هل نكره الظلم أم نكره الظالم ؟


أحمد عباس



سؤال يطرأ كثيرًا على أذهاننا وهو: هل نحن نكره الظلم أم نكره الظالم؟ إن الإجابة على هذا السؤال قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة وسهلة ومؤكدة لكن الحقيقة أن سهولة الإجابة مرتبطة بأنها إجابة تصدر عن ألسنتنا فقط، أما لو حاولنا أن نصل إلى إجابة صادقة يشهد بها الواقع على هذا السؤال فقد تواجهنا سلسلة من المفاجأت.
إذا حاولنا أن نبحث عن إجابة واقعية لهذا السؤال علينا أن نقف قليلاً أمام الفرق بين الظلم في حد ذاته كفكرة أو كواقع نشهده بأعيننا وقد نعيش في ظله فترات من أعمارنا ونعاني منه ونتأثر بسببه سلبيًا، وبين الظالم نفسه وهو الجهة التي تمارس هذا الظلم وترتكب الأفعال التي ينطبق عليها وصف الظلم.
الواقع يشهد بان الظلم هو مجموعة من الممارسات والسلوكيات والتصرفات والمواقف التي تتخذ على أرض الواقع وتؤدي إلى نتائج وآثار تلحق بالمظلومين لكنها يمكن أن تكون مشهودة بشكل واضح وجلي حتى بالنسبة لمن لا يتعرضون لهذا الظلم، لكن المظلومين في بعض الأحيان ومع طول فترة تعرضهم للظلم قد يعتادون على وقوعهم في براثنه ويعتادون على أشكاله وأنواعه بل وقد يتعايشون ويتكيفون مع الظلم بحيث يتوقفون عن إنكاره في داخل قلوبهم والأخطر أنهم قد يتوقفون عن التألم منه المًا حقيقيًا، ويستعيضون عن ذلك بحيلة دفاعية شديدة الخطورة وهي أنهم يحولون ألمهم ومعاناتهم بسبب الظلم إلى كراهية وحقد ورفض لشخص الظالم نفسه الذي يمارس هذا الظلم.
هؤلاء الضحايا الذين تعرضوا للظلم لفترات طويلة حتى ألفوه واعتادوا عليه لم يعد لهم من سلوى نفسية وراحة قلبية وقدرة على الصبر والتحمل سوى كراهية الظالم نفسه، أمّا ممارسات الظلم التي هم ضحاياها فإنهم بمرور الوقت يقنعون أنفسهم بأنها أمر طبيعي أو هي أمر مفروض أو هي جزء من الحياة نفسها، أو أن المشكلة فيها لا تكمن في كونها ظلمًا في حد ذاتها وإنما لأن دوافع الظالم فيها دوافع لا ترتبط بغايات سامية رائعة، فكما أن الحياة تفاجىء الإنسان بالكثير من الأحزان والأفراح وكما أن الحياة تعج بالمتغيرات فإن الظلم الذي يتعرضون له ربما يكون أمرًا طبيعيًا يحدث بشكل عادي، لكن الظالم الذي يمارسه هو الذي يستحق كل الكراهية وكل الغضب المكبوت وكل الرغبة في الانتقام، لأنه أولاً يمارس هذا الظلم بحق مظلومين محددين باعينهم، وثانيًا لأنه يمارس هذا الظلم لهوى في نفسه ولا يضع غاية سامية لنشاطه في الحياة يحاول تحقيقها ويقنع الناس بروعتها وجمالها وسموها.
على الجانب المقابل نجد أن الفطرة السوية للإنسان الطبيعي تحتم عليه أن يظل كارهًا للظلم نفسه كسلوكيات أو ممارسات أوأفعال وأن يصارح نفسه دائمًا بأنه مهما بلغت درجة الألم والمعاناة بسبب هذا الظلم ومهما بلغت درجة الخوف من الظالم فلابد أن يكون الإنسان كارهًا للظلم نفسه ومعترضًا على كل شكل من أشكال هذا الظلم وحريصًا على أن يتوقف هذا الظلم من حيث كونه حالة عامة، وعلى الإنسان السوي ألا يكون هدفه الوحيد هو أن يتم رفع الظلم عنه حتى وإن أصاب نفس هذا الظلم أفرادًا آخرين أو مجموعات أخرى ممن ينتمي معهم إلى نفس الدين ونفس الوطن، فالإنسان السوي لا يرى أن الظلم يمكن أن يكون مقبولاً أو مبررًا مهما كان هناك من دافع جميل ورائع، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض أن يصل إلى الغاية الأولى في هذه الحياة وهي إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض عبر ممارسة الظلم بل كان صلى الله عليه وسلم عادلاً يكره الظلم ويحاربه ولا يمكن أن يمارسه إطلاقًا حتى لو ضد أعدائه.
الآن أصبحت لدينا صورة معينة تجعلنا ندرك أن السؤال الذي تم طرحه في البداية ليست إجابته بالسهلة، فالكثيرون منا يجدون أنهم في حقيقة الأمر لم يكونوا يكرهون الظلم في حد ذاته بل إنهم اعتادوا على الظلم، لم يكونوا يكرهون ويمقتون أسلوب الكيل بمكيالين في حد ذاته وإنما أصبحوا يتقبلون فكرة الكيل بمكيالين ولا يجدون غضاضة في استعمالها فقط إن تغيرت الغاية وأصبحت غاية سامية، لم يكونوا يكرهون الكذب والغش والخداع في حد ذاتهم وإنما أصبحوا يعتبرون أن الكذب والغش والخداع أمورًا يمكن أن يكون لها ما يبررها بحسب الأهداف والغايات التي تدفع إليها.
الكثيرون منا أصبحوا يوجهون طاقة المعاناة والألم في قلوبهم الناجمة عن الظلم إلى طاقة كراهية متصاعدة تجاه الظالم نفسه كشخص أو كفئة، وأصبحوا لا يجدون غضاضة في الكيل بمكيالين أو بعدة مكاييل طالما أن هذا الكيل غير العادل يمكن أن يحقق أهدافًا وطالما أنه سيضمن أنهم لن يتعرضوا للظلم من جديد.
إننا يجب أن نصارح أنفسنا أن من بين من يعيشون معنا وحولنا من أصبحوا يقبلون بأن يتعرض الآخرون للظلم وأن يقع الظلم نفسه كممارسات وأفعال طالما أن هذا بعيدًا عنهم، والحل بسيط عندهم حيث يمكن بسهولة تغيير مسمى الظلم لمسميات أخرى ويمكن البحث عن غايات كبرى ولافتات براقة يتم من تحتها تمرير مضمون الظلم وأفعال الظلم والكيل بمكيالين ولكن تحت مسميات جميلة محببة للنفس تشعل الحماسة وتوجهها نحو الغلاف الخارجي لعملية الظلم بينما تغمض عيون القلوب عن مضمون الظلم ذاته، وهو المضمون الذي يمكن بنظرة فاحصة محايدة إدراك حقيقته وأنه هو الظلم نفسه بممارساته نفسها وأساليبه ذاتها وقدرته على التلون والكيل بأكثر من مكيال.