أحكام الوسائل عند الأصوليين (1-2)
أ.د. محمد بن حسين الجيزاني
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .
أما بعد فهذا بحث في أحكام الوسائل عند الأصوليين، وقد اقتضى المقام تقسيم هذا البحث إلى تمهيد وخمسة مطالب، بيانها في الآتي:
تمهيد في التعريف بالوسائل، وفيه خمس مسائل:
المسألة الأولى: معنى الوسائل في اللغة .
المسألة الثانية: معنى الوسائل في الاصطلاح .
المسألة الثالثة: موازنة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي .
المسألة الرابعة: خصائص الوسائل .
المسألة الخامسة: أقسام الوسائل .
المطلب الأول: الأدلة على مشروعية الوسائل من حيث الجملة .
المطلب الثاني: حكم الوسيلة المجردة عن المصلحة والمفسدة .
المطلب الثالث: حكم الوسيلة المتضمنة في ذاتها للمصلحة أو المفسدة .
المطلب الرابع: متى تتعين وسيلة بعينها؟
المطلب الخامس: قواعد الترجيح بين الوسائل .
وقد ذيلت هذا البحث بخاتمة ذكرت فيها نتائج البحث، كما ذيلته بثبت للمصادر والمراجع الواردة في الهوامش .
أسأل الله جل شأنه أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تمهيد في التعريف بالوسائل .
وفيه خمس مسائل:
المسألة الأولى: معنى الوسائل في اللغة .
المسألة الثانية: معنى الوسائل في الاصطلاح .
المسألة الثالثة: موازنة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي .
المسألة الرابعة: خصائص الوسائل .
المسألة الخامسة: أقسام الوسائل .
المسألة الأولى: معنى الوسائل في اللغة[1] .
الوسائل في اللغة والوُسُل أيضاً جمع وسيلة .
والوسيلة: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به .
والوسيلة أخص من الوصيلة؛ لتضمن الوسيلة لمعنى الرغبة .
المسألة الثانية: معنى الوسائل في اصطلاح الأصوليين .
توطئة في أركان عملية التوسل:
عملية التوسل لابد لها من أركان ثلاثة: متوسَّل به، وهو الوسيلة، ومتوسَّل إليه، وهو المقصد، ومتوسِّل، وهو الفاعل .
الركن الأول: فعل متوسل به، وهذا هو الوسيلة، والأصل فيها أن تكون فعلا مجردا عن المصلحة أو المفسدة، وربما تكون فعلا متضمنا لواحد منهما .
وهذا الفعل لابد أن يكون مقدورا عليه من جهة، وأن يكون من جهة ثانية مفضيا ـ في الغالب ـ إلى المقصد، وهذا الإفضاء يعرف تارة من جهة الشرع أو العقل أو العادة، وذلك مثل كون الأكل وسيلة للإشباع، والنفير وسيلة للجهاد .
الركن الثاني: مقصد متوسل إليه، وهذا المقصد قد يتضمن في ذاته مصلحة أو مفسدة، وقد يتجرد عنها لكنه يفضي ـ ولابد ـ إلى واحد منهما مثال ذلك: جمع المال وسيلة إلى مقصد، وهو شراء السلاح، وشراء السلاح في ذاته غير متضمن للمصلحة لكنه يفضي إليها؛ إذ هو وسيلة إلى الجهاد الذي يتضمن في ذاته للمصلحة .
الركن الثالث: فاعل متوسل بهذه الوسيلة إلى ذلك المقصد، وهذا المتوسل لابد أن يوجد معه القصد والرغبة .
وذلك بأن يقصد هذا المتوسل ـ من جهة ـ مباشرة هذا الفعل، وهو الوسيلة، ومن جهة أخرى أن يكون مقصوده من مباشرة هذه الوسيلة التوصل إلى المقصد لا مجرد فعل الوسيلة .
وحاصل هذا: أن يكون المتوسل قاصدا في فعله للوسيلة تحقيق مقصد من المقاصد، فهو متطلع إلى تحصيل هذا المقصد، راغب في إيجاده على أكمل الوجوه .
