قراءة في تفسير سورة المزمل

الشيخ هشام العارف


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد...؛

خاطب الله عز وجل رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله:
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) والمزَّمِّل هو الذي تزمَّل في ثيابه. فكما طالبه عز وجل أن يترك التدثُّر من أجل الدعوة إلى الله تعالى والقيام بأعبائها وأثقالها، طالبه هنا أن يترك التزمُّل لقيام الليل، (قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً(2)وقيام الليل في الشرع معناه: الصلاة، فكان قيام الليل في حقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه فرضاً، وقوله تعالى (إِلاَّ قَلِيلاً) أي: صلِّ الليل إلا شيئاً يسيراً منه، تنام فيه؛ وهو الثلث، وخيِّر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين قيامه كله أو (نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً(3)أي: قم نصفه، (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً(4)أي: زد على النصف إلى الثلثين، جعل له سعة في مدة قيامه بالليل. فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخيَّر؛ أي ذلك شاء فعل. فلما نزلت هذه الآية قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وطائفة من المؤمنين معه أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وأخذ المسلمون أنفسهم بالقيام على المقادير حتى شق ذلك عليهم. ولفظة (اللَّيْلَ) إذا أضيف إليها مقدار؛ فقيل: ثلث الليل، أو ربع الليل، أو نصف الليل، أو ثلثي الليل؛ فالمراد الليل الذي نهايته طلوع الشمس لا طلوع الفجر، ومن عكس لم يصب.
وقوله تعالى
(وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) فوجب الترتيل كما بيَّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعني: بيِّنه وأنت تقرأ به بياناً واضحاً، لا تسرع بقراءته كهذِّ الشعر. والهَذُّ معناه: الهدرمة وهي السرعة في القراءة والكلام. قال ابن كثير: "اقرأه على تمهِّل فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبره".
إن قراءة القرآن بفهم وتدبّر في الصلاة معين على القيام بأعباء الدعوة إلى الله، ومعين على القيام بالتكاليف الشرعية. فعلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهيأ نفسه لنزول القرآن الذي وصفه عز وجل بالثقيل فقال: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً(5)ولمّا كان القرآن مشتمل على العلم بكلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، لذا دخلت هذه الكلمة في الثقل وكان لها وزناً كبيراً عند الله يوم القيامة لمن قالها مؤمناً بها، وإذا كان القرآن (ثَقِيلاً) لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد كما قال الحسين بن الفضل، فهو أيضاً ثقيل على المخالف من جهة أنه لا يقدر على ردِّه ولا يتمكن من الطعن فيه بوجه.
ومن العلماء من فسر ثقل القرآن لكونه مشتملاً على المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والفرق بين هذه الأقسام مما لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون، المحيطون بجميع العلوم العقلية والحكمية، فلما كان كذلك لا جرم كانت الإحاطة به ثقيلة على أكثر الخلق. وقوله عز وجل (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ) أي: قريباً بوعد لا خلف فيه، فتهيأ لذلك بما يحق له. واستعير الإلقاء للإبلاغ دفعة على غير ترقب، وما كان بهذا الوصف (ثَقِيلاً) حقيق أن يتهيأ له، ويرتل، ويتفكر فيما يشتمل عليه.
والقرآن العظيم ذو المعاني الوفيرة الغزيرة. ثقيل في التكاليف، وتكاليفه فروض وأحــكام، لكنه خفيف على المؤمنين محبب إليهم. واعلم إذا خفف الله تعالى ثقل التكاليف على المؤمنين، من باب إعانته لهم، بحيث تنشرح صدورهم ويحبون القيام بها، فهو يريد لهم مضاعفة الأجر والثواب، بحيث يصير القول الحق الخفيف على لسانهم، ثقيلاً في ميزان حسناتهم.
والقرآن العظيم ثقيل بحججه على الكفار، ثقيل بحججه على المنافقين، ثقيل بحججه على المبتدعة في الدين. لذلك فالكفار، والمنافقون، والمبتدعة، لما تركوا الإقبال على كتاب الله تدبُّراً وعملاً؛ ثقلت عليهم التكاليف، فتركوا الصلاة، وخاضوا مع الخائضين.

إن قيام الليل للصلاة والتهجد وقراءة القرآن بتفهم وتدبّر في غاية العظمة لذا أكد الله ـ تعالى ـ على ذلك بعد هذا البيان بقوله:
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً(6)قال أبو عبيدة: "ناشئة الليل ساعاته وآناؤه ناشئة بعد ناشئة". وساعات الليل الناشئة (أَشَدُّ) أي: أثقل على المصلي من ساعات النهار، لما فيها من الكلفة وترك الراحة، وقوله تعالى (وَطْئًا) وما ذلك إلا لحصول مقصود القرآن يتواطأ عليه القلب واللسان ويفهم ما يقول ويستقيم أمره. (وَأَقْوَمُ قِيلاً) لأنه أبعد من الرياء، قال ابن قتيبة: "أي: أخلص للقول وأسمع له، لأن الليل تهدأ عنه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات، فيخلص القول، ولا يكون دون تسمعِّه وتفهِّمه حائل". وقد كان الشنقيطي ـ رحمه الله ـ فيما نقل عنه؛ لا يترك ورده من الليل صيفاً أو شتاء. وناشئة الليل بخلاف النهار فإنه لا تحصل به هذه المقاصد، وأكَّد الله عز وجل على ذلك بقوله: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً(7)فكما دلَّ الله تعالى من أول السورة إلى هذه الآية ما به صلاح الدين، من قيام الليل، وترتيل القرآن، والتجلد والتحمل لتلقي أوامر الله من الكتاب ونواهيه ومفهومه، دلَّ في هذه الآية إلى صلاح الدنيا، فقال: (إِنَّ لَكَ) أيها القائم المتهجد (فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً) للقيام بالدعوة إلى الله، وما تحتاج إليه من مطالب الحياة والمعاش. وقدم الله تعالى الليل لما فيه من شرف القيام والذكر، ثم أتبعه بذكر النهار ليكون إصلاح الدين سبباً في إصلاح الدنيا.
وقوله تعالى (سَبْحًا): السبح في الأصل: التمدد على الوجه، وإنما سميت الصلاة سُبحة وتسبيحاً لما يمتد المصلي على وجه في السجدة.
والسبح: حركة الانتقال من مكان لآخر برفق ولين وسهولة، ومنه سبح السمك في الماء، وسبح الطير في الهواء، وسبح الكواكب والنجوم في مسيراتها وأفلاكها. وسبح الفرس في جريه، لأن الفرس بحركته السريعة كأنه سابح إذ تكاد قوائمه لا تلامس الأرض.
والسبح السعي والتقلب، فـ (إِنَّ لَكَ) أي: لقائم الليل؛ نهاراً يسعى فيه بالحق، يأمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، يأمر فيه بالتوحيد وينهى عن الشرك، ويطلب الحلال من الرزق، ويترك الحرام. وشغل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النهار بالدعوة إلى الله، وإبلاغ القرآن، وتعليم الدين، ومحاجة المشركين، وافتقاد المؤمنين المستضعفين، فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل.
ولا يخفى على من يلاحظ حركات الحياة أن السابح يبحث عن مطالب حياته برفق ويسر وسهولة، فحيث وجدها ضمْن ما سخر الله له وأذن له به؛ التقطها برفق، دون عنف ولا مغالبة ولا مناهبة ولا مقاتلة ولا عدوان ولا ظلم.
إن الأرزاق مقسومة مقدرة، وعلى الإنسان أن يسبح في حياته لتحصيل ما قسم الله له، وأن يجمل الطلب، وان يكون رفيقاً، وأن يلتزم المنهاج الذي أمره الله بالتزامه، فزيـادة الكـد لا تزيد في الرزق، والكسب بمعصية الله ـ عز وجل ـ يوجب العقوبـة من جهة، ولا يزيـد في الرزق من جهة أخرى.

ولمَّا كان يُخشى على السابح لسرعة ذهاب الوقت أن يكون سعيه للدنيا فقط بعيداً عن ذكر الله ـ وهو الغالب للأسف على أحوال الكثير من الناس ـ أمره أن يذكر الرب فقال: (وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً(8)فلا يجوز للمؤمن أن ينزعج لشأن الحياة وأعبائها، ولا ينصت لوساوس الشياطين وألاعيبها، فالرب هو المتصرف المقدر القائم على عناية من ذكره وأخلص في ذكره، ووحَّده وعظَّمه، وعمل بأوامره وانتهى عن نواهيه، وتعبَّده بما صحَّ عن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أذكار ودعاء لكافة الأوقات والأحوال في السراء والضراء.
وقوله تعالى (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) قال قتادة: أي: "أخلص له الدعوة والعبادة". وأصل البتل: القطع، والتبتل: الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل؛ أي: انقطع بعبادتك إليه، ولا تشرك به غيره, وامرأة بتول: منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم، والتبتل عند العرب: التفرد، ويقال للراهب متبتل؛لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة. والتبتل: هو الانقطاع عن النساء. وقد جاءت السنة بصريح النهي عن التبتل الذي هو الانقطاع للعبادة وترك التزوج. قال القرطبي: "فصار التبتل مأموراً به في القرآن منهياً عنه في السنة، ومتعلق الأمر غير متعلق النهي؛ فلا يتناقضان، وإنما بعث ليبيِّن للناس ما نزِّل إليهم، فالتبتل المأمور به: هو الانقطاع إلى الله بإخلاص العبادة؛ كمال قال تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، والتبتل المنهي عنه: هو مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن".
والإخلاص لله لا يتحقق إلا بقطع علائق النفس عن مظاهر الحياة الدنيا، وزينتها، والتكاثر منها، فاجتهد على ذلك بالتدرج إلى أن يصير انقطاعك عن الدنيا لله (تَبْتِيلاً) خلقاً وسجية، لذلك قال زيد بن أسلم: التبتل: "رفض الدنيا وما فيها، والتماس ما عند الله تعالى".
والربوبية التي أشار الله تعالى إليها في أول ما نزل من القرآن كان المقام فيها مقام دلالة على وجود الله، فصفة الخلق هي أقرب الصفات إلى معنى الربوبية، وهي أجمع الصفات للتعريف بالله تعالى لخلقه، وهي الصفة التي يسلمون بها. ولما تقدم ذكر الليل وما أمر الرسول به فيه، وذكر النهار، عقب عليهما بذكر المشرق والمغرب اللذين هما مظهر الليل والنهار وهما من ربوبيته ـ سبحانه ـ وعظمته في الخلق، فالذي خلق الإنسان من علق هو الذي خلق المشرق والمغرب فهو سبحانه: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً(9)فكما أن على الإنسان أن يوحد الربَّ بربوبيته لأنه خالقه، وخالق الليل والنهار، وخالق المشرق والمغرب (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)، فعليه أن يوحده بألوهيته (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)، فلا ينبغي أن يعبد إلهاً سوى الله الذي هو رب المشرق والمغرب، ومن توحيد ألوهية الله تعالى اتخاذه وكيلاً. قال ابن كثير: "وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً)". وهذا من أكبر التبتل إلى الله لأنه انقطاع عن الإشراك وهو معنى الحنيفية التي أشرنا إليها. قال البقاعي: "ومن تمسك بهذه الآية عاش حراً كريماً، ومات خالصاً شريفاً، ولقي الله تعالى عبداً صافياً مختاراً تقياً، ومن شرط الموحد أن يتوجه إلى الواحد، ويقبل على الواحد، ويبذل له نفسه عبودية، ويأتمنه على نفسه، ويفوض إليه أموره، ويترك التدبير، ويثق به، ويركن إليه، ويتذلل لربوبيته، ويتواضع لعظمته، ويتزين ببهائه، ويتخذه عدة لكل نائبة دنيا وآخرة".
وعبادة الله تعالى وما تشمله من الإخلاص له ـ سبحانه ـ وتعبده على النحـو الذي أمر، وبينه المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وما في العبادة من مجـاهدة النفس الأمَّارة بالسوء، والقيام بالفرائض والتكاليف، وترك الحرام من الأقوال والأموال والأفعال، والإقبال على الله بالثقة والتوكل، كل هذا يحتاج إلى الصبر، ولأن الصبر معدن خلقي رفيع، وهو تبيع الحق باستمرار، فإن الله تعالى أمر نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند القيام بواجبه في الدعوة إلى الله، ـ وهو تشريع للدعاة ـ أن يصبر أيضاً على مقالة أهل الباطل الذين يعلمون أن الحق يهدد دينهم ومصالحهم، ويكشف زيفهم وزيغهم، فقال: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً(10)جاءت هذه الآية عطف على قوله: (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً(9) والمناسبة أن الصبر على الأذى يستعان عليه بالتوكل على الله.
وتقدم في سورة العلق والمدثر، ما يبيِّن مواقف المشركين من الدعوة إلى الله، وشدة أذاهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمطلوب مقابلة ذلك بما نصَّ الله تعالى عليه بقوله:
(وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً) والحكمة من هجرهم هجراً جميلاً ـ هجر بلا أذى ـ أن المؤمنين كانوا بمكة قلة مستضعفين، فأمروا بالمجاهدة الليلية، والصبر، حتى يعدّوا أنفسهم لتحمل أعباء الدعوة ويكونوا أهلاً لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
ولمّا أمر الله تعالى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصبر على ما يقوله من كذَّبه من سفهاء قومه، وأمره بالهجر الجميل، توعَّد وهدَّد بالمقابل وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء من صدَّ عن دعوته فقال: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِي نَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً(11)أي: دعني والمكذبين المترفين، والغرض كسر كبرياء من تنعَّم وركن للدنيا وصدَّ عن الدعوة إلى الله، وهذا من مزيد التعظيم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإجلال قدره. وقوله:
(أُولِي النَّعْمَةِ): أي: أصحاب النعمة والغنى، الذين طغوا حين وسَّع الله عليهم من رزقه وأمدَّهم من فضله، وقد حذَّر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من التنعم، فإن الإنسان إذا ابتلي فرأى أنه استغنى طغى، وباب الغنى والثراء باب خطير، لذا حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باستمرار على توجيه صحابته وإرشادهم لخلق التواضع والبعد عن التنعم لتجنيبهم عواقب الإكثار والركون إلى الدنيا، فعن معاذ بن جبل قال: "لمَّا بعثني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى اليمن، قال: "إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين".
وقد حذّر الله عز وجل في السورتين السابقتين من طغيان الإنسان إذا استغنى، ومن الطمع في طلب المزيد من الدنيا. فقال في سورة العلق:
(كلا إن الإنسان ليطغى) (أن رآه استغنى) وقال في سورة المدثر: (ثم يطمع أن أزيد).
وفي شعب الإيمان عن أم الدرداء قالت: قلت لأبي الدرداء: مالك لا تطلب كما يطلب فلان؟ فقال: إني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن أمامكم عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون".
ولأجل التهديد والوعيد قال الله تعالى محققاً للمراد بما أمر به من الصبر
(وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أي: اتركهم برفق، ولا تهتم لشأنهم، فإن ما هم فيه من النعم الدنيوية زمنه قصير، وهو مترتب في المعنى على قوله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِي نَ) أي: وانتظر أن ننتصر لك. قال البقاعي: "وفيه بشارة له ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالبقاء بعد أخذهم كما كان". ثم بيَّن مؤكداً كيفية عذابهم عنده فقال: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا(12) الأنكال: هي القيود الثقيلة، قاله: مجاهد، وحماد، وعكرمة، والحسن. وقيل: سمي نكلاً لأنه ينكل به. فقوله تعالى: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً) أي: نؤكد أن لدينا ـ دون عندنا ـ في الآخرة قيوداً ثقيلة، وهو من باب ضد ما هم فيه من النعمة والعز، والقيود تمنع من الحركة والانتقال بسهولة ويسر، وهذا من تخويف المتنعم الذي ركن إلى الدنيا واطمأن لها، فهو يكثر في الدنيا التمتع بنعيمها تاركاً كفراً ذكر ربه، وعبادته، والعمل في سبيله، مع العلم أن الله تعالى متَّعه ونعَّمه في الدنيا، ومن هذا النعيم سهولة الحركة ويسر الانتقال، لكنه لما قيَّد نفسه بالشهوات والضلالات في الدنيا ودافع عنها زوراً وبهتاناً استحق هذه القيود من العذاب في الآخرة. والله تعالى أضاف إلى هذا العذاب، عذاب الحريق، فقوله (وَجَحِيماً) أي: ناراً حامية شديدة الاتقاد، بسبب كفرهم بالله تعالى الذي نعَّمهم برقيق اللباس والثياب، وتبريد الشراب. ولمّا كان هؤلاء متلذذون في دنياهم بتناول أصناف الطعام المستساغة الصافية الشهية بسبب تنعمهم وكفرهم قوبلوا في الآخرة بطعام لا يستسيغه الحلق فقال: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا(13) فإنهم في دنياهم كانوا يبذلون الجهد في طهي الطعام والتنعم بحلاوة مذاقها، فعاقبهم الله عز وجل في الآخرة بطعام (ذَا غُصَّةٍ) لا يستسيغه الحلق، بل يعلق فيه، فلا يجري إلى المريء ولا يخرج إلى الفم. ودلّت الآية على جوع الكفرة وطلبهم الطعام يوم القيامة، بعد أن كانوا أكثر الناس شبعاً في الدنيا، فيكون طعامهم (ذَا غُصَّةٍ)، وكما حذَّر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من التنعم في الدنيا، حذَّر من الشبع دون القيام بواجب الشكر، فعن ابن عمر قال: تجشأ رجل عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "كف عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعاً في الدنيا، أطولهم جوعاً يوم القيامة". وقوله تعالى: (وَعَذَابًا أَلِيمًا) أي: وفوق هذا العذاب، عذاباً مؤلماً شديد الإيلام، فلما خص المتنعمين، عمَّ في البيان وأنهم أيضاً واقعين في العذاب الشديد الألم.
ولما كانت الدعوة في أوائل مراحلها؛ حسن فيها هذا الأسلوب من البيان، وهو التنبيه إلى وجود عذاب عند الله لمستحقيه، ففي ذلك الحث على التحرر من قيود الشبهات والشهوات والتحذير من الركون إلى الكفر والضلالات مع ما هم فيه من النعم والخيرات. أشار الله تعالى إلى ظرف وقوع هذا العذاب فقال: (يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتْ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً(14)أي: تضطرب اضطراباً شديداً بقوة هائلة، ويحدث فيها زلزال شديد، وذلك يوم القيامة. وهذا استعراض لأول صورة من صور الفزع والهول، إذ تهتز الأرض والجبال وتصير الجبال القائمة الصلبة مع صلابتها وارتفاعها من شدة الفزع والاضطراب الشديد (كَثِيبًا) أي: رملاً سائلاً مطحوناً طحناً ناعماً مجمعاً مرتفعاًً. ومعنى (مَهِيلاً) أي: ينصب انصباباً متتابعاً مندفعاً، من قول القائل: هلت الرمل فأنا أهيله، قال ابن عباس: في قوله تعالى (مَهِيلاً): "هو اللين الذي إذا مسسته تتابع". وجيء بفعل (َكَانَتْ) للإشارة إلى تحقيق وقوعه حتى كأنه وقع في الماضي. فهو أمر بمثابة الحاصل المشهود، ليكون وقع التهديد على السامع أبلغ.
ووجه مخالفته لأسلوب (تَرْجُفُ) أن صيرورة الجبال كثيباً أمر عجيب غير معتاد، فلعله يستبعده السامعون، وأما رجف الأرض فهو معروف، إلاَّ أن هذا الرجف الموعود به أعظم ما عرف جنسه.
ولمَّا ذكر العذاب ووقته، خاطب السامع بخبر قصد فيه التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذَّبوا الرسل، فهو مثل مضروب للمشركين ولمن صدَّ عن دعوة رب العالمين فقال:
(إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً(15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً(16). في الآية دليل على صدق المبعوث بالرسالة، أو دليل على صدق المجدد لدين الله تعالى. والمبعوث هنا بالرسالة هو محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسله الله إلى قريش، وقد جاء التعبير بضمير المتكلم (إِنَّا)، مراعاة لمقام الربوبية العظيمة الجليلة، واستثارة للرهبة والمهابة، وتذكيراً بسلطان الرب، خالق السماوات والأرض، والمهيمن على كل شيء بربوبيته، القدير على إهلاك المكذبين وكل جبار مجرم.
ولما كان التخويف بالمؤجل لا يحدث إرباكاً في نفس السامع كما يحدث التخويف بالمعجل حق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) ولو جرى على الأصل لقال: (إنا أرسلنا إليهم رسولاً) والغرض من الالتفات التقريع والتوبيخ على عدم الإيمان.
وقد بين الله تعالى صفة مميزة بالرسول وهي (شَاهِدًا عَلَيْكُمْ) أي: شاهداً عليكم بأنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وهذه الصفة أو هذه الوظيفة وإن لم تكن من أوائل وظائفه، فهي أي: أداء الشهادة، هي وظيفته في الدنيا ويوم الدين، فعليكم أن تتناولوا بيانات الرسالة منذ اللحظة الأولى لأنه في النهاية شاهد عليكم، ويشهد يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان ويشهد أنكم لم تستجيبوا له.
فكان من صور التخويف المعجَّل لهم ما حلَّ بالكاذب فرعون وقصته مشهورة عند أهل الكتاب، وخص الله تعالى ذكر فرعون دون قومه فقال: (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) إشارة إلى أنه كان صاحب الكلمة المطاعة النافذة، وكان من أولي النعمة. وأن الله تعالى أرسل إليه رسولاً يدعوه إلى الحق. (فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) أي: كذَّب به ولم يؤمن، (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً) أي: فعاقبناه عقاباً شديداً ثقيلاً. قال ابن كثير: "فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر كما قال تعالى في سورة النازعات: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى(25)، وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران".
والدعوة السلفية حجَّة على الناس، وأهلها عدول، لأنها دعوة الأنبياء والسلف الصالح، وهي حجة على الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وأن الذي يصد عن هذه الدعوة الصحيحة التي تنتهج بفضل من الله تعالى منهج النبوة آثم يلحقه الخزي والعار في الدنيا قبل العذاب في الآخرة، فالدعوة السلفية صاحبة رسالة ربانية هي رسالة النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي بلغها للناس كافة، وحملها الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ وبلَّغوها بدورهم كما نزلت من عند الله وبيَّنها نبيهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وما يجري على الأرض الآن من نزاعات، وفتن، وقلاقل، وزلازل، وتفرق، وتشتت، وتحزب، وانتشار أمراض، وتسلط للقوي على الضعيف، وأكل حقوق الآخرين ظلماً وعدواناً، واستعمال النفاق بكل صوره الخسيسة تحقيقاً لمآرب خاصة ولو كان الوصول لهذه المآرب باسم شرع الله تعالى أحياناً، وباسم سماحة الإسلام والدفاع عنه أحياناً أخرى، أو التصرف بتأويلات ليس لها أصل صحيح في الشرع، أو فهم صحيح عن السلف، إنما سببه عدم الرجوع بإخلاص إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة. ومن رحمة الله تعالى بالبشر على الأرض أنهم إذا ضلّوا بعث لهم من يجدد لهم الدين، ويبين لهم الحق بالقول المتين، ويكون حجة عليهم إذا لم يستجيبوا له.

والله تعالى لما أرسل النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قريش ليأمرهم بكلمة التوحيد ـ لا إله إلا الله ـ بيَّن الله تعالى أن محمداً شاهداً عليهم.
ولمّا لم يفلت فرعون من عذاب الله الشديد في الدنيا، وصار موقفه مثلاً للاعتبار أعاد الكرّة بتخويفهم بعذاب الآخرة بأسلوب الاستفهام التعجيبي فقال: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا(17)وفيه توبيخ وتقريع من إعراضهم عن دعوة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإصرارهم على تكذيبه، وفيه تقديم وتأخير أي: كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم.
كيف لا تحذرون ولا تخافون يا معشر قريش عذاب يوم هائل؟!!! وكيف تتقون العذاب وأنتم لا تملكون أية وقاية تتقون بها عذاب الله تعالى يوم القيامة إن متم على الكفر؟!!!.
ولعظيم ما يقع من عذاب يوم الدين؛ تشيب لشدته وأهواله الولدان، والعرب تضرب المثل في الشدة فتقول: هذا يوم تشيب من هوله الولدان، فجعلوا الشيب كناية عن الشدة والمحنة، قال ابن كثير: "أي من شدة أهواله وزلازله وبلابله، وذلك حين يقول الله تعالى لآدم ابعث بعث النار فيقول من كم؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة". ثم زاد في وصفه وهوله فقال:
(السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً(18)ومن شدة هول يوم القيامة أن السماء ـ مع عظمها وصلابتها ـ تصير متشققة فيه، وانشقاق السماء أشد وأعظم من شيب الولدان.
فوصف الله هذا اليوم بأنه يشيب فيه الولدان، ثم وصفه بأن السماء مع عظمها تتشقق فيه، للارتقاء في الوصف من العظيم إلى الأعظم، إذ أن تحول شعر الأطفال من السواد إلى البياض ـ مع شدته وعظمه ـ أشد منه وأعظم، انشقاق السماء في هذا اليوم. فهو كائن لا محالة، وهو وعد بالبعث لذا قال:
(كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) فالله تعالى لا يخلف الميعاد. فاحذروا ذلك اليوم أيها الناس. وتذكّروه جيداً (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً(19) (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) قال ابن جرير الطبري: "فمن شاء من الخلق اتخذ إلى ربه طريقاً بالإيمان به، والعمل بطاعته". وجاءت الآية تأكيداً على ما ورد في السورة السابقة "المدثر" أن هذه الرسالة تذكرة، وأن للعبد مشيئة ليس عليه فيها جبر بل هو حر الإرادة فيما يختار.
وخلاصة المعنى: فمن شاء النجاة من أهوال القيامة وعذاب الآخرة فعليه أن يستجيب للدعوة ويتخذ طريق الأنبياء سبيلاً، ويكون إيمانه حقاً، ومنهجه منهج النبوة والسلف.
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(20)

جاءت هذه الآية الأخيرة من سورة المزّمل لتبيّن أن على حامل الرسالة الربانية أن يكون دائم الصلة بالله تعالى، وقد ذكر الله تعالى في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل، وثلثيه، أو ثلثه، وهنا امتثل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك هو وطائفة معه من المؤمنين. وافتتاح الآية بقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ..) يشعر بالثناء عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبالتلطف معه في الخطاب حيث أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مواظباً على قيام الليل، على قدر استطاعته من غير تقصير ولا فتور.
ولما لم يكن هناك ضبط دقيق لقيام الليل، بسبب مقادير الزيادة في الليل أو النهار، وأن الضبط يحتاج إلى زيادة انتباه، وهذا فيه عناء، وما دلت عليه الآية من أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قيامه متفاوتاً في طوله وقصره، على حسب ما تيسر له، وعلى حسب طول الليل وقصره، فقد سهَّل الله تعالى عليهم غاية التسهيل بقوله: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) أي: لن تطيقوه فغفر لكم تقصيركم الغير مقصود. وقوله تعالىوَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) معترضة لبيان أن الله تعالى هو وحده المقدر لمقادير ساعات الليل والنهار، وهو من باب ترسيخ الإيمان ولفت انتباه المؤمن أن الله تعالى هو المدبر والمصرف للكون والمقدر لأزمانه. فقوله تعالى (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) مؤكد على أن الله تعالى هو وحده القائم على عد مقادير الليل والنهار وإحصائها والإحاطة بها. وخفف الله تعالى بقوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ)، أي: فاقرؤوا ما تيسر لكم قراءته من القرآن، وحمل جمهور المفسرين والفقهاء هذا على صلاة الليل. وقوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى) وإذ علم الله شأنكم سيكون منكم مرضى لا يستطيعون المواظبة على قيام الليل. (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) أي: وعلم أن آخرين منكم يضربون في الأرض من أجل معايشهم واكتساب أرزاقهم بأعمال مختلفات، منها الفلاحة، والصناعة، والتجارة، وغير ذلك، والضرب في الأرض السير فيها. (وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يعني الغزاة والمجاهدين فلا يطيقون قيام الليل، فالله تعالى جمع في الآية بين السعي في الأرض لطلب الرزق الحلال، وبين الجهاد في سبيله، للإشعار بأن الأول لا يقل فضله عن الثاني متى كانت النية صالحة ولم يتورط في التكاثر عن ذكر الله وعبادته. والآية علم من أعلام النبوة، (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ): تأكيد، وحث على قيام الليل بما تيسر، لتكونوا على صلة بربكم. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)
يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها. (وَآتُوا الزَّكَاةَ) قال ابن كثير:"وهذا يدل لمن قال إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبيَّن إلا بالمدينة". (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) والقرض الحسن الذي يكون خالصاً لله، خالياً من المَنِّ والأذى.
(وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق". (وَاسْتَغْفِرُو اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(20) وفائدة الأمر بالاستغفار هو جبر النقص الواقع في فعل الطاعة، أو لعدم فعلها.
هذه السورة متآخية مع السورة التي قبلها في النزول "المدثر" في الافتتاح بخطاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصدر كليهما نازل في قصة واحدة.
بدئت سورة المدثر بالإنذار، وختمت به بقوله تعالى (فما لهم عن التذكرة معرضين)، ثم كشفت نهايات السورة عن الحسد الذي أودى بهم إلى الكبر ألاَّ يأتوا إلى سماع التذكرة، فالقرآن تذكرة بليغة كافية، ونعمة كبيرة، وفيه من الهدى والحق ما يؤكد عظم هذه النعمة التي نسب النبي لأجلها من حسَّاد قومه إلى الجنون. ومعلوم أن الجنون يتنافى مع الدعوة الصحيحة التي تبيَّن للناس أهمية العلم والتعلم. لذا نزلت سورة القلم تحث على القراءة والتدبر، واستخدام وسيلة القلم في الكتابة.
والسؤال كيف يوصف من يدعو إلى القراءة والكتابة والتعلم بالجنون؟ الجواب أنه ما وصف بالجنون من باب حثه على القراءة والكتابة والتعلم بل من باب البغض والكراهية للعلم النافع الذي فيه كلام الوحي، لذا ختمت السورة بقوله تعالى (وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(5 2)
وأن الكفار إذا سمعوا الذكر شخصت أبصارهم نحو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويرمونه بالجنون.