قال ابن القيم -رحمه الله- ، في مفتاح دار السعادة (2 / 546 - 548)
وشقَّ سبحانه للعبد الفمَ في أحسن موضعٍ وأليقه به ، وأودع فيه من المنافع وآلات الذَّوق والكلام وآلات الطَّحن والقَطع ما تبهرُ العقولَ عجائبُه ؛ فأودَعه اللسانَ الذي هو أحدُ آياته الدَّالَّة عليه ، وجعله ترجمانًا لمَلِك الأعضاء مُبِينًا مؤديًا عنه كما جعل الأذنَ رسولاً مؤديًا مبلِّغًا إليه ، فهي رسولُه وبريدُه الذي يؤدِّي إليه الأخبار، واللسانُ بريدُه ورسولُه الذي يؤدِّي عنه ما يريد.
واقتضت حكمتُه سبحانه أنْ جَعَل هذا الرسولَ مَصُونًا محفوظًّا مستورًا ، غير بارزٍ مكشوفٍ كالأذن والعين والأنف ؛ لأنَّ تلك الأعضاء لما كانت تؤدِّي من الخارج إليه جُعِلَت بارزةً ظاهرة، ولما كان اللسانُ مؤديًا منه إلى الخارج جُعِل مستورًا مصونًا ؛ لعدم الفائدة في إبرازه ؛ لأنه لا يأخذُ من الخارج إلى القلب.
وأيضًا ؛ فإنه لما كان أشرفَ الأعضاء بعد القلب ، ومنزلتُه منه منزلة تَرجُمانه ووزيره ، ضُرِب عليه سُرادق يستُره ويصونُه ، وجُعِل في ذلك السُّرادق كالقلب في الصَّدر.
وأيضًا ؛ فإنه مِنْ ألطف الأعضاء وألينها وأشدِّها رطوبة، وهو لا يتصرَّفُ إلا بواسطة الرطوبة المحيطة به ، فلو كان بارزًا صار عُرضةً للحرارة واليُبوسة والنَّشَاف المانع له من التصرُّف.
ولغير ذلك من الحِكَم والفوائد.
ثمَّ زيَّن سبحانه الفمَ بما فيه من الأسنان التي هي جمالٌ له وزينة ، وبها قِوامُ العبد وغذاؤه ، وجَعَل بعضها أرحاءَ للطَّحن ، وبعضها آلةً للقَطع ، فأحكم أصولها ، وحَدَّد رؤوسَها ، وبيَّض لونها ، ورتَّب صفوفَها، متساويةَ الرؤوس ، متناسقةَ التَّرتيب ، كأنها الدُّرُّ المنظومُ بياضًا وصفاءً وحُسْنًا.
وأحاط سبحانه على ذلك كلِّه حائطَيْن ، وأودعهما من المنافع والحِكَم ما أودعهما ، وهما الشَّفتان ؛ فحَسَّن لونهما وشكلَهما ووضعَهما وهيأتهما ، وجعلهما غطاءً للفم وطَبَقًا له ، وجعلهما إتمامًا لمخارج حروف الكلام ونهايةً له ، كما جَعَل أقصى الحلق بدايةً له ، واللسانَ وما جاوره وَسَطًا ، ولهذا كان أكثرُ العمل فيها له ؛ إذ هو الواسطة.
واقتضت حكمتُه أنْ جَعَل الشفتين لحمًا صِرفًا لا عَظمَ فيه ولا عَصب ؛ ليتمكَّن بهما من مَصِّ الشَّراب ، ويَسْهُل عليه فتحُهما وطَبْقُهما.
وخَصَّ الفكَّ الأسفل بالتحريك ؛ لأنَّ تحريكَ الأخفِّ أحسن ، ولأنه يشتملُ على الأعضاء الشريفة فلَم يخاطِر بها في الحركة.
وخلق سبحانه الحناجرَ مختلفةَ الأشكال في الضِّيق والسَّعة ، والخشونة والمَلاسة ، والصَّلابة واللِّين ، والطُّول والقِصَر ؛ فاختلفَت بذلك الأصواتُ أعظمَ اختلاف ، ولا يكادُ يشتبهُ صوتان إلا نادرًا.
ولهذا كان الصحيحُ قبول شهادة الأعمى ؛ لتمييزه بين الأشخاص بأصواتهم كما يميِّزُ البصيرُ بينهم بِصُوَرهم ، والاشتباهُ العارض بين الأصوات كالاشتباه العارض بين الصُّوَر.