خطورة الإعراض عن ذكر الله

الشيخ هشام العارف


(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(6).
بعد أن بين الله تعالى حال المتقين الذين يؤمنون بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إلى من قبله، وبين ما آل إليه أمرهم من الهداية والفلاح، أعقب هذا بشرح طائفة ثانية من الناس وهم الكفرة الفجرة فقال : (إن الذين كفروا)، ومعنى (كَفَرُوا) أي : غطوا وستروا . والكفر ـ بالضم ـ ضد الإيمان، وأصله المأخوذ منه الكفر ـ بالفتح ـ وهو ستر الشيء وتغطيته، تقول: كفرت الشيء، إذا غطيته، ومنه سمي الليل كافراً لأنه يغطي كل شيء بسواده، وسمي السحاب كافراً لستره ضوء الشمس، وتكفير السيئات: سترها وتغطيتها ومحوها وإزالتها، وسمي الكافر كافراً لأنه يغطي الحق بغشاء الباطل لسوء في طبعه ومرض في قلبه. كما قال تعالى في سورة النمل: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً..(14)، وقال في سورة الأنعام: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(33).
ويقال للزراع الكفار كقوله تعالى في سورة الحديد: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)، لأنهم يغطون الحب بالتراب، ثم استعمل في كفر النعم بعدم شكرها، فكأن المنعم عليه قد غطى النعمة بجحوده لها.
والكفر يكون بالتعطيل، وإنكار الخالق جل وعلا، ويكون بالشرك مع الله سبحانه وتعالى، ويكون بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام، وهي كثيرة. فالكفر يكون بالجحود. ويكون بالعناد. ويكون بالاستكبار. ويكون بالنفاق، ويكون بالقول وبالفعل وبالاعتقاد وبالشك. والكفر أنواع يجمعها: "عدم الإيمان".
وهؤلاء الكفرة انقسموا إلى قسمين: مصارحين خبثاء، ومنافقين أخبث. وكان المنافقون قسمين: جهالاً من مشركي العرب، وعلماء من كفار بني إسرائيل، كان الأنسب ليفرغ من قسم برأسه على عجل؛ البداءة أولاً بالمصارحين، فذكر ما أراد من أمرهم في آيتين، لأن أمرهم أهون وشأنهم أيسر.
والمراد بالذين كفروا في الآية، طائفة معينة صمت آذانها عن الحق، عناداً وحسداً، وليس عموم الكافرين، فقوله تعالى: (إن الذين كفروا) يفيد بظاهره العموم، لكنه يراد منه الخصوص. قال ابن القيم: "ومعلوم أن هذا ليس حكماً يعم جميع الكفار، بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفاراً قبل ذلك ولم يختم على قلوبهم وعلى أسماعهم، فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار؛ فعل الله بهم ذلك العقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير، وبعضهم بالطمس على أعينهم، فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب، كما يعاقب بالطمس على الأعين، وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال على الحق عقوبة دائمة مستمرة، وقد يعاقب إلى وقت ثم يعافي عبده ويهديه، كما يعاقب بالعذاب كذلك".
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: "فلا بد إذن أن يعي المرء خطورة الإعراض عن ذكر الله تعالى، خاصة بعد إقامة الحجة بالدليل والبرهان، وإلا أصابه الله تعالى بعقاب لا ينزعه إلا الله، لذلك رغَّب الله تعالى بالإقبال على ذكره، وحضور مجالس العلم النافع، ورهَّب من الإعراض عن ذكره والإنصراف عن مجالس العلم النافع ".
خطورة الإعراض
عن ذكر الله تعالى وترك حضور مجالس العلم النافع
ولو تتبعنا هذا لوجدنا أن الله تعالى قد أقام الحجة على الناس وهم غافلون عن إدراك العواقب لإهمالهم سماع ذكر الله تعالى وتدبر كلامه في القرآن العظيم كما قال تعالى في مطلع سورة الأنبياء: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ(1). لذلك مهد الله تعالى إقامة الحجة على الكافر الذي لم يذعن لأمر الله واختار الباطل بمحض إرادته فكان في كتاب الله تعالى الإنذار ترهيباً بالصورة التالية:
1/ الأمر بتعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على مجالس العلم النافع:
فبعد أن أمر الله تعالى بالقراءة والكتابة والتعلم في سورة العلق (1/نزول)، بل كرر الأمر فيها بالقراءة تنبيهاً على التزام أقوى أسباب السعادة. نزل قوله عز وجل في سورة المدثر(2/نزول) : (فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49). وفيها التعجيب من أمر نفورهم دون مقتض لهذا النفور، والسؤال الآن: ما الذي يدعوك أيها المسلم للإعراض عن ذكر الله تعالى؟ أي شيء يحملك ألا تأتي مجالس العلم النافع فتتعلم دين الله تعالى وتقرأ توجيهاته وإرشاداته؟ هل تنتظر أن تكون بعد هذه الدعوة في صفوف المجرمين الذين كان من مقالتهم : (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45) .
2/ التهديد بالعقاب المؤلم لمن أعرض عن ذكر الله، وعن مجالس العلم النافع:
ومعلوم أن الله تعالى بين عقاب من أعرض عن ذكره فقال في سورة الجن (40/نزول): (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً(17) أي: عذاباً مشقاً شديداً موجعاً مؤلماً.
3/ التهديد بالمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة:
وهدد بالمعيشة الضنك بسبب الحرص على الدنيا والانصراف عن ذكر الله تعالى، فكلما كان المرء حريصاً على الدنيا الفانية كلما ازداد بخلاً، وبناء عليه يزيد همه وتضيق معيشته، ولا يمنع هذا أن تكون له معيشة أخرى ضنكاً في البرزخ، ومعيشة ضنكاً في الآخرة، لذا قال تعالى في سورة طه(45/نزول): (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)، فالله تعالى يحتج بما يصيب المرء من الضنك في الدنيا ليكون له العبرة فلا يتورط بمزيد من الإعراض عن ذكر الله فيأتي قبره، أو يأتي يوم القيامة محجوب عنه الخير كله.
4/ جواب من لا يخشى الله ويصر على الباطل معرضاً عن ذكر ربه:
وبعد هذا التهديد، اتضح بعد عرض حجة الله وبيانه أن الكفرة أصروا مختارين بمحض إرادتهم الباطل معرضين عن ذكر الله تعالى، وصرحوا بكل وقاحة: أن قلوبهم في أكنة، أي: غلف مغطاة، وفي آذانهم وقر، أي: صمم. دل عليه قول الله تعالى في مطلع سورة فصلت (61/نزول): (حم(1) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ(5).
5/ إمهال المعرض عن ذكر الله، المصر على الباطل، مع بيان أن الله تعالى غفور ذو رحمة:
وفي سورة الكهف (69/نزول) أشعرهم الله تعالى بقرب إنزال العقاب فيهم، وأنه تعالى قادر على جواب دعائهم حين قالوا (فاعمل إننا عاملون) وزاد في فضيحة صفاتهم فوصفهم بالجدال، والاستهزاء فقال: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُو ا رَبَّهُمْ إلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ قُبلاً(55)وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً(56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً(57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئلاً(58).
6/ جهالة المعرض؛ مقدمات العقاب:
وحين ترك الكافر عامداً عناداً وحسداً دعوة الله الحق التي جاء بها الأنبياء، وأعرض عنها بعد إقامة الحجة أصبح في جهالة وانتفى عنه العلم لضلاله، فعاقبه الله بعقاب شديد بأن صرفه عن الهدى لذا قال الله تعالى في سورة الأنبياء(73/نزول): (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ(24).
7/ المزيد من التذكرة؛ واحتج الله عليهم بالعمر قبل إنزال العقاب:
وبعد أن بين الله تعالى جهالة المعرضين عن توحيد العبادة، استجاش فيهم توحيد الربوبية الذي هم فيه مؤمنون، وذكرهم بأمس ما هم له محتاجون على مدار الليل والنهار، وذكر صفة الرحمة على المبالغة إخباراً منه أنه بهم رحيم إن تابوا؛ فقال في سورة الأنبياء أيضاً: (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ..(44).
8/ الدعوة إلى تدبر كلام الله تعالى فالأمر جد خطير، فلا بد من حضور مجالس العلم، والإنصات لكلام الله تعالى، واتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم:
وفي سورة المؤمنون (74/نزول) أرشد الله تعالى إلى أهمية تدبر كلام الله تعالى، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ونهى عن اتباع البدعة والهوى فقال: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ(71). فليست من صفات المؤمنين الإعراض عن ذكر الله، ولا من صفاتهم ترك تدبر كلام الله تعالى، ولا من صفاتهم ترك الحق الذي نزل من الله أو قال به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من صفاتهم الاقتداء بغير النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا من صفاتهم فعل البدع والمنكرات، ولا من صفاتهم اتباع الأهواء.
9/ المعرض عن ذكر ربه ظالم مجرم:
ثم بين الله تعالى صفة المعرض عن ذكر الله تعالى في سورة السجدة (75/نزول) فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22). أي: لا أحد أكثر ظلماً لنفسه ممن ذكر، أي: وعظ بهذا القرآن العظيم، فتولى وصد عنه. قال ابن كثير: أي: لا أظلم ممن ذكره الله بآياته وبينها له، ووضحها ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها. قال قتادة:"إياكم والإعراض عن ذكر الله فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرة وأعوز أشد العوز وعظم من أعظم الذنوب، ولهذا قال الله تعالى: (إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ) أي: سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام.
10/ الانتقام من المعرض عن ذكر ربه:
وجاء انتقام الله تعالى ممن أعرضوا عن ذكر الله تعالى بعد هذا التمهيد الطويل وإقامة الحجة ليعتبر من يعتبر عن بينة، جاء ليبينه الله تعالى هنا في سورة البقرة (87/نزول) بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما أخرج الطبري عن ابن عباس ـ يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبر الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول. فالآية كانت بمثابة التسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ـ لا اعتذاراً للكفار ـ ولا تيئيساً له صلى الله عليه وسلم. فالله تعالى يعلم مسبقاً أفعال الناس سواء ما كان منها خيراً أو ما كان منها شراً . فـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ). والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وقوله تعالى: (إن الذين كفروا) أي: اتصفوا بالكفر، وانصبغوا به، فهذا حالهم وهذا ديدنهم، فصار الكفر وصفاً لازماً لهم، لا يردعهم عنه رادع، ولا ينجع فيهم وعظ، إنهم مستمرون على كفرهم، فالكفر راسخ في قلوبهم، فـ (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون). فحكم الله تعالى عليهم بالكفر لأنهم ستروا باختيارهم ما أقيم من الأدلة على وحدانية الله تعالى وجحدوا ربهم فكانوا معرضين فداموا على ذلك بما دل عليه السياق بالتعبير عن أضدادهم بما يدل على تجديد الإيمان.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إيمان الناس لكن الله تعالى أعلم بمن يؤمن، وأعلم بمن يكفر، لذلك نبه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله في سورة فاطر: (فلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(8).
وجعل الله تعالى مطلع سورة الشعراء خبراً عنهم مصحب هذا الخبر بالوعيد والتهديد فقال: (طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ألاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(6 ). فمن رحمته تعالى بالناس أنه أتاهم بالذكر ليهتدوا ولكن الكفار أعرضوا.
ثم قال في سورة الأنعام مبيناً أن الذي يستجيب لله هو الذي يسمع سماع التعقل وأن الذي لا يسمع وهم الكفار موتى القلوب وإن كانت أجسادهم حية عقاباً لهم: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(36).
فالكفار (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) أي متعادل عندهم الإنذار وتركه، والإنذار إعلام مع تخويف، قال ابن الجوزي: قال شيخنا علي بن عبيدالله: "هذه الآية وردت بلفظ العموم، والمراد بها الخصوص، لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم، ولو كانت على ظاهرها في العموم، لكان خبر الله لهم خلاف مخبره، ولذلك وجب نقلها إلى الخصوص".
ولم يذكر ـ سبحانه ـ التبشير مع الإنذار، لأنهم ليسوا أهلاً للبشارة، ولأن الإنذار أوقع في القلوب، والذي لا يتأثر به يكون عدم تأثره بغيره أولى. فهم أموات فلما جحدوا نعمة الله تعالى، وعموا عن آياته وحسدوا رسوله على ما آتاه الله من فضله، صاروا بسبب ذلك في حضيض جمد معه شعورهم، وبرد فيه إحساسهم، فلا تؤثر فيهم موجعات القول، ولا تنفذ إلى قلوبهم بالغات الحجج، فهم كما قال الشاعر:
لقد أسمعت إذ ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
(لا يؤمنون) دليل على خصوص كونه هدى للمتقين، وهي مؤكدة للجملة قبلها.
11/ الحض على الاستجابة لأمر الله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وليعلم المؤمن الذي يسمع دين الله أن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون:
ثم نادى الله تعالى وخاطب المؤمنين آمراً إياهم بطاعته، وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وناهياً إياهم أن يتولوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال في سورة الأنفال: (88/نزول): (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ولا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ(20)، ونهاهم عن التشبه بالكفار المعاندين، أو المنافقين المزيفين، أو المقلدين الجامدين، أو المتعصبين الضالين، أو المتحزبين المغرورين، فقال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(21) .
احذر أن تكون من شر الدواب
وعاب على من أعرضوا عن ذكر الله ولم يسمعوا لقوله، فهؤلاء لا يعرفون الحق، ولا يحبون أن يعرفوه، كلما صاح فيهم الحق نفروا وأعرضوا، وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا عقولهم في فهم الحق، ومنهم من مرضت نفسه، واعتل وجدانه، فلا يذوق للحق لذة، ولا تجد نفسه فيه رغبة، وهذا القسم كثير في كل زمان ومكان، لأنهم اتبعوا الهوى، واتباع الهوى يعمي الإنسان لذا قال تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(23). ودل الله تعالى على العلاج لهذه المسألة، والشفاء من هذا المرض فعاد يكرر وينـادى ويخاطب عبـاده المؤمنين عمـوماً ـ لأنهم أولى الناس بالنداء والخطاب ـ آمراً إياهم الاستجابة لله والرسول لأن في ذلك حياتهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24).
فيا أيها المؤمنون أقبلوا على الدعوة إلى الله تعالى، أقبلوا على دعوة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم بعناية، وهمة، وعزيمة، وقوة، انتهجوا منهج سلفكم الصالح في العلم والعمل، وتعلموا دينكم على أيدي علمائكم، وجاهدوا معهم في الله حق الجهاد تفوزوا وتسعدوا