تشابه الآيات في القرآن
عدنان عبد القادر



فالمسلم عندما يقرأ كتاب الله - تعالى -فربما يقف عند بعض الآيات، ويرى فيها نوع من التشابه،
خاصة من حفظ كتاب الله - عز وجل -، وربما إذا ما قرأ عن ظهر قلب تختلط عليه الآيات، فمثلاَ عندما يقرأ في قصة موسى في سورة الأعراف عندما قال الملأ لفرعون: (وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم)، بينما إذ ما قرأها في سورة الشعراء عن نفس المجموعة يقول الله- تبارك وتعالى -: (وابعث في المدائن) بينما في سورة الأعراف (وأرسل حاشرين) (يأتوك بكل سحّار عليم)، بينما في سورة الأعراف (بكل ساحر عليم). كما قال - تعالى - في سورة الأعراف أن السحرة سجدوا لله- تبارك وتعالى -فقالوا: (آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون)، وكذلك في سورة الشعراء قال - تعالى -: (رب موسى وهارون)، ولكن في سورة طه قال - تعالى -: (رب هارون وموسى)، لماذا قـُدّم الله- تبارك وتعالى -هارون عن موسى في هذه السورة؟
الأصل أن موسى هو الذي يتم تقديمه عن هارون؛ وذلك لأنه هو رسول، ونبي بينما هارون هو نبي فقط وتابع لموسى، ولكن ما حصل في سورة طه فهو العكس، لماذا؟ في سورة طه يجب أن نعرف مغزى هذه السورة؛ كي نعرف، أو نتوصل إلى البلاغة، أو الغاية، والحكمة، ما هو الموضوع التي تتكلم عنه هذه السورة؟ فلكل سورة وحدة موضوعية، فسورة طه تتكلم عن الدعوة، وطريقتها، ووسائلها.
فعندما يقرأ الإنسان منذ البداية قال - تعالى -: (طه) أحرف عربية للتحدي، (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى) فهذا القرآن تذكرة للدعوة تدعو الناس، (تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلا) لم يقل الله - سبحانه - إنزالاً، وهناك اختلاف بينهما فالإنزال هو مرة واحدة، أما التنزيل فهو التدرّج، فكأن الدعوة هي للتدرج، فدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم – متدرّجة.
ومن رحمة الله- تبارك وتعالى -بالعباد أيضاً أن قدّم الأرض على السماء، وإلا غالباً تقدّم السماء على الأرض، لـِمَ؟ قيل من الحكم التي قُدّمت الأرض في هذه الآية كذلك في سورة يونس، وهود؛ وذلك لأن الله في هذه السورة أراد أن يجبر خاطر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - من ساكني الأرض فرفع الله - عز وجل - من شأن الأرض؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سكن هذه الأرض.
سورة طه تتكلّم عن الدعوة، لذلك الله - عز وجل - عندما أتى موسى وشعر بالخوف ماذا قال الله - عز وجل - له؟ الله- تبارك وتعالى -خفّف من هذه الحِدّة التي شعر بها موسى ومن هذه الرهبة قال - تعالى -: (وما تلك بيمينك يا موسى)، فلاحظ كيفية الدعوة الآن، الله - عز وجل - كيف أخذ يكلّم موسى - عليه السلام - بعد أن دخل في قلبه الروع فأدخل في قلبه الأمن، وكيف تكلّم وتدرّج معه؟ قال - تعالى -: (هي عصاي -نوع من التلطف مع موسى - عليه السلام - أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي –أي: لتتساقط بها أوراق الشجر لتأكل منها الغنم-* وليَ فيها مآرب أخرى * قال ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى -فهذا تلطف لم يقل الله في البداية ألق العصاة- *قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى)، وقال الله لموسى - عليه السلام - في بداية الآيات عندما أتى موسى لكي يأخذ القبس قال - تعالى -: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) عندما تأتي لأخ وتقول له: لقد اتصلت بك دوناً عن غيرك، فهنا يشعر إنك خصصته بهذا الاتصال، فهذا إن كنت مخلوق فكيف إذا ما كان هذا المتصل وزير أو وكيل أو ملك، لا بل ملك الملوك، فهنا كيف سيشعر موسى - عليه السلام -؟ لذلك تهيأ موسى لتلقي الرسالة، وإنه مستعد لأن يسمع ما يوحى إليه، ثم قال - تعالى -: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري * إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) إلخ... الآيات تتكلم عن موضوع الدعوة، لذلك عندما أرسل الله - عز وجل - موسى لفرعون قال: (رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من لساني) إلى قوله - تعالى -: (واصطنعتك لنفسي)، هنا الله - سبحانه وتعالى - يقول لموسى - عليه السلام -: أنت من خاصتي، فله - عليه السلام - مكانة عليا عند الله، فكيف لا يستجيب موسى وهذه الكلمات الجميلة من الله - عز وجل - له؟ فالله - عز وجل - خاطب موسى بهذا الأسلوب، فكيف بنا نحن؟ فالله - سبحانه وتعالى - خاطب أفضل رجل على وجه الأرض في ذلك الوقت، فكيف بنا نخاطب الناس من هو أقل من موسى - عليه السلام -؟ فيجب علينا أن نخاطب بطريقة فاضلة، فوضح لنا الطرق التي ندعو بها الناس. فالله- تبارك وتعالى -أثناء هذا الكلام قال في قصة السحرة عندما سجدوا لله - عز وجل -، وهي كالآتي: عندما دخل قالوا: (رب هارون وموسى)، عندما أرسل إلى فرعون مع هارون دخلا على فرعون فدعاه إلى الله- تبارك وتعالى – وإلى بني إسرائيل، رفض فرعون وأخذ يناقش موسى: ما رب العالمين؟ فقال له موسى: (رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آباءكم الأولين)، كأنما هنا موسى يُشعِر فرعون إنه يدعي الألوهية، فآباؤك قد ادعوا الألوهية سنين وهم الآن تحت الأرض في القبور، فهؤلاء لا يستحقون الربوبية، فإذاً أنت لا تستحق الربوبية، فمصيرك كمصيرهم، فقد تكلم معه بكلام لكي يحرجه، (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) أي: إن كنت مجنون، فأنتم أصحاب عقول.
فهذا النقاش حصل بين موسى وفرعون، ثم بعد هذا النقاش قال فرعون: ( فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى) وفي آية أخرى في سورة الأعراف قال - تعالى -: (وأرسل في المدائن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم)، حاول فرعون أن يجهز الناس، وأن يقفوا صفاً واحداً أمام موسى - عليه السلام -، ففرعون لم يستشر قومه يوماً ما، لكن في هذه الحالة (قال للملأ حوله إن هذا لساحرُ عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون)، فالغريب بأمر فرعون إنه لم يتفوه بهذه الكلمات من قبل، ولكنه عندما رأى الآية العظمى التي أتى بها موسى - عليه السلام -، حاول أن يجمع الناس حوله؛ لأنهم كادوا أن يتفرقون عندما رأوا الآية العظمى، فلهذه المشورة حاولوا أن يتجهزوا لها؛ لأنها بظنهم أنها فرصة، ويريدون أن يغتنموها، سورة الأعراف تتكلم عن موضوع البشارة والنذارة والرسالة، فلذلك نجد تكرار كلمة أرسل، أرسلنا في الآيات. فمثلاً نجد في سورة البقرة (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء)، وفي سورة الأعراف (فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون)، وقال - تعالى -: (وأرسل في المدائن حاشرين * يأتوك بكل ساحر عليم)، الإرسال: هو كما وقف النبي - عليه الصلاة والسلام - في القوم، وقال لهم: واصباحاه..إلخ، فيأتيه القوم ويبلغهم ما يريد، لكن الموضوع في سورة الشعراء تبيان لمكانة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى، ومهما تحدى الناس النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الله سينصره إلى قيام الساعة، لذلك في بداية السورة تتكلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - تعالى -: (لعلك باخعٌ نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين)، وكذلك في نهاية السورة قال - تعالى -: (نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين) فكلمة على قلبك فيها نوع من اللطف، وفيها تبيان لمكانته - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك في نهاية السورة قال - تعالى -: (وتقلّبك في الساجدين) أي: دائماً أنت تذكر على لسان الساجدين، فدائما اسمك يتقلب على لسان الساجدين.
لذلك لما حصل النقاش بين فرعون وموسى فدعا قومه للوقوف معه فقالوا له: (فابعث في المدائن حاشرين)، نحن نعلم أن اللغة العربية تتعامل بطريقة اللفظ، أي يعرف معنى الكلمة عن طريق اللفظ بها، فحرف الثاء للانتشار والكثرة، أي: فقولهم: كث، أي كثير منتشر، (فابعث) أي: ابعث الرسل الكثيرين إلى كل القرى، حتى بعد ذلك يخرجوا السحرة من باطن الأرض، فإن بعثوا إلى تلك القرى، ومحصوا تلك القرى، وأخرجوا لك السحرة فسيخرجون أعظم السحرة، وأعظم السحرة لا يقول له ساحر، بل سحّار أي: صاحب علم دقيق بالسحر، فناسبت كلمة ابعث لكلمة سحّار، وأرسل ناسبت كلمة ساحر، فالإرسال على العموم، لكن ابعث كأنه يحفر بباطن الأرض حتى يخرج أولئك السحرة.
فالشاهد من هذا، أنه حصل النقاش واتفقوا على يوم، فأتى موسى - عليه السلام - وكان هذا اليوم مناسب له؛ لأن في هذا اليوم كل الأمة تجتمع، فاجتمعت الأمة القبطية في هذا اليوم، فأتى فرعون على عرشه، وحوله الوزراء والحشم، والأمة كلها تنادي باسم فرعون، وموسى وهارون - عليهما السلام - لوحدهما قال - تعالى -: (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم ثم أتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى * قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم إنها تسعى) فهذا سحر التخييل بحيث أن الكل يرى أن الحبال تسعى، ثم قال تعالى: (فأوجس في نفسه خيفة موسى) أي: شعر موسى بالخوف، واضطرب قلبه، ففي هذه اللحظة لا تستطيع أن تقول له ألقي عصاك، وذلك تخيّل معي عندما تكون في وضع فيه نوع من الاستعجال والربكة والرهبة وتريد المفتاح وهو بيدك، ولكن من شدة الارتباك لم يشعر إنه بيده، فكذلك بالنسبة لسيدنا موسى - عليه السلام - لو قيل له: ألق عصاك، فربما سأل وقال: أين العصا؟ ولكن الله - عز وجل - لم يقل لموسى - عليه السلام -: ألق عصاك، ولكن قال: (وألق ما في يمينك) مهما كان ما في يمينك سواء كانت عصا أم غيرها ثم قال - تعالى -: (تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى) فتخيلوا أن الساحة كلها ثعابين المتخيلة، فإذا العصا قد تحولت إلى ثعبان عظيم، قد التقم هذه الثعابين أو الحبال في لحظة واحدة، قال - تعالى -: (تلقف)؛ لأن المعروف أن الحية لا تلقف؛ لأنها أولاً تضرب بالسم ثم بعد ذلك تبتلع ضحيتها، ولكن حية موسى شيئاً آخر؛ فقد لقفت في لحظة واحدة، ومنها شعر السحرة بأن هذا الأمر شيء عظيم، وأن هذا ليس بسحر، وإنما هو من عند الله- تبارك وتعالى -؛ لأنهم أصحاب السحر، ويعلمون دقته وعظم هذا السحر، فسجدوا لله، قال تعالى: (فألقي السحرة سجدا * قالوا آمنا برب هارون وموسى) (وقالوا رب هارون وموسى)، لِمَ؟ هذه السورة تتكلم عن الدعوة، وأن صاحب الدعوة الله يرفعه درجات، فمن نهى عن المنكر وأمر بالمعروف يُرفَع درجات عند الله تبارك وتعالى، ففي هذه السورة لم يذكر الله - عز وجل - عن هارون.
أما في سورة الأعراف عندما ذهب موسى للقاء الله- تبارك وتعالى -بعد أن نجى الله بني إسرائيل، فاتخذ قوم موسى ذلك العجل وعبدوه، فلما رجع موسى قال - تعالى -: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه) ماذا قال هارون؟ (قال يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين).. (إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) هل هذه الآية فيها دليل صريح بأن هارون أمر بالمعروف ونهى عن المنكر؟ لا. ربما كاد هارون يأمر بالمعروف وكاد ينهى عن المنكر، ولكن خاف عندما تجمع القوم قال: (إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني)، فلا توجد دلالة صريحة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكن في سورة طه يختلف قال موسى - عليه السلام - عندما رجع إلى قومه قال - تعالى -: (وما أعجلك عن قومك يا موسى * إلى قول الله - تعالى -: (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري... إلى قوله - تعالى –(قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) فهذه فتنة وهذا كفر، فهنا أمر هارون بالمعروف ونهى عن المنكر فرفع الله- تبارك وتعالى -من شأن هارون - عليه السلام - فقدمه على اسم موسى، ولأنه لا يخطر بالبال أن هارون هو أفضل من موسى.
فالكلب أجلّكم الله عندما صاحب أهل الكهف الله - عز وجل - رفع من شأنه قال - تعالى -: (وكلبهم باسط ذراعيه بالوسيط)، فعندما صاحب أهل المعروف والناهين عن المنكر الله رفعه - عز وجل -، وهو كلب، وذكره تكريماً له؛ لأنه شارك المؤمنين، وخرج معهم يحفظهم ويحرسهم.
فكيف بنبي من الأنبياء؟ فرفع الله- تبارك وتعالى -من شأنه فقدمه على ذكر موسى، ولكن قدم موسى عليه في آيتين أخرتين. وهذه حكمة، وهناك حكمة ثانية، وذلك أن كتب التاريخ دائماً ككتاب البداية والنهاية، تاريخ الطبري تجدون أول اسم مذكور هل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - أو آدم - عليه السلام -؟ آدم - عليه السلام - هو الذي يذكر قبل، فكتب التاريخ تتكلم عن التسلسل التاريخي، فسورة طه تتكلم عن التسلسل التاريخي فماذا قال لموسى؟ قال - تعالى -: ( قد أوتيت سؤلك يا موسى * ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) فلاحظوا التسلسل التاريخي، ولو أكملنا القراءة لوجدنا أنه يصلح أن يقدّم هارون على موسى؛ لأن هارون هو الذي ولد قبل موسى، فقدّم هارون على موسى؛ لأن المسألة فيها تسلسل تاريخي.
*عندما تقرأ قول الله- تبارك وتعالى -في سورة البقرة: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) بينما في سورة الأعراف قال - تعالى -: (إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا) الإنبجاس: هو بداية الظهور. فلماذا في سورة البقرة قال: انفجرت وفي الأعراف قال: انبجست؟.
قال بعضهم كالزمخشري: إن سورة الأعراف سورة مكية فهي في بداية الدعوة، فلذلك قال - تعالى -: فانبجست، بينما سورة البقرة سورة مدنية فالآن انتشار الإسلام، فلذلك قال - تعالى -: فانفجرت. لكن ما هو أحسن من هذا هو أن الله- تبارك وتعالى -في سورة الأعراف قال: (إذ استسقاه قومه) عندما طلبوا من موسى وهو المخلوق قال: فانبجست، وهذه إحدى العطايا، ونعمة من النعم، لكن عندما نسب الله - عز وجل - الطلب إليه فذكر نعيم أعظم فقال - تعالى -في سورة البقرة: (وإذ استسقى موسى لقومه) فموسى هو الذي طلب من الله - عز وجل -، فعندما كان الطلب من الله أتى الخير سابق إلى هذه الأمة، فقال - تعالى -: (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا).
فلذلك أخي الكريم: إذا أردت أن تطلب فاطلب من الله - عز وجل -، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فالخير سيأتيك، ولكنك أنت لا تعلم أين الخير؟ ولكن الله - عز وجل - يعلم، فتأتي النعم سابقه لك، إذا أنت توجهت إلى الله - عز وجل -، ولكن إذا توجهت إلى مخلوق فتوقع ربما تُرَد، ربما تضايق، وربما تحرج، أو لربما يأتيك خير قليل جداً.
* قال - تعالى - لبني إسرائيل في سورة الأعراف: (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون)، بينما في سورة البقرة قال - تعالى -: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين).
قيل: أن القرية هي بيت المقدس، فالله - عز وجل - ذكر في سورة الأعراف تعنّت بني إسرائيل، فهو الذي نجّاهم، قال تعلى: (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.. )، فأخذوا يتعنتون على موسى تعنتاً شديداً، فعندما ذكر الله - عز وجل - هذا الأمر قال: (وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية)، فالإنسان حتى يسكن يحتاج إلى بحث عن سكن، وإن وجد السكن فلربما لا يعجبه، أو لا يعجب زوجته، وإذا عجبهما المنزل فيحتاج إلى فترة إلى ترتيب البيت، فالإنسان يتعب حتى يسكن، فالله - عز وجل - لما أشار إلى تعنّت بني إسرائيل قال: (اسكنوا) أي: لابد أن تكدوا، وتتعبوا، وتكنوا بعض الشيء في البحث عن كيفية الدخول، ثم بعد ذلك محاولة في السكن، فاجتهدوا في ذلك؛ حتى تسكنوا بعد ذلك. ثم قال - تعالى -: (وكلوا منها حيث شئتم) كأن في إشارة أن تأكل بعد السكن، فهذه نعم من نعم الله - عز وجل -؛ لأنه أذن لهم بالسكن، ثم أذن لهم بعد ذلك بالأكل فهذه نعمة أيضاً، ونلاحظ أن الله - سبحانه وتعالى - لم يقل رغدا كما في سورة البقرة، ثم قال - تعالى -: (وقولوا حطة نغفر لكم خطيئاتكم) اعترفوا بذنوبكم واعتذروا قبل أن تدخلوا، فكلمة حطة أي حِط من خطايانا واغفر لنا، وبعد ذلك يدخلوا الباب سجدا.
أما معنى (خطيئاتكم) أي: جمع مؤنث سالم لخطيئة، والخطيئات كثيرة، وهذا من نعم الله - سبحانه وتعالى - بأنه سيغفرها لهم ثم قال: (سنزيد المحسنين) أي: وسأعطيكم زيادة.
فالله - عز وجل - ذكر هذه النعم، ولكن الإنسان عندما عصى الله - عز وجل - فالله - تعالى -شدّد عليه. وكذلك الله - عز وجل - قبل أن يذكر هذه الآيات قال - تعالى -: (وقطّعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه)، (وقطّعناهم) هم بالفعل قسّموا إلى أمم، لكن قطّعناهم كأن فيه إشارة إلى نوع من الحرب والشقاق، فأثناء الدعوة لابد وأن تجد الشقاق بين الدعاة، فما هو السبب إلى هذا الشقاق؟ فبين الله - عز وجل - هذا السبب، إذا ما أردتم السكون فقال: (اسكنوا) فناسب كلمة السكون كلمة وقطّعناهم، الله- تبارك وتعالى - ذكر أن الحياة الزوجية هي سكن وأن المرأة هي سكن للرجل قال - تعالى -: (خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها)، فإذا أردت أن تشعر بنوع من السكون بعد الشقاق الموجود قطعناهم، وإذا أردتم نوع من السكون والارتياح فترجعوا كما كنتم على قلب واحد (قولوا حطة وادخلوا الباب سجدا) عليكم أن تعترفوا وتعتذروا لله - عز وجل - وتستغفروا لذنوبكم فالله - عز وجل - بعد ذلك سيجعلكم على طريق واحد. فتناسب قول قطعناهم مع السكون مع تقديم حطة على الدخول.
بينما في سورة البقرة يذكر الله - عز وجل - نعمه السابقة؛ لأن في هذه السورة يتكلم الله عن أركان الدين وأركان الإيمان كما في نهاية سورة البقرة: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله)، وأيضاً في بداية السورة: (يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) فذكر الصلاة، وذكر الحج، والصيام، فهذه أركان الإسلام كما ذكر الله - عز وجل - الغاية من الخَلْقْ وهي العبادة، لذلك فأول أمر في كتاب الله - عز وجل - في سورة البقرة: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم)، أي: حبوا الله تبارك وتعالى، فذكر الله موضوع محبة الله - عز وجل - وعبادته. ومن أسباب المحبة أن الإنسان يذكر أخاه بأنه أعطاه، ولم يبخل عنه بشيء، وحتى يرغّب الله- تبارك وتعالى -الناس بتحقيق هذه المحبة فنعمه عليهم سابقه، يجب علي أن استحي فأشعر بمودة له، فلذلك في سورة البقرة أخذ الله - سبحانه وتعالى - يذكر نعمه في بني إسرائيل فقال - تعالى -: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) فكان يكفيكم الدخول والأمور ستتهيأ لكم، (فكلوا منها حيث شئتم رغدا) قال - تعالى -: (رغدا) أي: بنعيم وسعة، أي في أي مكان تريدون أن تأكلوا، ومن أي شيء تشاءون. (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) أي: بعد الدخول اسجدوا وتوبوا إلى الله، فكان لا يمنع الاعتراف بعد الدخول، فهذا دليل على نعم الله عليهم وكرمه (نغفر لكم خطاياكم) وهنا قال - تعالى -: (خطاياكم) جمع تكسير، صيغة منتهى الجموع، وهي أكثر من خطيئات، وهذا من نعم الله تبارك وتعالى، وقال: لِمَ؟ قال: لأن الله - عز وجل - في بداية الآية عزّ الأمر لنفسه: (وإذ قلنا) فهنا عزاه لعظمته؛ لما له من العظمة، فذكر كذلك عظمة هذه النعمة، وفي الأعراف قال - تعالى -: (وإذ قيل) لم يعزه لنفسه، قال - تعالى -: (وسنزيد المحسنين) أي: وزيادة في الأحرف زيادة في المعنى، أي زيادة في النعمة، فالنعم كانت تزيد وزيادة عنها في سورة الأعراف (سنزيد المحسنين). ثم قال - تعالى -: (فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم)، وفي سورة الأعراف (فبدل الذين ظلموا منهم) عندما يأتي إنسان ما إلى مجموعة من الناس ويوجه إليهم الكلام، فيقول لهم: أيها الناس، يوجد منكم شخص من هذه القبيلة قد فعل كذا وكذا؟ فهنا أصحاب القبيلة يحرجوا، لذلك فـ "منهم" وقعت البلايا -أي: من بني إسرائيل-، وهذا تقريع من الله - عز وجل - لهم فيما وقعوا فيه من الذنب، ثم قال - تعالى -في سورة الأعراف: (قولاً غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون) (أرسلنا) وهو إرسال أي: أن يأتي شيء ربما يعم في المجموعة الموجودة، والإرسال عندما تأتي الريح فلا تخص منزلاً دون الأخر، أو نافذة دون الأخرى، ولكنها تأتي وتعم الموجود، فبني إسرائيل عندما وقعوا ما وقعوا فيه من المعاصي يستحقوا أن يهلكوا بأكملهم. أما في سورة البقرة فقال - تعالى -: (فبدل الذين ظلموا) فهنا إكراماً من الله - عز وجل - لبني إسرائيل فلم يقل منهم، كأن هنا دلالة على أن أشخاص معينة أو واحد من الناس؛ لأن الله - عز وجل - لم يقل منهم، كي لا تحرج بني إسرائيل ثم قال: (قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا) الله هنا أكرمهم بأنه لم يقل عليهم؛ لأن إذا قال عليهم معناه احتمال كل القرية، كما أن الله لم يقل أرسلنا؛ لأنها ستعم أهل القرية كلهم، ولكن قال أنزلنا، فلا نفهم أن الكل أصابه الرجز، ولكن البعض وهم الذين ظلموا، ثم قال - تعالى -: (رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون)، فذكرهم ظلموا ويفسقون فلِمَ؟ لأنه عزا الله - سبحانه وتعالى - في بداية السورة بقوله: (وإذ قلنا) فعزاه لنفسه، وعندما نسب معصيتهم بأنهم قد عصوا العظيم قال: (فبدل الذين ظلموا) فغيروا بكلامهم، فلم يقولوا حطة، ولكن قالوا: حنطة، وفي هذا استهزاء لأوامر الله - سبحانه وتعالى -، فعندما عصوا الله - عز وجل - فعزا الله الأمر لنفسه، فمن عصى العظيم يستحق أشد العقوبات، فلذلك قال - تعالى -في هذه الآية في سورة البقرة: ظلموا، ظلموا، يفسقون. ولكن في سورة الأعراف لما قال: قيل، لم يعزوه لنفسه ولكن قال ظلموا، يظلمون.
* في سورة آل عمران عندما بشرت الملائكة زكريا بيحيى فقال - تعالى -: (أنّا يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء)، في نفس السورة بعد آيات قليلة عندما أتت الملائكة وبشرت مريم بعيسى قال - تعالى -: (قالت رب أنّا يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء) في الآية السابقة قال زكريا: (أنّا يكون لي غلام)، وقالت مريم: (أنّا يكون لي ولد)، كذلك منذ آيات قليلة في حق زكريا: (الله يفعل ما يشاء)، ففي حق مريم قال: (الله يخلق ما يشاء).
هذا فعل الله - عز وجل - أن رزق زكريا بيحيى - عليهما السلام -، وذلك أن زكريا - عليه السلام - بلغ من الكبر عتيا، وكأنه أصبح عقيماً فالله - عز وجل - جعل الحياة في الحيوانات المنوية لزكريا - عليه السلام -، فهذا فعل من أفعال الله - عز وجل -، وجعل الحياة كذلك في بويضات الزوجة وهي عاقر كما قال زكريا - عليه السلام -، فهذا فعل من أفعال الله - عز وجل - أن رزق زكريا بهذا الابن على كبر، وهي كذلك عاقر، فبث الحياة هنا وبث الحياة هنا. وقيل سمي يحيى؛ لأنه ما كانت حياته تتوقع، لكن الله- تبارك وتعالى -عندما تكلم عن مريم أشار بقصة مريم أن النصارى قالوا: عيسى هو ابن الله- تبارك وتعالى، -فأشار الله - عز وجل – إلى أن عيسى ما هو إلا ولد لمريم، أي قد ولدته مريم، ومن المعلوم أثناء الولادة من أين يخرج المولود، هذا المكان قريب من مكان خرج البول، فهذا المكان غالباً ما تخرج منه النجاسات، فهل الإله يخرج من هذا المكان؟ فعندما أشار إلى الولد، فإن الله يتنزه من أن ينزل من هذا المكان، فإذا ما وُلِد غالباً ما تخرج منه النجاسات مع المولود فكيف يكون الله - عز وجل - يولد في مثل هذا المكان مع النجاسات؟ - تعالى -الله علواً كبيراً، فلما أشار بالولد فهو ولد مريم، فإنه لا ينبغي أن يكون إله وإنما هو مخلوق، ثم بعد ذلك لتأكيد هذا المفهوم لم يقل: كذلك الله يفعل ما يشاء، ولو قالها لقال النصارى: يفعل الله ما يشاء لأتى مريم - تعالى -الله - عز وجل - عن ذلك علواً كبيراً، فلكي لا يتطرق إلى الأذهان هذا المفهوم قال - تعالى -: (كذلك الله يخلق ما يشاء) لأن هذا الخلق نوع من أنواع الفعل، لكنه ذكره بالتخصيص، خلق فما عيسى إلا مخلوق وليس إله.
* في سورة الشعراء يذكر الله - تعالى -: (كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون)، (كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون)، (كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون)، (كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون)، "كذب أصحاب الأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون) فنجد في الآيات التي مضت كلها فيها أخوهم ما عدا الآية التي تذكر شعيب لم يقل أخوهم آية (177)، لِمّ؟
عندما نسب الله - تعالى -قوم نوح إلى نوح فهو أخوهم في هذه الانتساب، وعاد هو الجد الأعلى لهذه القبيلة، وهود - عليه السلام - ينتسب إلى هذا الجد فهو أخوهم في هذه الانتساب، وثمود هو الجد الأعلى فصالح ينتسب معهم فهو أخوهم في هذه الانتساب، قوم لوط فلوط ليس من قرية ولكنه أرسله الله - تعالى -إليهم فأصبح كأنه من هذه القرية، فنسبهم الله - عز وجل - إليه فهو أخوهم في هذه النسبة، لكن الله- تبارك وتعالى -عندما ذكر قوم شعيب قال - تعالى -: (كذب أصحاب الأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون) ما هي الأيكة؟ هي شجرة كان يعبدها أصحاب مدين، فهل هو أخوهم في عبادة هذه الشجرة؟ وهل ينتسب إليهم في عبادة هذه الشجرة؟ فلو قال أخوهم فهو أخوهم في عبادة هذه الشجرة.
* كما قال - تعالى -في سورة طه عندما بعث الله- تبارك وتعالى -موسى وهارون: (فأتياه -أي فرعون- فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم) بينما في سورة الشعراء قال - تعالى -: (فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول رب العالمين).
* وفي بداية سورة البقرة قال - تعالى -: (واتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) وفي منتصف سورة البقرة قال - تعالى -: (واتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون).
فهنا القارئ للقرآن يتوقف عند هذا التشابه، فليعلم أن الله - سبحانه وتعالى - ما يتكلم إلا بكلام بليغ، والله - تعالى -قال: (كتاب أحكمت آياته) فما وُضِعَ ولا حُذِفَ ولا زيد بكلمة أو حرف إلا لحكمة، فما هذه الحكمة؟ فهناك آيات كثيرة في القرآن فيها تشابه، وليس فقط الذي ذكر سابقاً.
والحمد لله رب العالمين.