وإذا ثبت ذلك كان سبحانه فوق عباده، مستويا على عرشه؛ لأن السفول صفة ذم لا تتضمن مدحا ولا ثناء فلا يليق بالله، والعلو صفة مدح وثناء وكمال لا نقص فيه ولا يستلزم نقصا، ولا يوجب محذورا، ولا يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا، بل النصوص وإجماع السلف تثبت ذلك وتقتضيه، فوجب اعتقاده وإنكار التأويل وصرف النصوص عن ظواهرها، لكونه عين الباطل الذي لا تأتي به الشريعة ولا يراه عقل سليم، فإذا قيل: إن أكثر العقلاء يتأولون نصوص الاستواء والعلو والفوقية بالاستيلاء والقهر والغلبة، وبعلو القدر والمنزلة، وبالخيرية وكمال الفضل، فكان تأويلهم مقتضى العقل، إذا يبعد أن يرمي جمهور العلماء بالجهل والسفاهة، وتحريف النصوص الصحيحة عن مواضعها، ولا يكون لهم وجه يعتمدون عليه فيما ذهبوا إليه، قيل: ليس الأمر كذلك، فإن الذين يصرحون بأن خالق العالم شيء موجود خارج الأذهان لكنه ليس فوق العالم، وأنه ليس مباينا للعالم ولا داخلا فيه طائفة من النظار، وأول من ابتدع ذلك في الإسلام الجعد بن درهم، وتبعه في التحريف والتعطيل الجهم بن صفوان، فقام هو وأتباعه بنشر هذه البدعة بين الناس، وهم مسبقون بإجماع الصحابة والتابعين وأئمة التفسير والفقه والحديث على إجراء النصوص كما جاءت، وإمرارها على ظواهرها إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، عملا بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وقد شهدت بذلك الفطر السليمة أيضا، فإن الخلق جمعيا يرفعون أكفهم إلى السماء عند الدعاء بمقتضى فطرهم وبدافع قوي من طباعهم التي لم يداخلها إلحاد، ولم ينحرف بها عن جادة الحق تمويه ولا تلبيس، ويقصدون جهة العلو بقلوب كلها خشوع وضراعة إلى الله راجين أن يتقبل أعمالهم، ويستجيب دعاءهم، ويسبغ عليهم نعمه، ويعمهم بفضله وإحسانه.
وقد ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان، فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل، وأظنه قال: وبكى، وقال: حيرني الهمداني حيرني، وكأن الشيخ أبا جعفر أراد أن هذا أمر فطري، فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقوه عن المرسلين، يجدون في قلوبهم طلبا ضروريا يدفعهم للتوجه إلى الله وطلبه في العلو.
فإن قيل: إن رفع الأيدي إلى السماء، وتوجه القلوب إلى جهة العلو، إنما كان من أجل أن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة، لا لأن الله في السماء فوق عباده، ثم هو منقوض بشرع السجود، ووضع الجبهة على الأرض مع أن الله ليس في جهة الأرض، أجيب:
أولا: يمنع أن تكون السماء قبلة الدعاء، فإن كون الشيء قبلة لا يعرف إلا من طريق الشرع، ولم يثبت في جعل السماء قبلة للدعاء كتاب ولا سنة، ولا قال به أحد من سلف الأمة وهم لا يخفى على جميعهم مثل هذا الأمر.
ثانيا: ثبت أن الكعبة قبلة الدعاء كما أنها قبلة الصلاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن ادعى أن للدعاء قبلة سوى
الكعبة أو ادعى أن السماء قبلته كما أن الكعبة قبلة له فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين.

ثالثا: أن القبلة ما يستقبله بوجهه، كما يستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذكر والذبح ودفن الميت ونحو ذلك مما يطلب فيه استقبال القبلة، ولذا سميت القبلة وجهة لاستقبالها بالوجه، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، لكنه لم يشرع بل نهى عنه، وإنما شرع رفع اليدين إلى السماء حين الدعاء لا يسمى استقبالا لها شرعا ولا لغة، ولا حقيقة ولا مجازا.
رابعا: أن الأمر باستقبال القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كالأمر باستقبال بيت المقدس في الصلاة نسخ بالأمر باستقبال الكعبة، ورفع الأيدي إلى السماء في الدعاء والتوجيه بالقلب إلى جهة العلو أمر فطري مركوز في طبائع الناس لم يتغير في جاهلية ولا إسلام، يضطر إليه الداعي عند الشدة والكرب مسلما كان أم كافرا.
خامسا: أن من استقبل الكعبة لا يقع في قلبه أن الله هناك جهة الكعبة، بخلاف الداعي فإنه يرفع يديه إلى ربه وخالقه وولي نعمته، يرجو أن تنزل عليه الرحمات من عنده، وأجيب عن نقضهم الاستدلال بالفطرة على أن الله فوق خلقه بما ذكروه من السجود ووضع الجبهة على الأرض بأنه باطل، فإن واضع الجبهة على الأرض في السجود إنما قصده الخضوع لله، وإعلان كمال ذل العبودية من الساجد لربه ومالك أمره، لا لأنه يعتقد أنه تحته فيهوى إليه ساجدا، فإن هذا لا يخطر ببال، بل ينزه ربه عن ذلك، ولهذا شرع له أن يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى، تعالى الله عن الظنون الكاذبة علوا كبيرا. ( فتاوي ورسائل العلامة عبدالرزاق عفيفي ) الجزء الاول ص258