تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: أحكام الوسائل عند الأصوليين

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,511

    افتراضي أحكام الوسائل عند الأصوليين

    أحكام الوسائل عند الأصوليين (1-2)
    أ.د. محمد بن حسين الجيزاني

    المقدمة
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .
    أما بعد فهذا بحث في أحكام الوسائل عند الأصوليين، وقد اقتضى المقام تقسيم هذا البحث إلى تمهيد وخمسة مطالب، بيانها في الآتي:
    تمهيد في التعريف بالوسائل، وفيه خمس مسائل:
    المسألة الأولى: معنى الوسائل في اللغة .
    المسألة الثانية: معنى الوسائل في الاصطلاح .
    المسألة الثالثة: موازنة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي .
    المسألة الرابعة: خصائص الوسائل .
    المسألة الخامسة: أقسام الوسائل .
    المطلب الأول: الأدلة على مشروعية الوسائل من حيث الجملة .
    المطلب الثاني: حكم الوسيلة المجردة عن المصلحة والمفسدة .
    المطلب الثالث: حكم الوسيلة المتضمنة في ذاتها للمصلحة أو المفسدة .
    المطلب الرابع: متى تتعين وسيلة بعينها؟
    المطلب الخامس: قواعد الترجيح بين الوسائل .
    وقد ذيلت هذا البحث بخاتمة ذكرت فيها نتائج البحث، كما ذيلته بثبت للمصادر والمراجع الواردة في الهوامش .
    أسأل الله جل شأنه أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
    تمهيد في التعريف بالوسائل .
    وفيه خمس مسائل:
    المسألة الأولى: معنى الوسائل في اللغة .
    المسألة الثانية: معنى الوسائل في الاصطلاح .
    المسألة الثالثة: موازنة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي .
    المسألة الرابعة: خصائص الوسائل .
    المسألة الخامسة: أقسام الوسائل .
    المسألة الأولى: معنى الوسائل في اللغة[1] .
    الوسائل في اللغة والوُسُل أيضاً جمع وسيلة .
    والوسيلة: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به .
    والوسيلة أخص من الوصيلة؛ لتضمن الوسيلة لمعنى الرغبة .
    المسألة الثانية: معنى الوسائل في اصطلاح الأصوليين .
    توطئة في أركان عملية التوسل:
    عملية التوسل لابد لها من أركان ثلاثة: متوسَّل به، وهو الوسيلة، ومتوسَّل إليه، وهو المقصد، ومتوسِّل، وهو الفاعل .
    الركن الأول: فعل متوسل به، وهذا هو الوسيلة، والأصل فيها أن تكون فعلا مجردا عن المصلحة أو المفسدة، وربما تكون فعلا متضمنا لواحد منهما .
    وهذا الفعل لابد أن يكون مقدورا عليه من جهة، وأن يكون من جهة ثانية مفضيا ـ في الغالب ـ إلى المقصد، وهذا الإفضاء يعرف تارة من جهة الشرع أو العقل أو العادة، وذلك مثل كون الأكل وسيلة للإشباع، والنفير وسيلة للجهاد .
    الركن الثاني: مقصد متوسل إليه، وهذا المقصد قد يتضمن في ذاته مصلحة أو مفسدة، وقد يتجرد عنها لكنه يفضي ـ ولابد ـ إلى واحد منهما مثال ذلك: جمع المال وسيلة إلى مقصد، وهو شراء السلاح، وشراء السلاح في ذاته غير متضمن للمصلحة لكنه يفضي إليها؛ إذ هو وسيلة إلى الجهاد الذي يتضمن في ذاته للمصلحة .
    الركن الثالث: فاعل متوسل بهذه الوسيلة إلى ذلك المقصد، وهذا المتوسل لابد أن يوجد معه القصد والرغبة .
    وذلك بأن يقصد هذا المتوسل ـ من جهة ـ مباشرة هذا الفعل، وهو الوسيلة، ومن جهة أخرى أن يكون مقصوده من مباشرة هذه الوسيلة التوصل إلى المقصد لا مجرد فعل الوسيلة .
    وحاصل هذا: أن يكون المتوسل قاصدا في فعله للوسيلة تحقيق مقصد من المقاصد، فهو متطلع إلى تحصيل هذا المقصد، راغب في إيجاده على أكمل الوجوه .
    معنى الوسيلة عند الأصوليين:
    عند تأمل المعنى اللغوي للوسيلة وتأمل ما مضى بيانه في أركان عملية التوسل يظهر لنا أن الوسيلة عند الأصوليين لابد من تقييدها بثلاثة أمور:
    وجود القصد والرغبة في تحقيق المقصد لدى المباشر للوسيلة ، فهي إذن مسألة تحتاج إلى تخطيط ودراسة، ويحصل تنفيذها بقدر من الدراسة والمرحلية .
    وجود مقصد متضمن للمصلحة أو المفسدة؛ بحيث يتأتى القصد إليه والرغبة فيه .
    وإذا ثبت أنه لابد من وجود قصد ورغبة في تحصيل المقصد، وأن المقصد متضمن ولابد للمصلحة أو المفسدة أو مفض إليها نتج عن هذين: الأمر الثالث، وهو:
    أن تضمن الوسيلة للمصلحة أو المفسدة أو تجردها عنها أمر غير منظور إليه، وليس له أي اعتبار .
    ذلك أن الوسيلة ما هي إلا مجرد سبب يتوصل به إلى تحصيل المقصد المطلوب .
    وعند اعتبار هذه القيود أمكن تعريف الوسيلة عند الأصوليين بأنها:
    ما قُُُصد فعله من أجل التوصل به إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد، وكان هذا الفعل غير مقصود في ذاته .
    وقد حوى هذا التعريف قيودا ثلاثة، هذا بيانها:
    القيد الأول: قوله: ما قُُُصد فعله وقد تضمن هذا القيد أمرين:
    أولهما: أن الوسيلة لابد أن تكون فعلا . وبذلك خرجت: المقاصد المحضة؛ كحفظ العرض، فإنه مقصد محض وليس فعلا، بل هو معنى يسعى إلى تحقيقه وغاية يتوسل إليها .
    وثانيهما: أن يكون هذا الفعل مقدورا عليه؛ بحيث يمكن القصد إلى فعله . وبذلك خرجت الأسباب؛ فإن دخول الوقت سبب في وجوب الصلاة، لكنه لا يدخل تحت القدرة؛ إذ لا يمكن القصد إليه .
    القيد الثاني: قوله: من أجل التوصل به إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد وقد تضمن هذا القيد أمرين:
    أولهما: أن الوسيلة لابد فيها من وجود مقصد يسعى المتوسل إلى تحقيقه .
    وبهذا القيد خرجت الذرائع؛ فإن الذريعة ـ بمعناها الخاص ـ تطلق على كل فعل أفضى إلى مفسدة؛ سواء أكان المتذرع قاصدا للمفسدة أو غير قاصد لها .
    وثانيهما: أن هذا المقصد عام:
    فقد يكون مصلحة؛ كالسعي إلى الجمعة، وقد يكون مفسدة؛ كالسعي إلى دور الفساد .
    وبهذا يتبين أن الوسائل ـ بالنظر إلى مقاصدها ـ شاملة لكلا النوعين؛ حيث إنها قد تفضي إلى مصلحة، وقد تفضي إلى مفسدة .
    وهذا المقصد عام ـ من جهة ثانية ـ فقد يكون من الأفعال الحسية؛ كالجهاد، وقد يكون شيئا معنويا لا فعلا؛ كحفظ الدين .
    ثم نقول: إن المقصد قد يكون قريبا؛ فيتوصل إليه بمباشرة وسيلة واحدة، فالوسيلة هنا مباشرة للمقصد متصلة به كالسعي إلى الجمعة .
    وقد يكون المقصد بعيدا؛ فلا يمكن التوصل إليه إلا بمباشرة أكثر من وسيلة ـ وربما كانت الوسيلة من المقاصد النسبية ـ فيكون هذا من باب تسلسل الوسائل؛ كحفظ الدين فهو مقصد يتوسل إليه بالجهاد، والجهاد مقصد يتوسل إليه بإعداد القوة، وإعداد القوة مقصد يتوسل إليه بجمع المال .
    ويمكن أن نقول: جمع المال وسيلة إلى إعداد القوة، وإعداد القوة وسيلة إلى الجهاد، والجهاد وسيلة إلى حفظ الدين .
    وبهذا يعلم أن المقصد قد يتضمن في ذاته مصلحة أو مفسدة، وقد يتجرد عن المصلحة والمفسدة لكنه يفضي ـ ولابد ـ إلى واحد منهما .
    القيد الثالث: قوله: وكان هذا الفعل غير مقصود في ذاته .
    معنى هذا القيد: أن الوسيلة فعل مجرد عن القصد الذاتي، فهي فعل مقصود، لكنه لا يقصد لذاته، بل يقصد لغيره؛ فإنه إنما يفعل من أجل التوصل به إلى مقصد من المقاصد .
    وبهذا القيد تتميز الوسائل عن المقاصد النسبية؛ فإن المقاصد أفعال مقصودة لذاتها، بمعنى أنه يقصد فعلها من أجل التوصل بها إلى تحقيق ما تتضمنه هذه الأفعال في ذاتها من المصلحة أو المفسدة؛ كمن يتوضأ لا لأجل الصلاة، بل لكون الوضوء عبادة مستقلة بذاتها . بخلاف الوسائل فإنه يقصد فعلها من أجل التوصل بها إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد، وهذا المقصد يتضمن في ذاته مصلحة أو مفسدة؛ كالوضوء لأجل الصلاة .
    وقد أفاد هذا القيد: أن تضمن الوسيلة في ذاتها للمصلحة أو المفسدة أو تجردها في ذاتها عنها أمر غير منظور إليه، وليس له أي اعتبار .
    وهذا يتضح إذا عرفنا أن الوسائل نوعان:
    وسائل محضة، وهي: ما قُُُصد فعله من أجل التوصل به إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد، وكان هذا الفعل غير مقصود في ذاته؛ لتجرده في ذاته عن المصلحة أو المفسدة؛ كالمشي والحركة .
    والتوسل بالوسائل المحضة أمر نادر وعزيز؛ إذ جماع الوسائل المحضة: الأفعال الخالية في ذاتها عن المصلحة والمفسدة من الحركة والسكون والانتقال، وهي قليلة معدودة .
    وسائل نسبية، وهي: ما قُُُصد فعله من أجل التوصل به إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد، وكان هذا الفعل غير مقصود في ذاته، مع كونه في ذاته متضمنا للمصلحة أو المفسدة؛ كالجهاد والزنا .
    والتوسل في الغالب إنما يحصل بهذا النوع من الوسائل، أعني الوسائل النسبية، وهي الأفعال المتضمنة في ذاتها للمصلحة أو المفسدة، وإن كانت هذه الأفعال مقاصد من جهة تضمنها في ذاتها للمصلحة أو المفسدة .
    وقد أشار الشاطبي[2] إلى هذا المعنى بقوله: والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض، وإن صح أن تكون مقصودة في أنفسها[3] .
    ذلك أن الوسيلة ـ مع كونها فعلا غير مقصود لذاته ـ قد تتضمن في ذاتها مصلحة أو مفسدة، وقد تتجرد عنهما، إلا أن المتوسِّل إنما أقدم على مباشرة هذه الوسيلة لأجل تحقيق مقصود آخر، ولم يلتفت هذا المتوسِّل إلا إلى شيء واحد، وهو تحصيل المقصد؛ فهو لم ينظر إلى كون هذه الوسيلة متضمنة في ذاتها للمصلحة أو كونها متضمنة في ذاتها للمفسدة أو كونها مجردة في ذاتها عن المصلحة والمفسدة، بل هو معرض عن الوسيلة بالكلية، غير ملتفت إلى ما قد تتضمنه من مصلحة أو مفسدة؛ إذ همُّه ومراده تحقيق المقصد الذي يسعى إليه .
    فهذه ثلاثة أقسام للفعل الذي يتوسل به:
    فعل متضمن في ذاته للمصلحة .
    وفعل متضمن في ذاته للمفسدة .
    وفعل غير متضمن لواحد منهما .
    ثم إن هذه الأفعال تنقسم بالنسبة إلى مقاصدها إلى قسمين: فعل يتوسل به إلى المصلحة، وفعل يتوسل به إلى المفسدة .
    فحاصل الضرب ستة أقسام:
    فعل متضمن في ذاته للمصلحة، يتوسل به إلى المصلحة، كالجهاد لإعزاز الدين ومحو الكفر .
    فعل متضمن في ذاته للمصلحة، يتوسل به إلى المفسدة، كالحج إن كان وسيلة إلى الوقوع في المعاصي والوقوع في المحرمات .
    فعل متضمن في ذاته للمفسدة، يتوسل به إلى المفسدة، كالسرقة لأجل الزنا .
    فعل متضمن في ذاته للمفسدة، يتوسل به إلى المصلحة، كإعطاء المال للكافر لئلا يزني بامرأة مسلمة .
    فعل غير متضمن في ذاته للمصلحة أو المفسدة، يتوسل به إلى المصلحة، كالسعي إلى الجمعة .
    فعل غير متضمن في ذاته للمصلحة، أو المفسدة، يتوسل به إلى المفسدة، كالسعي إلى أماكن الفساد والرذيلة .
    المسألة الثالثة: موازنة بين المعنى اللغوي للوسائل والمعنى الاصطلاحي .
    بين المعنى اللغوي للوسائل والمعنى الاصطلاحي عموم وخصوص مطلق؛ حيث إن المعنى اللغوي للوسائل أعم وأوسع من المعنى الاصطلاحي .
    ذلك أن معنى الوسيلة في اللغة يدخل تحته: الذريعة بمعناها الاصطلاحي الخاص، والحيل الجائزة والممنوعة، ومقدمة الواجب، والأسباب، ويدخل أيضا تحت المعنى اللغوي للوسيلة: الوسيلة بمعناها الاصطلاحي الخاص .
    وتنفرد الوسيلة بالمعنى الاصطلاحي بأنه لابد فيها من القصد، أعني أن يقصد المتوسل بمباشرة الوسيلة تحقيق مقصد ما، وهذا القيد غير معتبر عند إطلاق الوسيلة بالمعنى اللغوي؛ فإن الوسيلة في اللغة تطلق على كل فعل يتوصل به إلى مقصد ما، وُجد معه القصد أو لم يوجد .
    المسألة الرابعة: خصائص الوسائل .
    أن الوسيلة فعل غير مقصود لذاته، بل هو مقصود لأجل تحقيق مقصد آخر.
    وبهذا تنفصل الوسائل عن المقاصد؛ حيث إن المقاصد مقصودة في أنفسها؛ لما تتضمنه من المصالح أو المفاسد .
    أن الوسيلة لابد فيها من القصد، أعني أن يقصد المتوسل بمباشرة الوسيلة تحقيق مقصد ما من المقاصد .
    وبهذا يعرف الفرق بين المعنى اللغوي للوسيلة والمعنى الاصطلاحي؛ حيث إنه لابد في الوسيلة بالمعنى الاصطلاحي من القصد، أعني أن يقصد المتوسل بمباشرة الوسيلة تحقيق مقصد ما، وهذا القيد غير معتبر عند إطلاق الوسيلة بالمعنى اللغوي؛ فإن الوسيلة في اللغة تطلق على كل فعل يتوصل به إلى مقصد ما، وُجد معه القصد أو لم يوجد[4] .
    وبهذا أيضا تفارق الوسيلة الذريعة؛ حيث إن الذريعة ـ بمعناها الخاص ـ تطلق على كل فعل يفضي إلى مفسدة ما من المفاسد، وُجد مع هذا الفعل القصد إلى المفسدة أو لم يوجد .
    أن المقصد الذي تفضي إليه الوسيلة قد يكون مصلحة وقد يكون مفسدة .
    وبهذا تفترق الوسائل عن الذرائع؛ فإن الذريعة مفضية ولابد إلى مفسدة .
    أن الوسائل لا تستقل بنفسها، بل هي تابعة لمقاصدها، فالوسائل مع مقاصدها كالتابع مع المتبوع .
    والوسائل تتبع المقاصد في الحكم؛ كما قيل: للوسائل أحكام المقاصد[5]بخلاف المقاصد؛ فإنها مستقلة بنفسها في الحكم .
    والوسائل تتبع مقاصدها أيضا في سقوطها؛ فكلما سقطت المقاصد سقطت معها ـ ولا بد ـ وسائلها[6] .
    وقد انبنى على ذلك أن من شرط اعتبار الوسائل ألا تعود على مقاصدها بالبطلان؛ إذ المقاصد مقدمة أبدا على الوسائل[7] .
    أن الوسيلة فعل ما، وحكم هذا الفعل ـ من حيث الأصل ـ قد يكون مأذونا فيه، وقد يكون محرما .
    وبهذا تفارق الوسائل كلا من الذرائع والحيل جائزة كانت أو ممنوعة؛ حيث إن الذرائع والحيل لابد أن تكون ـ من حيث الأصل ـ أفعالا مأذونا فيها .
    أن الوسائل قد ترد بها أدلة الشرع الخاصة؛ كالسعي إلى صلاة الجمعة، وقد تخلو من الدليل الشرعي الخاص فترد بها أدلة الشرع العامة .
    وبهذا تفترق الوسائل عن المصالح المرسلة؛ فإن المصالح المرسلة خالية ـ ولابد ـ عن الدليل الشرعي الخاص .
    أن الوسائل تدخل في جميع الأبواب؛ إذ هي واقعة في العبادات والمعاملات والتقديرات والحدود، وذلك كالسعي إلى الجمعة، والسفر إلى الحج، والنظر إلى المخطوبة؛ فإنه وسيلة إلى نكاحها، وضبط الحساب والإحصاء؛ فإنه وسيلة إلى أداء الديون ومعرفة أنصبة الورثة ومقدار العدة بالنسبة للمعتدة .
    وبهذا تفترق الوسائل عن المصالح المرسلة؛ فإن المصالح المرسلة لا تكون إلا فيما عقل معناه من المعاملات والأحوال العامة التي تجري على المناسبات المعقولة، ولا مدخل لها في التعبدات وما جرى مجراها من المقدرات الشرعية كالحدود والكفارات .
    أن الوسائل قد تتضمن في ذاتها مصلحة أو مفسدة، وقد لا تتضمن واحدا منهما.
    مثال الوسيلة المتضمنة في ذاتها للمصلحة: الجهاد فإنه ـ مع كونه متضمنا لمصالح دنيوية وأخروية ـ وسيلة إلى حفظ الدين .
    ومثال الوسيلة المتضمنة في ذاتها للمفسدة: الزنا فإنه ـ مع كونه متضمنا لمفاسد دنيوية وأخروية ـ وسيلة لنيل الشهوات وقضاء الأوطار .
    ومثال الوسيلة المجردة عن المصلحة والمفسدة: السعي والمشي؛ فإنه فعل مجرد، غير متضمن في ذاته للمصلحة ولا للمفسدة، بدليل أنه لا فرق من حيث الوقوع بين السعي إلى المسجد وبين السعي إلى دور الفساد والرذيلة .
    وبهذا تتميز الوسائل عن المقاصد؛ فإن المقاصد متضمنة في أنفسها ـ ولابد ـ للمصالح أو المفاسد، وأما الوسائل فإنها تارة ـ إن كانت وسائل محضة ـ لا تتضمن في ذاتها مصلحة ولا مفسدة، وقد تتضمن تارة أخرى في ذاتها مصلحة أو مفسدة، وهذه هي الوسائل النسبية .
    أن الوسائل تشمل الأسباب والشروط والصيغ وغير ذلك من اللوازم لتحصيل مقصد ما من المقاصد .
    فالسبب وسيلة؛ كالسعي إلى صلاة الجمعة، والشرط وسيلة؛ كالطهارة في الصلاة، والصيغة وسيلة؛ كقول العاقد: بعتُ .
    وبهذا يتبين أن الوسائل أعم من الأسباب؛ إذ الوسائل تشمل الأسباب وغيرها من الشروط واللوازم .
    أن الوسائل متغيرة، متجددة؛ إذ هي منتشرة واسعة، يصعب حصرها وتتعذر الإحاطة بها، لاسيما مع تجدد النوازل واختلاف الأحوال وتطاول الزمان، لذا كان التجديد في الوسائل أمرا تحتمه الحاجة إلى التغيير، وذلك بحسب القدرات والإمكانات، وحسب الأحوال والأشخاص والزمان والمكان، ولئلا يحصل اليأس من الثمرة .
    ومن أمثلة ذلك: وسائل الكتابة والنسخ فقد كانت قاصرة على الأقلام والمحابر والأوراق ونحوها، والآن وجدت آلات التصوير والطباعة .
    المسألة الخامسة: أقسام الوسائل .
    الوسائل نوعان: محضة ونسبية .
    فالوسائل المحضة: الخالية في ذاتها عن المصالح والمفاسد؛ كالحركة والانتقال .
    والوسائل النسبية: المتضمنة في ذاتها للمصالح أو المفاسد .
    فهي وسيلة باعتبار، ومقصد باعتبار آخر؛ إذ هي وسيلة من جهة التوسل بها إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد، وهي مقصد لا وسيلة من جهة تضمنها ـ في ذاتها ـ للمصلحة أو المفسدة
    وبهذا النظر فإن كون الشيء وسيلة أو مقصدا من الأمور النسبية؛ بمعنى أن الشيء قد يكون وسيلة باعتبار، ومقصدا باعتبار آخر .
    مثال ذلك: الجهاد، هو مقصد يتوسل إليه بإعداد العدة والاستعداد، وهو وسيلة إلى إعزاز الدين ومحو الكفر[8] .
    فنخلص من ذلك إلى أن الأقسام ثلاثة:
    مقاصد محضة لا تكون وسائل، وهي: ما تضمن في ذاته مصلحة أو مفسدة ولم يكن وسيلة إلى مقصد آخر .
    وهذا إنما يتحقق في المعاني التي لا تكون أفعالا؛ كحفظ العرض .
    وسائل محضة لا تكون مقاصد، وهي الأفعال المجردة في ذاتها عن المصلحة والمفسدة التي يتوسل بها إلى تحقيق مقصد ما من المقاصد؛ كالحركة .
    الوسائل النسبية والمقاصد النسبية، وهي: ما تضمن في ذاته مصلحة أو مفسدة، وصار وسيلة إلى مقصد آخر، فهذه مقاصد باعتبار ووسائل باعتبار آخر؛ كالجهاد .
    المطلب الأول: الأدلة على مشروعية الوسائل من حيث الجملة .
    وفيه مسلكان:
    المسلك الأول: النصوص من الكتاب والسنة :
    1 ـ قوله تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} [9].
    قال العز بن عبد السلام: إنما أثيبوا على الظمأ والنصب وليس من فعلهم؛ لأنهم تسببوا إليها بسفرهم وسعيهم، وعلى الحقيقة : فالتأهب للجهاد بالسفر إليه وإعداد الكراع والسلاح والخيل وسيلة إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين .. وغير ذلك من مقاصد الجهاد فالمقصود ما شرع الجهاد لأجله، والجهاد وسيلة إليه .
    وأسباب الجهاد كلها وسائل إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى مقاصده فالاستعداد له من باب وسائل الوسائل [10] .
    وقال ابن سعدي[11]: فالذهاب والمشي إلى الصلاة واتباع الجنائز .. وغير ذلك من العبادات: داخل في العبادة، وكذلك الخروج إلى الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله من حين يخرج ويذهب من محله إلى أن يرجع إلى مقره وهو في عبادة لأنها وسائل للعبادة ومتممات لها؛ قال تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ... } [12] .
    2 ـ قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [13] .
    قال العز بن عبد السلام: وهذا نهي عن التسبب إلى المفاسد وأمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح [14] .
    3 ـ قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [15] .
    قال العز بن عبد السلام: وهذا أمر بالمصالح وأسبابها ... ونهي عن المفاسد وأسبابها [16] .
    4 ـ قوله تعالى: إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم [17] .
    قال ابن سعدي: وفُسِّر قوله تعالى: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} [18]أي : نقل خطاهم وأعمالهم للعبادات أو لضدها، وكما أن نقل الأقدام للعبادات تابع لها فنقل الأقدام إلى المعاصي تابع لها ومعصية أخرى [19] .
    5 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : "ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" [20] .
    6 ـ قوله صلى الله عليه وسلم : " .. من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فروض الله: كانت خطوتاه إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة" [21].
    المسلك الثاني: القواعد الشرعية .
    أولا:
    مقدمة الواجب أو ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
    معنى مقدمة الواجب: أن كل ما يتوقف عليه إيقاع الواجب ـ وهو في مقدور المكلف ـ فهو واجب، ويعبر عنها أيضا بقاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب[22] .
    وذلك أن كلا منهما طريق يفضي إلى تحصيل مقصد من المقاصد، إلا أن الوسيلة أعم مطلقا من مقدمة الواجب؛ فمقدمات الواجب كلها مندرجة تحت الوسائل، ولا عكس؛ فبينهما عموم وخصوص مطلق، وهذا يتضح من وجهين:
    1 أن الوسائل تنفرد بكونها لا تختص بالواجب؛ إذ تشمل ما يفضي إلى الواجب، وما يفضي إلى الحرام والمكروه والمندوب والمباح . بخلاف مقدمة الواجب؛ فإنها خاصة بالواجب دون غيره .
    2 أن الوسائل تعم كل وسيلة، سواء توقف عليها حصول المقصود أم لا، بخلاف مقدمة الواجب؛ فإنها خاصة بالوسيلة التي يتوقف عليها وجود الواجب .
    مثال ذلك: من تيسر له الحج الواجب عن طريق السفر بالبر والجو والبحر، فالسفر عن طريق الجو لا يعد من مقدمة الواجب، وإنما هو وسيلة من الوسائل؛ لأن حصول الواجب لا يتوقف عليه؛ إذ يمكن حصول الواجب عن طريق السفر بالبر أو البحر .
    ثانيا:
    اعتبار المآل .
    والمراد بذلك: النظر فيما تؤول إليه الأفعال من مصالح ومفاسد؛ إذ العمل قد يكون في الأصل مشروعا، لكن يُنهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو يكون في الأصل ممنوعا، لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة .
    قال الشاطبي: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا: كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام والإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل [23] .
    ومما يدخل تحت النظر إلى المآل: سد الذرائع، وتحريم الحيل، والمنع من الغلو في العبادات؛ إذ الجميع يفضي إلى ترك المأمور به والوقوع في المحظور .
    وكل ذلك يندرج تحت الوسائل؛ فإن وسائل الحرام تفضي إلى الحرام .
    وقد جاءت هذه الشريعة بسد الذرائع وهو تحريم ما يتوسل ويتوصل بواسطته إلى الحرام، كما جاءت بإبطال الحيل التي تفتح باب الحرام .
    قال ابن القيم: وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات، وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها.
    فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم التناقض.
    والشارع حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه[24] يعني: بذلك الحيل .
    مثال سد الذرائع: نهي الله عن سب آلهة المشركين مع كون ذلك أمرًا واجبًا من مقتضيات الإيمان بألوهيته سبحانه، وذلك لكون هذا السب ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوًا وكفرًا على وجه المقابلة[25].
    قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [26] .
    ومثال الحيل المحرمة التي يتوصل بها إلى فعل الحرام: فعل بني إسرائيل لما حرم عليهم صيد الحيتان يوم السبت، إذ نصبوا البرك والحبائل للحيتان قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل، فلما انقضى السبت أخذوها، فمسخهم إلى صورة القردة[27].
    قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [28] .
    ثالثا:
    مكملات المقاصد .
    المكمل هو: ما من شأنه تحسين صورة أصله وتقوية جانبه؛ كالنافلة للفريضة .
    فالمكملات تدور حول الأصل بالخدمة حتى يتأدى الأصل على أحسن حالاته، ولو خلت الضروريات من مكملاتها أو من أكثرها لوقع فيها خلل بوجه ما، والوسائل من قبيل التكملة؛ إذ بها يتحقق المقصد ويكتمل .
    قال الشاطبي: وذلك أن الصلاة ـ مثلا ـ إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم؛ فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجه إليه، فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع والسكون .
    ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن؛ لأن الجميع كلام الرب المتوجه إليه، وإذا كبَّر وسبَّح وتشهَّد فذلك كله تنبيه للقلب وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه، وهكذا إلى آخرها .
    فلو قدم قبلها نافلة كان ذلك تدريجا للمصلي واستدعاء للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضا لكان خليقا باستصحاب الحضور في الفريضة [29] .
    رابعا:
    قواعد فقهية متنوعة .
    فمن ذلك:
    قاعدة: ما حرم استعماله حرم اتخاذه كالخنزير، وآلات اللهو، وآنية الذهب والفضة[30].
    قاعدة: ما حرم أخذه حرم إعطاؤه كالربا، ومهر البغي، والرشوة[31]، ويقرب منها: قاعدة: ما حرم فعله حرم طلبه [32] .

    قاعدة: الحريم له حكم ما هو حريم له كالفخذين حريم للعورة الكبرى[33] .
    فهذه القواعد تندرج تحت قاعدة: للوسائل حكم المقاصد وتدل عليها .
    نشر هذا البحث في العدد 82 من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة. للحديث بقية


    [1] انظر أساس البلاغة: 499 ومعجم مقاييس اللغة: 6/110 والمفردات: 871 والكليات: 946 والمصباح المنير: 660 والنهاية في غريب الحديث والأثر: 5/185 ولسان العرب: 11/724،725 .

    [2] هو إبراهيم بن موسى اللخمي، الغرناطي، أبو إسحاق الشاطبي، فقيه مالكي، أصولي بارع، له مصنفات نافعة، منها: الاعتصام، والموافقات، توفي سنة 790 هـ . انظر نيل الابتهاج: 46 .

    [3] الموافقات:1/66.

    [4] هناك من أهل اللغة من يقيد الوسيلة بتضمنها لمعنى القصد والرغبة . انظر معجم مقاييس اللغة: 6/110 والكليات: 946 .

    [5] انظر شرح تنقيح الفصول:449 والفروق: 2/33 وإعلام الموقعين: 3/135 والقواعد والأصول الجامعة:10.

    [6] انظر قواعد الأحكام: 107 والموافقات: 2/212 .

    [7] انظر القواعد للمقري: 1/330 والموافقات: 2/12-25.

    [8] انظر قواعد الأحكام:1/105،106.شرح تنقيح الفصول:449 والفروق:2/33.

    [9] سورة التوبة: 120 .

    [10] قواعد الأحكام: 105-106 .

    [11] هو عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي، نشأ في بلاد القصيم ودرس على علماء الحنابلة هناك، وكان مشتغلا بكتب ابن تيمية وابن القيم، له مصنفات كثيرة، منها: كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان والقول السديد في مقاصد التوحيد، توفي سنة 1376 هـ . انظر مقدمة كتاب تيسير الكريم الرحمن .

    [12] القواعد والأصول الجامعة: 11 .

    [13] سورة المائدة: 2 .

    [14] قواعد الأحكام: 131 .

    [15] سورة النحل: 90 .

    [16] قواعد الأحكام: 131 .

    [17] سورة يس: 12 .

    [18] سورة يس: 12 .

    [19] القواعد والأصول الجامعة: 12 .

    [20] أخرجه مسلم في صحيحه: 17/21 .

    [21] أخرجه مسلم في صحيحه: 5/169 .

    [22] انظر مجموع الفتاوى: 20/160 وقواعد المقري: 3/393 ونزهة الخاطر: 1/107.

    [23] الموافقات: 4/194 .

    [24] "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" 1/361 .

    [25] انظر المصدر السابق.

    [26] سورة الأنعام: 108 .

    [27] انظر: "إعلام الموقعين" 3/162، و"تفسير ابن كثير" 1/109.

    [28] سورة الأعرف: 163 .

    [29] الموافقات: 2/24 .

    [30] انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: 150 .

    [31] انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: 150 والأشباه والنظائر لابن نجيم: 158 .

    [32] انظر الأشباه والنظائر للسيوطي: 151 .

    [33] انظر المصدر السابق: 125 .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,511

    افتراضي رد: أحكام الوسائل عند الأصوليين

    أحكام الوسائل عند الأصوليين (2-2)
    أ.د. محمد بن حسين الجيزاني

    المطلب الثاني: حكم الوسيلة المجردة عن المصلحة والمفسدة .
    إذا كانت الوسيلة مجردة، لم تتضمن في ذاتها مصلحة أو مفسدة فهل يكون حكمها حينئذ حكم مقصدها الذي تفضي إليه ؟
    القاعدة العامة في الوسائل: أن للوسائل أحكام المقاصد[1] .
    قال القرافي[2]: وحكمها أي الوسائل كحكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها[3].
    وبيان ذلك: أن الوسائل تأخذ أحكام مقاصدها: فوسيلة المحرم محرمة، ووسيلة المكروه مكروهة، ووسيلة المباح مباحة، ووسيلة المندوب مندوبة، ووسيلة الواجب واجبة .
    وهذا إنما يصح على سبيل العموم والإطلاق .
    أما على سبيل التفصيل والتعيين فيشترط في وسيلة الواجب والمندوب أن يتوقف عليها وجود المقصد .
    مثال ذلك: من أراد الحج من أهل القرى القريبة من مكة؛ فإنه يتعين عليه ـ على سبيل الوجوب أو الندب ـ السفر إلى مكة عن طريق البر؛ حيث لا يمكنه السفر إلى مكة عن طريق البحر أو الجو . ففي هذا المثال يسوغ أن يقال: للوسائل أحكام المقاصد؛ فتأخذ الوسيلة، وهي السفر عن طريق البر حكم مقصدها، وهو إما الوجوب أو الندب، وذلك لأن وجود المقصد، وهو الحج توقف على هذه الوسيلة بعينها، وهي السفر عن طريق البر .
    أما إذا كان الواجب أو المندوب يمكن تحققه بأكثر من وسيلة، ولا يتوقف وجود المقصد على وسيلة معينة؛ فإن هذه الوسيلة المعينة لا تأخذ حكم مقصدها من جهة التعيين، وإنما تأخذ الوسيلة ـ ها هنا ـ حكم المقصد على سبيل الإطلاق والعموم، وهذا هو الواجب أو المندوب المطلق الذي لا يتحقق إلا بالمعين؛ كالأمر بعتق الرقبة: فإنه لا يمكن امتثاله إلا بإعتاق رقبة معينة .
    مثال ذلك: من أراد الحج من أهل القارات البعيدة عن مكة فإنه يتعين عليه ـ وجوبا أو ندبا ـ أن يسافر إلى مكة إما عن طريق البر، أو عن طريق الجو، أو عن طريق البحر، فهذه ثلاث وسائل يحصل بها المقصود، لكنه لا يتوقف على وسيلة بعينها، بل يتحقق المقصود بأي وسيلة منها .
    ففي هذا المثال لا يصح أن يقال: للوسائل أحكام المقاصد، وذلك لأن المقصد، وهو الحج لم يتوقف وجوده على وسيلة معينة، بل وجدت هاهنا ثلاث وسائل، كلها مفضية إلى المقصد واجبا كان أو مندوبا، ولما كان المقصد الواجب أو المندوب لا يتوقف على وسيلة واحدة بعينها من هذه الوسائل الثلاث لم يمكن الحكم بالوجوب أو الاستحباب العيني على جميع هذه الوسائل الثلاث، وإنما يقال: المطلوب من هذه الوسائل الثلاث ـ وجوبا أو ندبا ـ واحدة لا بعينها، ويمكن بهذا النظر أن توصف هذه الوسائل الثلاث بأنها واجبة أو مندوبة، وذلك على وجه الإطلاق والعموم، لا على وجه الخصوص والتعيين .
    قال الشيخ السعدي: الوسائل لها أحكام المقاصد: فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون، وطرق الحرام والمكروهات تابعة لها، ووسيلة المباح مباح[4].
    فانظر كيف قيَّد رحمه الله تعالى الحكم في وسائل الواجب والمندوب بأسلوب القصر والحصر بأن بتوقف المقصد عليها، وأطلق الحكم في وسائل الحرام والمكروه والمباح .
    وبهذا يعلم: أنه لا يصح أن يقال في الوسائل المفضية إلى الواجب أو المندوب أنها تأخذ أحكام مقاصدها بإطلاق . بل يقال: إن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد بشرط أن يتوقف تحصيل المقاصد عليها .
    وبذلك يمكن أن نفصل القول في قاعدة "للوسائل أحكام المقاصد" على الترتيب الآتي:
    كل وسيلة تفضي إلى الحرام فهي محرمة من جهة العموم، ومن جهة التعيين .
    كل وسيلة تفضي إلى المكروه فهي مكروهة من جهة العموم، ومن جهة التعيين .
    كل وسيلة تفضي إلى المباح فهي مباحة من جهة العموم، ومن جهة التعيين .
    كل وسيلة تفضي إلى المندوب وكان وجود المندوب متوقفا عليها فهي مندوبة من جهة التعيين .
    كل وسيلة تفضي إلى الواجب وكان وجود الواجب متوقفا عليها فهي واجبة من جهة التعيين .
    كل وسيلة تفضي إلى المندوب وكان وجوده لا يتوقف عليها فهي مندوبة من جهة العموم والإطلاق .
    كل وسيلة تفضي إلى الواجب وكان وجوده لا يتوقف عليها فهي واجبة من جهة العموم والإطلاق .
    وبهذا يتبين أن قاعدة "للوسائل أحكام المقاصد" إنما تنطبق انطباقا تاما مطَّردا على الوسائل المباحة في ذاتها، فيما إذا كانت هذه الوسائل المباحة مفضية إلى مقصد مباح أو مكروه أو محرم .
    أما إذا أفضت هذه الوسائل المباحة إلى مقصد واجب أو مندوب فإنها تأخذ حكم ما أفضت إليه من الوجوب والندب بشرط أن يتوقف تحقيق هذا المقصد ـ واجبا كان أو مندوبا ـ على هذه الوسيلة المباحة .
    ويمكن أن يقال: تأخذ الوسائل أحكام المقاصد فيما إذا كانت المقاصد محرمة أو مكروهة أو مباحة . أما إن كانت المقاصد واجبة أو مندوبة فالوسائل تأخذ أحكام مقاصدها على سبيل الإطلاق والعموم .
    وحاصل القول: أن قاعدة للوسائل أحكام المقاصد لابد أن تفهم فهما صحيحا، وذلك بأن تقيد بقيدين:
    القيد الأول: أن المراد بالوسائل ـ ها هنا ـ الوسائل المباحة، والوسائل المباحة هي التي لم تتضمن ـ في ذاتها ـ مصلحة أو مفسدة .
    حسبما قرر ذلك الشاطبي في المسألة الأولى من كتاب الموافقات عندما ذكر أن المباح غير مطلوب الفعل ولا مطلوب الاجتناب .
    قال رحمه الله تعالى عند كلامه على المباح: وعلى الجملة فإذا فُرض ذريعة إلى غيره فحكمه حكم ذلك الغير [5] .
    القيد الثاني: أن الوسائل المفضية إلى المقاصد المندوبة والمقاصد الواجبة لابد من تقييدها بأن يتوقف وجود المقصد على هذه الوسيلة بعينها .
    قال ابن تيمية[6]: "فالحقيقة المطلقة هي الواجبة، وأما خصوص العين فليس واجبا ولا مأمورا به، وإنما هو أحد الأعيان التي يحصل بها المطلق؛ بمنزلة الطريق إلى مكة، ولا قصد للآمر في خصوص التعيين"[7] .
    وإليك فيما يأتي جدول يوضح لك أحكام الوسائل المجردة في ذاتها عن المصلحة والمفسدة مع الأمثلة:

    حكم الوسيلة في ذاتها
    حكم المقصد المتوسل إليه
    حكم الوسيلة من جهة التوسل بها إلى المقصد
    المثال
    1
    الإباحة
    الوجوب
    الوجوب إذا كان وجود المقصد متوقفا عليها
    كالسفر بالطائرة إلى مكة؛ فإنه واجب إذا توقف عليه الحج الواجب
    2
    الندب
    الندب إذا كان وجود المقصد متوقفا عليها
    كالسفر بالطائرة إلى مكة؛ فإنه مندوب إذا توقف عليه الحج المندوب
    3
    الإباحة
    الإباحة
    كالسفر بأي وسيلة إلى أماكن النزهة؛ فإنه مباح
    4
    الكراهة
    الكراهة
    كالسفر بأي وسيلة إلى أماكن اللغو؛ فإنه مكروه
    5
    التحريم
    التحريم
    كالسفر بأي وسيلة إلى أماكن الفساد؛ فإنه محرم

    هذا حكم الوسائل المباحة، أما إذا كانت الوسائل متضمنة في ذاتها للمصلحة أو المفسدة؛ فهي إذ ذاك لا تكون مباحة، بل تكون إما واجبة أو مندوبة أو محرمة أو مكروهة .
    ولهذه الوسائل الأربع نظر آخر، إليك بيانه في المطلب الآتي:
    المطلب الثالث: حكم الوسيلة المتضمنة في ذاتها للمصلحة أو المفسدة .
    الوسائل إذا تضمنت ـ في ذاتها ـ مصلحة أو مفسدة فهل تأخذ حكم مقاصدها؟ الجواب على ذلك يحتاج إلى تفصيل .
    فلابد من النظر أولا إلى حكم الوسيلة في ذاتها من جهة، والنظر ثانيا إلى حكم المقصد المتوسل إليه من جهة ثانية، والمعتبر عند اختلاف الحكمين إنما هو الأقوى من هذين الحكمين .
    هذا هو حكم الوسيلة النسبية، وذلك أن الفعل إذا كان متضمنا في ذاته لمقصد ما، وجُعل في الوقت نفسه وسيلة إلى تحقيق مقصد آخر غير المقصد الذي تضمنه هذا الفعل فقد تعارض ها هنا مقصدان: مقصد الفعل الذاتي الحالي الآني، وهذا مقصد متوسل به؛ حيث جعل هذا المقصد وسيلة .
    ومقصد الفعل العارض المآلي المستقبلي، وهذا مقصد متوسل إليه .
    والحكم إنما هو للأقوى من هذين المقصدين .
    ومن الأمثلة على الوسيلة الواجبة والمندوبة: الحج الواجب أو المندوب .
    ومن أمثلة الوسيلة المكروهة: السهر بعد العشاء .
    ومن أمثلة الوسيلة المحرمة: ملامسة المرأة الأجنبية .
    فهذه الوسائل على اختلاف أحكامها قد يتوسل بها إلى تحقيق مقصد واجب؛ كإنقاذ نفس أو بر الوالدين .
    وقد يتوسل بها إلى تحقيق مقصد مندوب؛ كصلة الأرحام المستحبة ومدارسة العلم النافع .
    وقد يتوسل بها إلى تحقيق مقصد مباح؛ كالكسب الحلال .
    وقد يتوسل بها إلى مقصد مكروه؛ كتضييع بعض السنن أو الوقوع في فضول الكلام .
    وقد يتوسل بها إلى مقصد محرم؛ كتضييع الصلاة الواجبة أو الوقوع في الفاحشة .
    وبيان ذلك: أن الوسائل إنما تأخذ حكم مقاصدها بشرط ألا تنقص عنها، أي بشرط ألا ينقص حكم المقصد عن حكم وسيلته؛ إذ المقاصد لابد أن تكون أعلى من الوسائل، والوسائل من شأنها ـ حسب هذا الأصل ـ أن تكون أخفض من المقاصد؛ لتصير المقاصد هي الأعلى والأقوى، حتى يسوغ حينئذ ويتصور أن يُرتقى إلى المقاصد ويتوصل إليها بمباشرة الوسائل، فتُعطى الوسائل عندئذ حكم مقاصدها .
    قال القرافي: وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد، وهي الطرق المفضية للمصالح والمفاسد في أنفسها . ووسائل، وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها كحكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها[8] .
    أما إذا كانت الوسائل في ذاتها أعلى وأقوى في الحكم من المقاصد، فمقتضى ذلك أن هذه الوسائل لها أحكامها الخاصة بها، الثابتة لها، فتأخذ الوسيلة حكمها الثابت لها في ذاتها؛ لكونها مفضية إليه حالا ولابد، ولا يستقيم حينئذ أن تأخذ هذه الوسيلة حكم مقصدها الذي تفضي إليه مآلا؛ لأن هذه الوسيلة لما صارت مفضية في آن واحد إلى مقصدين: المقصد الأول: المصلحة أو المفسدة التي تتضمنها الوسيلة في ذاتها في الحال، والمقصد الثاني: المقصد الآخر الذي يراد التوصل إليه بهذه الوسيلة في المآل كان الحكم للأقوى من هذين المقصدين .
    وبيان ذلك أن يقال: إن الوسيلة إذا تضمنت مصلحة كان حكمها الوجوب أو الندب، وإذا تضمنت مفسدة كان حكمها التحريم أو الكراهة، فهذه أربعة أحكام بالنسبة للوسيلة، أقواها الوجوب والتحريم، وهما في درجة واحدة من حيث الجملة، ثم الندب والكراهة، وهما أيضا في درجة واحدة من حيث الجملة .
    والمقصد قد يكون حكمه الوجوب، أو الندب، أو التحريم، أو الكراهة، أو الإباحة، فهذه خمسة أحكام بالنسبة للمقصد .
    ولا شك أن الإباحة أضعف هذه الأحكام .
    لذلك فإن المقصد متى كان مباحا بقيت الوسيلة على حكمها من الوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو التحريم، ولم تأخذ الوسيلة حكم مقصدها؛ لأن حكم الوسيلة في هذه الحالة أقوى بلا ريب من حكم المقصد أو مثله .
    وكذلك إذا كان حكم الوسيلة في ذاتها الوجوب فهي واجبة على كل حال، سواء كان مقصدها الذي تفضي إليه واجبا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو محرما، اللهم إلا ما يستثنى في باب سد الذرائع .
    وكذلك الوسيلة إذا كان حكمها في ذاتها التحريم فهي محرمة على كل حال، سواء كان مقصدها الذي تفضي إليه واجبا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو محرما، اللهم إلا ما يستثنى في باب الضرورة؛ فإن الضرورات تبيح المحظورات[9] .
    أما إن كان حكم الوسيلة في ذاتها هو الندب أو الكراهة فإنها قد تُعطى حكم مقصدها، وقد تبقى على حكمها الأصلي من الندب أو الكراهة . فهاتان حالتان:
    الحالة الأولى: أن تعطى هذه الوسيلة حكم مقصدها، وذلك فيما إذا كان حكم هذا المقصد هو الوجوب أو التحريم؛ لأن حكم المقصد أقوى من حكم الوسيلة .
    الحالة الثانية: أن تبقى هذه الوسيلة على حكمها الأصلي من الندب أو الكراهة، ولا تعطى حكم مقصدها، وذلك فيما إذا كان حكم مقصدها هو الندب أو الكراهة أو الإباحة .
    ومهما كان حكم الوسيلة مماثلا لحكم مقصدها في القوة مخالفا له في النوع؛ كالتحريم مع الوجوب، والندب مع الكراهة كان لابد من الترجيح .
    فالترجيح إنما يصار إليه إذا وقع تكافؤ بين حكم الوسيلة في ذاتها وبين حكم مقصدها
    وحاصل ضرب أحكام الوسائل بأحكام المقاصد عشرون صورة، وإليك بيانها في الجدول الآتي:

    حكم الوسيلة في ذاتها
    حكم المقصد المتوسل إليه
    حكم الوسيلة من جهة التوسل بها
    المثال
    1
    الوجوب
    الوجوب
    الوجوب
    كالحج الواجب إن كان وسيلة إلى قضاء حق واجب
    2
    الوجوب
    الندب
    الوجوب
    كالحج الواجب إن كان وسيلة إلى صلة الأرحام المستحبة
    3
    الوجوب
    الإباحة
    الوجوب
    كالحج الواجب إن كان وسيلة إلى الكسب الحلال
    4
    الوجوب
    الكراهة
    الوجوب
    كالحج الواجب إن كان وسيلة إلى الوقوع في اللغو وفضول الكلام
    5
    الوجوب
    التحريم
    ؟
    كالحج الواجب إن كان وسيلة إلى الوقوع في المعاصي وترك الواجبات
    6
    الندب
    الوجوب
    الوجوب
    كالحج المندوب إن كان وسيلة إلى قضاء حق واجب
    7
    الندب
    الندب
    الندب
    كالحج المندوب إن كان وسيلة إلىصلة الأرحام المستحبة
    8
    الندب
    الإباحة
    الندب
    كالحج المندوب إن كان وسيلة إلى الكسب الحلال
    9
    الندب
    الكراهة
    ؟
    كالحج المندوب إن كان وسيلة إلى الوقوع في اللغو وفضول الكلام
    10
    الندب
    التحريم
    التحريم
    كالحج المندوب إن كان وسيلة إلى الوقوع في المعاصي وترك الواجبات
    11
    الكراهة
    الوجوب
    الوجوب
    كالسهر بعد العشاء إن كان وسيلة إلى بر الوالدين
    12
    الكراهة
    الندب
    ؟
    كالسهر بعد العشاء إن كان وسيلة إلى مدارسة العلم النافع
    13
    الكراهة
    الإباحة
    الكراهة
    كالسهر بعد العشاء إن كان وسيلة إلى الكسب الحلال
    14
    الكراهة
    الكراهة
    الكراهة
    كالسهر بعد العشاء إن كان وسيلة إلى إضاعة السنن وصلاة التطوع
    15
    الكراهة
    التحريم
    التحريم
    كالسهر بعد العشاء إن كان وسيلة إلى إضاعة الصلاة الواجبة
    16
    التحريم
    الوجوب
    ؟
    كملامسة المرأة الأجنبية إن كان وسيلة إلى إنقاذ نفس
    17
    التحريم
    الندب
    التحريم
    كملامسة المرأة الأجنبية إن كان وسيلة إلى تحصيل علم نافع
    18
    التحريم
    الإباحة
    التحريم
    كملامسة المرأة الأجنبية إن كان وسيلة إلى الكسب الحلال
    19
    التحريم
    الكراهة
    التحريم
    كملامسة المرأة الأجنبية إن كان وسيلة إلى الوقوع في اللغو وفضول الكلام
    20
    التحريم
    التحريم
    التحريم
    كملامسة المرأة الأجنبية إن كان وسيلة إلى الوقوع في الفاحشة

    وقد تميزت ثمان صور منها بكون الوسيلة أقوى من المقصد في الحكم، والمعتبر في هذه الصور الثمان إنما هو حكم الوسيلة لأنه الأقوى، وهي الصور المظللة في الجدول .
    أما بقية الصور فالمعتبر فيها حكم المقصد؛ لكونه أقوى من حكم الوسيلة أو مساويا له، وعدد هذه الصور اثنتا عشرة صورة، وهي التي تنطبق عليها قاعدة: "للوسائل أحكام المقاصد" .
    حيث إنه يشترط في إعطاء الوسيلة حكم مقصدها أن يكون حكم الوسيلة في ذاتها أخفض من حكم المقصد الذي تفضي إليه .
    المطلب الرابع: متى تتعين وسيلة بعينها؟
    تتعيَّن الوسيلة إذا توقف تحصيل المقصد على وسيلة واحدة بعينها لا يتحقق هذا المقصد إلا بها .
    ويدخل تحت ذلك إذا كان للمقصد أكثر من وسيلة إلا أن هذا المقصد لا يتحقق كاملا إلا بوسيلة واحدة، فيعتبر وجود هذه الوسائل كعدمها .
    فالوسيلة في هذه الحالة متعينة الوجوب أو الاستحباب بحسب حكم المقصد .
    مثال ذلك: السفر لمن أراد الحج وكان بعيدا عن مكة، فيكون السفر وسيلة ضرورية لا يتصور تحقق المقصد ـ وهو الحج ـ إلا به .
    أما إذا تعددت الوسائل، وأمكن تحصيل المقصد بأكثر من وسيلة، وذلك ـ كما تقدم ـ بشرط أن تشترك هذه الوسائل في تحصيل أصل المقصد وأن يكون التفاوت فيما بينها في قضية الكمال، ففي هذه الحالة لا تخلو تلك الوسائل المتعددة من أمرين:
    1) إما أن تكون هذه الوسائل متساوية في الإفضاء إلى المقصد . ففي هذه الحالة على المكلف ـ وجوبا أو استحبابا ـ أن يتخير ما شاء منها .
    مثال ذلك: تنوع وسائل السفر ما بين برية وجوية وبحرية لمن تعيَّن عليه السفر إلى مكة مثلا، وفُرض إفضاء جميع هذه الوسائل إلى المقصد بدرجة متساوية فعلى المكلف التخير منها .
    2 وإما أن يكون بعض هذه الوسائل أقوى من بعض في الإفضاء إلى المقصد، فعلى المكلف ـ في هذه الحالة ـ التماس أقوى الوسائل وأكملها في تحقيق المقصد؛ كمن ضاق عليه وقت الحج، وهو بعيد عن مكة وكان السفر بالجو أقرب لإدراك الحج فإنه يتعين .
    قال ابن عاشور[10]: وقد تتعدد الوسائل إلى المقصد الواحد فتعتبر الشريعة ـ في التكليف بتحصيلها ـ أقوى تلك الوسائل تحصيلا للمقصد المتوسل إليه بحيث يحصل كاملا، راسخا، عاجلا، ميسورا، فتقدمها على وسيلة هي دونها في هذا التحصيل .
    وهذا مجال متسع، ظهر فيه مصداق نظر الشريعة إلى المصالح، وعصمتها من الخطأ والتفريط ... ... فإذا قدَّرنا وسائل متساوية في الإفضاء إلى المقصد باعتبار أحواله كلها سوَّتْ الشريعة في اعتبارها، وتخير المكلف في تحصيل بعضها دون الآخر؛ إذ الوسائل ليست مقصودة لذاتها[11].
    ومن الأمثلة على ذلك:
    المثال الأول: إذا وقع على المسلمين اعتداء من جهة الكافرين وتعين على المسلمين الجهاد ومقاتلة الكافرين، وكان لذلك عدة وسائل، كلها تفضي إلى رفع هذا الاعتداء، لكن كانت إحدى هذه الوسائل أشد نكاية في الكافرين من غيرها، وأيسر في تحقيق النصر على الأعداء: كان طلب هذه الوسيلة بعينها واعتبارها بخصوصها أرجح وأولى، وربما كانت متعينة على سبيل الوجوب .
    المثال الثاني: تعدد وسائل الاتصال لمن تعيَّن عليه إبلاغ أمر ما، فيتخير ما شاء: من استعمال الهاتف أو البريد أو البرقية، وذلك عندما يكون إفضاء هذه الوسائل إلى المقصد في درجة واحدة، لكن إن توقف حصول البلاغ على وسيلة بعينها فإنها تتعين .
    المثال الثالث: تغيير منكر من المنكرات والسعي في إزالته قد يتوقف على أكثر من وسيلة: إما بالاتصال ببعض المسؤولين، وإما بمخاطبة من وقع منه المنكر، وإما بوسيلة ثالثة ورابعة، لكن متى ثبت أن إحدى هذه الوسائل أجدى في إزالة المنكر وأسرع في تغييره فإنها قد تتعين .
    ولما كان الترجيح بين الوسائل المتعددة المتنوعة بابا واسعا، فيه مجال رحب للنظر والاجتهاد احتيج إلى تقريب هذا الباب وضبطه، وهذا ما سيأتي بيانه في المطلب الآتي .
    المطلب الخامس: قواعد الترجيح بين الوسائل .
    إذا تعددت الوسائل وتكاثرت، وكانت كلها مفضية إلى المقصود، فأي هذه الوسائل أولى بالتقديم؟
    يمكن ضبط الترجيح بين هذه الوسائل في قواعد عامة، وذلك على النحو الآتي:
    القاعدة الأولى:
    النظر إلى ورود النص بطلبه للوسيلة أو نهيه عنها . فما ورد فيه نص يقدم من حيث الجملة على ما لا نص فيه .
    ذلك أن الوسائل تنقسم بالنظر إلى ورود النص بها وعدمه إلى قسمين:
    1) وسائل ورد النص بطلبها والحث عليها، وهي: كل ما أُمر به في الكتاب أو السنة أَمْر وجوب أو استحباب أو جاء الإذن في فعله . فهذه وسائل معتبرة شرعا .
    2) وسائل ورد النص بمنعها والنهي عنها، وهي: كل ما نهي عنه في الكتاب أو السنة نهي تحريم أو كراهة . فهذه وسائل ملغاة شرعا .
    وهناك وسائل مسكوت عنها ـ وهذا قسم ثالث ـ وهي الوسائل المرسلة . وضابطها: ما لم يشهد له دليل خاص من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء .
    ومعرفة هذا القسم من الوسائل باب واسع؛ فإنه قد يحصل بالتجربة والعقل والعادة، وهو داخل تحت مسمى الوسائل الشرعية[12] .
    والمقصود ها هنا: أن الوسائل المنصوص عليها أولى بالتقديم من الوسائل التي لم يرد نص خاص في طلبها .
    ومن الأمثلة على ذلك: أن تطفئة نار الغضب وكظم الغيظ يتم بوسائل عدة، من ذلك ما أرشد إليه النص؛ كالتعوذ بالله من الشيطان والوضوء وتغيير صفة الجلوس، فهذه الوسائل أولى بالتقديم وأعظم في النفع وأقرب إلى كمال المقصد من وسائل أخرى لم يرد بها نص مما يذكره أهل الطب وعلماء النفس .
    ومن ذلك: الحلول الخاصة بالمشكلات والخلافات الزوجية؛ فإن ما أرشد إليه النص القرآني من الأمر بالوعظ والهجر في المضاجع والضرب والتحاكم إلى الحكمين، كل ذلك وسائل ناجعة مقدمة على ما سواها من الوسائل الأخرى التي تعرف بالتجربة والعادة ونحو ذلك .
    ومن ذلك: التداوي من الأمراض وطلب الشفاء من العلل؛ فإن ذلك يحصل بوسائل عدة، منها: الاستشفاء بآيات القرآن الكريم وبالأدعية والرقى الواردة في السنة الشريفة، ويحصل ذلك أيضا بوسائل أخرى؛ كتناول الأدوية والتطبب عن طريق الوسائل الحديثة، وجميع هذا داخل تحت مسمى الوسائل الشرعية .
    إلا أن الأخذ بالوسائل التي أرشدت إليه نصوص الوحي المطهر أكبر نفعا، وأعظم أثرا؛ فإنها في آن واحد شفاء لأمراض الجسد الروح، وليعلم أن هذا التأثير والانتفاع لا يحصل لكل أحد، والله المستعان .
    ومن هنا يتبين أن سلوك منهج الأنبياء في دعوة الناس إلى الدين، واتباع وسائلهم في الإصلاح والتوجيه والتغيير؛ كالكلمة الطيبة والقول الحسن والإحسان إلى الخلق والنصيحة لهم والرفق بهم أولى وأنفع من تلكم الوسائل التي أُحدثت في العصور المتأخرة .
    والناس في هذا الباب واقعون بين طرفي الإفراط والتفريط:
    فمنهم من أخذ بالوسائل المنصوص عليها ووقف عندها ولم يلتفت إلى ما سواها من تقدير الموقف ومراعاة الواقع واعتبار المتغيرات والاستفادة من الوسائل المستجدة النافعة المؤثرة .
    ومنهم من توسع في الأخذ بالوسائل الحادثة، وأسرف في اعتبارها، حتى أداه ذلك إلى الاقتصار عليها والإعراض عن الوسائل المنصوص عليها وإهمالها وإهدارها بالكلية .
    والحق إنما هو في التوسط بين الأمرين، والجمع بين الحسنيين؛ فلابد من اعتبار الوسائل المنصوص عليها والانطلاق منها والبناء عليها والفرح بها، مع الإفادة مما استجد من الوسائل المؤثرة، والأخذ بالطرق الجديدة النافعة .
    ومما يندرج تحت هذه القاعدة:
    أن الوسائل التي لم يرد نص خاص في النهي عنها أولى بالتقديم من الوسائل المنصوص على المنع منها .
    مثال ذلك: أن التداوي بالكي ـ وهو منهي عنه نهي تنزيه ـ وسيلة يقدم عليها ما سواها من التداوي بوسائل مباحة لم يرد النص بالمنع منها .
    القاعدة الثانية:
    النظر إلى فضل المقصد المتوسل إليه، فإن الوسائل تابعة في الفضل لمقاصدها .
    قال العز بن عبد السلام: يختلف أجر وسائل الطاعات باختلاف فضائل المقاصد ومصالحها، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل من سائر الوسائل[13].
    ومن ذلك: أن وسائل المحافظة على الضروريات أولى وأهم من وسائل المحافظة على الحاجيات والتحسينات .
    وكذلك الوسائل المفضية إلى حفظ الدين أولى بالتقديم من الوسائل المفضية إلى حفظ النفس، وما يتعلق بالنفس من وسائل أولى من الوسائل المتعلقة بالمال .
    ومن الأمثلة على ذلك أيضا[14]:
    أن التوسل إلى معرفة الله وذاته أفضل من التوسل إلى معرفة أحكامه.
    وأن التوسل إلى معرفة أحكامه أفضل من التوسل إلى معرفة آياته.
    وأن التوسل بالسعي إلى الجهاد أفضل من التوسل بالسعي إلى الجمعات.
    وأن التوسل بالسعي إلى الجمعات أفضل من التوسل بالسعي إلى الجماعات في الصلوات المكتوبات.
    وأن التوسل بالسعي إلى الصلوات المكتوبات أفضل من التوسل بالسعي إلى المندوبات التي شرعت فيها الجماعات؛كالعيد ين والكسوفين.
    القاعدة الثالثة:
    النظر إلى قوة إفضاء الوسيلة إلى المقصد، فكلما كان إفضاء الوسيلة أكمل في تحقيق المقصد كانت الوسيلة أفضل .
    قال العز بن عبد السلام: وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المصلحة كان أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها[15].
    وقال ابن القيم: فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها.
    ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها[16].
    ومن الأمثلة على ذلك: من وجب عليه أداء الحج وهو بعيد عن مكة، وكان يمكنه السفر إلى مكة بطريقين: أحدهما عن طريق الجو، والطريق الآخر عن طريق البر، وهو إن سلك طريق البر ربما عرض له تعب شديد ومشقة لا يأتي معها بأركان الحج وواجباته على الوجه الحسن .
    أو نقول: إن وقت الحج كان قريبا، وربما إن ذهب إلى مكة عن طريق البر وقع له تأخر أو فوات للحج، فالمسألة بالنسبة لطريق البر غير مأمونة، فهي وسيلة قد يقع في إفضائها إلى المقصد نظر واحتمال .
    بهذا النظر أمكن أن يقال: إن التوجه إلى مكة عن طريق الجو يكون أولى من طريق البر، وربما يتعين عليه ذلك .
    ومما يجدر بيانه: أن الوسائل بالنظر إلى درجة إفضائها إلى المقصود تنقسم إلى: وسائل قطعية الإفضاء، ووسائل غالبة الإفضاء، ووسائل كثيرة الإفضاء، ووسائل محتملة الإفضاء، ووسائل نادرة الإفضاء[17].
