تقديم نصوص الكتاب والسنة على العقل
الشيخ عبد الرازق عفيفي


*مقال للمؤلف نشر في مجلة أنصار السنة المحمدية .
الحمد للّه والصلاة والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه . . وبعد :
فإن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أيده اللّه بروح من عنده ، أيده في التشريع بالوحي وعصمه من الإخبار عن الكذب : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى }{ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم : 3 ، 4] .
وما كان منه عليه الصلاة والسلام عن اجتهاده أقره اللّه تعالى عليه إن أصاب فيه ، وكشف له عن الحق وأبان له الصواب إن أخطأ ، فكان بفضل اللّه وتوفيقه على بينة وبصيرة من أمره على كل حال ، لم يكله اللّه لنفسه ، ولم يدعه لحسن تفكيره ، بل هداه سبحانه في كل شئونه إلى سواء السبيل .
لقد أنزل اللّه عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدي والفرقان .
وأوحى إليه من الأحاديث ما فيه بيان لما أجمل في القرآن ، وتفصيل لقواعده ، وشرح للعقائد والشرائع ، فضلا من اللّه ونعمة واللّه عليم حكيم .
قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 44] ؛ فوجب تصديق ما جاء في كتاب اللّه وما صح من الأحاديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتحكيمها في كل شأن من الشئون ، والرضا والتسليم لحكمها دون حرج أو ضيق في الصدور تحقيقًا للإيمان ، وتطيرًا للقلوب من درن الشرك والنفاق ، قال اللّه تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [ النساء : 65] .
ولا يغتَرَّنَ إنسان بما آتاه اللّه من قوة في العقل وسعة في التفكير ، وبسطة في العلم ، فيجعل عقله أصلا ، ونصوص الكتاب والسنّة الثابتة فرعًا ، فما وافق منهما عقله قبله واتخذه دينًا ، وما خالفه منهما لوى به لسانه وحرَّفه عن موضعه ، وأوَّله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره ، وإلا رده ما وجد في ظنه إلى ذلك سبيلا- ثقة بعقله- واطمئنانًا إلى القواعد التي أصَّلها بتفكيره واتهامًا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، أو تحديدًا لمهمة رسالته وتضييقًا لدائرة ما يجب اتباعه فيه واتهامًا لثقاة الأمة وعدولها ، وأئمة العلم ، وأهل الأمانة الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة ، ووصلت إلينا عن طريقهم قولا وعملا .
فإن في ذلك قلبًا للحقائق ، وإهدارًا للإنصاف مع كونه ذريعة إلى تقويض دعائم الشريعة وإلى القضاء على أصولها . إذ طبائع الناس مختلفة واستعدادهم الفكري متفاوت وعقولهم متباينة ، وقد تتسلط عليهم الأهواء ، ويشوب تفكيرهم الأغراض ، فلا يكادون يتفقون على شيء ، اللهم إلا ما كان من الحسيّات أو الضروريات .
فأي عقل من العقول يُجعَل أصلا يُحَّكم فيِ نصوص الشريعة فتُرَدُّ أو تنزل على مقتضاه فهمًا وتأويلا .
أعقل الخوارج في الخروج على الولاة ، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء ؟ أم عقل الجهمية في تأويل نصوص الأسماء والصفات وتحريفها عن موضعها وفي القول بالجبر .
أم عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء اللّه وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ؟
أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات (1) ، والغلاة في سلب المكلفين المشيئة والقدرة على الأعمال .
أم عقل من قالوا بوحدة الوجود . . الخ . ولقد أحسن العلاَّمة أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رضي الله عنه إذ يقول : " ثم المخالفون للكتاب والسنَّة ، وسلف الأمّة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج .
فإن من ينكر الرؤية بزعم أن العقل يحيلها ، وإنه مضطر فيها إلى التأويل ، ومن يجهل أن للّه علمًا وقدرة ، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول : إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل ، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد ، والأكل والشرب الحقيقيين في الجنّة ، يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل ، ومن يزعم أن اللّه ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل .
ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل ، بل منهم من يزعم أن العقل جوَّز وأوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله .
فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنَّة ، فرضي اللّه عن الإمام مالك بن أنس حيث قال : أو كلما جاء رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء انتهى (2) .
هذا وإن فريقًا ممن قدّسوا عقولهم ، وخدعتهم أنفسهم ، واتهموا سنَّة نبيهم قد أنكروا رفع اللّه نبيه عيسى ابن مريم عليه السلام إلى السماء حيًّا بدنًا وروحًا ، ونزوله آخر الزمان حكمًا عدلا ، لا لشيء سوى اتباع ما تشابه من الآيات دون ردها إلى المحكم منها ، واتباعًا لما ظنوه دليلا عقليًّا ، وما هو إلا وهم خيال .
وردوا ما ثبت من سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم نزولا على ما أصَّلُوه من عند أنفسهمٍ من أن العقائد لا يستدل عليها بأحاديث الآحاد ، واتهاما لبعض الصحابة ومن إليهم فيما نقلوا من الأحاديث ، وفي ذلك جرأة منهم على الثقات الأمناء من أهل العلم والعرفان دون حجة أو برهان .
وتطاولوا على علماء الحديث وتناولوا رجال الجرح والتعديل بألسنة حداد جهلا منهم بما قدموه من خدمة للدين وحفظ الأصل الثاني من أصول الإسلام وهو السنَّة النبوية ، وعجزًا منهم عن أن يبخسوا ما دوّن أولئك الأئمة الأخيار من كتب في قواعد علوم الحديث ودواوين في تاريخ رواة الحديث ، وبيان درجاتهم ، ومراتبهم في الرواية ، وطبقاتهم ومواليدهم ووفياتهم ، ولقاء بعضهم بعضًا أو سماعه تمييزًا لمن تُقبل روايته ممن ترد روايته ، وما يقبل من الأحاديث وما يرد وذبًّا عن السنَّة النبوية وحفاظًا عليها .


(1) الظاهر أنه يريد الممثلة الذين غلوا في إثبات الأسماء والصفات حتى مثلوا ما يختص منها باللّه عز وجل بما يختص بالمخلوقين .
(2) مجموع الفتاوى : (5 / 28 ، 29).


الكتاب : شبهات حول السنة
المؤلف : عبد الرزاق عفيفي
الطبعة : الأولى
الناشر : وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية
تاريخ النشر : 1425هـ