ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد

الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد (الحج :10)
في هذه الآية الكريمة ثلاثة أسئلة :
الأول : هو ما ذكرنا آنفا أنا أوضحنا الجواب عنه سابقا ، وهو : أن المعروف في علم العربية ، أن النفي إذا دخل على صيغة المبالغة ، لم يقتض نفي أصل الفعل .
فلو قلت : ليس زيد بظلام للناس ، فمعناه المعروف : أنه غير مبالغ في الظلم ، ولا ينافي ذلك حصول مطلق الظلم منه . وقد قدما إيضاح هذا .
والسؤال الثاني : أنه أسند كل ما قدم إلى يديه في قوله { بما قدمت يداك } وكفره الذي هو أعظم ذنوبه ، ليس من فعل اليد ، وإنما هو من فعل القلب واللسان ، وإن كان بعض أنواع البطش باليد ، يدل على الكفر ، فهو في اللسان والقلب أظهر منه في اليد . وزناه لم يفعله بيده ، بل بفرجه ، ونحو ذلك من المعاصي التي تزاول بغير اليد .
والجواب عن هذا ظاهر : وهو أن من أساليب اللغة العربية ، التي نزل بها القرآن إسناد جميع الأعمال إلى اليد ، نظرا إلى أنها الجارحة التي يزاول بها أكثر الأعمال فغلبت على غيرها ، ولا إشكال في ذلك .
والسؤال الثالث : هو أن يقال : ما وجه إشارة البعد في قوله { ذلك بما قدمت يداك } مع أن العذاب المشار إليه قريب منه حاضر؟ .
والجواب عن هذا : أن من أساليب اللغة العربية : وضع إشارة البعد موضع إشارة القرب . وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا : [ دفع إيهام الاضطراب . عن آيات الكتاب ] في الكلام على قوله تعالى في أول سورة البقرة : { الم ذلك الكتاب } [ البقرة : 1-2 ] الآية : أي هذا الكتاب .
ومن شواهد ذلك في اللغة العربية قول خفاف بن ندبة السلمي :


فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا
أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكما

يعني أن هذا ، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن الكافر يقال له يوم القيامة { ذلك بما قدمت يداك } الآية لا يخفى أنه توبيخ ، وتقريع ، وإهانة له ، وأمثال ذلك القول في القرآن كثيرة : كقوله تعالى : { خذوه فاعتلوه إلى سوآء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون } [ الدخان : 47-50 ] وقوله تعالى : { يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سوآء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } [ الطور : 13-16 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .


المعنى : أن الكافر إذا أذيق يوم القيامة عذاب الحريق ، يقال له ذلك : أي هذا العذاب الذي نذيقكه بسبب ما قدمت يداك : أي قدمته في الدنيا من الكفر ولامعاصي : { وأن الله ليس بظلام للعبيد } فلا يظلم أحدا مثقال ذرة . { وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } [ النساء : 40 ] والظاهر أن المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله { وأن الله ليس بظلام للعبيد } في محل خفض عطفا على ما المجرورة بالباء .
والمعنى : هذا العذاب الذي يذيقكه الله حصل لك بسببين ، وهما ما قدمته يداك ، من عمل اسوء من الكفر والمعاصي وعدالة من جازاك ، ذلك الجزاء الوفاق ، وعدم ظلمه . وقد أوضحنا فيما مضى إزالة الإشكال المعروف في نفي صيغة المبالغة ، في قوله { ليس بظلام } فأغنى ذلك عن إعادته هنا .