أحاديث جلود الميتة.. رواية ودراية، وحكم الانتفاع بها على ضوء آراء العلماء
دراسة فقهية توثيقية
عبد العزيز بن أحمد الجاسم




المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلَه إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. أما بعد:
فمن نعم الله على المسلمين، أن بين لهم حكم ما يحتاجون إليه في حياتهم، ومن المعروف أن المسلم يستمد كل ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة؛ ففيهما العقيدة، والأخلاق، والعبادات، والمعاملات، وكل ما يحتاج إليه المسلم.
وقد هيأ الله - تعالى- لهذين المصدرين، علماء أعلام، هداة مهتدين، أهل تقى، وعلم وفهم، وما تركوه لنا دليل قاطع على ذلك.
وهذه الثروة الفكرية المستمدة من الكتاب والسنة، لا يملك أحد من البشر مثلها. وذلك من فضل الله - تعالى -على هذه الأمة.
قال - تعالى -: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).
فأيُّ فضلٍ مثل هذا الفضل الذي خص الله به العرب، دون بقية الأمم!!
وأيُّ فضلٍ مثل هذا الفضل الذي لا يمكن الحصول والوصول إليه عن طريق الابتكار والاختراع، والعلوم التجريبية؟!
فالمسلم يسير في هذه الحياة على بينة وبصيرة من أمره؛ لأنه قد بُين له كل ما يحتاج إليه.
وسأتناول في هذا البحث حكماً شرعياً، يحتاج إليه المسلم في حياته، وهذه الحاجة تختلف من عصر إلى عصر.
هذا الحكم هو: حكم الانتفاع بجلود الميتة.
وقد أصبح استعمال الجلود، في عصرنا، أمراً مهماً وضرورياً، إذ الناس تستخدم الجلود، في أنواع شتى: كالأرائك، والمحافظ، والملابس، والأحذية... وغير ذلك.
وأصبحت صناعة الجلود، تتنافس فيها الدول، وكل حريص على إتقان صناعته؛ ليجذب الناس إليها.
أما الميتة فقد جاء تحريمها في الكتاب، قال - تعالى -: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به).
لكن جاءت السنة النبوية، واستثنت منها الجلود، فخصصت هذا العموم.
غير أن هذه الأحاديث اختلف العلماء في فهمها على ثلاثة أقسام: منها المبيح بالانتفاع مطلقاً، ومنها المبيح لكن بشرط الدبغ، ومنها المانع من الانتفاع بها مطلقاً، دبغت أم لم تدبغ.
ذكرت في هذا البحث هذه الأحاديث، مع دراسة طرقها، وبيان الراجح منها، على ضوء كلام أهل الجرح والتعديل، وبسبب هذا الاختلاف بين الأحاديث -اختلف أهل الاجتهاد في حكم الانتفاع بجلود الميتة- فبينت مذاهب العلماء في ذلك، مع ذكر حجة كل واحد، مع الردّ عليها، على ضوء تلك الأحاديث التي ذكرتها.
وعندما يطلع القارئ على تلك الأقوال سيظهر له أدلة كل فريق، وبالتالي سيظهر له الصواب منها، وهذه فائدة مهمة؛ إذ سيعطي هذا البحث للقارئ تصوراً يوضِّح اختلاف العلماء في المسألة الواحدة...هذا الاختلاف المبني على أدلة وأصول وقواعد أصَّلوا كلامهم بناءً عليها، بغض الطرف عن مدى قوة الأدلة وضعفها.
وسميته: أحاديث جلود الميتة.. رواية ودراية، وحكم الانتفاع بها على ضوء آراء العلماء "دراسة فقهية توثيقية" وجعلته: في مقدمة، وستة مباحث، وخاتمة.
المقدمة: وفيها الإشارة إلى ما تفضل الله به على المسلمين، في إرشادهم وبيان ما يحتاجون إليه في حياتهم.
المبحث الأول: وفيه مطلبان
المطلب الأول: شرح مفردات عنوان البحث.
المطلب الثاني: المنهج الذي سلكته في هذا البحث.
المبحث الثاني: الأحاديث التي اشترطت الدباغ.
المبحث الثالث: الأحاديث التي أباحت الانتفاع مطلقاً.
المبحث الرابع: الأحاديث التي منعت الانتفاع بها مطلقاً.
المبحث الخامس: مذهب العلماء في حكم الانتفاع بجلود الميتة.
المبحث السادس: الأشياء التي تحصل بها الدباغة.
الخاتمة: تضمنت أهم ما توصلت إليه.
ثم ذكرت المصادر والمراجع التي اعتمدت عليها.
المبحث الأول: وفيه مطلبان
المطلب الأول: شرح مفردات عنوان البحث.
1- أحاديث: جمع حديث، وهو في اللغة ضد القديم.
والمراد به عند المحدثين: ما أضيف إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- من: قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلْقية، أو خُلُقية.
وعلى هذا لا يدخل الموقوف والمقطوع في "الحديث"، وإنما يطلق عليهما لفظ "الخبر".
وذهب الجمهور من أهل الحديث، إلى التسوية بينهما في الدلالة؛ فيطلق لفظ "الحديث" على ما أضيف للرسول-صلى الله عليه وسلم-، وعلى ما أضيف للصحابي، والتابعي، وكذا الخبر أيضاً.
2- جلود: مفردها جلد. (بكسر الجيم، وسكون اللام)، ويقال: جَلَد، بفتحهما، وأنكره ابن السكيت، هي الجلود المعهودة. ومن أسمائه أيضاً: الإهاب، والمَسْك، كما سيأتي بيان ذلك.
3 - الميتة: الموت ضد الحياة، تقول: مات يموت فهو ميّت، وميْت، يجوز تشديد الياء وتخفيفها، وخص بعضهم التشديد بمن سيموت، أما التخفيف يطلق على من فارق الحياة. والصحيح أنه لا فرق بينهما.
والميتة في الشرع: هي اسم لكل حيوان، خرجت روحه، بغير ذكاة.
4 - الرواية: المراد بالرواية رواية السنة النبوية، بحيث يكون الراوي تتوافر فيه الشروط المطلوبة التي ذكرها العلماء: من كونه مسلماً، بالغاً، عاقلاً، يؤدي ما تحمله.
قال ابن الأكفاني -كما في قواعد التحديث-: "علم الحديث الخاص بالرواية: علم يشتمل على نقل أقوال النبي-صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله، وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها".
5 - الدراية: هي فهم الحديث سنداً ومتناً.
قال ابن الأكفاني أيضاً -كما في قواعد التحديث-: "وعلم الحديث الخاص بالدراية: علم يُعرف منه حقيقةُ الرواية، وشروطها، وأنواعُها، وأحكامها، وحال الرواة، وشروطهم، وأصنافُ المرويات، وما يتعلق بها".
وهذا البحث تناول الأمرين معاً، إذ ذكرت الروايات من مصادرها الأصلية، مع الكلام على الإسناد والمتن، كما سيأتي.
المطلب الثاني: المنهج الذي اتبعته في هذا البحث.
1 - جمعت الأحاديث التي وردت في جلود الميتة من مصادرها الأصلية، وجعلتها في ثلاثة مباحث؛ وذلك لأن تلك الأحاديث كانت تدور حول ثلاثة أمور: منها يجوِّز الانتفاع بجلود الميتة مطلقاً، ومنها يجوِّز الانتفاع بشرط الدبغ، ومنها يمنع الانتفاع بها مطلقاً.
وقد ناقشت تلك الأدلة معتمداً في ذلك على كتب الجرح والتعديل، ومن خلال هذه الدراسة –المناقشة- توصلت إلى الراجح، والصحيح من تلك الأدلة، كما سيأتي بيان ذلك.
2 - قدمت الأدلة أولاً، ثم ذكرت بعدها في مبحث خاص أقوال الفقهاء، والسبب الذي دعاني لتقديم الأدلة مع مناقشتها، على أقوال الفقهاء، ما يلي:
أ- كل من صنف في أحاديث الأحكام قدم الأدلة أولاً، ثم أعقبها بذكر مذاهب العلماء: كالحافظ العراقي في كتابه "طرح التثريب"، والإمام الشوكاني في كتابه "نيل الأوطار"، والإمام الصنعاني في كتابه "سبل السلام"،.. وغيرهم.
ب - تقديم الأدلة ومناقشتها، يعطي القارئ تصوراً يوضح سبب اختلاف أهل العلم في المسائل الفقهية، وهذه فائدة مهمة للقارئ.
3 - ثم ذكرت أقوال الفقهاء في حكم الانتفاع بجلود الميتة، وجعلتها في مبحث خاص، وقد أشرت إلى دليل كل مذهب مع الرد عليه، ولم أذكر الأدلة بالتفصيل؛ لأني قد قدمتها في أول البحث.
كما بينت حكم الانتفاع بجلود الميتة المستوردة من بلاد النصارى، وغيرهم.
4 - ذكرت ما يحصل به الدبغ في مبحث خاص، وبينت حكم تنظيف الجلود الميتة في المصانع الحديثة.
5 - شرحت المفردات الغريبة، في هذا البحث، معتمداً في ذلك على كتب اللغة، والنهاية في غريب الحديث.. وغيرها.
كما ضبطت الكلمات، والجمل، التي تحتاج إلى ضبط.
المبحث الثاني: الأحاديث التي أباحت الانتفاع بجلود الميتة:
ذكرت في هذا المبحث الأحاديث التي أباحت الانتفاع بجلد الميتة بعد دبغها، وهي أربعة أحاديث:
1- حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-، وهو الأصل في هذا المبحث.
2- حديث ابن عمر-رضي الله عنهما-.
3 - حديث أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها-.
4 - حديث سلمة بن المحبّق –رضي الله عنه-.
فتكلمت على طرق هذه الأحاديث: سنداً ومتناً، معتمداً في ذلك على أقوال أهل العلم.
الأصل في هذا: حديث عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما- مرفوعاً: ((أيُّما إهابٍ دُبغ، فقد طَهُر)). وفي رواية: ((إذا دُبِغَ الإهابُ، فقد طَهُرَ)).
سمع هذا الحديث من ابن عباس –رضي الله عنهما- عبد الرحمن بن وعلة، وعليه مدار الطرق كلها.
وسمعه من ابن وعلة غير واحد من أهل الحديث، منهم: زيد بن أسلم، وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني، ويحيى بن سعيد الأنصاري.
أما زيد بن أسلم، فقد رواه عنه: ابن عيينة، ومالك، وهشام بن سعد، والثوري، وسليمان بن بلال.
أما طريق ابن عيينة، رواها الشافعي، في مسنده.
عنه عن زيد أنه سمع ابن وعلة، سمع ابن عباس -رضي الله عنهما- سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أيما إهاب... )) الحديث.
قلت: وكل من رواه من طريق "ابن عيينة" رواه بلفظ "أيما"، وهم: مسلم، ولم يذكر لفظه، وإنما قال بعد أن أخرجه: "بمثله"، أي بمثل حديث يحيى بن يحيى عن سليمان بن بلال، التي رواها أولاً وهي بلفظ ((إذا دبغ الإهاب... )).
والترمذي، والنسائي، وابن ماجة كلهم من طُرقٍ عن ابن عيينة، عن زيد، بمثل.
وأحمد عن ابن عيينة، به، مثله.
وأبو عوانة من طرق عن ابن عيينة، به، مثله.
وأما رواية مالك أخرجها الإمام الشافعي عنه عن زيد بن أسلم به، بلفظ ((إذا دبغ الإهاب، فقد طهر)).
وأخرجها الإمام مالك في الموطأ.
وأما رواية الثوري أخرجها أبو داود، عنه، عن زيد، به، مثل رواية مالك.
وأما رواية سليمان بن بلال، أخرجها مسلم من طريق يحيى بن يحيى، عن سليمان، به، مثل رواية مالك.
أما رواية أبي الخير مرثد بن عبد الله، أخرجها مسلم، ولها قصة من طرق عن أبي الخير، عن ابن وعلة، به، بلفظ ((دباغه طهوره)).
والنسائي، وله قصة أيضاً.
وأبو عوانة، وله قصة أيضاً.
وأما رواية يحيى بن سعيد، أخرجها أبو عوانة من طرق، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن وعلة، به، بلفظ ((أيُّما إهابٍ دُبغ فقد طهر))، وله قصة.
قلت: في هذا الحديث أمران:
الأمر الأول: أن هذا الحديث رواه ابن عيينة، بلفظ ((أيما إهاب..))، و"أيما" من ألفاظ العموم، فهو يقتضي أنّ أيّ جلدٍ دبغ، فقد طهر.
أما مالك، وغيره، فقد رواه، بلفظ ((إذا دبغ الإهاب..)).
وهذه الرواية تختلف عن الرواية الأولى، كما هو واضح.
الأمر الثاني: أن كل من أخرج هذا الحديث، أخرجه من طريق "عبد الرحمن بن وَعْلة"، فهو مدار الحديث.
وهذه الطرق رواتها ثقات ما عدا "ابن وعلة"، فقد تُكلم فيه، وهو من رجال مسلم، وأصحاب السنن الأربعة، ولخص الحافظ ابن حجر حاله كما في التقريب بأنه "صدوق".
وعليه يكون هذا الحديث، بهذا الإسناد، حسناً لذاته، لكن له شواهد تقويه - كما سيأتي بعد قليل - فيكون صحيحاً لغيره، والله أعلم.
وقد جاء لحديث ابن عباس –رضي الله عنهما- هذا عدةُ شواهد، منها حديثُ ابن عمر، وعائشة، وسلمة بن المحبّق-رضي الله عنهم-.
- أما حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- أخرجه الدارقطني: "عن أبي بكر النيسابوري قال: حدثنا محمد بن عقيل بن خويلد قال: حدثنا حفص بن عبد الله قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((أيما إهاب دبغ، فقد طهر)) ثم قال: إسناده حسن".
الخاتمة:
بعد هذه الدراسة توصلتُ إلى ما يلي:
1 - الدقة والتحري عند سلفنا الصالح في النقل وفي الفهم.
2 - أهمية معرفة علوم الحديث، لكي يميز الباحث الحديث الصحيح عن غيره.
3 - على كل من يشتغل بالفقه أن يكون ملماً بالسنة وعلومها؛ لكي تكون فتواه على وفق النصوص.
4 - الأحاديث المتعلقة بجلود الميتة كانت تدور حول ثلاثة أمور، كما مر بنا.
5 - حديث ابن عكيم لا يساوي الأحاديث المبيحة، من حيث الصحة والقوة.
6 - الرأي الراجح من مذاهب العلماء جواز الانتفاع بجلود الميتة بعد دبغها؛ عدا جلد الكلب والخنزير.
7 - جواز تخصيص الكتاب بالسنة.
8 - تذكية الحيوانات غير المأكولة كالسباع، تجعل جلودها طاهرة، ولا تحتاج إلى دباغ، عند المالكية والحنفية.
9 - الجلود المستوردة من البلاد التي لا تذبح على الطريقة الإسلامية، أو كان أهلها وثنيين هي طاهرة بعد دباغتها، وإن كانت في الأصل في حكم الميتة.
10- المنظفات التي تستعمل في هذه العصور تقوم مقام القرظ؛ لأن الهدف من الدباغ إزالة العفونة وإزالة الترسبات، وهذه المنظفات تزيل ذلك على أحسن وجه.
هذا والله - تعالى - أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على هذا النبي الأمي، الذي أرسله الله - تعالى -هادياً، ومعلماً، ومشرعاً، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين