قراءة في تفسير سورة المدثر
الشيخ هشام العارف

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد...؛
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "لما أُمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يقرأ أنزل عليه بعدها المدثر، لأجل التبليغ فقيل له (قُمْ فَأَنذِرْ) فبالأولى صار نبياً، وبالثانية صار رسولاً".
كان ذلك وله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العمر أربعين سنة، وجاء في "صحيح السيرة النبوية: "ثم حمي الوحي بعد هذا وتتابع؛ أي: تدارك شيئاً بعد شيء. وقام حينئذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الرسالة أتم القيام، وشمر عن ساق العزم، ودعا إلى الله القريب والبعيد، والأحرار والعبيد، فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد.
فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق، ومن الغلمان علي بن أبي طالب، ومن النساء خديجة بنت خويلد زوجته ـ عليه السلام ـ ، ومن الموالي مولاه زيد بن حارثة الكلبي ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ".
و(الْمُدَّثِّرُ): أصلها: "المتدثِّر" أدغمت التاء بالدال فصارتا دالا مشدّدة. يقال لغة: تدثَّر يتدَّثر تدثُّراً، إذا لبس الدِّثار، أو تغطى به، والدِّثار: الثوب الذي يكون فوق الشِّعار، ويطلق أيضاً على الغطاء، ويجمع على دُثر، أما الشِّعار فهو الثوب الذي يلي جسد الإنسان، دون ما سواه من الثياب. وبهذا الأمر الرباني لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ) بدأت الوظيفة الربانية بالدليل على ما تؤول إليه باقي الوظائف التالية: وهو إنذار الناس بعذاب الله، بسبب ما هم فيه من الإشراك بالله وعبادة غيره، وعطف عليها أوامر أخرى: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي: عظِّم، وتكبير الرب: تعظيمه، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "الله أمر بطهارة القلب، وأمر بطهارة البدن، وكلا الطهارتين من الدين الذي أمر الله به وأوجبه". وكما تتم المحافظة على طهارة البدن والثياب باستعمال الماء، تتم المحافظة على طهارة وسلامة القلب من الشرك بالتوحيد الخالص لله، وطهارته وسلامته من الذنوب والمعاصي بالتوبة النصوح والاستغفار، لذا قال: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5) قال ابن أبي زمنين: "أصل الرجز: العذاب، فسميت الأوثان رجزاً؛ لأنها تؤدي إلى العذاب". ولكونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الوظائف القائم عليها، مجتهداً على العمل الصالح، نبهه الله عز وجل بقوله: (ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6)يعني: ألاَّ يمنن على ربه من أن يستكثر من عمله الصالح. قاله: الطبري. ولمّا كان العمل الصالح لا يكلل نجاحه في أكثر الأحيان إلا بالصبر قال: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ(7)فالصبر عبادة لله، وخلق محمود أمر به الله عز وجل في كتابه العزيز، وأرشد إليه نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ علماً وعملاً. ولمّا كان من الواجب على الدعاة إلى الله على بصيرة إنذار أهل الشرك والضلال ليسمعوا كلام الله، كان لا بد من النقر والقرع المستمر لدعوتهم إلى توحيد الله وعبادته، فمن لم يدرك منهم معنى النقر المستمر في الدنيا بدعوته إلى الحق، فإنه بلا محالة سوف يدرك ذلك عند النفخ في الصور لذا قال: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8)والناقور: فاعول من النقر؛ كأنه الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب: الصوت، وإذا اشتد الصوت أصبح مفزعاً. وقد فزع زرارة لما بلغ هذه الآية، فعن بهز بن حكيم قال: "أمَّنا زرارة بن أوفى ـ رضي الله عنه ـ في مسجد (بني قشير) فقرأ (المدثر) فلما بلغ(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ)خرَّ ميتاً، وكنت فيمن احتمله إلى داره".واعلم أن ما بعد النقر يوم عسير (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9)أي: صعب شديد (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10)لكنه يهوَّن على المؤمن ذلك اليوم "كتدلِّي الشمس للغروب إلى أن تغرب". وفي رواية: "يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار".والله تعالى خالق الناس من عدم، وهو وحده المتصرف في شأنهم، الخبير بحالهم، المنعم عليهم بالخيرات والرحمة، فمن ابتلي منهم بدعوة الحق فصدَّ عنها فقد عرَّض نفسه للعقاب لذا قال: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11)للتهديد والوعيد، والغرض كسر كبرياء من جحد نعم الله، ولم يتفطَّن لأهمية دعوة التوحيد، مع أنه كما قال ابن كثير: "خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد".ولمّا كانت الدعوة في أول بعثتها فقد تكفل الله تعالى بعلاج من صدَّ عنها، فقال هنا: (ذَرْنِي) أي: اتركني، فأنا أكفي عقابه وشأنه كله. وقد تقدم في سورة العلق بيان اتصاف الله تعالى بغاية الكرم الذي لا شيء فوقه، ولا نقص فيه. فإذا تعرض الإنسان في هذه الدنيا للابتلاء فلا يجوز له أن يطغى، لأنه محتاج إلى ربه الذي أوجده من العدم، ومدَّه بالمال، (وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا(12)فماله: مبسوطاً، واسعاً، نامياً، كثيراً جداً، عاماَ لجميع أوقات وجوده. ولمّا كان أول ما تمتد إليه النفس بعد كثرة المال؛ الولد، وكان أحب الولد الذكر، قال: (وَبَنِينَ شُهُودًا(13)وفي هذه الآية بيان نعمة أخرى عليه بعد الولد، أن البنين شاهدين حاضرين ليسوا غائبين عن مكان إقامته، فهم أعوانه، وأنصاره يستعين بهم. ولا شك أن الغافل عن الابتلاء، يغفل عن الاستدراج لذا قال: (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا(14)عطاء بعد عطاء، أي: بالتدريج، ومعنى التمهيد: البسط، والتسوية، والتسهيل، إلى أن تمكَّن من صنوف المال والأثاث، إلى أن صار إلى طلب المزيد منها على غفلة واستدراج (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15) فالطمع: نزوع النفس إلى الشيء شهوة له. فعلى الإنسان أن يقنع ويحذر الطمع.
عن زيد بن أرقم قال: "لقد كنا نقرأ على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغى إليهما آخر، ولا يملأ بطن ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".
وجاء الزجر للعناد (كلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا(16)نقل البقاعي عن الملوي قوله: والعناد "من كبر النفس، أو يبس الطبع، وشراسة الأخلاق، أو خبل العقل، وقد جمع ذلك كله إبليس ... ومنه مخالفة الحق مع المعرفة أنه حق". من أجل ذلك إذا جاءك الحق، كن سهلاً ليناً في قبوله، والعمل به، واشرح صدراً له، ولا تخالف، ولا تشق على نفسك وتحمِّلها بعنادك الغليظ، وخلقك المشاكس؛ ما لا تحتمل، وإلا فسيكون العقاب من جنس العمل لذا قال: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا(17)فمن انحرف عن طريق الإيمان السهل الميسر، فإنه يندبُّ بلا أدنى شك في طريق وعر شاق مبتوت.والصعود: الذهاب في المكان العالي، ففي الآية مشهد من العذاب لمن اتخذ طريقاً غير طريق الحق، وهي تمثيل لضد الحالة المجملة في قوله: (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا)ولم يكتف هذا اللئيم بالإعراض عن دين الله ودعوته، بل ذهب يحاربها، ويسعى في إبطالها، (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18)وفيها زيادة توبيخ وتشنيع، لفضح طريقة أهل العناد الجهلاء، وهي طريقة بعيدة كل البعد عن التفكير العاقل، والتقدير الصواب. فالتفكير، والتقدير، والقياس، والتدبير، الذي يعتمده الفيلسوف للوصول إلى الحكمة ـ المزعومة ـ برأيه؛ يبعده عن نور النبوة، لأن الرسل والأنبياء حكماء، وحكمتهم نابعة مما أوحاه الله لهم، والعلم النافع الذي ينشره الأنبياء بين الناس، والعقيدة التي يدعون إليها، والدعوة التي يقومون بها، لا تنبع من ذكائهم، أو حميَّتهم، أو تألّمهم بالوضع المزري الذي يعيشون فيه، أو من شعورهم الدقيق الحسِّاس، وقلبهم الرقيق الفياض، أو تجاربهم الواسعة الحكيمة، لا شيء من ذلك، إنَّما مصدره الوحي والرسالة التي يصطفون لها ويكرمون بها، فلا يقاسون أبداً على الحكماء أو الزعماء أو المصلحين وجميع أصناف القادة التي جربتهم البشرية وتاريخ الإصلاح. لذا كرر العبارة تأكيداً لذمه، وتقبيحاً لحاله، ولغاية التهكم به (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)كأنه قال: قاتله الله ما أروع تفكيره!!!! وأبدع رأيه الحصيف!!! فالعرب تقول: قتله الله ما أشجعه، واخزاه الله ما أشعره، يريدون بذلك أنه قد بلغ مبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك. فهو كما قال صاحب "الكشّاف": "ثناء عليه بطريق الاستهزاء والتهكم، بمعنى: أن ما أتى به في غاية الركاكة والسقوط".
فهؤلاء المفكرون أصحاب الرأي، المستقلون في آرائهم ـ أو في بعض آرائهم ـ عن الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، يكلَّفون الصعود، فهم في صعود لأنهم كلَّفوا أنفسهم كلما جاءهم الحق، فهم يسيرون في جبال وعرة شاهقة بسبب استحسانهم رأيهم المخالف لصريح الكتاب والسنة.
(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)تكرير للمبالغة، قال الألوسي:"ليدل على غاية التهكم به وبمن فرح بمحصول تفكيره". ثم بعد أن فضح الله مكنون فكره انتقل إلى فضح ما ظهر من آثار ذلك على تصرفاته في توصيف بديع يثير في النفوس السخرية من شقاوته فقال: (ثُمَّ نَظَرَ(21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22)أي: قطب وجهه، وكلح وجهه، من أثر الاستياء في النفس.(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ(25)ولمّا انقضى بيان تفاصيل عناده تشوَّق السامع لبيان تفاصيل جزائه فقال تعالى:(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26)يقال لغة: سقرته الشمس إذا ضربت دماغه بحرِّها وأذابته. والإصلاء: جعل الشيء صالياً، أي مباشراً حر النار، وفعل "صلي" يطلق على إحساس حرارة النار. وسَقَر: اسم من أسماء جهنم، ثم أعلم الله ـ تعالى ـ شأن سقر في العذاب فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(27)
استفهام يراد به التعجيب من شدة هول "سقر" وعظمتها. وقد هدَّد الله بها من تجرأ على دينه، والتهديد بها مناسب مع الإنذار، وقد أنذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنار، فعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال: "سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب، يقول: "أنذرتكم النار، أنذرتكم النار". حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه".
والحديث يبيِّن أهمية الإنذار بعذاب الآخرة، ليمكن الرهبة في اعتقاد المؤمن بربه، وزاد هنا تفسير حالها بقوله:(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ(28) قال ابن جرير: "(لا تُبْقِي) من فيها حياً، (وَلا تَذَرُ) من فيها ميتاً". وهي أيضاً: (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ(29) أي: تحرقهم كلما جدِّد خلقهم. وعن أبي رزين وهو مسعود بن مالك قال: "تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سواداً من الليل".وبعد وصف الله عز وجل لشدة النار، ذكر عدد ما عليها من الملائكة الزبانية الموكلون بها فقال: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(30) يتولون أمرها، فهم خزنتها، يوقدونها وينفذون ما يكلفهم الله تعالى في شأنها. ولهم أعوان من الملائكة لا يعلم بعددهم إلا الله، ولكي لا ينصرف المؤمن بتخمينه إلى أنهم من جنس الجن، أو من جنس البشر، قال:
(وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ ملائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُون َ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ(31)
تقدم في سورة العلق ذكر الملائكة ـ وهم أعظم جنود الله ـ على أنهم زبانية، يعني: الشداد الغلاظ من ملائكة الله تعالى. هدَّد الله بهم أبا جهل، سمًّوا زبانية، لقوتهم، يقال: زبَنَه إذا دفعه بشدة وعنف.
وخزنة النار يعذبون أهلها، فقوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا) أي: على ما لنا من العظمة جعلنا (أَصْحَابَ النَّارِ) ملائكة شديدي الخلق لا يقاومون ولا يغالبون، ولا يقاسون على السجَّانين، ولهم من القوة والعظمة ما يجعلهم يدخلون النار ويخرجون منها ويعذبون أهلها، وهم سالمون من عذابها الأليم العظيم.
واعلم أن الملائكة ليس فيهم من يحب الكفرة بل يلعنونهم، ويلعنون من سبَّ الصحابة، ويلعنون من أشار إلى أخيه بحديدة، ويلعنون من يأوي محدثاً، ويلعنون من بات زوجها عليها غضبان.
وقوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي: ليكون اختباراً وابتلاء منا للناس. فضلَّ في هذا الاختبار الكفرة، فكأن الفتنة استهدفتهم، لأنه حصل لهم من ذكرها فساد تأويل. وكشف الابتلاء عن زيادة يقين الذين أوتوا الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ أن هذا القرآن حق، وما فيه صدق. وزاد الابتلاء من إيمان المؤمنين، وقوله: (وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُون َ) زيادة تأكيد، فإثبات اليقين ونفي الارتياب أبلغ وآكد في وصف أهل الكتاب لأنهم جزموا بذلك، وفي وصف المؤمنين لأنهم بلغوا كمال التصديق.والفتنة كشفت عمَّن في قلبه مرض وضعف إيمان،(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فانضموا إلى الكفرة (وَالْكَافِرُونَ)المصرّون على التكذيب باستفهامهم وتساؤلهم،فقالوا جميعاً: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً) أي: ما الحكمة في ذكر هذا ههنا؟ وسمّوه مثلاً لغرابته عندهم، ومرادهم إنكار أصله. ولما كان التقدير: أراد بهذا المتشابه إضلال من ضلَّ وهو لا يبالي، وهداية من اهتدى وهو لا يبالي، فقال جواباَ: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) حجة على المعتزلة والقدرية في أن الإضلال والمشيئة منه ـ سبحانه ـ.ولمّا كان ذكر خزنة النار يوهم قلة جنود الله أتبعه ما يزيل ذلك بقوله: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) فلو أراد الله أن يجعل جنود خزنة النار أكثر من هذا العدد لفعل، لكن دلّت نصوص الكتاب والسنة الصحيحة أن الملائكة خلق لا يحصيهم إلا الله كثرة.
فكان من رحمة الله تعالى بعد هذا العرض القوي، وهذا التخويف بذكر عدة خزنة جهنم إيذاناً لاختبار النوايا فتكشفت حقائق، فالذين كفروا لو أنهم رجعوا إلى ما تهديهم إليه عقولهم، لأدركوا أن الله الذي خلق كل شيء هو القادر على كل شيء، قادر لو شاء على أن يخلق ملكاً واحداً عظيماً جداً يكفي للتعذيب، فالأمر ليس أمر عدد مكلفين بالتعذيب، إنما هو بيان لأمر قضت به إرادة الخالق المستندة إلى حكمته وعلمه.
وأهل الكتاب من هؤلاء يفيدهم يقينا بصحة رسالة الرسول، ويكون هذا اليقين حجة عليهم، والمؤمنون يزدادون إيماناً، والمرتابون الذين في قلوبهم مرض والكافرون ومنهم أهل الكتاب يطلقون عبارات استفهام النكر المستهزيء.
فكان التذكير بالنار التي هي من أعظم جنود الله تعالى مهم في ختام الحديث عنها لذا قال: (وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ)، إشعاراً منه ـ سبحانه ـ أن الذي تقدم من إخبار عن النار وخزنتها ليس مجرد بيانات، بل هي تذكير للبشر، فعليهم أن يستحضروا دائماً ما أنذروا به من عذاب الله الذي أعظمه نار جهنم. والله تعالى عبَّر عن الإنسان بالبشر اعتباراً بظهور جلده من الشعر والذي يتأثر جداً بلفحات النار ولهيبها، بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر أو الوبر. وزجر الله تعالى بقوله: (كَلاَّ وَالْقَمَرِ(32)فأقسم بالقمرالذي هو آية الليلتحذيراً من الارتياب في أهوالها وعظيم أمرها، ولمّا كان القمر يظهر أول الليل، والليل مستمر إلى ظهور النهار قال: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ(33) وأقسم بالليل إذا ولَّى وذهب. ولمّا كان بتولي الليل ظهور النهار قال: (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ(34)أقسم الله بهذه الأشياء الثلاثة: القمر، والليل، والصبح، تشريفاً لها، وتنبيهاً على ما يظهر بها، وفيها من عجائب الله وقدرته، وقوام الوجود بإيجادها، وفيها دليل ظاهر على المبدأ والمعاد. وبعد هذه الأقسام استأنف الله تعالى تعظيم النار والتخويف منها على أن جهنم إحدى البلايا الكبار والدواهي العظام لإنذار البشر فقال: (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ(35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ(36) جواب القسم، تأكيداً للتخويف، و(الْكُبَرِ): جمع كبرى، والمراد بها: الأمور العظام. قال الحسن: "والله ما أنذر الناس بشيء أوهى منها أو بداهية أوهى منها". ولمّا انتهى ـ عز وجل ـ من الإنذار جاء وعيده وتهديده فقال: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ(37)أي: لمن شاء أن يقبل النذارة فيعمل بطاعة الله ويهتدي للحق، أو يتأخر عنها فيعمل بالمعاصي فيستحق عذاب النار. ولمّا حصل الإنذار لكل أحدٍ ممن أقرَّ أو كفر قال: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38) قال أبو عبيد في "الغريبين": أي: محبوسة بكسبها. قالوا: وإنما كانت مرهونة لأن الله ـ تعالى ـ جعل تكليف عباده كالدَّين عليهم، ونفوسهم تحت استيلاءه وقهره، فهي مرهونة. فمن وفّى دينه الذي كلف به خلص نفسه من عذاب الله ـ تعالى ـ ومن لم يوف عذِّب". واستثنى الله تعالى مَن فكّوا رقابهم بحسن أعمالهم فقال: (إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39)فأصحاب اليمين وإن دخل منهم من دخل في نار جهنم فإنه يخلص منها، ويخرج من عذابها لأنهم ماتوا على التوحيد.ولمّا عُرف أن أصحاب اليمين لا يرتهنون بأعمالهم، بل يرحمهم الله ـ تعالى ـ قال: (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(4 0)جاء لفظ (جَنَّاتٍ) منكّراً للتنويع والتكثير، أي: في جناتٍ كثيراتٍ ومتنوعاتٍ ومتفاضلاتٍ بحسب أحوال دار النعيم، (يَتَسَاءَلُونَ) أي: يسأل بعضهم بعضاً. (عَنْ الْمُجْرِمِينَ(4 1)فبعد أن خرج أهل التوحيد جميعاً من النار قال المؤمنون لمن بقي في عذاب النار من المشركين: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)سؤال توبيخ لهم وتحقير لإدخال الحسرة على نفوسهم، وإلا فإنهم عالمون ما الذي أدخلهم النار، إنهم لم يكونوا متصفين بخصائل الإسلام، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم ارتقوا من ذلك إلى الأعظم، وهو الكفر والتكذيب بيوم الجزاء.
وهذا يشبه من زار مخالفاً في السجن بعد أن حذره من العقوبة فقال له: ما الذي أدخلك السجن؟
وفي الآية (مَا سَلَكَكُمْ) أي: أدخلكم أيها المشركون إدخالاً في غاية الضيق، حتى كأنكم السلك في الثقب، وهذا يعني أنهم في الدنيا بعد الإنذار اختاروا بمحض إرادتهم الباطل، فأجرموا في حق أنفسهم المفطورة على الحق، فبدلاً من أن يأتوا بها إلى رحاب الجنة، زجّوا بها ـ بعنف وشدة وقهر ـ في سقر. فلمّا وصلوا هناك إلى القناعة من صدق ما وعد الله، وصاروا إلى البرهان اعترفوا ذاكرين علة دخولهم النار. (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)وفي اعترافهم (لَمْ نَكُ) حذفوا النون الدالة على ما هم فيه من الضيق عن النطق، قال البقاعي: "وكان ذلك مشيراً إلى عظيم ما هم فيه من الدواهي الشاغلة بضد ما فيه أهل الجنة من الفراغ الحامل لهم على السؤال عن أحوال غيرهم". وفي الآيات من الأدلة على أن الكافر مطالب بفروع الشرع مع أصوله. وقولهم: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) قال ابن كثير: "أي: نتكلم فيما لا نعلم". وأصل الخوض الدخول في الماء وتحريكه، يقال: خاض البحر يخوضه، ثم استعير للجدال الباطل، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه. واعترف المجرمون أخيراً برأس البلايا فقالوا: (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) وإنما أُخر التكذيب بيوم الدين تعظيماً له، لأنه أعظم جرائمهم وأفحشها، فلما اختل فعلهم بهذا اختلت باقي أفعالهم، واستمر الخلل باقياً، فما زالوا على المنكرات والضلال، إلى أن جاءهم الموت. (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)قال الشيخ السعدي: "فلما ماتوا على الكفر تعذرت حينئذ عليهم الحيل، وانسدَّ في وجوههم باب الأمل". إلاَّ أنهم لمّا رأوا أن الملائكة شفعت، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، تعلقوا بالشفاعة فجاء قطع رجائهم تبكيتاً لهم بقوله تعالى: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48)ولمّا كان الذي سلك بهؤلاء إلى سقر هو الإعراض عن القرآن؛ وما فيه من العظة والتذكرة قال: (فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49)ذلك من أعجب العجب، قال البقاعي: "فإعراضهم هذا دليل على اختلال عقولهم واختبال فهومهم".فبعد أن أمر الله تعالى بالقراءة والكتابة والتعلم في سورة العلق، بل كرَّر الأمر فيها بالقراءة تنبيهاً على التزام أقوى أسباب السعادة. نزل قوله عز وجل في سورة المدثر: (فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49). وفيها التعجيب من أمر نفورهم دون مقتض لهذا النفور، والسؤال الآن: ما الذي يدعوك أيها المخاطَب أياً كنت، من أي ملَّة أنت؛ الإعراض عن ذكر الله تعالى؟ أي شيء يحملك ألاَّ تأتي مجالس العلم النافع فتتعلم دين الله ـ تعالى ـ وتتعلم توجيهاته وإرشاداته؟ هل تنتظر أن تكون بعد هذه الدعوة في صفوف المجرمين الذين كان من مقالتهم: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)؟ فمن ترك مجالس العلم النافع وقع في مشاركة أهل الباطل في الباطل.فاللائق بك أن يكون عندك اهتمام بطلب العلم النافع، تتطلبه؛ لا تفرُّ منه، لأن الفرار من طلب العلم النافع دليل الجهالة والضلالة لذا شبههم الله بالحمر فقال: (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(5 0)جمع حمار، قال ابن عطية في المحرر: "إثبات لجهالتهم لأن الحمر من جاهل الحيوان". ومعنى (مُسْتَنْفِرَةٌ): مذعورة أُستنفرت فنفرت، ثم أشار الله إلى ما أفزعها فاضطرها للفرار فقال: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ(51)
قال الشنقيطي: "في هذه الآية تشبيه المدعوين في إعراضهم عن الدعوة والتذكرة بالحمر الفارة من الصيادين أو الأسد، وقد شبه أيضاً العالم غير المنتفع بعلمه بالحمار يحمل أسفاراً، فهما تشبيهان بالداعي والمدعو إذا لم تنفعه الدعوة".
ولمّا كان الجواب قطعاً: لا حجة لهم في إعراضهم عن التذكرة، أضرب عنه تعالى ليكشف حقيقة ما في نفوسهم من الكبر الذي أصله الحسد فقال: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً(52)ونشَّر الصحف بتشديد الشين، أي: زاد في بسطها، والغرض منه السعي للإعلان من أجل الوصول إلى المجد والشهرة، إنه الحسد الذي أودى بهم إلى الكبر ألاَّ يأتوا لسماع التذكرة وحضور مجالس العلم النافع، إنه الكبر الذي صار حاجزاً صنعته نفوسهم الحاسدة المستكبرة ألاَّ يأتوا يسمعوا كلام الله المنزَّل وما يبيِّنه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم كشف الله حقيقة أخرى أصَّلت الذي في نفوسهم من أمراض ومنعت من معالجتها ألا وهي عدم الإيمان بالآخرة فقال: (كَلاَّ بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ(53)فحسدهم وكبرهم وعدم خوفهم من الآخرة علل كانت السبب في انصرافهم عن مجالس العلم النافع، واستعمل الردع والزجر (كَلاَّ) لأنه قال في سورة العلق: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)، فهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء، ولا يخشون العقاب، لإيثارهم العاجلة. (كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ(54)وكرر ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال: إن القرآن تذكرة بليغة كافية، وقيَّد انتفاعهم بالقرآن بالمشيئة فقال: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(55)فمن شاء أن يذكره ولا ينساه فعل، فالباب لا زال مفتوحاً، والفرصة ما زالت متاحة، والابتلاء ما زال قائماً، وعلَّق مشيئة العبد على مشيئته سبحانه فقال: (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)فمشيئته سبحانه نافذة، فما على العبد المسلم إلا أن يَتقي الله تعالى فيما أمر وفيما نهى، لأنه عز وجل أهل ليتقى عقابه، فإذا وقع العبد المسلم في الخطأ أو المعصية أو ضلَّ فعليه أن يرجع إلى ربه عز وجل بالتوبة والاستغفار لأنه تعالى أهل لأن يَغفر له. لذا ختم السورة بقوله: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ(56)