معنى الوسيلة عند الأصوليين:
عند تأمل المعنى اللغوي للوسيلة وتأمل ما مضى بيانه في أركان عملية التوسل يظهر لنا أن الوسيلة عند الأصوليين لابد من تقييدها بثلاثة أمور:
وجود القصد والرغبة في تحقيق المقصد لدى المباشر للوسيلة ، فهي إذن مسألة تحتاج إلى تخطيط ودراسة، ويحصل تنفيذها بقدر من الدراسة والمرحلية .
وجود مقصد متضمن للمصلحة أو المفسدة؛ بحيث يتأتى القصد إليه والرغبة فيه .
وإذا ثبت أنه لابد من وجود قصد ورغبة في تحصيل المقصد، وأن المقصد متضمن ولابد للمصلحة أو المفسدة أو مفض إليها نتج عن هذين: الأمر الثالث، وهو:
أن تضمن الوسيلة للمصلحة أو المفسدة أو تجردها عنها أمر غير منظور إليه، وليس له أي اعتبار .
ذلك أن الوسيلة ما هي إلا مجرد سبب يتوصل به إلى تحصيل المقصد المطلوب .
وعند اعتبار هذه القيود أمكن تعريف الوسيلة عند الأصوليين بأنها:
ما قُُُصد فعله من أجل التوصل به إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد، وكان هذا الفعل غير مقصود في ذاته .
وقد حوى هذا التعريف قيودا ثلاثة، هذا بيانها:
القيد الأول: قوله: ما قُُُصد فعله وقد تضمن هذا القيد أمرين:
أولهما: أن الوسيلة لابد أن تكون فعلا . وبذلك خرجت: المقاصد المحضة؛ كحفظ العرض، فإنه مقصد محض وليس فعلا، بل هو معنى يسعى إلى تحقيقه وغاية يتوسل إليها .
وثانيهما: أن يكون هذا الفعل مقدورا عليه؛ بحيث يمكن القصد إلى فعله . وبذلك خرجت الأسباب؛ فإن دخول الوقت سبب في وجوب الصلاة، لكنه لا يدخل تحت القدرة؛ إذ لا يمكن القصد إليه .
القيد الثاني: قوله: من أجل التوصل به إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد وقد تضمن هذا القيد أمرين:
أولهما: أن الوسيلة لابد فيها من وجود مقصد يسعى المتوسل إلى تحقيقه .
وبهذا القيد خرجت الذرائع؛ فإن الذريعة ـ بمعناها الخاص ـ تطلق على كل فعل أفضى إلى مفسدة؛ سواء أكان المتذرع قاصدا للمفسدة أو غير قاصد لها .
وثانيهما: أن هذا المقصد عام:
فقد يكون مصلحة؛ كالسعي إلى الجمعة، وقد يكون مفسدة؛ كالسعي إلى دور الفساد .
وبهذا يتبين أن الوسائل ـ بالنظر إلى مقاصدها ـ شاملة لكلا النوعين؛ حيث إنها قد تفضي إلى مصلحة، وقد تفضي إلى مفسدة .
وهذا المقصد عام ـ من جهة ثانية ـ فقد يكون من الأفعال الحسية؛ كالجهاد، وقد يكون شيئا معنويا لا فعلا؛ كحفظ الدين .
ثم نقول: إن المقصد قد يكون قريبا؛ فيتوصل إليه بمباشرة وسيلة واحدة، فالوسيلة هنا مباشرة للمقصد متصلة به كالسعي إلى الجمعة .
وقد يكون المقصد بعيدا؛ فلا يمكن التوصل إليه إلا بمباشرة أكثر من وسيلة ـ وربما كانت الوسيلة من المقاصد النسبية ـ فيكون هذا من باب تسلسل الوسائل؛ كحفظ الدين فهو مقصد يتوسل إليه بالجهاد، والجهاد مقصد يتوسل إليه بإعداد القوة، وإعداد القوة مقصد يتوسل إليه بجمع المال .
