyclopacedia Britannica) ذائعة الصيت في تعريفها بالجبال في المجلد الثاني عشر تحت مادة "عمليات بناء الجبال" حيث قالت: "إن الجبل هو منطقة من الأرض مرتفعة نسبياً عما حولها". ثم تحدثت الموسوعة عن سلاسل الجبال وأنواعها المختلفة. وهكذا نجد أن الموسوعة قد اقتصرت في تعريفها للجبال على الشكل الخارجي فقط مفضلة تماماً من الجذر في هذا التعريف ولا تعليق لنا أكثر من ذلك.
وقبل أن نصل إلى النهاية نود أن نقرر أن الإنسان وصل إلى معرفة جذور الجبال عن طريق التجربة بجهده الذاتي، وذلك بعد أن طرح سؤالاً على نفسه عن الكيفية التي مكنت الجبال من الانتصاب على القشرة الأرضية؟ وهو أمر كان موضع عناية القرآن الكريم حين قال: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت) [الغاشية: 17-19].
ورغم أن القرآن الكريم قد وجه الإنسان إلى تلك الحقيقة من خلال الآية الكريمة (والجبال أوتاداً) إلا أن معرفة أسرار هذه الحقيقة ما كان متيسراً في القرون التي سبقت قرون الكشوف العلمية وهو ما أشار إليه القرآن الكريم أيضاً في قوله - تعالى -: (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون)، إلا أن ذلك لم يمنع العالم المسلم - كما سبق ولاحظنا - من أن يسبق عصره في فهمه لبعض الظواهر والسنن الكونية - على الأقل بصورة جمالية - فكيف به لو استفاد مما هو متوفر الآن أو يتوفر مستقبلاً من إمكانات ومفاتيح للمعرفة. أي أن العلم الصحيح لم ولن يتعارض أبداً مع الدين الصحيح، وسيكون العلم في عصرنا والعصور التالية برهاناً ساطعاً على صدق الوحي. وسيشهد العلماء قبل غيرهم بهذا. قال –تعالى-: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنـزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) [سبأ:6]، وستتجلى آيات الله في الآفاق والأنفس حتى يتبين للناس أن الذي أنزل على محمد –صلى الله عليه وسلم- هو الحق.
أظنك أيها القارئ الكريم ستتفق معي في أننا سنعود كباراً كما كنا كباراً في موقع القيادة والريادة لبقية الأمم. وما كنا كذلك إلا عندما كنا على صلة بالله عبادة وفهماً، فأنار لنا ظلام الطريق ويسر لنا سبل الهداية. أما عندما ابتعدنا وغفونا ضعنا وأضعنا معنا بقية الأمم، وأصبح حالنا حال الأيتام على مائدة اللئام، نتطفل على حضارات غيرنا، نأخذ منها كل غث مخلوط بقليل من السمين، فهل من عودة إلى مواقع القيادة والريادة؟؟
لن تكون الإجابة إيجاباً إلا من خلال دعوة صادقة إلى العودة إلى رحاب الله، إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، من معينهما نقتبس، وبهداهما نهتدي، وبالأسباب نأخذ، وعلى الله نتوكل، ومنه نستلهم العون والهداية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين