الحنين إلى الوطن عند الشاعر البوسني لايتش



الوطن هذا المدى الموغل في الحنايا، هذا الحبُّ المتجدِّد في عروقنا كُلّما عبق شذا الحياة، هذا الذي نحفظه سطراً سطراً، ووردةً وردةً كأسمائنا، هذا الذي نعانقه غابات وقرى وسهولاً وشموساً!! هذا البحر الوارف في مسراتنا وأحزاننا كيف نحاوره ونصبو إليه؟! وكيف يغدو نشيداً حيّاً في ذاكرة أطفالنا؟!
إنّ لدينا اليوم قطوفاً دانية من حبّ الوطن والحنين إلى ربوعه عند شاعرنا الإسلامي البوسني جمال الدين لاتيش، وهو شاعر أصيل، حصل على الماجستير من جامعة سراييفو مؤخراً ، حيث قدّم رسالته في (الإعجاز القرآني). كما أنّه صحفي متميِّز ورئيس تحرير صحيفة (صوت المسلمين) في البوسنة ، وقد ترجم لشعره الناقد البوسني حسين عمر باهيتش، ونشر له عدَّة قصائد في مجلة الأدب الإسلامي.
إنّ صورة الوطن في شعرنا الإسلامي ليست تضاريس محنّطة، إنَّما هي عقيدة صافية وولاء إلى الإسلام، وحبّ عظيم لله عز وجل..
يقول الشاعر في قصيدة (أنا ابنك يابوسنة):
(إلى عرش الله العظيم
ترتفع نداءات المساجد
هذه أناشيد وطني

تعانق الغابات والمراعي
محبوبة قاسية وصلبة

بوسنة فوق دماء الشهداء
أحفظك مثل نور العينين
لأنني ابنك يابوسنة).
إنّ عنوان القصيدة لدى الشاعر فجّرَ دلالات معنوية عبّرت عن حميمية التواصل الكبير مع وطنه، فقد جاء المبتدأ ضمير المتكلم (أنا) وأخبر عنه بلفظ (ابنك) حيث أضافه لضمير المخاطب (الكاف) التي هي (البوسنة) ثمّ أتبعه بالنداء القريب الشفيف (يابوسنة)! كلّ ذلك أفضى إلى نمط فريد من توهج المحبّة الآسرة لهذا الوطن، كما أنّ في ذلك استحضاراً عميقاً للهوية الإسلامية البوسنية، مهما حاول الأعداء الصّرب تذويبها! ولذلك أضحت (ابنك يابوسنة) عبارة ارتكازية في القصيدة تضرب بعيداً في أعماق التاريخ، وتأوي إلى عرش الله العظيم حيث تعانق نداءاتُ المساجد الغابات والمراعي، تعانق دماءَ الشهداء ذرّة ذرّة، ومن هنا كان هذا المزج الرائع بين المعاني الحسيّة والروحية، فنقرأ هذه الوجدانية الرهيفة الآسرة العذبة:
(أحفظك مثل نور العينين).
فليس هناك حبٌّ أنقى من هذا الحبّ، الحبّ الذي يشكّلُ صفاء اللغة، وصفاء الأحاسيس، وصفاء الإيقاع الشعري الذي يهزّنا من الداخل:
(هناك على ضفاف (أونا) شذرات ذهب
وفوق (الدرينا) شروق أزرق
في (تيريتوا) تغفو الشمس
وفي السهول بتلأل (صاوه)
أحفظك مثل نور العينين
لأنني ابنك يابوسنة).
هذه الطاقة المشرقة المفعمة بحبّ البوسنة أنهاراً وأحلاماً وشهداء تظلُّ همسات وجدانية مضيئة وينابيع جمالية ثريّة لها نكهتها الخاصة لدى شاعرنا البوسني ، وهكذا نراه ينشد بكلّ هذا الشموخ لأنهار البوسنة الأربعة (أونا، والدّرينا، وتيرايتوا، وصاوه) رغم فجائع الحرب الموجعة!
ولذا فهو يقطف أفراح الروح من بين الشجون عبر هذا الحس الجمالي الأخاذ، يرنو إلى الوطن، يحن إلى ضفاف أنهاره العذبة، يحاكي سهوله، وشروقه ومواجده وجماله أيضاً!!
ولقد استطاع الشاعر أن يستثمر المستوى النحوي في قصيدته ليعضّد حسّه المفعم بجراح المكان ولوعته وخصوصيته عبر (تقديم الجار والمجرور وظروف المكان) وهذا يدلُّ بصدق ووعي على أنّ شاعرنا يعيش هموم وطنه وأفراحه القادمة، ويحفظه نافذة نافذة (مثل نور العينين).

منقول