سئل شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله :ما أقوال اهل الاسلام عن الأفعال الاختيارية من العباد تحصل بخلق الله تعالى وبخلق العبد، فحقيقة كسب العبد ما هي ؟ وبعد هذا هل هو مؤثر في وجود الفعل؟ أم غير مؤثر؟ فإن كان فيصير العبد مشاركاً للخالق في خلق الفعل، فلا يكون العبد كاسباً بل شريكاً خالقاً وأهل السنة بررة برآء من هذا القول وإن لم يكن مؤثراً في وجود الفعل فقد وجد الفعل بكماله بالحق سبحانه وتعالى، وليس للعبد في ذلك شىء، فلزم الجبر الذي يطوي بساط الشرع، وأهل السنة الغراء والمحجة البيضاء فارون من هذه الكلمة الشنعاء والعقيدة العوراء، ولم ينسب إلى العبد الطاعة والعصيان والكفر والإيمان، حتى يستحق الغضب والرضوان، فكيف السلوك أيها الهداة الأدلاء على اللحب المستقيم والمنهج القويم ؟ وطرفي قصد الأمور ذميم. فبينوا بياناً يطلق العقول من هذا العقال، ويشفى القلوب من هذا الداء العضال. أيدكم بروح القدس من له صفات الكمال. - -------------- فأجاب شيخ الاسلام بن تيمية : تلخيص الجواب: إن الكسب هو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع أو ضر، كما قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فبين سبحانه أن كسب النفس لها أو عليها، والناس يقولون: فلان كسب مالا أو حمداً أو شرفاً كما أنه ينتفع بذلك، ولما كان العباد يكملون بأفعالهم ويصلحون بها، إذ كانوا في أول الخلق خلقوا ناقصين صح إثبات السبب، إذ كمالهم وصلاحهم عن أفعالهم، والله سبحانه وتعالى فعله وصنعه عن كماله وجلاله، فأفعاله عن أسمائه وصفاته ومشتقة منها، كما قال سبحانه وتعالى "أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي"، والعبد أسماؤه وصفاته عن أفعاله فيحدث له اسم العالم والكامل بعد حدوث العلم والكمال فيه. ومن هنا ضلت القدرية حيث شبهوا أفعاله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً بأفعال العباد، وكانوا هم المشبهة في الأفعال، فاعتقدوا إن ما حسن منهم حسن منه مطلقاً، وما قبح منهم قبح منه مطلقاً بقدر علمهم وعقلهم، أو ما علموا أنها إنما حسنت منهم لإفضائها إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم، وقبحت لإفضائها إلى ما فيه فسادهم، والله سبحانه متعال عن أن يلحقه مالا يليق به سبحانه. وأما قوله - : هل هو مؤثر في وجود الفعل أو غير مؤثر؟ فالكلام في مقامين: أحدهما:أن هذا سؤال فاسد، إن أخذ على ظاهره؛ لأن كسب العبد هو نفس فعله وصنعه، فكيف يقال: هل يؤثر كسبه في فعله، أو هل يكون الشيء مؤثراً في نفسه؟ وإن حسب حاسب أن الكسب هو التعاطي والمباشرة وقصد الشيء ومحاولته، فهذه كلها أفعال يقال فيها ما يقال في أفعال البدن من قيام وقعود. وأظن السائل فهم هذا وتشبث بقول من يقول: إن فعل العبد يحصل بخلق الله عز وجل وكسب العبد. وتحقيق الكلام أن يقال: فعل العبد خلق لله عز وجل وكسب للعبد، إلا أن يراد أن أفعال بدنه تحصل بكسبه، أي بقصده وتآخيه، وكأنه قال: أفعاله الظاهرة تحصل بأفعاله الباطنة، وغير مستنكر عدم تجديد هذا السؤال، فإنه مزلة أقدام، ومضلة إفهام، وحسن المسألة نصف العلم . إذا كان السائل قد تصور السؤال . وإنما يطلب إثبات الشيء أو نفيه، ولو حصل التصور التام لعلم أحد الطرفين. والمقام الثاني في تحرير السؤال وجوابه: وهو أن يقال: هل قدرة العبد المخلوقة مؤثرة في وجود فعله؟ فإن كانت مؤثرة لزم الشرك، وإلا لزم الجبر، والمقام مقام معروف، وقف فيه خلق من الفاحصين والباحثين والبصراء والمكاشفين، وعامتهم فهموا صحيحاً ولكن قل منهم من عبر فصيحاً. فنقول: التأثير اسم مشترك قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد بالاختراع، فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذه القدرة، فحاشا لله لم يقله سنى، وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال. وإن أريد بالتأثير نوع معاونة إما في صفة من صفات الفعل، أو في وجه من وجوهه كما قاله كثير من متكلمي أهل الإثبات. فهو أيضاً باطل بما به بطل التأثير في ذات الفعل، إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل. وهل هو إلا شرك دون شرك وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحق. وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة. بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة . كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب، فهذا حق وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات. وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركا، وإلا فيكون إثبات جميع الأسباب شركاً.وقد قال الحكيم الخبير: {فَأَنزَلْن َا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