قال ابن القيم -رحمه الله- في مفتاح دار السعادة ، دار عالم الفوائد مكة المكرمة ، (ط1: 2 / 565 - 567) :
(وانظر إلى القمر وعجائب آياته؛ كيف يُبْدِيه اللهُ كالخيط الدَّقيق، ثمَّ يتزايدُ نُورُه ويتكاملُ شيئًا فشيئًا كلَّ ليلةٍ حتى ينتهي إلى إبداره وكماله وتمامه، ثمَّ يأخذُ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى؛ ليَظهَر من ذلك مواقيتُ العباد في معاشهم وعباداتهم ومناسكهم، فتميَّزتْ به الأشهرُ والسُّنون، وقام به حِسَابُ العالم، مع ما في ذلك من الحِكَم والآيات والعِبَر التي لا يحصيها إلا الله.
وبالجملة؛ فما مِنْ كوكبٍ من الكواكب إلا وللربِّ تبارك وتعالى في خلقه حِكَمٌ كثيرة، ثم في مقداره، ثم في شكله ولونه، ثم في موضعه من السَّماء وقُربه من وسطها وبُعْده، وقُربه من الكوكب الذي يليه وبُعْده منه.
وإذا أردتَ معرفة ذلك على سبيل الإجمال فقِسْهُ بأعضاء بدنك واختلافها، وتفاوتِ ما بين المتجاورات منها وبُعْد ما بين المتباعدات، وأشكالها ومقاديرها، وتفاوت منافعها، وما خُلِقَت له. وأيُّ نسبةٍ لذلك إلى عِظَم السَّموات وكواكبها وآياتها!
وقد اتفق أربابُ الهيئة على أنَّ الشمس بقَدْر الأرض مئة مرَّةٍ ونيِّفًا وستِّين مرَّة، والكواكبُ التي نراها كثيرٌ منها أصغرُها بقَدْر الأرض، وبهذا يُعْرَفُ ارتفاعُها وبُعْدُها.
وفي حديث أبي هريرة الذي رواه الترمذي -وهو ضعيف، لكن للقدر الذي ذكره رحمه الله تعالى شواهد صحيحة-: "إنَّ بين الأرض والسَّماء مسيرةَ خمس مئة عام، وبين كلِّ سماءين كذلك".
وأنت ترى الكوكبَ كأنه واقفٌ لا يسير، وهو من أوَّل جزءٍ من طلوعه إلى تمام طلوعه يكونُ فَلَكُه قد طلَع بقَدْر مسافة الأرض مئة مرَّةٍ أو أكثر، وذلك بقَدْر لحظةٍ واحدة؛ لأنَّ الكوكبَ إذا كان بقَدْر الأرض مئة مرَّةٍ - مثلاً- ثمَّ سار في اللحظة من موضعٍ إلى موضعٍ فقد قَطع بقَدر مسافة الأرض مئة مرَّةٍ وزيادة في لحظةٍ من اللحظات. وهكذا يسيرُ على الدَّوام والعبدُ غافلٌ عنه وعن آياته.
وقال بعضهم: إذا تلفَّظتَ بقولك: لا، نَعَم، فبين اللفظتين تكونُ الشمسُ قد قَطَعَت من الفَلك مسيرةَ خمس مئة عام.
ثمَّ إنه سبحانه أمسك السَّموات مع عِظَمها وعِظَم ما فيها، وثبَّتها مِن غير عِلاقةٍ مِن فوقها ولا عَمَدٍ مِن تحتها، الله الذي {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 10، 11].).