ويمكن أن نقول: جمع المال وسيلة إلى إعداد القوة، وإعداد القوة وسيلة إلى الجهاد، والجهاد وسيلة إلى حفظ الدين .
وبهذا يعلم أن المقصد قد يتضمن في ذاته مصلحة أو مفسدة، وقد يتجرد عن المصلحة والمفسدة لكنه يفضي ـ ولابد ـ إلى واحد منهما .
القيد الثالث: قوله: وكان هذا الفعل غير مقصود في ذاته .
معنى هذا القيد: أن الوسيلة فعل مجرد عن القصد الذاتي، فهي فعل مقصود، لكنه لا يقصد لذاته، بل يقصد لغيره؛ فإنه إنما يفعل من أجل التوصل به إلى مقصد من المقاصد .
وبهذا القيد تتميز الوسائل عن المقاصد النسبية؛ فإن المقاصد أفعال مقصودة لذاتها، بمعنى أنه يقصد فعلها من أجل التوصل بها إلى تحقيق ما تتضمنه هذه الأفعال في ذاتها من المصلحة أو المفسدة؛ كمن يتوضأ لا لأجل الصلاة، بل لكون الوضوء عبادة مستقلة بذاتها . بخلاف الوسائل فإنه يقصد فعلها من أجل التوصل بها إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد، وهذا المقصد يتضمن في ذاته مصلحة أو مفسدة؛ كالوضوء لأجل الصلاة .
وقد أفاد هذا القيد: أن تضمن الوسيلة في ذاتها للمصلحة أو المفسدة أو تجردها في ذاتها عنها أمر غير منظور إليه، وليس له أي اعتبار .
وهذا يتضح إذا عرفنا أن الوسائل نوعان:
وسائل محضة، وهي: ما قُُُصد فعله من أجل التوصل به إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد، وكان هذا الفعل غير مقصود في ذاته؛ لتجرده في ذاته عن المصلحة أو المفسدة؛ كالمشي والحركة .
والتوسل بالوسائل المحضة أمر نادر وعزيز؛ إذ جماع الوسائل المحضة: الأفعال الخالية في ذاتها عن المصلحة والمفسدة من الحركة والسكون والانتقال، وهي قليلة معدودة .
وسائل نسبية، وهي: ما قُُُصد فعله من أجل التوصل به إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد، وكان هذا الفعل غير مقصود في ذاته، مع كونه في ذاته متضمنا للمصلحة أو المفسدة؛ كالجهاد والزنا .
والتوسل في الغالب إنما يحصل بهذا النوع من الوسائل، أعني الوسائل النسبية، وهي الأفعال المتضمنة في ذاتها للمصلحة أو المفسدة، وإن كانت هذه الأفعال مقاصد من جهة تضمنها في ذاتها للمصلحة أو المفسدة .
وقد أشار الشاطبي[2] إلى هذا المعنى بقوله: والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض، وإن صح أن تكون مقصودة في أنفسها[3] .
ذلك أن الوسيلة ـ مع كونها فعلا غير مقصود لذاته ـ قد تتضمن في ذاتها مصلحة أو مفسدة، وقد تتجرد عنهما، إلا أن المتوسِّل إنما أقدم على مباشرة هذه الوسيلة لأجل تحقيق مقصود آخر، ولم يلتفت هذا المتوسِّل إلا إلى شيء واحد، وهو تحصيل المقصد؛ فهو لم ينظر إلى كون هذه الوسيلة متضمنة في ذاتها للمصلحة أو كونها متضمنة في ذاتها للمفسدة أو كونها مجردة في ذاتها عن المصلحة والمفسدة، بل هو معرض عن الوسيلة بالكلية، غير ملتفت إلى ما قد تتضمنه من مصلحة أو مفسدة؛ إذ همُّه ومراده تحقيق المقصد الذي يسعى إليه .
فهذه ثلاثة أقسام للفعل الذي يتوسل به:
فعل متضمن في ذاته للمصلحة .
وفعل متضمن في ذاته للمفسدة .
وفعل غير متضمن لواحد منهما .
ثم إن هذه الأفعال تنقسم بالنسبة إلى مقاصدها إلى قسمين: فعل يتوسل به إلى المصلحة، وفعل يتوسل به إلى المفسدة .
فحاصل الضرب ستة أقسام:
فعل متضمن في ذاته للمصلحة، يتوسل به إلى المصلحة، كالجهاد لإعزاز الدين ومحو الكفر .
فعل متضمن في ذاته للمصلحة، يتوسل به إلى المفسدة، كالحج إن كان وسيلة إلى الوقوع في المعاصي والوقوع في المحرمات .
فعل متضمن في ذاته للمفسدة، يتوسل به إلى المفسدة، كالسرقة لأجل الزنا .
فعل متضمن في ذاته للمفسدة، يتوسل به إلى المصلحة، كإعطاء المال للكافر لئلا يزني بامرأة مسلمة .
فعل غير متضمن في ذاته للمصلحة أو المفسدة، يتوسل به إلى المصلحة، كالسعي إلى الجمعة .
فعل غير متضمن في ذاته للمصلحة، أو المفسدة، يتوسل به إلى المفسدة، كالسعي إلى أماكن الفساد والرذيلة .
المسألة الثالثة: موازنة بين المعنى اللغوي للوسائل والمعنى الاصطلاحي .
بين المعنى اللغوي للوسائل والمعنى الاصطلاحي عموم وخصوص مطلق؛ حيث إن المعنى اللغوي للوسائل أعم وأوسع من المعنى الاصطلاحي .
ذلك أن معنى الوسيلة في اللغة يدخل تحته: الذريعة بمعناها الاصطلاحي الخاص، والحيل الجائزة والممنوعة، ومقدمة الواجب، والأسباب، ويدخل أيضا تحت المعنى اللغوي للوسيلة: الوسيلة بمعناها الاصطلاحي الخاص .
وتنفرد الوسيلة بالمعنى الاصطلاحي بأنه لابد فيها من القصد، أعني أن يقصد المتوسل بمباشرة الوسيلة تحقيق مقصد ما، وهذا القيد غير معتبر عند إطلاق الوسيلة بالمعنى اللغوي؛ فإن الوسيلة في اللغة تطلق على كل فعل يتوصل به إلى مقصد ما، وُجد معه القصد أو لم يوجد .
المسألة الرابعة: خصائص الوسائل .
أن الوسيلة فعل غير مقصود لذاته، بل هو مقصود لأجل تحقيق مقصد آخر.
وبهذا تنفصل الوسائل عن المقاصد؛ حيث إن المقاصد مقصودة في أنفسها؛ لما تتضمنه من المصالح أو المفاسد .
أن الوسيلة لابد فيها من القصد، أعني أن يقصد المتوسل بمباشرة الوسيلة تحقيق مقصد ما من المقاصد .
وبهذا يعرف الفرق بين المعنى اللغوي للوسيلة والمعنى الاصطلاحي؛ حيث إنه لابد في الوسيلة بالمعنى الاصطلاحي من القصد، أعني أن يقصد المتوسل بمباشرة الوسيلة تحقيق مقصد ما، وهذا القيد غير معتبر عند إطلاق الوسيلة بالمعنى اللغوي؛ فإن الوسيلة في اللغة تطلق على كل فعل يتوصل به إلى مقصد ما، وُجد معه القصد أو لم يوجد[4] .
وبهذا أيضا تفارق الوسيلة الذريعة؛ حيث إن الذريعة ـ بمعناها الخاص ـ تطلق على كل فعل يفضي إلى مفسدة ما من المفاسد، وُجد مع هذا الفعل القصد إلى المفسدة أو لم يوجد .
أن المقصد الذي تفضي إليه الوسيلة قد يكون مصلحة وقد يكون مفسدة .
وبهذا تفترق الوسائل عن الذرائع؛ فإن الذريعة مفضية ولابد إلى مفسدة .
أن الوسائل لا تستقل بنفسها، بل هي تابعة لمقاصدها، فالوسائل مع مقاصدها كالتابع مع المتبوع .
والوسائل تتبع المقاصد في الحكم؛ كما قيل: للوسائل أحكام المقاصد[5]بخلاف المقاصد؛ فإنها مستقلة بنفسها في الحكم .
والوسائل تتبع مقاصدها أيضا في سقوطها؛ فكلما سقطت المقاصد سقطت معها ـ ولا بد ـ وسائلها[6] .
وقد انبنى على ذلك أن من شرط اعتبار الوسائل ألا تعود على مقاصدها بالبطلان؛ إذ المقاصد مقدمة أبدا على الوسائل[7] .
أن الوسيلة فعل ما، وحكم هذا الفعل ـ من حيث الأصل ـ قد يكون مأذونا فيه، وقد يكون محرما .
وبهذا تفارق الوسائل كلا من الذرائع والحيل جائزة كانت أو ممنوعة؛ حيث إن الذرائع والحيل لابد أن تكون ـ من حيث الأصل ـ أفعالا مأذونا فيها .
أن الوسائل قد ترد بها أدلة الشرع الخاصة؛ كالسعي إلى صلاة الجمعة، وقد تخلو من الدليل الشرعي الخاص فترد بها أدلة الشرع العامة .
وبهذا تفترق الوسائل عن المصالح المرسلة؛ فإن المصالح المرسلة خالية ـ ولابد ـ عن الدليل الشرعي الخاص .
أن الوسائل تدخل في جميع الأبواب؛ إذ هي واقعة في العبادات والمعاملات والتقديرات والحدود، وذلك كالسعي إلى الجمعة، والسفر إلى الحج، والنظر إلى المخطوبة؛ فإنه وسيلة إلى نكاحها، وضبط الحساب والإحصاء؛ فإنه وسيلة إلى أداء الديون ومعرفة أنصبة الورثة ومقدار العدة بالنسبة للمعتدة .
وبهذا تفترق الوسائل عن المصالح المرسلة؛ فإن المصالح المرسلة لا تكون إلا فيما عقل معناه من المعاملات والأحوال العامة التي تجري على المناسبات المعقولة، ولا مدخل لها في التعبدات وما جرى مجراها من المقدرات الشرعية كالحدود والكفارات .
أن الوسائل قد تتضمن في ذاتها مصلحة أو مفسدة، وقد لا تتضمن واحدا منهما.
مثال الوسيلة المتضمنة في ذاتها للمصلحة: الجهاد فإنه ـ مع كونه متضمنا لمصالح دنيوية وأخروية ـ وسيلة إلى حفظ الدين .
ومثال الوسيلة المتضمنة في ذاتها للمفسدة: الزنا فإنه ـ مع كونه متضمنا لمفاسد دنيوية وأخروية ـ وسيلة لنيل الشهوات وقضاء الأوطار .
ومثال الوسيلة المجردة عن المصلحة والمفسدة: السعي والمشي؛ فإنه فعل مجرد، غير متضمن في ذاته للمصلحة ولا للمفسدة، بدليل أنه لا فرق من حيث الوقوع بين السعي إلى المسجد وبين السعي إلى دور الفساد والرذيلة .
وبهذا تتميز الوسائل عن المقاصد؛ فإن المقاصد متضمنة في أنفسها ـ ولابد ـ للمصالح أو المفاسد، وأما الوسائل فإنها تارة ـ إن كانت وسائل محضة ـ لا تتضمن في ذاتها مصلحة ولا مفسدة، وقد تتضمن تارة أخرى في ذاتها مصلحة أو مفسدة، وهذه هي الوسائل النسبية .
أن الوسائل تشمل الأسباب والشروط والصيغ وغير ذلك من اللوازم لتحصيل مقصد ما من المقاصد .
فالسبب وسيلة؛ كالسعي إلى صلاة الجمعة، والشرط وسيلة؛ كالطهارة في الصلاة، والصيغة وسيلة؛ كقول العاقد: بعتُ .
وبهذا يتبين أن الوسائل أعم من الأسباب؛ إذ الوسائل تشمل الأسباب وغيرها من الشروط واللوازم .
أن الوسائل متغيرة، متجددة؛ إذ هي منتشرة واسعة، يصعب حصرها وتتعذر الإحاطة بها، لاسيما مع تجدد النوازل واختلاف الأحوال وتطاول الزمان، لذا كان التجديد في الوسائل أمرا تحتمه الحاجة إلى التغيير، وذلك بحسب القدرات والإمكانات، وحسب الأحوال والأشخاص والزمان والمكان، ولئلا يحصل اليأس من الثمرة .
ومن أمثلة ذلك: وسائل الكتابة والنسخ فقد كانت قاصرة على الأقلام والمحابر والأوراق ونحوها، والآن وجدت آلات التصوير والطباعة .
المسألة الخامسة: أقسام الوسائل .
الوسائل نوعان: محضة ونسبية .
فالوسائل المحضة: الخالية في ذاتها عن المصالح والمفاسد؛ كالحركة والانتقال .
والوسائل النسبية: المتضمنة في ذاتها للمصالح أو المفاسد .
فهي وسيلة باعتبار، ومقصد باعتبار آخر؛ إذ هي وسيلة من جهة التوسل بها إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد، وهي مقصد لا وسيلة من جهة تضمنها ـ في ذاتها ـ للمصلحة أو المفسدة
وبهذا النظر فإن كون الشيء وسيلة أو مقصدا من الأمور النسبية؛ بمعنى أن الشيء قد يكون وسيلة باعتبار، ومقصدا باعتبار آخر .
مثال ذلك: الجهاد، هو مقصد يتوسل إليه بإعداد العدة والاستعداد، وهو وسيلة إلى إعزاز الدين ومحو الكفر[8] .
فنخلص من ذلك إلى أن الأقسام ثلاثة:
مقاصد محضة لا تكون وسائل، وهي: ما تضمن في ذاته مصلحة أو مفسدة ولم يكن وسيلة إلى مقصد آخر .
وهذا إنما يتحقق في المعاني التي لا تكون أفعالا؛ كحفظ العرض .
وسائل محضة لا تكون مقاصد، وهي الأفعال المجردة في ذاتها عن المصلحة والمفسدة التي يتوسل بها إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد؛ كالحركة .
الوسائل النسبية والمقاصد النسبية، وهي: ما تضمن في ذاته مصلحة أو مفسدة، وصار وسيلة إلى مقصد آخر، فهذه مقاصد باعتبار ووسائل باعتبار آخر؛ كالجهاد .
المطلب الأول: الأدلة على مشروعية الوسائل من حيث الجملة .
وفيه مسلكان:
المسلك الأول: النصوص من الكتاب والسنة :
1 ـ قوله تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} [9].
قال العز بن عبد السلام: إنما أثيبوا على الظمأ والنصب وليس من فعلهم؛ لأنهم تسببوا إليها بسفرهم وسعيهم، وعلى الحقيقة : فالتأهب للجهاد بالسفر إليه وإعداد الكراع والسلاح والخيل وسيلة إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين .. وغير ذلك من مقاصد الجهاد فالمقصود ما شرع الجهاد لأجله، والجهاد وسيلة إليه .
وأسباب الجهاد كلها وسائل إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى مقاصده فالاستعداد له من باب وسائل الوسائل [10] .
وقال ابن سعدي[11]: فالذهاب والمشي إلى الصلاة واتباع الجنائز .. وغير ذلك من العبادات: داخل في العبادة، وكذلك الخروج إلى الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله من حين يخرج ويذهب من محله إلى أن يرجع إلى مقره وهو في عبادة لأنها وسائل للعبادة ومتممات لها؛ قال تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ... } [12] .
2 ـ قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [13] .
قال العز بن عبد السلام: وهذا نهي عن التسبب إلى المفاسد وأمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح [14] .
3 ـ قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [15] .
قال العز بن عبد السلام: وهذا أمر بالمصالح وأسبابها ... ونهي عن المفاسد وأسبابها [16] .
4 ـ قوله تعالى: إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم [17] .
قال ابن سعدي: وفُسِّر قوله تعالى: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} [18]أي : نقل خطاهم وأعمالهم للعبادات أو لضدها، وكما أن نقل الأقدام للعبادات تابع لها فنقل الأقدام إلى المعاصي تابع لها ومعصية أخرى [19] .
5 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : "ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" [20] .
6 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : " .. من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فروض الله: كانت خطوتاه إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة" [21].
المسلك الثاني: القواعد الشرعية .
أولا:
مقدمة الواجب أو ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
معنى مقدمة الواجب: أن كل ما يتوقف عليه إيقاع الواجب ـ وهو في مقدور المكلف ـ فهو واجب، ويعبر عنها أيضا بقاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب[22] .
وذلك أن كلا منهما طريق يفضي إلى تحصيل مقصد من المقاصد، إلا أن الوسيلة أعم مطلقا من مقدمة الواجب؛ فمقدمات الواجب كلها مندرجة تحت الوسائل، ولا عكس؛ فبينهما عموم وخصوص مطلق، وهذا يتضح من وجهين:
1 أن الوسائل تنفرد بكونها لا تختص بالواجب؛ إذ تشمل ما يفضي إلى الواجب، وما يفضي إلى الحرام والمكروه والمندوب والمباح . بخلاف مقدمة الواجب؛ فإنها خاصة بالواجب دون غيره .
2 أن الوسائل تعم كل وسيلة، سواء توقف عليها حصول المقصود أم لا، بخلاف مقدمة الواجب؛ فإنها خاصة بالوسيلة التي يتوقف عليها وجود الواجب .
مثال ذلك: من تيسر له الحج الواجب عن طريق السفر بالبر والجو والبحر، فالسفر عن طريق الجو لا يعد من مقدمة الواجب، وإنما هو وسيلة من الوسائل؛ لأن حصول الواجب لا يتوقف عليه؛ إذ يمكن حصول الواجب عن طريق السفر بالبر أو البحر .
ثانيا:
اعتبار المآل .
والمراد بذلك: النظر فيما تؤول إليه الأفعال من مصالح ومفاسد؛ إذ العمل قد يكون في الأصل مشروعا، لكن يُنهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو يكون في الأصل ممنوعا، لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة .
قال الشاطبي: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا: كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام والإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل [23] .
ومما يدخل تحت النظر إلى المآل: سد الذرائع، وتحريم الحيل، والمنع من الغلو في العبادات؛ إذ الجميع يفضي إلى ترك المأمور به والوقوع في المحظور .
وكل ذلك يندرج تحت الوسائل؛ فإن وسائل الحرام تفضي إلى الحرام .
وقد جاءت هذه الشريعة بسد الذرائع وهو تحريم ما يتوسل ويتوصل بواسطته إلى الحرام، كما جاءت بإبطال الحيل التي تفتح باب الحرام .
قال ابن القيم: وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات، وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها.
فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم التناقض.
والشارع حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه[24] يعني: بذلك الحيل .
مثال سد الذرائع: نهي الله عن سب آلهة المشركين مع كون ذلك أمرًا واجبًا من مقتضيات الإيمان بألوهيته سبحانه، وذلك لكون هذا السب ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوًا وكفرًا على وجه المقابلة[25].
قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [26] .
ومثال الحيل المحرمة التي يتوصل بها إلى فعل الحرام: فعل بني إسرائيل لما حرم عليهم صيد الحيتان يوم السبت، إذ نصبوا البرك والحبائل للحيتان قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل، فلما انقضى السبت أخذوها، فمسخهم إلى صورة القردة[27].
قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [28] .
ثالثا:
مكملات المقاصد .
المكمل هو: ما من شأنه تحسين صورة أصله وتقوية جانبه؛ كالنافلة للفريضة .
فالمكملات تدور حول الأصل بالخدمة حتى يتأدى الأصل على أحسن حالاته، ولو خلت الضروريات من مكملاتها أو من أكثرها لوقع فيها خلل بوجه ما، والوسائل من قبيل التكملة؛ إذ بها يتحقق المقصد ويكتمل .