    ثم إن درجة الإفضاء قضية نسبية، تختلف من وسيلة إلى أخرى، ومن مقصد إلى آخر، وتختلف أيضا باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة .
    والمطلوب على كل حالٍ: الحرص على أكمل الوسائل وأعلاها في تحقيق المقصد؛ بحيث يحصل هذا المقصد على هيئة كاملة، راسخة، عاجلة، ميسورة[18].
    فلتكن ـ أيها المتوسل ـ من المقصد على ذكر وانتباه؛ بحيث يكون هو الحقيق بالعناية والتقديم، واحذر أن يشغلك عن العناية بالمقصد تحصيل الوسائل وتطلبها، بل اجعل المقصد نصب عينيك وأمام ناظريك، ولتكن الوسائل خادمة للمقاصد تابعة لها .
    ويحسن في هذا المقام الإشارة إلى قاعدة مهمة، وهي: أن الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من المتعلقة بمكانها [19] .
    ومن الأمثلة على هذه القاعدة ما يقع في المساجد الكبيرة؛ كالمسجد الحرام والمسجد النبوي من الازدحام، بل والاقتتال على الصفوف الأولى، فيقال:
    إن الصلاة في الصفوف المتأخرة؛ لما فيها من السعة والهدوء والطمأنينة يكون أولى من الصلاة في الصفوف الأولى؛ لما يحصل فيها من مزاحمة وتشويش ومضايقة، إذ المقصود أن تتأتى الصلاة على أكمل وجه من حيث الخشوع فيها وإقامة أركانها بطمأنينة ويسر .
    ومن ذلك أيضا: أن إدراك الصلاة في المكان المفضول مع الطمأنينة فيها وإقامة أركانها أولى من إدراك الصلاة في المكان الفاضل مع عدم الطمأنينة .
    ومعنى هذه القاعدة يرجع إلى أصل مهم، وهو: أن من شرط اعتبار المكمل ـ من حيث هو مكمل ـ ألا يعود هذا المكمل على أصله بالبطلان .
    القاعدة الرابعة:
    النظر إلى تضمن الوسيلة في ذاتها للمصالح أو المفاسد أو تجردها عن ذلك .
    حيث إن الوسيلة المتضمنة في ذاتها للمصلحة أولى في التحصيل والطلب من الوسيلة المجردة عنها، كما أن الوسيلة المتضمنة في ذاتها للمفسدة أولى في الدفع والمنع من الوسيلة المجردة عنها .
    وذلك أن الوسائل تنقسم بالنظر إلى تضمنها للمصالح والمفاسد أو تجردها عنها إلى قسمين:
    أ. وسيلة متضمنة للمصالح أو المفاسد في ذاتها .
    وعلامة هذا القسم من الوسائل أنها تصلح أن تكون مقصدا؛ فإن الجهاد وسيلة إلى إعزاز الدين ومحو الكفر، وهو ـ من جهة أخرى ـ متضمن في ذاته لمصلحة حفظ الدين، فصح بذلك أن يكون مقصدا يتوسل إليه بإعداد العدة والاستعداد .
    ومن ذلك أيضا: الزنا؛ فإنه وسيلة للحصول على المال، وهو ـ من جهة أخرى ـ متضمن في ذاته للمفسدة، وهي إضاعة النسل، فصح بذلك أن يكون مقصدا يتوسل إليه بالنظرة والخطوة والخلوة .
    ب. وسيلة غير متضمنة للمصالح أو المفاسد في ذاتها .
    وهذه هي الوسائل المحضة التي لا يتصور ولا يصح أن تكون مقصدا في ذاتها؛ كالسعي والمشي والانتقال والحركة .
    والحاصل: أن التوسل بالوسيلة المتضمنة في ذاتها للمصلحة أولى من التوسل بالوسيلة الخالية عن المصلحة .
    مثال ذلك: من أراد أن يذهب إلى بلد معين، وكان له في ذلك طريقان ، كلاهما موصل إلى ذلك البلد، لكن أحد هذين الطريقين يتضمن ـ إذا سلكه ـ التسليم على بعض أقاربه وصلتهم كان هذا الطريق أولى بالتقديم من الطريق الآخر الخال عن هذه المصلحة .
    ومن أراد التوجه إلى دور العلم وكان له في الوصول إليها طريقان، لكن أحد الطريقين دون الآخر يقترن به بعض المنكرات كان الطريق الخالي عن المنكرات أولى بالسلوك من الطريق الآخر المتضمن للمنكرات، اللهم إلا إن كان سلوكه لهذا الطريق يتضمن إنكاره للمنكر والسعي إلى إزالته وتغييره فبهذا النظر يكون سلوك هذا الطريق هو الأولى .
    القاعدة الخامسة:
    النظر إلى قرب الوسيلة من المقصد المتوسل إليه أو بعدها عنه، فكلما كانت الوسيلة إلى المقصود أقرب وبه ألصق كانت أولى وأرجح .
    تنقسم الوسائل بالنظر إلى قربها من المقصد إلى:
    1 وسائل إلى المقصود .
    2 وسائل إلى وسائل المقصود .
    قال العز بن عبد السلام: والحقوق كلها ضربان:
    أحدهما: مقاصد . والثاني: وسائل، ووسائل وسائل [20] .
    ومن الأمثلة على ذلك:
    في باب العلوم: حيث إن العلوم تتفاضل بمقاصدها، فعلوم الشريعة مقدمة على علوم اللغة، ثم إن علوم الشريعة تتفاضل فيما بينها فعلم الفقه مقدم على تاريخ الفقه ومصطلحات أهله .
    وفي باب الجهاد: حيث إن إعداد القوة وسيلة واجبة تحقق مقصد الجهاد، وهذه الوسيلة تتضمن: تصنيع السلاح، وإصلاحه، ونقله، ورمي الأعداء به في المعركة، ولما كان تصنيع السلاح وإصلاحه ونقله يعد وسيلة يتوصل بها إلى رمي العدو به في المعركة كان رمي العدو به في المعركة أولى بالطلب؛ إذ هي أقرب هذه الوسائل في تحقيق مقصود الجهاد .
    · وفي باب المعاصي: حيث إن الزنا مفسدة، يُمنع منها ومن كل الوسائل المفضية إليه، من النظر والخضوع بالقول والخلوة، ولما كانت الخلوة أقرب هذه الوسائل إلى الوقوع في فاحشة الزنا كانت هي الأولى بالدفع والمنع مما سواها، حيث إن النظر والخضوع بالقول مفضيان ـ في الغالب ـ إلى الخلوة، والخلوة مفضية إلى الزنا .
    خاتمة
    يحسن بنا في خاتمة هذا البحث إثبات ملخص لأحكام الوسائل، وذلك في محورين:
    المحور الأول: أحكام الوسائل المحضة، والمراد بالوسائل المحضة: الأفعال المجردة في ذاتها عن المصالح والمفاسد .
    وبتعبير آخر أقول: إن المباح الذي يتم التوصل به إلى مقصد من المقاصد هو بعينه الوسائل المحضة .
    وعلامة الوسيلة المحضة: أنها لا يمكن أن تكون مقصودة لذاتها بوجه من الوجوه .
    ومعرفة هذا الحكم أصل يرجع إلى باب حكم المباح شرعا فيما إذا صار المباح وسيلة إلى مقصد آخر .
    والمحور الثاني: أحكام الوسائل النسبية، والمراد بالوسائل النسبية: الأفعال المتضمنة في ذاتها للمصالح أو المفاسد .
    وبتعبير آخر أقول: إن الوسيلة النسبية لا تكون بحال من الأحوال فعلا مباحا في ذاته، بل هذا الفعل المتوسل به إما أن يكون حكمه ـ بحسب أصله ـ الوجوب أو الندب أو الكراهة أو التحريم، لكن حصل التوسل بهذا الفعل إلى مقصد من المقاصد .
    لذلك كان من علامة الوسائل النسبية أن يصلح كونها مقصودة ـ لذاتها ـ لما فيها من المصلحة أو المفسدة، فهي وسيلة من جهة، لكنها مقصد من جهة أخرى .
    والحكم على هذا النوع من الوسائل ـ أعني الوسائل النسبية ـ يحتاج إلى تفصيل؛ فلابد من إجراء موازنة بين ما يتضمنه كل من الوسيلة والمقصد من مصالح ومفاسد، ثم يُعطى الحكم للأقوى منهما .
    ومعرفة هذا الحكم أصل يرجع إلى باب وجوه التعارض بين المصالح والمفاسد وكيفية الترجيح بينها .
    هذا مجمل الكلام على هذين المحورين، وبه تظهر خلاصة البحث والمقصود منه، والحمد لله في الآخرة والأولى .
    نشر هذا البحث في العدد 82 من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة.
    ثبت المصادر والمراجع
    · أساس البلاغة للزمخشري 538هـ ت عبد الرحيم محمود ط1 مطبعة أولاد أورفاند 1372هـ · الأشباه والنظائر لابن السبكي 771هـ تحقيق عادل عبد الموجود وعلي عوض دار الكتب العلمية بيروت ط1 1411 هـ .· الأشباه والنظائر للسيوطي 911هـ دار الباز مكة المكرمة ودار الكتب العلمية بيروت ط1 1399 هـ .· الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي 970هـ دار الكتب العلمية بيروت 1400 هـ .· الأعلام لخير الدين الزركلي 1396هـ دار العلم للملايين، بيروت ط6 1986م .· إعلام الموقعين لابن القيم 751هـ تعليق طه سعد دار الجيل بيروت 1973م .· إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن قيم الجوزية تحقيق وتصحيح محمد حامد الفقي دار المعرفة بيروت .· تفسير ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: لابن كثير ت774ﻫ تقديم د.يوسف المرعشلي، الطبعة الأولى، دار المعرفة، بيروت 1407ﻫ .· تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي 1376هـ ت سعد الصميل، دار ابن الجوزي بالدمام ط1 1425 هـ . · الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب لابن فرحون 799هـ معه نيل الابتهاج، دار الكتب العلمية بيروت .· شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي 1089هـ دار إحياء التراث العربي بيروت .· شرح تنقيح الفصول للقرافي 684 هـ حققه طه سعد ط1 1393هـ مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة .· شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقاء نسقه د. عبد الستار أبو غدة دار الغرب الإسلامي ط1 1403 هـ .· صحيح مسلم 261 هـ المطبوع مع شرح النووي ط2 دار إحياء التراث العربي بيروت 1392 هـ . · الفروق للقرافي 684 هـ دار المعرفة بيروت .· القواعد لأبي عبد الله المقري 758 هـ تحقيق ودراسة أحمد بن عبد الله بن حميد من مطبوعات جامعة أم القرى بمكة المكرمة .· قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام 660هـ دار الكتب العلمية .· القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة لابن سعدي 1376 هـ مكتبة المعارف بالرياض 1406 هـ .· الكليات للكفوي 1094هـ قابله د/ عدنان درويش ومحمد المصري ط1 1412 هـ مؤسسة الرسالة بيروت .· لسان العرب لابن منظور 711هـ دار صادر بيروت .· مجموع الفتاوى لابن تيمية 728هـ جمع ابن قاسم مكتبة النهضة بمكة المكرمة 1404 هـ .· المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي 770هـ المكتبة العلمية بيروت .· معجم مقاييس اللغة لابن فارس 395هـ اعتنى به د. محمد عوض وفاطمة أصلان دار إحياء التراث العربي بيروت ط1 1422 هـ .· مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني 425هـ تحقيق صفوان داوودي ط1 1412 هـ دار القلم دمشق والدار الشامية بيروت .· مقاصد الشريعة الإسلامية محمد الطاهر ابن عاشور 1393 هـ نشر الشركة التونسية للتوزيع 1978م .· الموافقات للشاطبي 790هـ تعليق عبد الله دراز ط2 المكتبة التجارية الكبرى مصر 1395 هـ .· نزهة الخاطر العاطر على روضة الناظر لابن بدران 1346 هـ مطبوع مع الروضة دار الكتب العلمية .· النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 606هـ تحقيق محمود الطناحي وطاهر الزواوي أنصار السنة المحمدية باكستان .· نيل الابتهاج بتطريز الديباج لأحمد التنبكتي 1032هـ مطبوع مع الديباج، دار الكتب العلمية بيروت .· الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية للدكتور محمد صدقي البورنو مكتبة المعارف بالرياض ط2 1410 هـ .


    [1] انظر شرح تنقيح الفصول:449 والفروق: 2/33 وإعلام الموقعين: 3/135 والقواعد والأصول الجامعة: 10.

    [2] هو أحمد بن إدريس القرافي، شهاب الدين أبو العباس، انتهت إليه رئاسة المالكية، له شرح على المحصول، والذخيرة في الفقه، والفروق، توفي سنة 684 هـ . انظر الديباج المذهب: 62 .

    [3] شرح تنقيح الفصول: 449 والفروق: 2/33 .

    [4] القواعد والأصول الجامعة: 10.

    [5] الموافقات: 1/114.

    [6] هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني، تقي الدين أبو العباس، تفقه على مذهب أحمد وبرع في فنون كثيرة، له تصانيف كثيرة، منها: منهاج السنة النبوية والاستقامة، توفي سنة 728 هـ . انظر شذرات الذهب: 6/80 .

    [7] مجموع الفتاوى: 19/300 .

    [8] شرح تنقيح الفصول: 449، والفروق: 2/33 .

    [9] انظر الأشباه والنظائر لابن السبكي: 1/45 والأشباه والنظائر للسيوطي: 84 والأشباه والنظائر لابن نجيم: 85 وشرح القواعد الفقهية للزرقاء: 131 والوجيز للبورنو: 179 .

    [10] هو محمد الطاهر بن عاشور، رئيس المفتين المالكيين بتونس، من مؤلفاته: مقاصد الشريعة الإسلامية، والتحرير والتنوير في تفسير القرآن، توفي سنة 1393 هـ . انظر الأعلام: 6/174 .

    [11] مقاصد الشريعة لابن عاشور:149.

    [12] ذلك أن مسمى الوسائل الشرعية شامل للوسائل التي اعتبرها الشارع ونص على طلبها، أو أذن فيها، ويشمل أيضا الوسائل التي ثبتت بالتجارب، أو علمت بطريق العقل أو العادات .
    كما أن مسمى الوسائل غير الشرعية يشمل الوسائل التي نهى عنها الشارع، أو نص على إبطالها ومنع منها، ويشمل أيضا تلك الوسائل التي ثبت فسادها وتبين بطلانها بالعقل والتجربة والعادة .

    [13] قواعد الأحكام: 104.

    [14] انظر المصدر السابق: 104.

    [15] المصدر السابق.

    [16] إعلام الموقعين: 3/135.

    [17] انظر الموافقات:2/348،349 ومقاصد الشريعة لابن عاشور:86،87 .

    [18] انظر مقاصد الشريعة لابن عاشور:148.

    [19] انظر الأشباه والنظائر للسيوطي:147.

    [20] قواعد الأحكام: 1/141 .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •