ابنة عمران وأخت هارون



لم يزل النصارى يرددون أن بقرآننا أخطاء، وأنه لو كان من عند الله لما حوى الأخطاء؛ ومن أهم ما يعرضونه لبيان دعواهم تلك الباطلة قوله تعالى عن السيدة مريم عليها السلام: "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجه" التحريم:12؛ ويقولون: إن مريم ليست ابنة عمران؛ لأن عمران أبو موسى عليه السلام، وبين موسى عليه السلام ومريم رضي الله عنها مئات السنين.

وجواب ذلك من وجهين:

الأول: نقل أن أباها رضي الله عنهما كان اسمه عمران، ولا يلزم من كون اسم أبي موسى -عليه السلام- عمران أن لا يسمى غيره عمران، والعجيب أن الكتاب المقدس لم يذكر قط اسم أبي مريم عليها السلام، ولم يذكر الكتاب المقدس نسب المسيح من جهة أمه قط؛ وإنما ذكره من جهة يوسف النجار خطيب مريم مرتين: مرة في الأصحاح الأول من إنجيل متى، ومرة في الأصحاح الثالث من إنجيل لوقا؛ فكيف يخطئون القرآن في أمر لا علم لهم به؟!!! وكيف يهمل كتابهم المقدس مثل هذا الأمر؟!!! وألا يعني ذلك تحريفه وأنه ضاع منه شيء؟!!! ولو سكتوا عن مهاجمة القرآن في ذلك لكان أستر لحالهم.
الثاني: لو سلمنا أن اسم أبيها ليس عمران، فإن عمران أبا موسى عليه السلام كان جدها، والإنسان يضاف لجده البعيد كما يضاف لأبيه؛ فمثلا: كل من العهد القديم والعهد الجديد، وكذلك العالم كله اليوم يسمي اليهود "بني إسرائيل" مع أنهم ليسوا أبناءه بل أحفاد الأحفاد، وكذلك كل إنسان يوجد إلى يوم القيامة يسمى ابن آدم عليه السلام، ولم تزل العرب وغيرها من الأمم تضيف الإنسان إلى أبيه مرة وإلى أحد أجداده أخرى؛ وخاصة إذا كان ذا شأن عظيم، ومن المعروف أن عمران أو كما يسميه الكتاب المقدس عمرام كان رئيس عشيرة العمرانيين (راجع سفر العدد الأصحاح الثالث).

وكذلك قالت اليهود والنصارى إن في قوله تعالى لمريم عليها السلام: "يا أخت هارون" خطأ في التاريخ؛ وذلك أن بين مريم أم المسيح عليهما السلام، وهارون أخي موسى عليهما السلام مئات السنين.

وجواب ذلك:

أنه ليس هناك دليل من أي نوع أو نص في كتابهم المقدس يمنع من أن يكون لمريم عليها السلام أخ يسمى هارون كما ذكر القرآن، ولا يلزم من كون اسم أخي موسى -عليهما السلام- هارون، أن لا يسمى غيره بذلك الاسم، وخاصة أن الكتاب المقدس لم يذكر شيئا يذكر عن أسرة مريم عليها السلام؛ فحتى أبيها أغفل ذكر اسمه كما ذكرنا!!!

ولو سلمنا أن اسم أخيها ليس هارون:
فلعله كان – وقد قيل ذلك- في زمانها عابد يسمى هارون، وكانت رضي الله تعالى عنها في غاية العبادة، فلما جاءت بعيسى عليه السلام من غير زوج واتهمها رضي الله عنها بنو إسرائيل بالزنا، قيل لها: "يا أخت هارون" أي في العبادة "ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغي" مريم:20 متعجبين كيف يصدر القبيح من غير محله، وأصل الأخوة التساوي في الصفة؛ ومن ذلك قوله تعالى: "كلما دخلت أمة لعنت أخته" الأعراف:38 أي مساويتها في الكفر، ومن ذلك أيضا قوله تعالى: "وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أخته" الزخرف:48 أي مساويتها في الدلالة، وسمي الأخ أخا لمساواته أخاه في انتمائه إلى أب واحد أو أم واحده، فلما حصلت المساواة بين مريم رضي الله تعالى عنها وبين ذلك العابد سميت أخته على القاعدة. . وقد يكون المقصود بهارون هنا النبي أخا موسى عليهما السلام، وقد كان الأكبر واعتبر منذ شبابه قائدا لقبيلته – بني لاوي- وكاهنهم، ويحكي سفر الخروج في الأصحاح الأربعين أن موسى عليه السلام أمر برسمه هو وذريته كهنة على بني إسرائيل، وبذلك تأسست الكهانة اللاوية، وأصبح هارون عليه السلام أول رئيس كهنة على كل بني إسرائيل؛ فما العجب في أن يقال لمريم "يا أخت هارون"، في هذا الموقف - أي يا شبيهته- وقد كان له عليه السلام هذه المكانة الدينية في بني إسرائيل.
ولعله كان – وقد قيل ذلك- في ذلك الزمان فاسقا يسمى هارون، فلما اعتقدوا فيها رضي الله عنها التهمة جعلوها أخته، أي في ذلك الفعل القبيح.
وقيل إنها كانت من ذرية موسى عليه السلام، وهو أخو هارون فقيل لها: "يا أخت هارون". والتوراة تسمي أبناء وأحفاد أخو الأب أخوة له؛ ففي الأصحاح العشرين من سفر العدد : "وأرسل موسى رسلا من قادش إلى ملك أدوم هكذا يقول أخوك إسرائيل قد عرفت المشقة التي أصابتنا........"؛ فالمقصود بـ "إسرائيل هنا كل الشعب الإسرائيلي الذي كان يقوده موسى، وهؤلاء كانوا أحفاد أحفاد إسرائيل، وكذلك كان ملك أدوم وشعبه أحفاد أحفاد عيسو أخي إسرائيل.
وقيل إنها كانت من ذرية هارون عليه السلام وإنما قيل لها: "يا أخت هارون" كما يقال: "يا أخا العرب" أي يا واحدًا منهم، ويا أخا قريش، ويا أخا هذيل ....الخ. . ويشفع لذلك وصف مخطوطات قمران للمسيح عليه السلام بأنه مسيح هارون وإسرائيل؛ يقول سفر دستور جماعة قمران: "ستحكمهم الأنظمة الأساسية التي بها بدأ أعضاء الجماعة بالتعلم حتى مجيء النبي، ومسيح هارون وإسرائيل". . فنجد هذا السفر ينسب المسيح لهارون، مثلما ينسب القرآن مريم أم المسيح لهارون، عليهم السلام أجمعين؛ وقد كتب هذا السفر - كما يرى أندريه دوبون في توطئته له- قبل ميلاد المسيح عليه السلام بعدة عقود؛ ومن ثمة فدعوى تأثره بالعقائد الإسلامية منتفاة.
أضف إلى ذلك أنه في كثير من الثقافات يكنى من يتسمى باسم بكنية أشهر من تسمى به وعليه فكل من تسمت بمريم تكنى بأخت هارون وابنة عمران، لأنّ مريم الأولى هي أخت هارون النبي عليه السلام وابنة عمران؛ وهذا أمر معروف ومشهود؛ ومثاله عند العرب المسلمين أنهم يكنون كل من تسمى بإبراهيم بأبي خليل، نسبة للخليل إبراهيم عليه السلام؛ وكل من تسمى بحسن بأبي علي، نسبة للحسن ابن علي رضي الله عنه، وهكذا؛ وإن كان الخليل هو أبو إبراهيم عليه السلام لا ابنه، وكذلك علي هو أبو الحسن رضي الله عنهما، وإنما كان العكس في الاستخدام لأن الأبوة هنا بمعنى النسب والانتماء لا بمعناها الحقيقي.
وهنا قد يثار تساؤل هو: لماذا لم تكن مريم بأخت موسى؟!
وعلة ذلك في رأيي لأن نص التوراة المعتمدة عندهم يربط بين مريم وهارون أكثر مما يربط بين مريم وموسى،عليهم السلام؛ وذلك لأنه أخوها الأكبر وهو من تربت معه، أما موسى عليه السلام فلم تره مريم إلا وليدا ثم نبيا!
ثم إن هذين الأسمين (عمران أو عمرام، وهارون) من الأسماء التي اشتهرت لدى بني إسرائيل، بعد أن تسمى بأحدها أبو موسى وبالآخر أخوه عليهما السلام، ومن المتوقع من أسرة متدينة كأسرة مريم والدة المسيح عليهما السلام أن تحرص على أن تسمي أولادها بأسماء من تعتبرهم في مقام الاقتداء الديني، وليس أدل على ذلك من تسمية مريم عليها السلام بهذا الاسم والذي كان من قبل لأخت موسى عليه السلام والتي يصفها العهد القديم بالنبية! بل إنه من المتوقع وقد سميت مريم بهذا الاسم أن يسمى أخوها - إن كان لها أخ- بهارون؛ لاكتمال المحاكاة بين الأسرتين في الأسماء.

وقد حسم النبي ﷺ هذه القضية فيما رواه مسلم بسنده عن المغيرة بن شعبة قال لما قدمت نجران سألوني فقالوا إنكم تقرؤون )يا أخت هارون( وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال: (إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم) ورواه أحمد في المسند، والترمذي في صحيحه، والنسائي في السنن الكبرى، وابن حبان في صحيحه، والطبراني في المعجم الكبير.

والله أسأل الهداية للناس أجمعين


د. جمال الحسيني أبوفرحة