قال الشاطبي: وذلك أن الصلاة ـ مثلا ـ إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم؛ فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه، فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع والسكون .
ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن؛ لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه، وإذا كبَّر وسبَّح وتشهَّد فذلك كله تنبيه للقلب وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه، وهكذا إلى آخرها .
فلو قدم قبلها نافلة كان ذلك تدريجا للمصلي واستدعاء للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضا لكان خليقا باستصحاب الحضور في الفريضة [29] .
رابعا:
قواعد فقهية متنوعة .
فمن ذلك:
قاعدة: ما حرم استعماله حرم اتخاذه كالخنزير، وآلات اللهو، وآنية الذهب والفضة[30].
قاعدة: ما حرم أخذه حرم إعطاؤه كالربا، ومهر البغي، والرشوة[31]، ويقرب منها: قاعدة: ما حرم فعله حرم طلبه [32] .
قاعدة: الحريم له حكم ما هو حريم له كالفخذين حريم للعورة الكبرى[33] .
فهذه القواعد تندرج تحت قاعدة: للوسائل حكم المقاصد وتدل عليها .
نشر هذا البحث في العدد 82 من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة. للحديث بقية
[1] انظر أساس البلاغة: 499 ومعجم مقاييس اللغة: 6/110 والمفردات: 871 والكليات: 946 والمصباح المنير: 660 والنهاية في غريب الحديث والأثر: 5/185 ولسان العرب: 11/724،725 .
[2] هو إبراهيم بن موسى اللخمي، الغرناطي، أبو إسحاق الشاطبي، فقيه مالكي، أصولي بارع، له مصنفات نافعة، منها: الاعتصام، والموافقات، توفي سنة 790 هـ . انظر نيل الابتهاج: 46 .
[3] الموافقات:1/66.
[4] هناك من أهل اللغة من يقيد الوسيلة بتضمنها لمعنى القصد والرغبة . انظر معجم مقاييس اللغة: 6/110 والكليات: 946 .
[5] انظر شرح تنقيح الفصول:449 والفروق: 2/33 وإعلام الموقعين: 3/135 والقواعد والأصول الجامعة:10.
[6] انظر قواعد الأحكام: 107 والموافقات: 2/212 .
[7] انظر القواعد للمقري: 1/330 والموافقات: 2/12-25.
[8] انظر قواعد الأحكام:1/105،106.شرح تنقيح الفصول:449 والفروق:2/33.
[9] سورة التوبة: 120 .
[10] قواعد الأحكام: 105-106 .
[11] هو عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي، نشأ في بلاد القصيم ودرس على علماء الحنابلة هناك، وكان مشتغلا بكتب ابن تيمية وابن القيم، له مصنفات كثيرة، منها: كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان والقول السديد في مقاصد التوحيد، توفي سنة 1376 هـ . انظر مقدمة كتاب تيسير الكريم الرحمن .
[12] القواعد والأصول الجامعة: 11 .
[13] سورة المائدة: 2 .
[14] قواعد الأحكام: 131 .
[15] سورة النحل: 90 .
[16] قواعد الأحكام: 131 .
[17] سورة يس: 12 .
[18] سورة يس: 12 .
[19] القواعد والأصول الجامعة: 12 .
[20] أخرجه مسلم في صحيحه: 17/21 .
[21] أخرجه مسلم في صحيحه: 5/169 .
[22] انظر مجموع الفتاوى: 20/160 وقواعد المقري: 3/393 ونزهة الخاطر: 1/107.
[23] الموافقات: 4/194 .
[24] "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" 1/361 .
[25] انظر المصدر السابق.
[26] سورة الأنعام: 108 .
[27] انظر: "إعلام الموقعين" 3/162، و"تفسير ابن كثير" 1/109.
[28] سورة الأعرف: 163 .
[29] الموافقات: 2/24 .
[30] انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: 150 .
[31] انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: 150 والأشباه والنظائر لابن نجيم: 158 .
[32] انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: 151 .
[33] انظر المصدر السابق: 125 .