السياق وأثره في الحكم على أسباب التنزيل ( دراسة نظرية وتطبيقية)
د. سليمان علي عامر الشعيلي ([*])
ملخص البحث:
يعد السياق أهم معيار في تحديد المعنى المراد من اللفظ، وينبغي أن ينظر إليه بهذه الأهمية فيما يتعلق بالحكم على أسباب نزول القرآن.
وهذا البحث محاولة في الأخذ بسياق كمعيار في الحكم على أسباب النزول.
مهد الباحث مقدمة نظرية تحدثت عن أهمية السياق، وأقسامه، وأقوال العلماء فيه، وكونه معياراً لتحديد المعنى المراد من اللفظ، ثن استعرض في دراسة تطبيقية نماذج من أسباب نزول في القرآن الكريم، وناقش مدى توافقها مع السياق أو عدمه، وخلص إلى أن الراوية إن ثبتت فلا تتعارض مع السياق، بل تقويه، أو أنها وردت كشاهد على حدث مشابه، وليست هي ذاتها السبب الذي نزلت من أجله الآية، وإما أن تكون الراوية ضعيفة أصلاً وتخالف السياق، فلا يمكن قبولها سبباً للنزول، وإن وردت في كتب أهل الحديث والتفسير، والله أعلم.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد.
فقد نالت (علوم القرآن) حظوة عند العلماء، ولقيت خدمة جليلة لكونها تخدم كتاب الله؛ ولعل من أكثرها فائدة، وأعظمها نفعاً: أسباب النزول؛ لأنها تشتمل على فوائد جمة، منها: "معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، ومنها: تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب، ومنها: الوقوف على المعنى، قال أبو الفتح القشيري: بيان معرفة سبب النزول: طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز، ومنها: دفع توهم الحصر، ومنها: إزالة الإشكال" ([1]).
ونظراً لهذه الأهمية فقد كثر الحديث عنها في كتب علوم القرآن، وأكثر العلماء من نقل الروايات المثبتة لأسباب النزول، بيد أن الأخذ ببعض هذه الروايات يوقع في إشكالات كثيرة، أهمها: مخالفة سياق الآيات الذي هو معيار قوي لقبول الرواية أو رفضها. والذي يؤدي بدوره إلى ضعف المعنى واختلال النظم القرآني. ولم أر في الدراسات التي عنيت بالسياق على كثرتها دراسة أفردت هذا الجانب بخاصة؛ من أجل ذلك عنيت دراستي هذه ببيان أهمية السياق كمعيار في الحكم على سبب النزول، وجاءت في مقدمة وقسمين:
فأما المقدمة: فتحدثت فيها عن أهمية أسباب النزول، وأسباب اختيار البحث باختصار، وقد مرت قريباً.
وأما القسم الأول: (فهو نظري)، وتحدثت فيه عن تعريف السياق، وأقسامه، وأهميته، واهتمام العلماء به في المباحث التالية:
المبحث الأول: تعريف السياق لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني: أقسام السياق.
المبحث الثالث: اعتبار السياق كمعيار لتوجيه المعنى.
والقسم الثاني: جعلته تطبيقياً وخصصته لدراسة بعض الروايات الواردة في أسباب النزول.
ثم الخاتمة ولخصت فيها النتائج التي توصلت إليها أثناء البحث.
هذا، وقد اخترت نماذج من الروايات الواردة في أسباب النزول، وما كان للسياق فيه أثر ظاهر، أما ما كان مرفوضاً من قبل الرواية وحدها فلم أتعرض له، إذ تكلفت بذلك دراسات هي أقرب إلى نقد الحديث منها إلى التفسير.
المبحث الأول
تعريف السياق
السياق لغة:
السياق في اللغة: هو التتابع، جاء في لسان العرب: "السوق معروف، ساق الإبل وغيرها يسوقها سوقاطع وسياقاً. وقد انساقت وتساوقت الإبل إذا تتابعت، وكذلك تقاودت، فهي متقاودة ومتساوقة، وفي حديث أم معبد: فجاء يسوق أعنزاً ما تساوق، أي ما تتابع، والمساوقة: المتابعة، كأن بعضها يسوق بعضا"([2]).
في أساس البلاغة: "وتساوقت الإبل: تتابعت، وهو يسوق الحديث أحسن سياق، وإليك يساق الحديث، وهذا الكلام على مساقة إلى كذا، وجئتك بالحديث على سوقه: على سرده" ([3]).
السياق في الاصطلاح:
السياق في اللغة – كما سبق بيانه – هو التتابع، وفي الحديث: سرده وتتابعه، ويستعمل هذا المصطلح في علم اللغة الحديث مقابلاً للمصطلح الإنجليزي (context) الذي يطلق ويراد به "المحيط اللغوي الذي تقع فيه الوحدة اللغوية، سواء أكانت كلمة، أم جملة، في إطار من العناصر اللغوية أو غير اللغوية" ([4]).
وفي تعبير المفسرين، "يطلق السياق على الكلام الذي خرج مخرجاً واحداً، واشتمل على غرض واحد، هو المقصود الأصلي للمتكلم، وانتظمت أجزاؤه في نسق واحد، مع ملاحظة أن الغرض من الكلام أو المعاني المقصودة بالذات هو العنصر الأساس في مفهوم السياق" ([5]).
وقال بعضهم: " أما السياق القرآني فإننا نقصد به: الأغراض والمقاصد الأساسية التي تدور عليها جميع معاني القرآن، إلى جانب النظم الإعجازي، والأسلوب البياني الذي يشيع في جميع تعبيراته" ([6]).
ولا شك أن الكلام إذا كان لغرض واحد تتابع نظمه اللغوي وتساوق، ومن الأمثلة على ذلك ، في تفسير قوله تعالى ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) البقرة: 177، اختار العلامة ابن جرير أن الآية في اليهود والنصارى لأن سياق الآيات فيهم، قال ما نصه:
"وأولى هذين القولين بتأويل الآية: القول الذي قاله قتادة، والربيع بن أنس، أن يكون عنى بقوله: ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) اليهود والنصارى، لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولومهم والخبر عنهم وعما أعد لهم من أليم العذاب، وهذا في سياق ما قبلها، إذ كان الأمر كذلك، ليس البر أيها اليهود والنصارى أن يولى بعضكم وجهه قبل المشرق وبعضكم قبل المغرب، ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالْكِتَابِ) الآية ([7]). وسيأتي بيان إن شاء الله.
المبحث الثاني
أقسام السياق
يمكننا القول: إن السياق في مجمله ينسم إلى قسمين.
السياق اللغوي: هو السياق الداخلي الذي يعني باللفظ أو الجملة وما قبلها وما بعدها.
وسياق آخر خارج عن اللفظ وهو ما يحيط به من ظروف وملابسات ويسمى بسياق الموقف.
وعرفه د. محمد علي الخولي بأنه: "السياق الذي جرى في إطاره التفاهم بين شخصين، ويشمل ذلك زمن المحادثة ومكانها والعلاقة بين المتحادثين والقيم المشتركة بينهما والكلام السابق للمحادثة" ([8])، وسماه د. تمام حسان بسياق المقام، وعرفه بأنه:
" الوجه الذي تتمثل فيه العلاقات والأحداث والظروف الاجتماعية التي تسود ساعة أداء المقال ([9]).
مثال ذلك: ما ذكره العلامة ابن عاشور عند قوله – تعالى -: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ) النحل: 101، (مكان آية) منصوب على الظرفية المكانية، بأن تأتي لآية في الدعوة والخطاب في مكان آية أخرى أتت في مثل تلك الدعوة، فالمكان – هنا – مجازي، وهو حالة الكلام والخطاب، كما يسمى ذلك مقاماً، فيقال: هذا مقام الغضب، فلا تأت فيه بالمزح. وليس المراد مكاناً من ألواح المصحف، ولا بإبدالها محوها منه" ([10]).
أما السياق القرآني فقسمه د. الربيعة ([11]) إلى أربعة أقسام:
سياق القرآن: ويقصد به المعاني الكلية للقرآن الكريم ومقاصده الأساسية.
سياق السورة: ويقصد به البناء الكلي للسورة، ووحدتها الموضوعية.
وسياق النص: وهو مقطع من السورة، يكون غرضه وموضوعه واحداً لكنه يتناسق مع غرض السورة العام.
سياق الآية: وهو أن كل آية وإن ارتبطت بما قبلها وما بعدها من الآيات لكنها تحمل غرضاً مستقلاً ([12]).
وفصل د. عبد الرحمن بودرع ([13]) السياق القرآني إلى:
السياق المكاني: ويعني سياق الآية أو الآيات داخل السورة وموقعها بين السابق من الآيات واللاحق.
السياق الزمني للآيات: أو سياق التنزيل، ويعني سياق الآية بين الآيات بحسب ترتيب النزول.
السياق الموضوعي: ومعناه دراسة الآية أو الآيات التي يجمعها موضوع واحد.
السياق المقاصدي: ومعناه النظر إلى الآيات القرآنية من خلال مقاصد القرآن الكريم والرؤية القرآنية العامة للموضوع المعالج.
السياق التاريخي: بمعنييه العام والخاص؛ فالعام: هو سياق الأحداث التاريخية القديمة التي حكاها القرآن الكريم والمعاصرة لزمن التنزيل، والخاص: هو أسباب ([14]).
المبحث الثالث
اعتبار السياق كمعيار لتوجيه المعنى
لا خلاف بين العلماء على اعتبار دلالة السياق في مجاري كلام الله، وكلام العرب، وإن اختلفوا في تأثيرها في استنباط الأحكام، والذي يهمنا – هنا الأول، وعليه أدلة من السنة الشريفة، ومن أقوال أهل العلم، من ذلك:
ما رواه الترمذي من حديث عائشة زوج النبي، قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون، قال: ( لا يا بنت الصديق؛ ولكنهم: الذين يصومون، ويصلون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم) ( أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ). قال الترمذي: صحيح ([15]).
قال رجل لعلي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، أرأيت قول الله: ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) النساء :141، وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون، قال له علي: أدنه، أدنه!، ثم قال (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) يوم القيامة" ([16]).
عن ابن عباس قال: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقل عمر: أنه من قد علمتم. فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون في قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) النصر:1 فقال: بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً. فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ .فقلت: لا. فما تقول؟. قلت هو أجل رسول الله أعلمه له. قال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)
وذلك علامة أجلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) النصر:3، فقال عمر ما أعلم منها إلا ما تقول" ([17]).
ففي المثال الأول لمن تنظر السيدة عائشة رضي الله عنها إلى سياق الآية، وظنت أنها في الذين يقترفون كبائر الذنوب، فلفت النبي عليه السلام نظرها إلى الآية التي بعدها ( أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)، فنرى أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم السياق في تصحيح المعنى التي فهمته السيدة عائشة من الآية، كما اعتمد عليه الإمام علي وابن عباس في تفسيرهما للآيتين الكريمتين.
أما ما نقل عن السلف من اعتمادهم على السياق في فهم كتاب الله فأكثر من أن يحصى، من ذلك: ما روي عن مسلم بن يسار البصري قوله: "إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده" ([18]).
وقول ابن عبد البر في رده على من يستدل بقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر) الآية: 184، البقرة. على أن الفطر في رمضان للمسافر عزيمة، بأن السياق يدل على أنه رخصة وهو قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ([19]) الآية: 185 البقرة.
وسيأتي المزيد من أقوال اللغة والتفسير في أهمية السياق وأثره في المعنى في المبحث التالي.
المبحث الرابع
أهمية السياق، واهتمام العلماء به
يمكن القول: بأن أهمية السياق تتجلى في أنه هو الذي يحدد قيمة الكلمة ومعناها في الجملة، إذ الكلمات يختلف معناها باختلاف سياقها. وقد رد الإمام عبد القاهر الجرجاني على من زعم أن الفصاحة للألفاظ وحدها فقال: "وجملة الأمر: أنا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومعلقاً معناها بمعنى ما يليها. فإذا قلنا في لفظة (اشتعل) من قوله تعالى: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا): إنها في أعلى المرتبة من الفصاحة، لم توجب تلك الفصاحة لها وحدها، ولكن موصولا بها الرأس، معرفاً بالألف واللام، ومقروناً إليها الشيب، منكراً منصوباً" ([20])
ويقول في موضع آخر: فقد اتضح – إذن – اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ" ([21]).
ومن فوائد السياق – أيضا -: ما ذكره الزركشي في البرهان" أنه يرشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة.
وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهله غلط في نظره وغالط في مناظراته. وانظر إلى قوله تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) سورة الدخان: 49، كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير"([22]).
وقد اهتم العلماء بالسياق؛ لأنه يشكل حجر الزاوية في الوصول إلى المعنى، وأولاده المفسرون وعلماء القرآن عناية خاصة، فعلم المكي والمدني مثلاً، يضيف للنص بعداً زمنياً ومكانياً يمكن الإفادة منه في توجيه معنى النص، وتطبيقه في الأزمنة التي تناسب الحال الذي نزل فيها؛ لذا لم يقف الحذاق من المفسرين على تحديد معنى اللفظ، وإنما تجاوزوه إلى ربطه بالسابق واللاحق من الآيات، ومن هنا نشأ ما يعرف بعلم المناسبات، وفائدته كما ذكر الزركشي" جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم، المتلائم الأجزاء" ([23]).
وأشهر من اعتنى به البقاعي في كتابه نظم الدر في تناسب الآيات والسور، قال في التعريف به: هو علم تعرف به علل الترتيب، وثمرته الاطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ماله بما وراءه وما أمامه من الارتباط والتعلق الذي هو كلحمة النسب، فعلم مناسبات القرآن علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه وهو من سر البلاغة؛ لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال" ([24]).
وفي السياق ذاته يأتي علم أسباب النزول ، فهو "طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز" ([25])، وأفرد له بعض العلماء كتباً خاصة، كالواحدي، والسيوطي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم. بيد أن الكثير من هذه (الأسباب) لا تخلو من اعتراض، ولعل أهم معيار يمكن به إثبات سبب النزول أو رفضه بعد ثبوته أو نفيه هو السياق. فقد يأتي سبب النزول متفقاً تماماً مع السياق، بالتالي يكون السياق مقوياً للرواية وداعماً لها، وقد لا يتفق السبب مع السياق وبالتالي يمكن النظر في الرواية بتأويلها إن أمكن أو عدم قبولها كسب للنزول، وبخاصة أن بعض الروايات تكون اجتهاداً من الصحابي، أو يقصد بها أن الآية نزلت في حكم كذا، فنقلت على أنها سبب للتنزيل، والله أعلم.
هذا وقد اعتنى المفسرون بالسياق، ويأتي العلامة ابن جرير في مقدمة المفسرين الذين اعتمدوا على السياق في اختيار المعنى الأصح للآية، ويرى أنه من غير الجائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم تقوم به حجة، فأما الدعاوي فلا تتعذر على أحد، وقال أيضاً : "توجيه الكلام إلى ما كان نظيراً لما في سياق الآية، أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلاً عنه "([26])، وينقل ابن جرير عن علماء متقدمين اعتمادهم على السياق في تفسير الآيات، فنقل عن صالح بن كيسان ([27]) أن المراد بالنفس في قوله تعالى ( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) إنما هو الكافر، ثم قال: اقرأ ما بعدها يدلك على ذلك. ثم يرجح ابن جرير – معتمداً على السياق – أن المقصود بها البر والفاجر، لأن الله أتبع هذه الآيات قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ)" ([28]). وقد تبين في هذا النقل مدى اعتماد الأئمة المتقدمين على السياق في اختيارهم المعنى المناسب للآيات.
ومن الذين أولوا هذا الباب عناية هامة: الراغب الأصفهاني، في كتابه المفردات، فقد ذكر في مقدمته أنه ألف كتاباً عن مناسبة الألفاظ، وآخر عن الترادف ([29])، وكلا الموضوعين يعتمد على السياق اعتماداً كبيراً وهو أمر برع فيه الراغب.
قال الزركشي: "أن من القرآن ما لم يرد فيه نقل عن المفسرين وطريق التوصل إلى فهمه: النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب، ومدلولاتها، واستعمالها، بحسب السياق، وهذا يعتني به الراغب كثيراً في كتاب (المفردات) ، فيذكر قيداً زائداً على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ؛ لأنه اقتنصه من السياق" ([30]).
والزركشي نفسه يرى في السياق ما يراه الراغب من ذلك قوله: "ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له، وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز، ولهذا نرى صاحب الكشاف يجعل الذي سيق له الكلام معتمداً، حتى كأنه غيره مطروح" ([31]).
ومن الأمثلة على اعتماد الزركشي على السياق :قوله في فصل : "قد يكون اللفظ مقتضيا لأمر ويحمل على غيره : لأنه أولى بذلك الاسم منه ، مثل قوله – عليه السلام – عن أهل الكسل " هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ([32]) قال: وسياق القرآن يدل على إرادة الأزواج وفيهن نزلت." ([33])
ومن الذين نوهوا بأهمية السياق في التفسير: شيخ الإسلام ابن تميمة، ففي معرض حديثه في الرد على من حمل ألفاظ القرآن على معنى لا يسوغ، ومن اكتفى بتفسير الألفاظ دون النظر غلي السياق قاله ما نصه: "وأما النوع الثاني من مستندي الاختلاف، فهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فإن التفا سير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفاً لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين.
إحداهما: قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.
والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بغلة العرب، ومن غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه، والمخاطب به. فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالات والبيان. والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز أن يريده به عندهم العربي، من غير نظر ما يصلح للمتكلم به ولسياق الكلام" ([34]).
ومن أجلة علماء القرآن الذين أولوا السياق عناية كبرى وجعلوه أصلا مهما في تقرير أحكام الشريعة: الإمام أبو إسحاق الشاطبي، ومما جاء في كلامه عن السياق اللغوي: قوله: "كلام العرب على الإطلاق لابد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ وإلا صار ضحكة وهزأة، ألا ترى إلى قولهم فلان أسد، أو حمار، أو عظيم الرماد، أو جبان الكلب، وفلانة بعيدة مهوى القرط، وما لا ينحصر من الأمثلة ([35]). لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول. فما ظنك بكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟.
وقال عن سياق المقام: إن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان. فالذي يكون على بال من المسمع والمتفهم والالتفات إلى أول الكلام و آخره، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق ببعض؛ لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، و أوله على آخره وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، ولا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه.." ([36]).
وقد اتسع مفهوم السياق عند الشاطبي ليشمل سياق السورة كله،
وذلك عن تفسير قوله تعالى (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) سورة الأنعام/ 82، قال: فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص، فإن السورة من أولها إلى آخرها مقررة لقواعد التوحيد، وهادمة لقواعد الشرك وما يليه، والذي تقدم قبل الآية قصة إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس، وكان قد تقدم قبل ذلك قوله (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ) سورة الأنعام 21 فبين أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخليتين وظهر أنهما المعنى بهما في سورة الأنعام إبطالاً بالحجة، وتقريراً لمنزلتهما في المخالفة.." ([37]).
هذا، وقد جعل الإمام عبد القاهر السياق أصلاً عظيماً في تجلية المعنى المراد فقال: "اعلم أن ها هنا أصلا أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف جانباً وينكر آخر، وهو أن لألفاظ التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفاسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها وهذا علم شريف وأصل عظيم" ([38]).
السياق إذن: هو المحور الذي يدور عليه المعنى، وهو محط أنظار علماء اللغة عرباً كانوا أم غير عرب، واعتمدوا عليه في تحليل الخطاب، وفهم النص، وعليه يمكن للباحث أن يجعل السياق وبخاصة القسم الأول منه، وهو الغرض الذي من أجله ورد الكلام، ثم تساوق وتتابعها لخدمة هذا الغرض، معياراً في قبول سبب نزول الآية إذا توافق مع سياقها، أو رفضه إذا تعارض معه، هذا ما لم تثبت الرواية، فإن ثبتت وكانت صريحة في سبب النزول، فحينئذ لا يمكن معارضته بالسياق، وسيأتي بيان ذلك في الدراسة التطبيقية.
ثانياً - القسم التطبيقي :
بعد استعراض جملة من المباحث النظرية في السياق القرآني، يجدر بنا إيراد جملة من الأمثلة التطبيقية تجلي لنا الموضوع، وتزيده وضوحاً، وفيما يلي جملة من الآيات التي تدل على السياق القرآني على عدم صحة ما قيل أنه سبب لنزولها، ومن هذه الآيات:
(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) البقرة: 119
قرأ نافع ويعقوب بفتح التاء وسكون اللام على أن لا ناهية، وقرأ جمهور العشرة بضم التاء ورفع الفعل بعدها ([39])، والذين تأولوا القراءة الأولى ذكروا أن سبب نزولها ما أخرجه عبد الرزاق عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليت شعري ما فعل أبواي) فنزلت (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) البقرة119. فما ذكرها حتى توفاه الله مرسل.
وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج، قال: أخبرني داود بن أبي عاصم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم (أين أبواي) فنزلت [مرسل] أيضاً ([40]).
وهذه الرواية لا تصلح أن تكون سبباً لنزول الآية لوجوه:
الأول: أن سياق الآيات يتحدث عن اليهود والنصارى وتنعتهم على الله، وأن كفار قريش يقومون بالدور ذاته (تشابهت قلوبهم)، فكان من تسلية الله لنبيه عليه السلام، أن واجبك يا محمد تبليغ الرسالة، وأنت غير مسئول عن كفر من كفر، وعلى هذا توجه قراءة الرقع. أما قراءة الجزم التي قرأ بها نافع ويعقوب، فيمكن توجيهها أن النبي عليه السلام نهى عن السؤال عن أحوال الكفار، إن كان النهي على الحقيقة، وإما أن يقال: إن النهي ليس على حقيقته، بل جاء على سبيل تعظيم ما وقع فيه أهل الكفر من العذاب، كما تقول: "كيف حال فلان" إذا كان وقع فيه بليه، فيقال لك: "لا تسأل عنه" ([41]) ولم ير الإمام الطبري أي دلالة لقراءة الجزم، قال: والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية، وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، دون النهي عن المسألة عنهم، وأن النظم لا يساعد على هذه القراءة، ذلك أنه لو أراد النهي لوصل الآية بالفاء (فلا تسأل)، وترك الوصل بالفاء أوضح دلالة على أن الخبر (ولا تسأل) أولى من النهي، والرفع أولى من الجزم ([42]). ورد هذه القراءة الصحيحة، أمر غير مستساغ، خاصة وأنها منسجمة مع نظم الآية، وأنها – كما قال العلامة أبو السعود -: "إيذان بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويل لها كأنها لغاية فظاعتها لا يقدر المخبر على أجرائها على لسانه، أو لا يستطيع السامع أن يسمع خبرها، وحمله على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن حال أبويه مما لا يساعده النظم الكريم" ([43]).
ويرى ابن عاشور أن الآية معترضة بين حكايات أحوال المشركين وأهل الكتاب، القصد منها – كما ذكرنا – تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام من أسفه على ما لقيه من أهل الكتاب مما يماثل ما لقيه من المشركين، وقد كان يود أن يؤمن به أهل الكتاب فيتأيد بهم الإسلام على المشركين فإذا هو يلقى منهم ما لقي من المشركين أو أشد" ([44]).
ثالثاً: بالإضافة إلى السياق فإن هذه الرواية التي يجعلونها سبباً لتزول الآية ضعيفة واهية، فقد نقل الألوسي عن العراقي أنه لم يقف عليها.
وقال السيوطي: إنه لم يرد في هذا إلا أثر معضل ضعيف الإسناد فلا يعول عليه ([45])، قال الألوسي: "والذي يقطع به أن الآية في كفار أهل الكتاب كالآيات السباقة عليها والتالية لها لا في أبويه صلى الله عليه وسلم"([46]).
بعد هذا نستطيع الجزم بأن هذه الرواية لا تصلح أن تكون سبباً لنزول الآية؛ لأن الغرض من سياق الآيات تأنيس الرسول عليه السلام لا إدخال الحزن عليهن بل إن الآية ليس لها نزول خاص وهي منسجمة تماماً مع سياقها المذكور، على القراءتين جميعاً، والله أعلم.
(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّ هُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) آل عمران: 195
سبب النزول:
أخرج الترمذي عن أم سلمة أنها قالت: "يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة فأنزل الله (فاستجاب لهم ربهم إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض)"([47]).
وقبل أن نناقش هذه الرواية يحسن بنا أن نذكر بالآيات التي قبل هذه الآية، يقول الله في سورة آل عمران:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُون َ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) آل عمران: 190 - 195
عندما تقرأ هذه الآيات مجتمعة لا أظنه سيبقى في نفسك شك بأن الآية الأخيرة، جاءت جواباً للسؤال والتضرع والإلحاح من هؤلاء الداعين المخبئتين في الآيات قبلها. وأنها لا يمكن أن تكون بحال مقطوعة عن سياقها بأن تكون جوابا لسؤال أم سلمة رضي الله عنها أو غيرها من الصحابيات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن نظم الآية يأبى هذه الرواية، فالفاء في قوله (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ) تعني سرعة الإجابة للمطلوب، وهذا العطف كما قال أبو السعود: مترتب على ما في حيزه من الأدعية" ([48])، ولولا هذه الرواية وأمثالها لم يكن هناك مساغ للقول بغير ما تقدم.
قال الطبري: يعني تعالى ذكره: فأجاب هؤلاء الداعين بما وصف الله عنهم أنهم دعوا به ربهم، بأني لا أضيع عمل عامل منكم خيراً، ذكراً كان العامل أو أنثى"([49]).
وقد يعترض معترض، بأنه كان الأمر على ما قلتم، فما الحاجة إلى قوله (من ذكر أو أنثى)؟ والجواب عن ذلك – كما قال ابن عاشور -: أن الله أعقب هذه الاستجابة بتفصيل أفضل أعمالهم من الإيمان، والهجرة، والجهاد،
ولما كان الجهاد أكثر تكرراً خيف أن يتوهم أن النساء لا حظ لهن في تحقيق الوعد الذي وعد الله على ألسنة رسله، فدفع هذا بأن للنساء حظهن في ذلك فهن في الإيمان والهجرة يساوين الرجال، وهن لهن حظهن في ثواب الجهاد لأنهن يقمن على المرضى ويداوين الكلمى، ويسقين الجيش، وذلك عمل عظيم به استبقاء نفوس المسلمين، فهو لا يقصر عن القتال الذي به إتلاف نفوس عدو المؤمنين ([50]).
على أن هذه الرواية لم تصح عن أم سلمة لجهالة الراوي عنها، ولم يثبت سماعه عن أم سلمة – رضي الله عنها ([51]). وعليه يمكن القول : إنه لا يمكن قبول هذه الرواية سبباً لنزول الآية؛ لعدم ثبوتها أولاً، ومخالفتها للسياق ثانياً، والله أعلم.
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) النساء: 48
سبب النزول :
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام قال: (وما دينه) قال: يصلي، ويوحد لله. قال (استوهب منه دينه ([·])، فإن أبى فابتعه منه) ([((]) . فطلب الرجل ذلك منه فأبى عليه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: وجدته شحيحاً على دينه فنزلت (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)([52]).
قال الكلبي: نزلت في المشركين: وحشي ([53]) وأصحابه، وذلك أنه لما قتل حمزة وكان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك فلما قدم مكة ندم على صنيعه هو وأصحابه، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قد ندمنا على الذي صنعناه، وليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ) الآيتان وقد دعونا مع الله إلهاً آخر وقتلنا النفس التي حرم الله وزنينا فلولا هذه لاتبعناك فنزلت الآية: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) الفرقان: 70 الآيتين، فبعث بهما رسول الله إلى وحشي وأصحابه، فلما قرأهما كتبوا إليه: إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً فلا نكون من أهل هذه الآية فنزلت: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ) الآية فبعث بها إليهم فقرؤوها فبعثوا إليه أنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئة فنزلت: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) الزمر: 53، فبعث بها إليهم فلما قرؤوها دخل هو وأصحابه في الإسلام ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منهم، ثم قال لوحشي: "أخبرني كيف قتلت حمزة" فلما أخبره قال: "ويحك غيب شخصك عني" فلحق وحشي بعد ذلك بالشام، وكان بها إلى أن مات"([54]).
لمناقشة هذين السببين نقول ما يلي :
أولاً: في سورة النساء آيتان متشابهتان في اللفظ مع اختلاف في الفاصلة, هذه الأولى منهما، والثانية: هي قوله تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) النساء: 116
أما الأولى: فسياقها في أهل الكتاب، والآيات التي قبلها هي قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِم ْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) النساء: 44 – 47
واستمر الحديث عن أهل الكتاب في الآيات التي بعدها
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا) النساء 49 – 51.
فالغرض الذي من أجله سيقت الآيات، كما هو ظاهرها، هو مناقشة أهل الكتاب، واليهود بصفة خاصة، في كفرهم بآيات الله وتحريفهم لكتابه، وطمعهم بعد ذلك في المغفرة، ذلك بزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، فالقرآن يدعوهم إلى الإيمان بالحق بالله وبرسله، وآخرهم النبي محمد عليه السلام الذي جاء مصدقاً لما معهم من الكتاب، وهذا الإيمان هو معيار قبول العمل، ومعيار قبول التوبة وحصول المغفرة، أما وهم على هذا الحال من الكفر بالله وبرسله، وتحريفهم لآيات الله، فلا مطمع والحال هذه في المغفرة.
قال أبو السعود: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد وتأكيد وجوب الامتثال بالأمر بالإيمان ببيان استحالة المغفرة بدونه فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمعون في المغفرة كما في قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى) الأعراف الآية 169، أي على التحريف (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا) الأعراف الآية 169، والمراد بالشرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاماً أولياً فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة وقضى بخلود أصناف الكفرة في النار ، ونزوله في حق اليهود – كما قال مقاتل – وهو الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه... وقال في تفسير قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) تعجيب من حالهم المنافية لما هم عليه من الكفر والطغيان، والمراد بهم اليهود الذين يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه.."([55]).
قال البقاعي "ولما كانوا مع ارتكابهم العظائم يقولون: سيغفر لنا، وكان امتثالهم لتحريف أحبارهم ورهبانهم شركاً بالله – كما قال سبحانه وتعالى (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه) التوبة: 31، قال – معللاً لتحقيق وعيدهم، معلماً أن ما أشير إليه من تحريفهم أداهم إلى الشرك ( إن الله لا يغفر إن يشرك به..) ([56]).
ثانياً: إن ظاهر الرواية المذكورة ظاهرها التشجيع على ارتكاب الكبائر، والفحشاء، إذ كيف يمكن لمثل هذا الرجل أن يمارس القبيح من المعاصي، (لا ينتهي عن الحرام) كما هو تعبير الرواية، ثم تأتي الآيات تؤيده على فعله، وتقول له: افعل ما شئت منها فإن الله يغفر ما دون الشرك، فهذا يتعارض مع غرض القرآن الكريم من إصلاح حال العباد، وتربيتهم على التقوى والفضيلة.
ثالثاً: الإيمان الحق الصادق يمنع صاحبه من ارتكاب الحرام، نعم قد يقع المؤمن في المعصية، لكنه ما يلبث أن يتوب ويستغفر، ولا يصر عليها، وهذا (لا ينتهي عن الحرام)، فماذا بقى له من إيمان؟ !
رابعاً: عجيب أن يأمر النبي عليه السلام من جاءه ( أن يستوهب منه دينه)، فهل هذا يمكن أن يكون معياراً للمغفرة؟ !
وما ذكرته عن السياق يمكن أن يقال عن الرواية الثانية، بالإضافة إلى استهجان هذه الاشتراطات والمراجعات، وكأن هذا يمن على الله ورسوله بقبوله الدخول في الدين، وقد أنكر الله ذلك على الأعراب فقال ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) الحجرات: 17.
قال الرازي: "وطعن القاضي في هذه الرواية وقال: إن من يريد الإيمان لا يجوز منه المراجعة على هذا الحد؛ ولأن قوله ( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) الزمر: 53، لو كان على إطلاقه لكان ذلك إغراء لهم بالثبات على ما هم عليه"([57]).
على أن ورودها في أهل الكتاب لا يعني أنها لا تشمل غيرهم فالعبرة – كما قيل – بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الآية تشمل من فعل القبائح والآثام العظيمة في جاهليته وخشي أن لا تقبل له توبة فالآية تشير إلى أن الإيمان يجب ما قبله.
أما الآية الأخرى فسياقها في المنافقين وقبلها قوله تعالى (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) النساء : 114 -116
وقد وردت الروايات في سبب نزول الأولى ولم ترد في الثانية، وعلى هذا يمكن أن يقال عنها ما قيل في الآية التي قبلها.
قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) النساء : 128
سبب النزول :
أخرج أبو داوود والترمذي عن عائشة قالت: "فرقت سودة أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسندت فقالت: يومي لعائشة، فأنزل الله ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا) الآية وروي الترمذي مثله عن ابن عباس (ك)"([58]).
وأخرج الحاكم في المستدرك، وابن جرير، عن رافع بن خديج أنه كانت تحته امرأة قد خلا من سنها فتزوج عليها شابة، فأثر البكر عليها، فأبت امرأته الأولى أن تقر على ذلك فطلقها تطليقة حتى إذا بقى من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك. قالت: بل راجعني أصبر على الأثرة، فراجعها، ثم آثر عليها، فلم تصبر على الأثرة فطلقها الأخرى ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) .
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"([59]) بالنسبة للرواية الأولى فيمكن مناقشتها كما يلي:
أولاً : وردت هذه الآية في سياق أن كل إنسان محاسب على عمله خيراً كان أو شراً، ودخل في هذا حكم التزوج باليتامى، ثم تلاها الحديث عن نشوز الزوج. وعلى هذا فسياقها ليس فيه إشارة إلى النبي عليه السلام.
وثانياً : فسر الإمام الطبري النشوز في الآية" بالاستعلاء بنفسه عنها إلى غيرها، أثره عليها، وارتفاعاً بها عنها، إما لبغضة، وإما لكراهة منه بعض أشياء بها، إما دمامتها، وإما سنها وكبرها، أو غير ذلك من أمورها"([60]). والإعراض: الانصراف عنها بوجهه أو ببعض منافعه، التي كانت لها منه.
وكل هذا يجل عنه النبي عليه السلام، وسيرته عليه السلام شاهد على ذلك، فقد تزوج خديجة على كبر، ولم يكره منها كبر سن، بل كان أشد وفاء لها بعد وفاتها، فهل يمكن أن يحدث هذا مع غيرها؟ .. وأخلاق المؤمن أجل من أن يستمتع بالمرأة في شبابها ثم يتركها في كبرها، وعهد الزوجية في الإسلام أوثق من أن يتعرض للانحلال بهذه الصورة، نعم قد يرغب الإنسان في امرأة أخرى غير التي عنده خاصة إذا كبر سنها، ولكنه يبقي على وفائه للأولى، مؤدياً لحقها، وإن مالت نفسه للثانية في المعاشرة الزوجية، وهذا لا يسمى نشوزاً.
ثالثاً: روي البخاري عن عائشة رضي الله عنها (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول : أجعلك من شأني في حل؛ فنزلت الآية ([61]).
وأخرجها – أيضاً – ابن جرير بهذه الصيغة، وليس في هذه الرواية ذكر النبي عليه السلام ولا سودة ورواية البخاري أصح. ومثله عن علي وابن عباس، وسعيد بن جبير، وعبيدة ([62]) ، وقتادة ([63])، وآخرين ([64]).
أما رواية رافع: فأنها لا تتعارض مع سياق الآيات لاسيما أنها هي التي طلبت الطلاق مرتين، ثم تطلب العودة. وعليه فإنه يمكن قبول رواية رافع بن خديج؛ إذ ليس فيها ما يتعارض مع السياق، ولا مع شيء من أصول الدين والأخلاق؛ ولعل هذه الحادثة وأمثالها كانت مجتمعة سبباً لنزول الآية، والله أعلم.
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) المائدة: 55.
سبب النزول:
أخرج الطبراني في الأوسط بسند فيه مجاهيل عن عمار بن ياسر قال: وقف على علي بن أبي طالب سائل وهو راكع في تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فنزلت (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) الآية ([65]). وأخرج ابن جرير عن مجاهد وابن أبي حاتم عن سلمة بن كهيل مثله، قال السيوطي: "فهذه شواهد يقوي بعضها بعضاً"([66]).
عند النظر إلى هذه الآية نجد أنها جاءت في سياق النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، ابتداء من قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ) وحتى الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء) الآيات 51 – 57، وبين هذه الآيات جاء تعريف الولي الحق (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا) ثم وصف المؤمنين بأحسن أوصافهم أنهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ثم أراد أن يبين حالهم وسلوكهم بأنهم يفعلون ذلك وهم خاشعون، متواضعون لله، ليسوا بأهل أشر أو تكبر أو عجرفة كما هو حال غيرهم ممن تقدم ذكرهم. فموقع (وَهُمْ رَاكِعُونَ) حال من فاعل الفعلين (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) وليس للثاني منهما فحسب ([67]).
فإذا كانت الآيات تنهى عن ولاية الأعداء ثم تقصر هذه الولاية على الله ورسوله والمؤمنين الذين عرفت حالهم، فيبعد جداً أن يكون المقصود بها إنسان بعينه، وإلا لم تحقق الغرض الذي سيقت من أجله.
ثانياً: عندما تقترن الصلاة بالزكاة وبخاصة في موضع الثناء على المؤمنين فإنها تنصرف إلى الزكاة المعلومة التي حددها الشارع وأثنى على أصحابها، وفعل الإمام على هذا غير داخل فيه، وإنما هو صدقة، والثناء على أداء الواجب المفروض أولى في مثل هذا المقام.
وعليه يكون المراد بجملة (وَهُمْ رَاكِعُونَ) مصلون، لا آتون بالجزء من الصلاة المسمى بالركوع، ووجه العطف – كما جزم ابن عاشور – إما بأن يكون المراد بالركوع، ركوع النوافل أي يقيمون الصلوات الخمس المفروضة، ويتقربون بالنوافل، وإما المراد به الدوام والاستمرار، أي يديمون إقامة الصلاة، وعقبه بأنهم يؤتون الزكاة مبادرة بالتنويه بالزكاة، كما هو دأب القرآن ([68]).
يتبع