تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 25

الموضوع: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (1)

    د.وليد خالد الربيع



    فالحكمة هي إصابة الحق بالعلم والعقل، وهي العلوم النافعة والعقول المسددة وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، وهي معرفة الحق والعمل به، قال بعضهم: الحكمة كل كلمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيحة.
    قال الشيخ ابن سعدي: «الحكمة جمال العلم وآلة العمل، وأقرب الوسائل لحصول المقاصد، الحكمة تهون الصعاب، وبها تندفع العوائق، كم ندم عجول طائش وكم أدرك المطلوب متأن رفيق، لا تساس الولايات الكبار ولا الصغار بمثل الحكم، ولا تختل إلا باختلال طريقها.
    الحكيم إذا لم يدرك جميع المطلوب تنازل إلى بعضه، وإذا لم يحصل له ما قصده من الخير قنع باندفاع الشر، وإذا لم يندفع كل الشر دفع بعضه وخففه، وإذا لم يكن الصعب الشديد وأمكنه تلطيفه لطفه، يسابر الأمور والأحوال فينتهز فرصها ويأتي الأمور مع كل باب ووسيلة، لا يمل السعي ولا يدركه الضجر والسآمة، قد تلقى الأمور بصدر منشرح وقلب ثابت يقلبها بفكره على كل وجه، ويستعين برأي أهل الخبرة من الناصحين على ما يريده، لا تستفزه البدوات وأوائل الأمور حتى ينفذ فكره إلى باطنها، ولا تغره الظواهر حتى يتغلغل في مطاويها وعواقبها، ومع كثرة تفكيره وتقليبه الأمور من جميع وجوهها ومشاورته عند التوقف والاشتباه لابد أن ينكشف له ما كان خافيا ويتضح له ما كان مشتبها.»اهـ
    وقد أثنى الله عز وجل على صاحب الحكمة فقال: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «ضمني النبي [ إلى صدره وقال: «اللهم علمه الحكمة» قال البخاري: «والحكمة الإصابة في غير النبوة».
    وتطلق الحكمة في القرآن على معان منها الموعظة كما قال عز وجل:(حكمة بالغة فما تغني النذر} ، وتطلق على السنة كما قال عز وجل: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة}، وتطلق على الفهم كما قال عز وجل: {ولقد آتينا لقمان الحكمة}، وتطلق على النبوة كما قال تعالى: {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}، وتطلق على اللطف واللين كما قال عز وجل: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}.
    وفي الحديث قال [: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» متفق عليه، قال النووي: «معناه: يعمل بها ويعلمها احتسابا، والحكمة: كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح».
    وأما حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله [:»الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها « أخرجه الترمذي وابن ماجه فهو حديث لا يصح، قال عنه الشيخ الألباني: ضعيف جدا. وقد ضعفه غير واحد من علماء الحديث.
    ونقل عن بعض الصحابة الكرام الحث على التماس الحكم والمواعظ والآداب من حيث خرجت والإفادة منها ما دامت صوابا ولا تقتضي باطلا شرعا ولا عقلا ولا عرفا، ففي (جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر عن علي رضي الله عنه أنه قال: «العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو من أيدي المشركين، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه»، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: «خذوا الحكمة ممن سمعتموها؛ فإنه قد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير رام»، وعند البيهقي في المدخل عن عكرمة: «خذ الحكمة ممن سمعت؛ فإن الرجل يتكلم بالحكمة وليس بحكيم فيكون كالرمية خرجت من غير رام «وعنده أيضا عن سعيد بن أبي بردة قال: «كان يقال: الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها حيث وجدها»، وعن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان يقال: «العلم ضالة المؤمن يغدو في طلبها، فإن أصاب منها شيئا حواه حتى يضم إليه غيره».
    ومعنى: «الحكمة ضالة المؤمن» قال النووي: «أي لا يزال يتطلبها كما يتطلب الرجل ضالته»، وقال المناوي:» «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن» أي مطلوبه فلا يزال يطلبها كما يتطلب الرجل ضالته «فحيث وجدها فهو أحق بها»؛ أي بالعمل بها واتباعها كما أن صاحب الضالة لا ينظر إلى خسة من وجدها عنده».
    وقال بعضهم: الجوهرة النفيسة لا يشينها سخافة غائصها ودناءة بائعها.
    وعن الإمام مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: «يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء».
    من هذا المنطلق تأتي هذه المقالات الموجزة في بيان بعض الحكم التي وردت في كلام الله تعالى ورسوله الكريم [ وما نقل عن بعض الحكماء من باب التناصح والتذاكر، وقد قال عبد الرحمن الحبلي: «ليس هدية أفضل من كلمة حكمة تهديها لأخيك»، أسأل الله عز وجل أن ينفع بها، وبالله التوفيق.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (2)
    ومن يتوكل على الله فهو حسبه


    د.وليد خالد الربيع

    القرآن الكريم كلام الله عز وجل مليء بالحكم والأحكام، والفوائد والمواعظ، والقصص والأخبار، فهو منبع كل خير ومصدر كل فضيلة، وقد تنوعت أساليبه العربية البليغة في بيان تلك النفائس وصياغة أعظم المفاهيم بأسلوب رائع وجيز الألفاظ غزير المعاني، ومن الحكم القرآنية قوله عز وجل: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} الذي يدل على قوة الإيمان بالله تعالى وشدة الثقة به عز وجل.
    قال الشيخ ابن السعدي: «{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك {فَهُوَ حَسْبُهُ} أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي العزيز الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له ؛ فلهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أي: وقتًا ومقدارًا، لا يتعداه ولا يقصر عنه. قال الجرجاني: «التوكل هو الثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس»، وقال ابن رجب: «التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار في أمور الدنيا والآخرة، وكِلَة الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه». والتوكل على الله من أعظم واجبات التوحيد والإيمان، قال الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}، وبحسب قوة توكل العبد على الله يقوى إيمانه، ويتم توحيده، فعن ابْن عَبَّاس أَنَّهُ رَكِبَ خَلْف رَسُول اللَّه [ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه [: « يَا غُلام إِنِّي مُعَلِّمُك كَلِمَات: احْفَظْ اللَّه يَحْفَظْك، احْفَظْ اللَّه تَجِدهُ تُجَاهك وَإِذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّه، وَإِذَا اِسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّة لَوِ اِجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوك لَمْ يَنْفَعُوك إِلَّا بِشَيْءٍ كَتَبَهُ اللَّهُ لَك وَلَوِ اِجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك لَمْ يَضُرُّوك إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّه عَلَيْك رُفِعَتِ الْأَقْلَام وَجَفَّتِ الصُّحُف». وعَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه [:» مَنْ نَزَلَت بِهِ فاقة - أي حَاجَة شديدة فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ - أي عرضها عليهم وطلب منهم إزالتها - لم تسد فاقته، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاَللَّهِ - أي اعتمد على ربه - فيوشك الله أي يسرع له بِرِزْقٍ عَاجِل أَوْ بِمَوْتٍ آجِلٍ»أخرجه أبو داود والترمذي. وصدق التوكل وحسن الثقة بالله عز وجل لا يمنع من طلب الرزق والحرص على الغنى الحلال الذي يعين الإنسان على طاعة ربه وحفظ كرامته والاستغناء عن الناس؛ فقد قال [:«لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيستغني بها، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه»، وقال أيضا:«ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يديه. قال: وكان داود لا يأكل الا من عمل يديه».وأخرج البيهقي بإسناده عن أبي بكر الصديق قال: «دينك لمعادك، ودرهمك لمعاشك، ولا خير في امرئ بلا درهم». وقال الفضيل بن عياض لابن المبارك: «أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان الى البلد الحرام كيف ذا وأنت بخلاف ذا ؟ فقال ابن المبارك: يا أبا علي أنا أفعل ذا لأصون بها وجهي، وأكرم بها عرضي، وأستعين بها على طاعة ربي، لا أرى لله حقا إلا سارعت إليه حتى أقوم به، فقال له الفضيل: يا بن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا». ولهذا قال الإمام أحمد: «ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله عز وجل، ولكن يعودون أنفسهم بالكسب، فمن قال بخلاف هذا القول، فهو قول إنسان أحمق «، وقال أيضا: «الاستغناء عن الناس بطلب العمل أعجب إلينا من الجلوس وانتظار ما في أيدي الناس».
    فما أعظمها من حكمة قرآنية تحمل المسلم على الثقة بالله بقلبه مع كمال السعي ببدنه وفكره ليحقق أعلى مراتب الإيمان والتوحيد، وبالله التوفيق.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (3)
    إيـاك وكـل أمـر يعتـذر منـه

    د.وليد خالد الربيع








    السنة النبوية المطهرة مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، فهي كل ما صدر عن رسول الله [ من أقوال وأفعال وتقريرات يستمد منها العقائد والأخلاق وأحكام الأفعال والأقوال، وقد أوتي [ جوامع الكلم واختصرت له المعاني الجليلة في الألفاظ القليلة، فاشتمل كلامه [ على أنوار النبوة الجامعة للمعاني الرفيعة والمفاهيم السديدة والحكم البليغة والفوائد العديدة؛ ولهذا اجتهد العلماء في استنباط تلك الكنوز النفيسة واستخراج تلك الجواهر الثمينة من كلام رسول الله [، وتقريبها لأيدي المحبين الصادقين من علماء وعباد ودعاة وأصناف المتبعين لهديه [ المستنين بسنته المقتفين لأثره.
    ومن جملة الحكم الواردة في السنة المطهرة ما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي [ قال: «إياك وكل أمر يعتذر منه» أخرجه الحاكم وهو حديث حسن (صحيح الجامع 2671)، وعن ابن عمر أن النبي [ قال: «صلّ صلاة مودع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، وايأس مما في أيدي الناس تعش غنيا، وإياك وما يعتذر منه» (ص.ج3776).
    قال المناوي:» أي احذر أن تتكلم بما يحتاج أن تعتذر عنه، وأنه لا ينبغي الدخول في مواضع التهم، ومن ملك نفسه خاف من مواضع التهم أكثر من خوفه من وجود الألم».
    وعن عبد الملك بن عمير قال: أوصى رجل ابنه فقال: « يا بني ! أظهر اليأس مما في أيدي الناس فإنه غني، وإياك وطلب الحاجات فإنه فقر حاضر، وإياك وما يعتذر منه بالقول، وإذا صليت فصل صلاة مودع لا ترى أنك تعود، وإن استطعت أن تكون اليوم خيرا منك أمس وغدا خيرا منك اليوم فافعل».
    الاعتذار خلق جميل يدل على تواضع الإنسان وإنصافه من نفسه حيث عرف خطأه وعمل على إصلاح ما أفسده، فهو كما قال المناوي:«أن يتحرى الإنسان ما يمحو أثر ذنبه »، فصاحب الخلق الرفيع يراعي مشاعر الآخرين ويهتم بأحوالهم ومكانتهم، فإذا صدر منه شيء قد يسيء إليهم أو يؤذيهم بادر إلى الاعتذار ممن وقع الخطأ في حقه، وطلب العفو منه أو بين له مقصوده فيما صدر منه حتى لا يساء فهمه أو يعامل بنقيض قصده؛ فبذلك تستدام الأخوة الإيمانية ويغلق باب المشاحنات والخصومات وما يتبع ذلك من إفساد وإضرار وتفرق وعداء.
    والأكمل من الاعتذار هو ألا يقع الإنسان فيما يوجب الاعتذار أصلا، فيحفظ لسانه وجوارحه عن الإساءة إلى الناس ابتداء، ويحرص على التزام الاستقامة في القول والعمل، مع الله عز وجل ومع الناس ومع كل من له حق عليه، ويراعي أن يكون دائما متنبها لشعور الآخرين دون مبالغة، متخليا عن الأنانية والفردية التي تحكم سلوك بعض الناس فتجعلهم يعيشون في دنياهم الخاصة بهم متناسين وجود الآخرين الذي لهم حقوق ومشاعر أيضا تحتاج إلى عناية ورعاية واهتمام ومراعاة، فقد نهانا الله عز وجل عن إيذاء المؤمنين فقال عز وجل: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} وقال [: «يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين»، وكما يحب الإنسان أن يهتم الناس بحقوقه ومشاعره فعليه أيضا أن يقوم بذلك, قال [:» لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه «وبالمقابل أن يكره لأخيه ما يكره لنفسه، وبالله التوفيق.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (4)
    يُعرف العاقل من عمله لا من ثوبه


    د.وليد خالد الربيع


    من الأمثلة والحكم المنقولة عن بعض الشعوب قولهم: «يُعرف العاقل من عمله لا من ثوبه »، وهذا المعنى صحيح كما دلت عليه النصوص الشرعية.
    فالعقل هو ما يكون به التفكير والاستدلال، ويطلق على ما يحصل به إدراك الأشياء على حقيقتها بالجملة، ومن آثار العقل تمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، والحسن والقبح، ونحو ذلك، كما قال ابن القيم: «نور العقل يضيء في ليل الهوى، فتلوح جادة الصواب، فيتلمح البصير في ذلك النور عواقب الأمور».
    فإذا كانت أقوال الإنسان وأفعاله وتدبيراته تابعة للحكمة، موافقة للصواب، غير متقدمة على أوانها ولا متأخرة، ولا فيها زيادة على عما ينبغي ولا نقص، فبتحقيق هذا يُعرف كمال عقل الإنسان ورزانته ودرايته كما قرر ذلك الشيخ ابن سعدي. وقد اختل هذا المعيار لدى بعض الناس، فأصبح الحكم على الأشخاص عندهم بناء على مظاهرهم وزينتهم ومرافقهم التي يستعملونها كالمراكب والمساكن والمكاتب ونحو ذلك مما لا يدل على عقل الإنسان ولا على شخصيته في الواقع. فالأدلة الشرعية توجه الأنظار إلى معيار التفاضل الحقيقي، وميزان الكمال الإنساني، وهو ما يقوم في القلوب من عقائد، وما يستقر في النفوس من أخلاق، وما يصدر عن الإنسان من أقوال وأفعال وأحوال موافقة للشرع والعقل السليم. قال عز وجل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} قال ابن كثير: «أي إنما تتفاضلون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب»، وقد وردت الأحاديث بذلك، فعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله [ أي الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» أخرجه البخاري.
    وقال عز وجل: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}، وقال تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله} وقال عز وجل: {ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}، فانظر كيف جعل الإيمان بمعناه الشامل، والعمل الصالح بأنواعه المتعددة سبيلا لدخول الجنان والقرب من الرحمن.
    وفي المقابل تجد النصوص الشرعية توجه العقول والأبصار إلى عدم الاغترار بالمظاهر الخارجية؛ لأنها ليست ميزانا دقيقا ولا معيارا صادقا لحقيقة الأشياء والأشخاص، قال عز وجل: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} قال ابن سعدي: «لا ينبغي للإنسان أن يغتر بحالة الإنسان الدنيوية، ويظن أن إعطاء الله إياه في الدنيا دليل على محبته له، وأنه على الحق، بل الواجب على العبد أن يعتبر الناس بالحق، وينظر إلى الحقائق الشرعية، ويزن بها الناس، ولا يزن الحق بالناس، كما عليه من لا علم له ولا عقل له».
    وقال عز وجل: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} قال ابن سعدي: «أي لا تغتر بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال والأولاد، فليس ذلك لكرامتهم عليه، وإنما ذلك إهانة منه لهم، فيتعبون في تحصيلها، ويخافون من زوالها، ولا يتهنأون بها».

    وقال عز وجل عن المنافقين {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} قال ابن سعدي: «فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدي الصالح شيء ولهذا قال: {كأنهم خشب مسندة} لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض».

    وقد قرر رسول الله [ تلك القاعدة الذهبية والمعيار الدقيق بقوله: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» رواه مسلم، قال القرطبي: «أي لا يثيبكم عليها ولا يقربكم بها، ذلك كما قال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى} ثم قال: {إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}، ويستفاد من هذا الحديث فوائد:
    - إحداها: صرف الهمة إلى الاعتناء بأحوال القلب وصفاته، بتحقيق علومه وتصحيح مقاصده، وتطهيره عن مذموم الصفات.
    - الثانية: أن الاعتناء بإصلاح القلب وبصفاته مقدم على الأعمال بالجوارح، فتخصيص القلب بالذكر مقدم على الأعمال إنما كان لأن أعمال القلوب هي المصححة لسائر الأعمال. - الثالثة: لما كانت القلوب هي المصححة للأعمال الظاهرة، وأعمال القلب غيب عنا، فلا يقطع بمغيب أحد لما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله تعالى من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال، ولعل من رأينا منه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه، فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية، ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة، بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة، فتدبر هذا فإنه نظر دقيق.
    والخلاصة: إن المظهر الحسن والترجل والتطيب من الأمور المشروعة, ومن زينة الحياة, لكنها ليست الأصل, ليست هي المقياس في الحكم على الناس كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي[: «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره»، قال النووي: «وهذا لعظم منزلته عند الله تعالى، وإن كان حقيرا عند الناس».



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (5) ولا تـمـنن تستـكـثر




    د.وليد خالد الربيع






    القرآن الكريم زاخر بالحكم الجليلة والمواعظ البليغة التي ترتقي بالعقول وتزكي النفوس وتهذب السلوك ليسمو المسلم إلى أعلى درجات الإنسانية وأرفع منازل العبودية.


    ومن الحكم القرآنية قوله عز وجل: {وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}، وقد وقف المفسرون مع هذه الآية طويلا لاستنباط ما فيها من المعاني والآداب، ولابد من بيان معاني ألفاظها أولا:

    أما المنّ، ففي اللغة لها معان عدة منها:

    الأول: القطع والانقطاع، يقال: مننت الحبل: قطعته، ومنه قوله عز وجل: {لهم أجر غير ممنون} أي غير مقطوع ولا منقوص، ومنه سمي الموت بالمنون لأنه ينقص العدد ويقطع المدد. الثاني: اصطناع الخير، يقال: منّ عليه إذا أحسن إليه وأنعم وصنع صنعا جميلا، وتطلق (المنة) على النعمة الثقيلة، قال الراغب الأصفهاني: «ويقال ذلك على وجهين:

    - أحدهما: أن يكون ذلك بالفعل، فيقال: مـنّ فلان على فلان، إذا أثقله بالنعمة، وعلى ذلك قوله عز وجل: {لقد منّ الله على المؤمنين}، {كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم}، {يمنّ على من يشاء}، وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى.

    - الثاني: أن يكون ذلك بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ولقبح ذلك قيل: «المنـّة تهدم الصنيعة»، ولحسن ذكرها عند الكفران قيل: «إذا كفرت النعمة حسنت المنـّة»، وقوله تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان} فالمنـّة منهم بالقول، ومنة الله عليهم بالفعل، وهو هدايته إياهم»، المن بالقول: تذكير المنعِم المنعَم عليه بإنعامه.

    وأما الاستكثار: فهو عدّ الشيء كثيرا، وأيضا يقال: استكثر من الشيء إذا رغب في الكثير منه.

    وقد ذكر الطاهر بن عاشور مناسبة عطف {ولا تمنن تستكثر} على الأمر بهجر الرجز أن المن في العطية كثير من خلق أهل الشرك، فلما أمره الله بهجر الرجز نهاه عن أخلاق أهل الرجز نهيا يقتضي الأمر بالصدقة والإكثار منها بطريق الكناية فكأنه قال: تصدق وأكثر من الصدقة ولا تمنن، أي: لا تعد ما أعطيته كثيرا فتمسك عن الازدياد فيه، أو تتطرق إليك ندامة على ما أعطيت.

    وللمفسرين في هذه الآية أقوال كثيرة:

    منها قول ابن عباس: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، قال الضحاك: هذا حرمه الله على رسول الله [ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق وأباحه لأمته، وهو اختيار القرطبي؛ لأنه يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته، ويقال للعطية المنة، فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع، وقد قال الله تعالى له: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} وذلك جائز لسائر الخلق لأنه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها.

    ومنها قول مجاهد : لا تضعف أن تستكثر من الخير، من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا، ودليله قراءة ابن مسعود {ولا تمنن تستكثر من الخير}.

    ومنها قول مجاهد والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك، قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته، قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره، وهو اختيار الطبري ; لِأَنَّ ذَلِكَ فِي سِيَاق آيَات تَقَدَّمَ فِيهِنَّ أَمْر اللَّه نَبِيّه [ بِالْجِدِّ فِي الدُّعَاء إِلَيْهِ , وَالصَّبْر عَلَى مَا يَلْقَى مِنَ الْأَذَى فِيهِ.

    والخلاصة أنه ينبغي للمسلم أن ينكر ذاته، ولا يستكثر عمله، ويستقل جهده، فيعلم أن كل خير فمن الله وحده، بالتوفيق إليه ابتداء، والإعانة عليه أثناءه، والمن عليه بالقبول انتهاء، فيحمد الله على اختياره واصطفائه، ويستعين به على القيام بعبوديته، ويدعوه راجيا أن يقبل عمله ولا يضيع سعيه، فهذا باب التوفيق وصراط السعداء.

    قال ابن القيم:» طوبى لمن أنصف ربه، فأقر له بالجهل في علمه، والآفات في عمله، والعيوب في نفسه، والتفريط في حقه، والظلم في معاملته، فإن آخذه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منته وصدقته عليه، وإن قبلها فمنة وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به، وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلانه له، وإمساك عصمته عنه، وذلك من عدله فيه، فيرى في ذلك فقره إلى ربه، وظلمه في نفسه، فإن غفرها له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه.


    ونكتة المسألة وسرها: أنه لا يرى ربه إلا محسنا، ولا يرى نفسه إلا مسيئا أو مفرطا أو مقصرا، يرى كل ما يسره من فضل ربه عليه وإحسانه إليه، وكل ما يسوؤه من ذنوبه وعدل الله فيه». أهـ
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (6) إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أوْ يُلِمُ



    د.وليد خالد الربيع





    في السُّنة المطهرة من الحكم البليغة والأمثال الحكيمة ما يعد مصدرا لكثير من المعاني النفيسة والمفاهيم الرفيعة، ومن ذلك قوله [: «إنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أوْ يُلِمُ»، وقد ‏عدّ ابن دريد وهو من علماء اللغة هذه العبارة من كلام النبي [ من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يسبق [ إلى معناه، وكل من وقع شيء منه في كلامه فإنما أخذه منه.


    وقبل الدخول في معنى الحديث ومقاصده لابد من بيان معاني ألفاظه:

    الربيع: هو النهر الصغير، والْحَبَطُ ‏:‏ انتفاخُ البطن، وهو أن تأكل الإبلُ الذُّرَقَ فتنتفخ بطونها إذا أكثرت منه يقال حبطت الدابة تحبط حبطا إذا أصابت مرعى طيبا فأمعنت في الأكل حتى تنتفخ فتموت، وقوله ‏»‏أو يلم‏»‏ والإلمام‏:‏ النزول ُ، والإلمام‏:‏ القرب، والمعنى يقتل أو يَقْرُبُ من القتل.

    أما معنى الحديث فقد قال النووي:» ومعناه: أن نبات الربيع وخضره يقتل حبطا بالتخمة لكثرة الأكل، أو يقارب القتل إلا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة وتحصل به الكفاية المقتصدة فإنه لا يضر، وهكذا المال هو كنبات الربيع مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه، فمنهم من يستكثر منه ويستغرق فيه غير صارف له في وجوهه، فهذا يهلكه أو يقارب إهلاكه، ومنهم من يقتصد فيه فلا يأخذ إلا يسيرا، وإن أخذ كثيرا فرقه في وجوهه كما تثلطه الدابة فهذا لا يضره.

    فهذا الحديث قاله [ في صفة الدنيا والحّث على قلة الأخذ منها‏، ولكي يفهم فهما شاملا لابد من الوقوف على سبب وروده، فقد روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري أن النبي [ قال: ‏«‏إني أخَافُ عليكم بعدي ما يُفْتَح عليكم من زَهْرة الدنيا وزينتها ‏»‏ فقال رجل ‏:‏ أوَ يأتِي الخيرُ بالشرِّ يا رسول اللّه‏؟‏ فقال [ ‏: «‏إنَّهُ لا يأتي الخيرُ بالشر، وإن مما يُنْبِتُ الربيعُ ما يقتل حَبَطا أو يلم، إلا آكلة الْخَضِرِ فإنها أكلَتْ حتى إذا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشَّمْسِ فَثَلطَتْ وَبَالَتْ ثم رَتَعَتْ‏»‏.‏

    قال‏ العلماء:‏ وفي هذا الحديث مثلان‏:‏ أحدهما: للمُفْرِطِ في جمع الدنيا وفي منعها من حقها، والآخر للمقتصد في أخْذِها والانتفاع بها، فأمّا قولُه: «‏وإن مما ينبت الربيعُ ما يقتل حَبَطاً أو يُلمُّ‏»‏ فهو مثل المُفْرِط الذي يأخذها بغير حق، وذلك أن الربيعَ يُنْبِتُ أحْرَار العُشْب فتستكثر منها الماشية حتى تنتفخَ بطونُها إذا جاوزَتْ حدَّ الاحتمال، فتنشق أمعاؤها وتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حِلِّها ويمنع ذا الحق حقَّه يهلك في الآخرة بدخوله النار‏.‏

    وأما مَثَلُ المقتصد فقوله [: ‏«‏إلا آكلة الْخَضِر‏»‏ بما وصفها به، وذلك أن الْخَضِرَ ليست من أحرار البقول التي يُنْبتها الربيع، ولكنها من الْجَنْبَة التي ترعاها المواشي بعد هَيْج البقول، فضرب [ آكلةَ الخضِر من المواشي مثلاً لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجَمْعها، ولا يَحْمله الحرصُ على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وَبَالها كما نَجَتْ آكلةُ الخضِر، ألا تراه قال [:‏ «فإنها إذا أصابَتْ من الْخَضِرِ استقبلت عينَ الشمس فَثَلَطَتْ وبالت‏»‏ أراد أنها إذا شبعت منها بَرَكَتْ مستقبلةَ الشمس تستمرىء بذلك ما أكَلَتْ وتجترُّ وتَثْلِط، فإذا ثَلَطته فقد زال عنها الْحَبَط، ‏وإنما تَحْبَطُ الماشيةُ لأنها لا تثلِطُ ولا تبول‏، ‏ فهذا المثل يضرب في النهي عن الإفراط‏.‏

    قال ابن حجر: «ويؤخذ منه أن الرزق ولو كثر فهو من جملة الخير، إنما يعرض له الشر بعارض البخل به عمن يستحقه، والإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع، وأن كل شيء قضى الله أن يكون خيرا فلا يكون شرا وبالعكس، ولكن يخشى على من رزق الخير أن يعرض له في تصرفه فيه ما يجلب له الشر».

    وفيه أن المكتسب للمال من غير حله لا يبارك له فيه لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع، وفيه ذم الإسراف وكثرة الأكل والنهم فيه، وأن اكتساب المال من غير حله، وكذا إمساكه عن إخراج الحق منه سبب لمحقه فيصير غير مبارك كما قال تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}، وقال [:» إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى « متفق عليه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (7) الحق كالزيت يطفو دائما



    د.وليد خالد الربيع





    الناظر في أدبيات الأمم وثقافات الشعوب يجد أقوالا وأمثالا وجيزة الألفاظ عميقة المعاني، تدل على حكمة ورشد، وتوافق المبادئ الإسلامية والمعاني الشرعية التي وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة ولا تخالفها، ومن ذلك المثل القائل: «إن الحق كالزيت يطفو دائما»، أي أن الحق دائما يعلو على ما سواه.

    فالحق نقيض الباطل، يقال: حق الأمر أي وجب وثبت وصار حقا، فالحق هو الثابت الواجب والصحيح ، ويقابل الحق (الباطل) وهو ما لا ثبات له عند الفحص والتمييز، يقال بطل الشيء: فسد وسقط حكمه.

    والحق له إطلاقات ؛ فالحق من أسماء الله الحسنى قال عز وجل: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين}، ومعنى هذا الاسم: أن الله عز وجل هو الحق في ذاته وأسمائه وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء إلا به.

    كما أن الإسلام هو دين الحق قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} قال ابن سعدي: «فكان ما بعث الله به محمدا [ مشتملا على بيان الحق من الباطل في أسماء الله وأوصافه وأفعاله وفي أحكامه وأخباره والأمر بكل مصلحة نافعة للقلوب والأرواح والأبدان، من إخلاص الدين لله وحده ومحبة الله وحده وعبادته، والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والأعمال الصالحة والآداب النافعة، والنهي عن كل ما يضاد ذلك ويناقضه من الأخلاق والأعمال السيئة المضرة للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة ».

    كما يطلق الحق على القول أو الفعل الموافق للصواب والحكمة كما في قوله تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق}.

    وحيث إن الحق والباطل ضدان، والضدان لا يجتمعان، صار التدافع بينهما أمرا لازما وحتميا؛ لأن ثبات أحدهما يقتضي زوال الآخر أو إضعافه، ولهذا تعذر وجودهما معا دون غلبة أحدهما على الآخر.

    وقد بين الله عز وجل أن للباطل قوة تحميه وتدافع عنه كما قال تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون}، وقرر تبارك وتعالى أن قوة الكفر والضلال لا تفتر حتى تزيل الحق وأتباعه من أرض الواقع كما قال عز وجل: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون}، وبشرنا الله تعالى بأنه ينصر الحق وأهله فقال: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} وقال: {ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون}، وقال النبي [: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» رواه البيهقي، وحسنه الشيخ الألباني في الإرواء، فهذا المثل المذكور موافق لما قررته الأدلة الشرعية والقواعد الدينية، وهو كلمة حكيمة تبشر أصحاب الحق بالرفعة والتمكين في الدنيا والآخرة بإذن الله.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (8) إنما شفاء العيّ السؤال



    د.وليد خالد الربيع




    من الحكم النبوية النفيسة، والتوجيهات الدينية العميقة ما جاء في حديث أبي داود عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه:هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله[ أخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده».

    قوله: العي بكسر العين هو التحير في الكلام، وأيضا العي: الجهل، فمعنى هذه العبارة الحكيمة كما قال شراح الحديث: «أي لِمَ لَمْ يسألوا حين لم يعلموا؛ لأن شفاء الجهل السؤال»، فهذا الحديث يدل على أمور كثيرة من الفوائد الفقهية والسلوكية منها:

    - الأول: خطورة الجهل وعظيم ضرره على المسلمين أفرادا ومجتمعات.

    الجهل ـ وهو عدم العلم ـ عموما، والجهل بأحكام الشريعة على وجه الخصوص من الأمور المذمومة التي لها آثار خطيرة على الأفراد والمجتمعات، وقد جاءت نصوص كثيرة في ذم الجهل والتحذير من آثاره، منها قوله تعالى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} قال ابن القيم: «إن الله تعالى وصف أهل النار بالجهل، وأخبر بأنه سد عليهم طريق العلم، ثم ذكر الآية وقال: «فأخبروا أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون، والسمع والعقل هما أصل العلم وبهما ينال».

    وقال جل شأنه: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} قال ابن القيم: «فأخبر سبحانه أنهم لم يحصل لهم علم من جهة من جهات العلم الثلاث وهي العقل والسمع والبصر، فقد وصف سبحانه أهل الشقاء بعدم العلم، وشبههم بالأنعام تارة، وتارة بالحمار الذي يحمل الأسفار، وتارة جعلهم أضل من الأنعام، وتارة جعلهم شر الدواب عنده، وتارة جعلهم أمواتا غير أحياء، وتارة أخبر بأنهم في ظلمات الجهل والضلال، وتارة أخبر بأن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا وعلى أبصارهم غشاوة، وهذا كله يدل على قبح الجهل وذم أهله وبغضه لهم، كما أنه يحب أهل العلم ويمدحهم ويثني عليهم ».

    ومن النصوص قوله تعالى: «إن بين يدي الساعة أياما يرفع فيها العلم، وينزل فيها الجهل، ويكثر فيها الهرج - الهرج: القتل» متفق عليه، وقال ابن مسعود: «قراؤكم وعلماؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤوسا جهالا يقيسون الأمور برأيهم»، وقال أبوالدرداء: «ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون، تعلموا قبل أن يرفع العلم، فإن رفع العلم ذهاب العلماء».

    قال ابن القيم:» الجهل نوعان: جهل علم ومعرفة، وجهل عمل وغي، وكلاهما له ظلمة ووحشة في القلب، وكما أن العلم يوجب نورا وأنسا، فضده يوجب ظلمة ويوقع وحشة، وقد سمى الله تعالى العلم الذي بعث به رسوله نورا وهدى وحياة، وسمى ضده ظلمة وموتا وضلالا، قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}، وقال تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}.

    - الثاني: أهمية السؤال لتحصيل العلم والخروج من الجهل:

    مما يستفاد من هذا الحديث ما قاله ابن القيم: «جعل النبي [ الجهل داء، وجعل دواءه سؤال العلماء»، فالجهل من أخطر الأمراض القلبية التي لها آثار خطيرة تظهر في دين الشخص وسلوكه؛ لذا كان العلم سبيلا متعينا لرفع الجهل كما قال الإمام أحمد: «الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه»، وطلب العلم له سبل شتى منها سؤال أهل العلم المؤهلين، وهنا ننبه إلى أمور ضرورية منها:

    - أولا: لابد من سؤال المؤهلين علميا للإجابة:

    يظن بعض الناس أن كل من انتسب إلى الدين بصفة ما ـ كإطلاق لحيته أو تقصير ثوبه أو محافظته على العبادة ـ أنه أهل للسؤال عن الأمور الشرعية، وهو قادر على الإجابة عنها، وهذا أمر غير صحيح، لأن الأجوبة الدينية هي بيان شرع الله تعالى وإخبار عن أحكامه، فلابد أن يكون الشخص عالما بما يقول، مستندا إلى حجة شرعية في ذلك، فالله تبارك وتعالى يأمر بسؤال أهل الاختصاص فقال: {وما أرْسلْنا مِنْ قبْلِك إِلا رِجالا نُوحِي إِليْهِمْ فاسْألُوا أهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تعْلمُون}.

    ومن أجاب بغير علم يخشى عليه الوقوع في الكذب على الله تعالى، وذلك من أخطر الأمور، قال: تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}، وقال رسول الله[: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» متفق عليه، قال النووي: «معناه: أنه يموت حملته ـ أي العلم ـ ويتخذ الناس جهالا يحكمون بجهالاتهم، فيَضِلون ويُضِلون»، وقال الشاطبي:« ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل العلماء، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم، فتؤتى الناس من قبله»، قال عمر:«من سوده قومه على فقه كان حياة له ولهم، ومن سوده قومه على غير فقه كان هلاكا له ولهم».

    - ثانياً: لابد من حسن السؤال وحسن الإنصات للجواب:

    يقوم بعض السائلين بعرض أسئلتهم بطريقة غامضة أو مملة أو منفرة فلا يحصل على الجواب المناسب، كما أن بعض السائلين لا يحسن الاستماع للجواب ولا يفهم ما يجاب به عن سؤاله، فتفوته الفائدة من هاتين الجهتين، قال ابن القيم: «للعلم ست مراتب: أولاها: حسن السؤال، الثانية: حسن الإنصات والاستماع، الثالثة: حسن الفهم، الرابعة: الحفظ، الخامسة: التعليم، السادسة: وهي ثمرته وهي العمل به ومراعاة حدوده، فمن الناس من يحرمه لعدم سؤاله، إما لأنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم منه، كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها، ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذه حال كثير من جهال المتعلمين، ومن الناس من يحرمه لسوء إنصاته، فيكون الكلام والمماراة آثر عنده وأحب إليه من الإنصات، وهذه آفة كامنة في كثير من النفوس الطالبة للعلم، وهي تمنعهم علما كثيرا ولو كانوا حسني الفهم».

    والخلاصة أن قول النبي [: «إنما شفاء العي السؤال» حكمة بالغة ترشد إلى معان جليلة جديرة بالتأمل والعمل، وعلى المسلم أن يتخذها نبراسا له في شؤونه الدينية والدنيوية.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (9)السنابلة الفارغـة تشمخ برأسها عالياً


    د.وليد خالد الربيع



    من الآفات الاجتماعية الخطيرة، والمظاهر السلوكية المقيتة، ما يقوم به بعض الناس من استكبار وتعاظم ؛ فتجده مزهوا بنفسه، يختال في مشيته تيها، يجر أذياله كبرا، قد استطال عجبا، ونأى بجانبه تعاظما، ينظر إلى غيره شزرا، وهي حالة بغيضة تستجلب كراهية الناس ومقتهم، فإذا كان المتكبر خاليا من أسباب الكبر كالغنى والحسب والنسب والعلم ـ مع أن ذلك لا يسوغ الكبرـ كان الاستكبار أقبح وأبشع وأفظع.
    وسبب الكبر جهل الإنسان بنفسه وبربه، ولهذا فإن من الأقوال الحكيمة قولهم: (السنابلة الفارغة تشمخ برأسها عاليا)، فالسنابل التي حملت الحب تميل برؤوسها تواضعا لثقل ما تحمل، أما السنابل التي خلت من الحب ولم تنوء بحمل شيء فإنها ترتفع عاليا، وكذلك فإن من عرف حقيقة نفسه في بدايتها ونهايتها ومصيرها، وعرف آفاتها وأمراضها، وعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وفضله وإحسانه، تواضع وتطأطأ، وتجافى عن مقاعد الكبر، ونأى عن مذاهب العجب، أما الجاهل فإنه لخفة عقله ونقص علمه وضعف تمييزه يتعالى ويتعاظم ويتكبر كالسنبلة الخالية.والكبر آفة خطيرة، ومرض عضال، يستجلب كل خلق ذميم، ويفوت كل خلق محمود. قال ابن حجر:«الكبر الحالة لتي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظم ذلك أن يتكبر على ربه بأن يمتنع من قبول الحق والإذعان له بالتوحيد والطاعة». ويكفي الكبر والمستكبرين ذما أن الله تعالى وصف في كثير من الآيات المعرضين عن دينه المعارضين لرسله (بالاستكبار) كما قال عز وجل: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه}، وقال سبحانه: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق}، وقال عز وجل: {إنه لا يحب المستكبرين}، وآيات كثيرة في ذم الكبر والمستكبرين. وأما الأحاديث فكثيرة، منها حديث ابن مسعود أن النبي [ قال:« لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة»، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس» أخرجه مسلم، قال النووي: «غمط الناس: معناه احتقارهم، أما بطر الحق فهو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا» إلى أن قال: «هذا الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم ودفع الحق». وعن حارثة بن وهب أنه سمع النبي [ قال: «ألا أخبركم بأهل الجنة ؟» قالوا: بلى، قال:«كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره»، ثم قال:«ألا أخبركم بأهل النار؟» قالوا:بلى، قال: «كل عتل جواظ مستكبر» متفق عليه قال النووي:« متضعف معناه: متواضع متذلل خامل واضع من نفسه، قال القاضي:وقد يكون الضعف هنا: رقة القلوب ولينها وإخباتها للإيمان، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار القسم الآخر، وليس المراد الاستيعاب في الطرفين» ، والعتل: الجافي الفظ الغليظ شديد الخصومة، والجواظ فهو الجموع المنوع وقيل: كثير اللحم المختال في مشيته، والمستكبر: فهو صاحب الكبر. وحديث البخاري أن النبي [ قال: « بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجل جمته ـ الجمة هي مجتمع الشعر إذا تدلى من الرأس إلى المنكبين ـ إذ خسف الله به، فهو يتجلجل ـ أي ينزل في الأرض مضطربا متدافعا ـ إلى يوم القيامة». وعن ابن عمرو أن النبي [ قال:«كلوا وتصدقوا وألبسوا في غير إسراف ولا مخيلة» أخرجه النسائي وحسنه الألباني، قال العلماء: « هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد، ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف، ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب، وتضر بالآخرة حيث تكسبها الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس». ومما يتناول الصورة التي ذكرت في المقال ما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله[ قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر» أخرجه مسلم، وفي رواية النسائي التي صححها الألباني: «أربعة يبغضهم الله عز وجل: البياع الحلاف، والفقير المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر»، قال القاضي عياض مبينا سبب الوعيد المذكور في الحديث: «سببه أن كل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه، وعدم ضرورته إليها، وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يعذر أحد بذنب « إلى أن قال:«وكذلك العائل الفقير قد عدم المال، وإنما سبب الفخر والخيلاء والتكبر والارتفاع على القرناء (الثروة في الدنيا ) لكونه ظاهرا فيها، وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويحتقر غيره؟ فلم يبق فعله وفعل الشيخ الزاني والإمام الكاذب إلا لضرب من الاستخفاف بحق الله تعالى والله أعلم». قال بعض العلماء: «التواضع في الخلق كلهم حسن، وفي الأغنياء أحسن، والكبر في الخلق كلهم قبيح، وفي الفقراء أقبح «. قال أبوعلي الجوزجاني:« النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد، فمن أراد الله تعالى هلاكه منع منه - أي لم يوفقه -التواضع والنصيحة والقناعة، وإذا أراد الله تعالى به خيرا لطف به في ذلك، فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى، وإذا هاجت نار الحسد في نفسه أدركتها النصيحة مع توفيق الله عز وجل، وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع عون الله عز وجل».قال مالك بن دينار: «إذا طلب العبد العلم ليعمل به كسره - أي ألزمه التواضع - وإذا طلبه لغير العمل زاده فخرا ». فعلى المسلم أن يكون متواضع النفس، خافض الجناح، دمث الطباع، رضي الأخلاق، لين الجانب، أسلس من الماء، وألين من العهن، يستعين على ذلك بسؤال الله تعالى والاستعانة به وصدق اللجوء إليه، مع أخذ نفسه بالمجاهدة والدربة، والله الموفق لكل خير.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (10) أليــس الصبـح بقـريب


    د.وليد خالد الربيع



    ختم الله عز وجل قصة لوط عليه السلام مع قومه في سورة هود بقوله تعالى: {قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.
    قال الطاهر بن عاشور :» وجملة {إن موعدهم الصبح} مستأنفة ابتدائية قطعت عن التي قبلها اهتماما وتهويلا، والموعد: وقت الوعد. والوعد أعم من الوعيد فيطلق على تعيين الشر في المستقبل، والمراد بالموعد هنا موعد العذاب الذي علمه لوط عليه السلام إما بوحي سابق، وإما بقرينة الحال، وإما بإخبار من الملائكة في ذلك المقام طوته الآية هنا إيجازا، وبهذه الاعتبارات صح تعريف الوعد بالإضافة إلى ضميرهم.
    وجملة {أليس الصبح بقريب} استئناف بياني صدر من الملائكة جوابا عن سؤال يجيش في نفسه من استبطاء نزول العذاب، والاستفهام تقريري؛ ولذلك يقع في مثله التقرير على النفي إرخاء للعنان مع المخاطب المقرر ليعرف خطأه. وإنما قالوا ذلك في أول الليل»اهـ.
    فهاتان الجملتان ختمت بهما القصة الكريمة لتكونا منطلقا لكل من وقع في ضيق أو كرب أو شدة، فطال عليه الليل، وضاقت عليه الأرض برحبها، فضعف احتماله، ونفر صبره، فتراه حائر الطرف، ذاهب القلب، قد تساقطت نفسه حسرة، وكادت تزهق روحه من الهلع، وأوشك أن يقضى عليه من الغم، فتاتي مثل هذه المبشرات من الله عز وجل في كتابه الكريم وسنته نبيه [ لتفرج الهموم، وتهون الكروب، وتنفخ في النفوس الآمال، وتذكر بأن أشدّ ساعات الليل حلكةً هي تلك التي تسبق الفجر.
    فمن أعظم البشائر القرآنية قوله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قال الشيخ ابن سعدي : «بشارة عظيمة، أنه كلما وجد عسر وصعوبة، فإن اليسر يقارنه ويصاحبه، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه.
    وتعريف «العسر» في الآيتين ما يدل على أنه واحد، وتنكير «اليسر» يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين، وفي تعريفه بالألف واللام الدالة على الاستغراق والعموم يدل على أن كل عسر ـ وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ ـ فإنه في آخره التيسير ملازم له.»اهـ.
    وفي الموطأ أن أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر:» أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين». وروي عن ابن عباس: «يقول الله تعالى:خلقت عسرا واحدا وخلقت يسرين ولن يغلب عسر يسرين».
    ومن المبشرات القرآنية قوله عز وجل: {سيجعل الله بعد عسر يسرا}، قال الطاهر بن عاشور : «وهذا الكلام خبر مستعمل في بعث الترجي وطرح اليأس عن المعسر من ذوي العيال، ومعناه: عسى أن يجعل الله بعد عسركم يسرا لكم فإن الله يجعل بعد عسر يسرا. «اهـ.
    وفي السنة المطهرة أيضا مبشرات وأسباب لتفريج الكربات منها حسن الظن بالله والتوكل عليه، فعن ابن مسعود قال : قال رسول الله [ : «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
    وقال [ :»جف القلم بما هو كائن، فلو أنّ الخلق كلهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» خرّجه الترمذي.
    ومن ذلك الدعاء والتوجه إلى الله وحده، كما قالت أسماء بنت عميس: إن رسول الله [ قال لي: «ألا أعلمك كلمات تقولينها عند الكرب أو في الكرب؟ الله ربي لا أشرك به شيئًا» خرجه أبو داود وصححه الألباني.
    وكان رسول الله [ يقول عند الكرب:»لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم» متفق عليه. وقال [: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت» خرجه أبو داود وحسنه الألباني.
    قال أنس : كان رسول الله [ إذا كربه أمر يقول: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» أخرجه الإمام الترمذي.
    ويقول ابن مسعود: إن رسول الله [ قال: «ما أصاب أحدا قطٌ هم ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله به فرحًا، فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ قال: بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها» خرجه الإمام أحمد في مسنده وقال شاكر: «إسناده صحيح».
    فقرب الفرج ودنو الأمل سنة من الله تحمل البشرى لكل مسلم، قال مالك بن دينار قبل موته : «ما أقرب النعم من البؤس، يعقبان ويوشكان زوالا « أي لا شيء يدوم، فالنعم والبؤس مؤقتان ومتعاقبان.
    وقال ابن رجب: «ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب، واليسر بالعسر، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى، وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين، تعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أكبر الأسباب التي تطلب بها الحوائج؛ فإن الله تعالى يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}» اهـ






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (11)أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك


    د.وليد خالد الربيع




    أداء الأمانة، والوفاء بالوعد، وحفظ العهد، وصدق الحديث، وخفض الجانب، ونحوها من الشمائل المحمودة، والأخلاق الكريمة، التي جاء الإسلام لترسيخها في النفوس، وتأصيلها في القلوب، لتزكو بها أحوال المؤمنين، ويشيع الود والإخاء في مجتمع المسلمين، في حين أن خلو الإنسان من هذه المكارم يفسح المجال لنقيضها من الخيانة والغدر والكذب والكبر ونحوها من الرذائل والقبائح التي تدنس النفوس، وتفتح باب المعاصي والقطيعة واختلال الأمن في المجتمع .


    فمن القيم الإسلامية الأصيلة، التي أمر بها الإسلام، وحث المسلمين على التحلي بها مع الناس جميعا، المسلم منهم وغير المسلم، ونهى عن ضدها، وحذر منه أشد التحذير ( أداء الأمانة )، وهي من أول المبادئ التي دعا إليها النبي [ كما جاء في حديث أبي سفيان قبل إسلامه مع هرقل لما سأله : فماذا يأمركم؟ فقال أبو سفيان: «يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والوفاء بالعهد وأداء الأمانة» أخرجه البخاري2941.


    - والأمانة معنى واسع، ومفهوم شامل لأنواع عديدة من التكاليف كما ذكر ابن الجوزي وغيره أن الأمانة في القرآن على ثلاثة أوجه:

    - أحدها : الفرائض، ومنه قوله عز وجل: {يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم}، والثاني : الوديعة، ومنه قوله عز وجل: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، والثالث : العفة والصيانة، ومنه قوله عز وجل: {إن خير من استأجرت القوي الأمين}، وقال القرطبي: «الأمانة تعم جميع وظائف الدين».

    وقد ورد في شأن حفظ الأمانة وأدائها نصوص كثيرة منها:

    قوله عز وجل: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، وقد اختلف من المخاطب بها إلا أن القرطبي اختار أنها عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات‏.‏ وهذا اختيار الطبري‏.‏ وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه؛ والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى‏.

    وممن قال: إن الآية عامة في الجميع، البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب، قالوا‏:‏ الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع، وقال ابن عباس‏:‏ لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة‏». وقال عز وجل : {فليؤد الذي اؤتمن أمانته}.

    وقال [: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم» أخرجه أحمد وصححه الألباني.

    وقال [: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» أخرجه أحمد وصححه الألباني، وقال عمر رضي الله عنه: «لا يغرنك صلاة امرئ ولا صيامه، من شاء صلى ومن شاء صام، ولكن لا دين لمن لا أمانة له «.

    وقال [ : «تقبلوا لي بست أتقبل لكم بالجنة؛ إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا اؤتمن فلا يخن، غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم» أخرجه الحاكم وصححه الألباني .

    وجاء في حديث مسلم الطويل قال [: «يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة»... إلى أن قال :«وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا...» الحديث، قال النووي: «لعظم أمرهما وكثير موقعهما».

    والأمانة مكانها قلوب المؤمنين كما قال حذيفة: إن رسول الله [ حدثهم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة»، وهي أول ما يفقد من صفات المؤمنين كما قال [: «أول ما تفقدون من دينكم الأمانة».

    - وللأمانة أحكام عدة في الفقه الإسلامي، منها:

    1- أخذ الأمانة مباح لمن قدر على الحفظ والأداء، وقيل: يستحب؛ لقوله عز وجل: {وتعاونوا على البر والتقوى}، وقد يجب الأخذ عند خوف هلاك الوديعة أو ضياعها لأن مال الغير واجب الحفظ لقوله [ في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» متفق عليه.

    وقد يحرم الأخذ لمن يعجز عن الحفظ أو لا يثق بأمانة نفسه إذ في ذلك تعريض للمال للهلاك.

    2- يجب المحافظة على الأمانة من الودائع وغيرها، قال ابن سعدي: «وقد ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز مثلها، قالوا: لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها؛ فوجب ذلك».

    3- الأمين يضمن بالجحود أو التعدي أو التفريط؛ ولا يضمن إذا تلفت دون تعد أو تفريط، لقوله [: «لا ضمان على مؤتمن» أخرجه البيهقي وحسنه الألباني.

    4- وجوب الرد عند الطلب، قال القرطبي: «وهذا إجماع‏، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار؛ قاله ابن المنذر»؛ للآية الكريمة ولقوله [: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك‏».

    وهذا الحكم واجب في حق المسلم ولو ظلم، فليس له أن يعاقب غيره بالخيانة لأنها محرمة لحق الله تعالى، ولهذا الحديث الذي قال عنه الترمذي: «وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا وقالوا: إذا كان للرجل على آخر شيء فذهب به أي أخذه بغير حق فوقع له عنده شيء أي صار للمظلوم شيء للظالم فليس له أن يحبس عنه بقدر ما ذهب له عليه»، يؤيده ما ورد َفِي الْمُسْنَدِ عَنْ بَشِيرِ بْنِ الخصاصية أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لَنَا جِيرَانًا لا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلا فَاذَّةً إلا أَخَذُوهَا، فَإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَنَأْخُذُهُ؟ قَالَ: «لا، أَدِّ الأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَك».

    والخيانة من أقبح الصفات، وكان النبي [ يستعيذ بالله منها فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة «، ولا يخفى أن الخيانة من خصال النفاق وصفات المنافقين كما قال [: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» متفق عليه.


    فحري بالمسلم الحق أن يكون صادق الوعد، كريم العهد، وثيق الذمة، يحفظ الأمانة، ويؤدي الحقوق، ويقوم بالمواثيق، ويرعى الحرمات، قال بعض العلماء: «خلق الله الدنيا كالبستان، وزينها بخمسة أشياء: بعلم العلماء، وعدل الأمراء، وعبادة الصالحين، ونصيحة المستشار، وأداء الأمانة، فقرن إبليس مع العلم الكتمان، ومع العدل الجور، ومع العبادة الرياء، ومع النصيحة الغش، ومع الأمانة الخيانة» فتأمل.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (12)من يذهب مع الذئاب يتعلم العواء



    د.وليد خالد الربيع




    هذه الحكمة الموجزة تنبئ عن سمة بشرية، وطبيعة إنسانية، دل عليها الشرع والواقع، وأكدتها الدراسات النفسية والسلوكية المتعددة، وهي أن الطبع يُـعدي، والأخلاق تـُكتسب من البيئة التي يعيش فيها الإنسان؛ لذا جاءت النصوص الشرعية والأقوال التربوية تقرر ضرورة مصاحبة الأخيار، ولزوم اجتناب الأشرار.

    فمن الآيات قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} قال ابن كثير :«أي من شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا، وأعماله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعا له ولا محبا طريقته ولا تغبطه بما هو فيه»اهـ.

    وقال تعالى: {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا}، قال ابن كثير: «أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق وهجره، وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا فذاك هو غاية ما لا خير فيه»اهـ.

    يعلل الراغب الأصفهاني هذه الحكمة الشرعية والضرورة الاجتماعية بقوله : «حق الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار، فهي قد تجعل الشرير خيّـرا، كما أن مصاحبة الأشرار قد تجعل الخيـّر شريرا، قال بعض الحكماء : من جالس خيـّرا أصابته بركته، فجليس أولياء الله لا يشقى وإن كان كلبا ككلب أصحاب الكهف، حيث قال تعالى: {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد}؛ ولهذا أوصت الحكماء بمنع الأحداث من مجالسة السفهاء، وقال أمير المؤمنين ] :» لا تصحب الفاجر فيزين لك فعله» ، وقيل : جالسوا من تذكركم الله رؤيته، ويزيد في خيركم نطقه، وقالوا: إياك ومجالسة الشرير؛ فإن طبعك يسرق من طبعه وأنت لا تدري»اهـ.

    وفي الحديث : عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله [ : «مثل الجليس الصالح والجليس السوء: كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير : إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة» متفق عليه.

    قال النووي مبينا فوائد الحديث : «وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر والبدع ومن يغتاب الناس، أو يكثر فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة».

    قال ابن سعدي : «اشتمل هذا الحديث على اختيار الأصحاب الصالحين، والتحذير من ضدهم، ومثل النبي [ بهذين المثالين، مبينا أن الجليس الصالح جميع أحوالك وأنت معه في مغنم وخير، كحامل المسك الذي تنتفع بما معه من المسك : إما بهبة أو بعوض، وأقل ذلك مدة جلوسك معه وأنت قرير النفس برائحة المسك.

    فالخير الذي يصيبه العبد من جليسه الصالح أبلغ وأفضل من المسك الأذفر؛ فإنه إما أن يعلمك ما ينفعك في دينك ودنياك، أو يهدي لك نصيحة، أو يحذرك من الإقامة على ما يضرك، فيحثك على طاعة الله وبر الوالدين وصلة الأرحام، ويبصرك بعيوب نفسك، ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها بقوله وفعله وحاله؛ فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والطباع والأرواح جنود مجندة، يقود بعضها بعضا إلى الخير أو إلى ضده.

    وأما مصاحبة الأشرار، فإنها بضد جميع ما ذكرنا، وهم مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم، وشر على من خالطهم، فكم هلك بسببهم أقوام، وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون؛ ولهذا كان من أعظم نعم الله على العبد المؤمن أن يوفقه لصحبة الأخيار، ومن عقوبته لعبده أن يبتليه بصحبة الأشرار»اهـ.

    ومن الأحاديث قوله [ : «لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي» أخرجه أبو داود والترمذي، قال شراح الحديث : «المراد النهي عن مصاحبة الكفار والمنافقين؛ لأن مصاحبتهم مضرة في الدين، فالمراد بالمؤمن جنس المؤمنين».

    وقال تعالى: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» أخرجه أبو داود والترمذي، قال شراح الحديث: «أي يتأمل ويتدبر من يخالل، فمن رضي دينه وخلقه خالّه، ومن لا، تجنبه؛ فإن الطباع سراقة».

    وقد ذهب الراغب الأصفهاني إلى غاية أبعد في بيان خطورة مصاحبة الأشرار موضحا أن التأثر بهم قد يحصل من مجرد النظر، فقال :«وليس إعداء الجليس جليسَهُ خلقه بمقاله وفعاله فقط، بل وبالنظر إليه، فالنظر في الصور يؤثر في النفوس أخلاقا مناسبة إلى خلق المنظور إليه؛ فإن من دام نظره إلى مسرور سر، ومن دام نظره إلى محزون حزن، وذلك ليس في الإنسان فقط، بل في الحيوان وسائر النبات؛ فإن الجمل الصعب قد يصير ذلولا بمقارنة الذلول، والذلول يصير صعبا بمقارنة الصعب، والريحانة الغضة تذبل بمقارنة الذابلة؛ ولهذا يلقط أصحاب الفلاحة الرمم عن الزروع لئلا تفسدها، ومعلوم أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة إذا قربت منهما، وذلك مما لا ينكره ذو تجربة، وإذا كانت هذه الأشياء قد بلغت في قبول التأثير هذا المبلغ، فما الظن بالنفوس البشرية التي موضوعها لقبول صور الأشياء خيرها وشرها، فقد قيل: سمي الإنس إنسا؛ لأنه يأنس بما يراه إن خيرا وإن شرا»اهـ.

    ومن أضرار صحبة الأشرار ما قد يلحق المرء من سوء السمعة كما يقول أبو حاتم البستي : «العاقل يلزم صحبة الأخيار، ويفارق صحبة الأشرار ؛ لأن مودة الأخيار سريع اتصالها، بطيء انقطاعها، ومودة الأشرار سريع انقطاعها، بطيء اتصالها، وصحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار، ومن خادن الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم.

    فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب؛ لئلا يكون مريبا، فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير، كذلك صحبة الأشرار تورث الشر. قال مالك بن دينار : «إنك أن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص ـ نوع من الحلوى ـ مع الفجار».

    وقال أبو حاتم : «العاقل لا يدنس عرضه، ولا يعوّد نفسه أسباب الشر بلزوم صحبة الأشرار، ولا يغضي عن صيانة عرضه ورياضة نفسه بصحبة الأخيار». وينقل عن أبي الدرداء أنه قال:» لَصاحب صالح خير من الوحدة، والوحدة خير من صاحب السوء، ومملي الخير خير من الساكت، والساكت خير من مملي الشر».

    قال أبو سليمان الداراني : «لا تصحب إلا أحد رجلين : رجلا ترتفق به في أمر دنياك أو رجلا تزيد معه وتنتفع به في أمر آخرتك، والاشتغال بغير هذين حمق كبير». فحري بالمسلم أن ينتقي أصدقاءه فيفر من كل ذميم الأخلاق، منغمس في الآثام، مولع بالسوء، متهافت على المنكر، سريع إلى الشر بطيء عن الخير.

    ويحرص على رفقة كل برّ، محمود الجوار، جميل السيرة، حسن المذهب، محمود الطريقة، طيب السريرة، من أهل الخير، وعليه شارة أهل الصلاح، والله الموفق.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (13) ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله



    د.وليد خالد الربيع



    تقرر هذه الآية الكريمة حكمة قرآنية، وسنة ماضية، وحكما عادلا من الله تعالى وهو: «الجزاء من جنس العمل»؛ فمن عمل صالحا مخلصا لله لقي جزاء ذلك في الدنيا والآخرة بإذن الله تعالى، ومن عمل سيئة استحق العقوبة في الدنيا والآخرة إلا أن يعفو الله تعالى عنه.

    والمكر بالناس وخديعتهم من جملة الأعمال السيئة التي نهى الله تعالى عنها وبين سوء مآلها وخطورة آثارها، وأكد أن عقوبتها من جنسها.

    فالمكر في لغة العرب يدور حول الاحتيال والخداع كما قال ابن فارس، وقال الطبري: «وأما المكر فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالغدر ليورطه الماكر به مكروها من الأمر» اهـ.

    وأما في الاصطلاح فقد فرق كثير من العلماء بين المكر المضاف إلى الله تعالى والمكر الواقع من الخلق، كما قال الجرجاني في التعريفات: «المكر من جانب الحق تعالى: هو إرداف النعم مع المخالفة، وإبقاء الحال مع سوء الأدب، ومن جانب العبد: إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر»اهـ.

    وقال الراغب مبينا أقسام المكر: «وذلك ضربان: مكر محمود وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال تعالى: {والله خير الماكرين}، ومذموم وهو أن يتحرى به فعلاً قبيحاً، قال تعالى: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}، {وإذ يمكر بك الذين كفروا}، وقال في الأمرين: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا}»اهـ.

    وقال مبينا أن الجزاء من جنس العمل: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}.

    ويوضح الشيخ ابن سعدي المراد بالمكر في هذه الآية فيقول : «الذي مقصوده مقصود سيئ ومآله وما يرمي إليه سيئ فمكرهم إنما يعود عليهم»، ويؤكد ابن كثير هذا المعنى بقوله: «ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم».

    ويشير الشيخ الطاهر بن عاشور إلى ما اشتملت عليه هذه الآية من مواعظ وآداب فيقول : «فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية ومعجزات قرآنية ومعجزات نبوية خفية»، ثم يفصل ذلك مبينا أن إضافة (مكر) إلى (السيئ) من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل: عشاء الآخرة. وأصله: أن يمكروا المكر السيئ بقرينة قوله: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}.

    ويوضح أن المكر هو إخفاء الأذى، وهو سيئ؛ لأنه من الغدر، وهو مناف للخلق الكريم، فوصفه بالسيئ وصف كاشف، ولعل التنبيه إلى أنه وصف كاشف هو مقتضى إضافة الموصوف إلى الوصف لإظهار ملازمة الوصف للموصوف فلم يقل: ومكروا سيئا، ويبين سبب كون المكر هنا سيئا، وذلك لأنه مكر بالنذير وأتباعه، وهو مكر ذميم لأنه مقابلة المتسبب في صلاحهم بإضمار ضره، وجملة {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} تذييل أو موعظة.

    ومعنى كلمة يحيق: أي : ينزل بشيء مكروه، يقال : حاق به، أي : نزل وأحاط إحاطة سوء، أي لا يقع أثره إلا على أهله، وفيه حذف مضاف تقديره: ضر المكر السيئ أو سوء المكر السيئ كما دل عليه فعل (يحيق).

    فإن كان التعريف في (المكر) للجنس كان المراد بأهله كل ماكر. وهذا هو الأنسب بموقع الجملة ومحملها على التذييل ليعم كل مكر وكل ماكر، فيدخل فيه الماكرون بالمسلمين من المشركين، فيكون القصر الذي في الجملة قصرا إدعائيا مبنيا على عدم الاعتداد بالضر القليل الذي يحيق بالممكور به بالنسبة لما أعده الله للماكر في قدره من ملاقاة جزائه على مكره، فيكون ذلك من النواميس التي قدرها القدر لنظام هذا العالم؛ لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض، والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض؛ لأن الإنسان مدني بالطبع، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضا تنكر بعضهم لبعض، وتبادروا الإضرار والإهلاك ليفوز كل واحد بكيد الآخر قبل أن يقع فيه، فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم والله لا يحب الفساد ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء؛ ولهذا قيل في المثل: «وما ظالم إلا سيبلى بظالم»، قال الشاعر:

    ولكل شيء آفة من جنـسـه

    حتى الحديد سطا عليه المبرد

    وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها، وقد قال الله تعالى: {والله لا يحب الفساد}، وفي كتاب ابن المبارك في الزهد بسنده عن الزهري: بلغنا أن رسول الله [ قال : «لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله يقول {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}»، ومن كلام العرب : «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا»، ومن كلام عامة أهل تونس: يا حافر حفرة السوء ما تحفر إلا قياسك «اهـ.

    وأما نتيجة ذلك المكر الباطل فهو العقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور} قال الطبري : «والذين يكسبون السيئات لهم عذاب جهنم»، وقال ابن سعدي: «أي: يهلك ويضمحل ولا يفيدهم شيئا لأنه مكر بالباطل لأجل الباطل».

    وقال محمد بن كعب القرظي: «ثلاث من فعلهن لم ينج حتى ينزل به مكر أو بغي أو نكث، وتصديقها في كتاب الله تعالى {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}، {إنما بغيكم على أنفسكم}، {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه}».

    وقد وردت بعض الأحاديث في التحذير من المكر السيئ، فعن قيس بن سعد بن عبادة قال: «لولا أني سمعت رسول الله تعالى يقول: «المكر والخديعة في النار «لكنت من أمكر الناس» قال الشراح: «أي تدخل أصحابها النار»، وقيل: لا يكون صاحبهما تقيا ولا خائفا لله؛ لأنه إذا مكر غدر، وإذا غدر خدع، وذا لا يكون في تقي، وكل خلة جانبت التقى فهي في النار».

    وعن أبي بكر عن النبي [ قال : «لا يدخل الجنة خِـبٌّ، ولا منان، ولا بخيل» أخرجه الترمذي، قال الشراح : «الخب ـ بفتح الخاء وكسرها ـ أي مخادع يفسد بين الناس بالخداع، أي : لا يدخل الجنة مع هذه الصفة حتى يجعل طاهرا منها إما بالتوبة في الدنيا، أو بالعقوبة بقدرها تمحيصا، أو بالعفو تفضلا وإحسانا»اهـ.

    وبعد، فينبغي للمسلم أن يكون برّاً، وفياً، وثيق الذمة، صادق الوعد، كريم العهد، ثابت العقد، لا يخون ولا يغدر ولا يخفر، ويتجافى عن كل رذيلة ودنيئة، ولاسيما المكر والخداع وإيذاء الناس وانتهاك حرماتهم وأكل حقوقهم بغير حق، والله الموفق.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (14) تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقامة


    د.وليد خالد الربيع




    إكرام الجار خلق كريم أقره الإسلام، وزاد الاهتمام به بأن شرع له أحكاما وآدابا تضفي عليه صبغة العبودية لله تعالى عند القيام به، وذلك بربط الإحسان إلى الجار بالإيمان بالله عز وجل، وترتيب الأجر الجزيل على ذلك، ونفي الإيمان عمن يؤذي جيرانه، وغير ذلك من أحكام تجعل من القيام بحق الجار قربة تقرب المسلم إلى ربه عز وجل.

    فمن الآيات التي توصي بالجار قوله عز وجل: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} قال القرطبي: «أما الجار فقد أمر الله عز وجل بحفظه والقيام بحقه والوصاية برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه ، ألا تراه سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين»، وقال أيضا: «فالوصاة بالجار مأمور بها، مندوب إليها، مسلما كان أم كافرا وهو الصحيح، والإحسان قد يكون بمعنى المواساة وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه».

    ومن عظيم حق الجار على جاره أن الوحي تتابع لأجله، والوصاة به تكررت تأكيدا لحقه، وترسيخا لحفظ حرمته وذمته؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله [: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» أخرج البخاري ومسلم.

    بل إنه [ جعل من كمال الإيمان إكرام الجار وكف الأذى عنه، فعن أبي شريح العدوي قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي [ فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»، وفي حديث آخر عن أبي هريرة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره»، وقال [: «وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا» أخرجه الترمذي.

    وقد أكد النبي [ حق الجار بنفي الإيمان عمن لا يكف أذاه عن جاره ، فعن أبي شريح أن النبي [ قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» والبوائق جمع بائقة وهي الداهية والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يوافي بغتة.

    وقال ابن بطال: «في هذا الحديث تأكيد حق الجار لقسمه [ على ذلك، وتكريره اليمين ثلاث مرات، وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل، ومراده الإيمان الكامل، ولا شك أن العاصي غير كامل الإيمان».

    ولهذا فإن أذية الجيران سبب لورود النار؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: «هي في النار»، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي في الجنة» أخرجه أحمد وأثوار الأقط: القطع من اللبن المجمد المجفف.

    ولما كان التأذي من الجار سببا للشقاء والتعاسة وعدم الاستقرار في العيش والسكن فقد أمر [ بالتعوذ من ذلك بقوله: «تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يتحول عنك» أخرجه النسائي، وفي لفظ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ سُوءٍ فِي دَارِ إِقَامَةٍ، فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ» أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد، قال: المناوي في التيسير: «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء» أي من شرّه «في دار المقامة» بضم الميم أي الوطن فإنه الشرّ الدائم والضرر الملازم (فإن جار البادية يتحوّل) فمدّته قصيرة فلا يعظم الضرر في تحملها.

    قال الدكتور محمد لقمان السلفي في شرح الأدب المفرد: «دار المقامة: أي دار الإقامة؛ لأن الجار السيئ في دار الإقامة أحق بالاستغاثة منه لتتابع الأذى منه، ولا يزول عنه ظن الأذى في كل حال، وهي أشد من الأذى».

    وقال [: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء» أخرجه ابن حبان.

    والإحسان إلى الجار معنى كبير ينتظم أمورا كثيرة من المعروف والبر والصلة، قال الشيخ ابن أبي جمرة: «حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة، كالهدية والسلام وطلاقة الوجه عند لقائه وتفقد حاله ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية.

    ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية وترك الإضرار له.

    وقد بين [ أن مجال الإحسان للجار لا حد لأقله، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله [: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» أخرجه البخاري، قال ابن حجر: «أي: لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئا ولو أنها تهدي لها ما لا ينتفع به في الظاهر، ويحتمل أن يكون من باب النهي عن الشيء أمر بضده، وهو كناية عن التحابب والتوادد، فكأنه قال: لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير، وخص النهي النساء لأنهن موارد المودة والبغضاء ، ولأنهن أسرع انفعالا في كل منهما».

    وقال [ مبينا حرص الإسلام على مشاركة الجار في أقل القليل تحقيقا للأخوة الإيمانية والتكافل الاجتماعي القائم على الحب في الله: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» وفي رواية: «ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصب منهم بمعروف» أخرجه مسلم.

    وجاء في حديث معاذ قالوا: يا رسول الله ما حق الجار على الجار؟ فقال: «إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سرا، ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده» ذكره ابن حجر في فتح الباري 10/446.

    وعلى المسلم أن يتحرى بإحسانه وبره أقرب الجيران إليه فالأقرب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك بابا» أخرجه البخاري، وذلك لأن الأٌقرب من الجيران إلى الإنسان يرى ما يدخل بيت جاره من خيرات فيتشوف لها بخلاف الأبعد، وقيل: لأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات ولا سيما في أوقات الغفلة والراحة فيستحب اختصاصه بالصلة والإحسان.

    ولعظيم حق الجار فإن إثم المعصية في حقه والاعتداء عليه مضاعف، فعن أبي ظبية الكلاعي قال: سمعت المقداد بن الأسود يحدث أن النبي [ سألهم عن الزنى فقالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فقال: «لأن يزني الرجل بعشرة نسوة خير له من أن يزني بامرأة جاره، قال: وسألهم عن السرقة فقالوا: حرام حرمها الله ورسوله، فقال: «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره» أخرجه البخاري في الأدب المفرد.

    وقال [ لما سأله ابن مسعود: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قال: قلته له: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» أخرجه الشيخان، قال النووي: «وذلك يتضمن الزنى وإفسادها على زوجها واستحالة قلبها إلى الزاني، وذلك أفحش وهو مع امرأة الجار أشد قبحا وأعظم جرما؛ لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنى بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية القبح».

    ولم تفرق نصوص الكتاب والسنة الآمرة بالإحسان إلى الجار بين الجار المسلم وغير المسلم، بل أطلقت الأمر بالإحسان لعموم الجيران ليشمل كل من تجاورت بيوتهم على اختلاف دياناتهم، إلا أن الجار المسلم تبقى له الأفضلية في المعاملة والإحسان والصلة لاجتماع حق الإسلام وحق الجوار في جواره للمسلم، قال ابن حجر: «واسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب دارا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك فيعطي كلا حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوي».

    وقد فهم الصحابة الكرام هذا المعنى وامتثلوه، فعن مجاهد أن عبد الله بن عمرو ذبحت له شاة في أهله فلما جاء قال: أهديهم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله [ يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» أخرجه الترمذي.


    وجاء في الأثر: «الجيران ثلاثة: فجار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، فأما الذي له حق واحد فجار مشرك ولا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم».
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (15) إن بعـض الظـن إثـم


    د.وليد خالد الربيع








    قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.
    قال الطاهر بن عاشور: «وجملة {إن بعض الظن إثم} استئناف بياني لأن قوله: {اجتنبوا كثيرا من الظن}، يستوقف السامع ليتطلب البيان فاعلموا أن بعض الظن جرم، وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون ليعرضوا ما تفضي إليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة، أو ليسألوا أهل العلم»اهـ.
    ما الظن؟ وما أنواعه؟

    الظن مصدر الفعل (ظن الشيء ظنا) أي علمه بغير يقين، ويقال: ظن بفلان أي اتهمه، ويطلق الظن على إدراك الذهن الشيء مع ترجيحه، والظنين: ما لا يوثق به ويطلق على المتهم أيضا.
    وقد جاء في القرآن استعمال الظن بمعنى (العلم واليقين) كما في قوله تعالى: {وظن داود أنما فتناه}، وقوله: {إني ظننت أني ملاق حسابيه}، وقوله: {قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله}، وقوله: {وظن أنه الفراق}.
    واستعمل الظن بمعنى (الشك) كما في قوله تعالى: {وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}.
    واستعمل في القرآن بمعنى (التهمة) كما في قوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن}، قال ابن كثير: «يَقُول تَعَالَى نَاهِيًا عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ عَنْ كَثِير مِنْ الظَّنّ وَهُوَ التُّهْمَة وَالتَّخَوُّن لِلْأَهْلِ وَالْأَقَارِب وَالنَّاس فِي غَيْر مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ بَعْض ذَلِكَ يَكُون إِثْمًا مَحْضًا فَلْيُجْتَنَبْ كَثِيرٌ مِنْهُ اِحْتِيَاطًا»اه ـ.
    والمراد بـ(الظن) هنا: الظن المتعلق بأحوال الناس وحُذف المتعلق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم.
    وقد ورد الظن في النصوص الشرعية على أوجه وأنواع، منها:
    النوع الأول: الظن المحمود:
    ومنه حسن الظن بالله تعالى كما قال[: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى»، قال النووي: هذا تحذير من القنوط، وحث على الرجاء عند الخاتمة، ومعنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحمه ويعفو عنه.
    وقال الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله» أخرجه أحمد.
    ومنه حسن الظن بالمسلم كما قال[: «المؤمن غر كريم، والفاجر خبّ لئيم» أخرجه أبو داود، وجعل المؤمن غرا بسبب سلامة صدره وحسن الباطن والظن بالناس فكأنه لم يجرب بواطن الأمور، فترى الناس منه في راحة لا يتعدى إليهم منه شر.
    وقال[: «خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق» قيل: ما القلب المخموم؟ قال: «هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد» قيل: فمن على أثره؟ قال: «الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة» قيل: فمن على أثره؟ قال: «مؤمن في خلق حسن».
    النوع الثاني: الظن المباح:
    وهو الذي يعرض في القلب بسبب يوجب الريبة، قال سفيان الثوري: الظن ظنان، ظن إثم وظن ليس بإثم، فأما الظن الذي هو إثم: فالذي يظن ظنا ويتكلم به، والذي ليس بإثم: فالذي يظن ولا يتكلم به.
    وقال القرطبي: «وأكثر العلماء على أَنَّهُ لَا حَرَج فِي الظَّنّ الْقَبِيح بِمَنْ ظَاهِره القبح»اهـ.
    وعقد البخاري في صحيحه في كتاب الأدب ترجمة بعنوان (باب ما يجوز من الظن) ثم ذكر حديث عائشة قالت: قال النبي[: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا» وفي رواية: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان ديننا الذي نحن عليه». قال الليث: كانا رجلين من المنافقين.
    قال ابن حجر: «وحاصل الترجمة أن مثل هذا الذي وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه؛ لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين، والنهي إنما هو عن ظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه».
    وأما قول ابن عمر: «إنا كنا إذا فقدنا الرجل في عشاء الآخرة أسأنا به الظن»، فقد قال ابن حجر: معناه أنه لا يغيب إلا لأمر سيئ إما في بدنه وإما في دينه.
    وقال ابن قدامة: «فليس لك أن تظن بالمسلم شرا، إلا إذا انكشف لك أمر لا يحتمل التأويل، فإن أخبرك بذلك عدل فمال قلبك إلى تصديقه كنت معذورا؛ لأنك لو كذبته كنت قد أسأت الظن بالمخبر، فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد وتسيئه بآخر.. ومتى خطر لك خاطر سوء على مسلم، فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير؛ فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك.. وإذا تحققت هفوة مسلم فانصحه في السر».
    النوع الثالث: الظن المحرم:
    ومنه سوء الظن بالله تعالى، وهو من الكبائر؛ لأنه يأس وقنوط، قال تعالى عن الكافرين: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية}، وقال عن المنافقين: {وَظَنَنْتُمْ ظَنّ السَّوْء وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا}. ومنه سوء الظن بالمسلمين، ومعناه: اعتقاد جانب الشر وترجيحه على جانب الخير فيما يحتمل الأمرين، قال تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا}، وعن عُمَر بْن الْخَطَّاب - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: «وَلَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيك الْمُؤْمِن إِلَّا خَيْرًا وَأَنْتَ تَجِد لَهَا فِي الْخَيْر مَحْمَلًا».
    وسوء الظن بالمسلمين من الكبائر، وذلك - كما يقول ابن حجر الهيثمي - بأن من حكم بشرّ على غيره بمجرد الظن، حمله الشيطان على احتقاره، وعدم القيام بحقوقه وإطالة اللسان في عرضه وكلها مهلكات.
    قال القرطبي: «وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الظَّنّ الْقَبِيح بِمَنْ ظَاهِره الْخَيْر لا يَجُوز «.
    وقال ابن سعدي: «نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فقال: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وذلك كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال والأفعال المحرمة؛ فإن بقاء ظن السوء بالقلب لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا إساءة الظن بالمسلم وبغضه وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه». قال القرطبي: «لَا تَظُنُّوا بِأَهْلِ الْخَيْر سُوءًا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ ظَاهِر أُمُورهمْ الْخَيْر».
    كيف يمكن اجتناب الظن كما أمر الله تعالى؟
    - أولاً: قال تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن}، قال الطاهر: «ومعنى الأمر باجتناب؛ كثير من الظن: الأمر بتعاطي وسائل اجتنابه فإن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطرارا عن غير اختيار، فلا يعقل التكليف باجتنابه وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه وتمحيصه والتشكك في صدقه إلى أن يتبين موجبه بدون تردد أو برجحان أو يتبين كذبه فتكذب نفسك فيما حدثتك».
    وقال أيضا: ففي قوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن} تأديب عظيم يبطل ما كان فاشيا في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة، وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد، والاغتيالات، والطعن في الأنساب، والمبادأة بالقتال حذرا من اعتداء مظنون ظنا باطلا، كما قالوا: خذ اللص قبل أن يأخذك، ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة؛ فوجب التمحيص والفحص لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق.
    - ثانياً: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِي[ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنّ فَإِنَّ الظَّنّ أَكْذَب الْحَدِيث، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَنَاجَشُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَاد اللَّه إِخْوَانًا».
    قال النووي: «المراد النهي عن ظن السوء، قال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس فإن ذلك لا يُملك. وقال أيضا: ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه دون ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به «.
    قال القرطبي: «قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَالظَّنّ هُنَا وَفِي الْآيَة هُوَ (التُّهْمَة)، وَمَحَلّ التَّحْذِير وَالنَّهْي إِنَّمَا هُوَ تُهْمَة لا سَبَب لَهَا يُوجِبهَا, كَمَنْ يُتَّهَم بِالْفَاحِشَةِ أَوْ بِشُرْبِ الْخَمْر مَثَلا وَلَمْ يَظْهَر عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ. وَدَلِيل كَوْن الظَّنّ هُنَا بِمَعْنَى التُّهْمَة قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَجَسَّسُوا}، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَقَع لَهُ خَاطِر التُّهْمَة اِبْتِدَاء وَيُرِيد أَنْ يَتَجَسَّس خَبَر ذَلِكَ وَيَبْحَث عَنْهُ, وَيَتَبَصَّر وَيَسْتَمِع لِتَحْقِيقِ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ تِلْكَ التُّهْمَة، فَنَهَى النَّبِيّ[ عَنْ ذَلِكَ.

    وَإِنْ شِئْت قُلْت: وَاَلَّذِي يُمَيِّز الظُّنُون الَّتِي يَجِب اِجْتِنَابهَا عَمَّا سِوَاهَا: أَنَّ كُلّ مَا لَمْ تُعْرَف لَهُ أَمَارَة صَحِيحَة وَسَبَب ظَاهِر كَانَ حَرَامًا وَاجِب الِاجْتِنَاب، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَظْنُون بِهِ مِمَّنْ شُوهِدَ مِنْهُ السَّتْر وَالصَّلاح, وَأُونِسَتْ مِنْهُ الأَمَانَة فِي الظَّاهِر, فَظَنّ الْفَسَاد بِهِ وَالْخِيَانَة مُحَرَّم, بِخِلَافِ مَنْ اِشْتَهَرَهُ النَّاس بِتَعَاطِي الرَّيب وَالْمُجَاهَرَة بِالْخَبَائِثِ» . اهـ.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (16) شجرة الكسل تثمر الجوع



    د.وليد خالد الربيع









    يحث الإسلام على النشاط والهمة والحرص على كل ما ينفع الإنسان في دينه ودنياه وآخرته، ويحذر من الكسل والتراخي والغفلة والقعود عن السعي في مصالح الدارين، فقال عز وجل: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}، وقال سبحانه: {فاستبقوا الخيرات} وقال: {لمثل هذا فليعمل العاملون} وقال: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.

    وقال [: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز « أخرجه مسلم، وكان من دعائه [: «وأسألك العزيمة على الرشد»، وكان يقول لأصحابه: «إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها» أخرجه الطبراني وصححه الألباني.

    ولا شك أن الكسل من الآفات الاجتماعية الخطيرة، والصفات الشخصية الرذيلة، فما أقبح أن يوصف الإنسان بأنه كسل وكسلان، ساقط الهمة، متخاذل العزم، بليد الحركة، عيال على الناس، خبال على أهله، قد ألف القعود، وأخلد إلى الكسل، واستنام إلى الراحة، وغيرها من الأوصاف التي تدل على الخمول والكسل، فهذا مذموم عند جميع العقلاء وسليمي الطباع.

    والكسل في اللغة: هو التثاقل عن الشيء والقعود عن إتمامه، قال المناوي: الكسل: التغافل عما لا ينبغي التغافل عنه؛ ولذلك عدّ مذموما، وضده النشاط .

    وقد ذمّ الله تعالى الكسل والتباطؤ وجعلهما من صفات المنافقين فقال عز وجل: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} وقال عنهم: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}.

    وكان من دعائه[: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» أخرجه مسلم، ومن يتأمل حقيقة ما استعاذ منه النبي[ يجد أنها أبواب الرذائل، ومفاتيح الشر، فالعجز والكسل يقعد أن بالإنسان عما ينفعه في دينه ودنياه وآخرته، والجبن يمنع من الإقدام في مواطن الشجاعة، والبخل يمنعه من الإنفاق في مواطن البذل، وغلبة الدين تجعل الرجل يحدث فيكذب، ويعد فيخلف.

    ويوضح الراغب الأصفهاني أن الكسل خروج من دائرة الحياة إلى عداد الموتى فيقول: «من تعطل وتبطل انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية وصار من جنس الموتى، وذلك أنه خص الإنسان بالقوى الثلاث ليسعى في فضيلتها، فإن فضيلة القوة الشهوانية تطالبه بالمكاسب التي تنميه، وفضيلة القوة الغضبية تطالبه بالمجاهدة التي تحميه، وفضيلة القوة الفكرية تطالبه بالعلم الذي يهديه، فحقه أن يتأمل قوته ويسبر قدر ما يطيقه، فيسعى بحسبه لما يفيده السعادة، ويتحقق أن اضطرابه سبب وصوله من الذل إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الضعة إلى الرفعة، ومن الخمول إلى النباهة، وإن من تعود الكسل ومال إلى الراحة فقد الراحة، فحب الهوينى يكسب التعب، وقيل: إن أردت ألا تتعب فاتعب لئلا تتعب، وقيل: إياك والكسل والضجر فإنك إن كسلت لم تؤد حقا، وإن ضجرت لم تصبر على حق .

    وقال يزيد بن المهلب: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا كله لئلا أتعود العجز .

    وإن الفراغ يبطل الهيئة الإنسانية، فكل هيئة بل كل عضو ترك استعماله يبطل، كالعين إذا أغمضت، واليد إذا عطلت، ولذلك وضعت الرياضات في كل شيء، ولما جعل الله تعالى للحيوان قوة التحرك لم يجعل له رزقا إلا بسعي منه .

    وتأمل حال مريم عليها السلام وقد جعل لها من الرطب الجني ما كفاها مؤنة الطلب، وفيه أعظم معجزة فإنه لم يخلها من أن أمرها بهزها فقال تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة}، وكما أن البدن يتعود الرفاهية بالكسل، كذلك النفس بترك التفكر والنظر فتتبلد وتتبله وترجع إلى رتبة البهائم، فحق الإنسان ألا يذهب عامة أوقاته إلا في إصلاح أمر دينه ودنياه وموصلاته إلى آخرته، مراعيا لها، قال الحجاج: إن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه ويستغفر من ذنبه أو يتفكر في أمر معاده لجدير أن تطول حسرته يوم القيامة .»اهـ.

    ثم ذكر الراغب أن الإنسان محتاج إلى خمسة أمور:

    معرفة المعبود المشار إليه بقوله: {ففروا إلى الله}، ومعرفة الطريق المشار إليه بقوله: {قل هذه سبيل أدعو إلى الله على بصيرة}، وتحصيل الزاد المتبلغ به المشار إليه بقوله: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}، والمجاهدة في الوصول كما قال تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده}، فبهذه الأشياء يأمن الغرور الذي خوفه الله تعالى منه في قوله: {ولا يغرنكم بالله الغرور}، وهذه المعالي التي دونها هول العوالي، ولا ضير لمن رامها أن يتذرع الصبر فقد أصاب من قال:

    فقل لمرجي معالي الأمور

    بغير اجتهاد رجوت المحالا

    ويبين ابن الجوزي أن العبرة بالمآل فيقول: « تعب عالي الهمة راحة في المعنى، وراحة قصير الهمة تعب وشين إن كان ثم فهم، والدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي، فينبغي لذي الهمة أن لا يقصر في شوطه، فإن سبق فهو المقصود، وإن كبا جواده مع اجتهاده لم يلم» .اهـ.

    قال الفراء: « لا أرحم أحدا كرحمتي لرجلين: رجل يطلب العلم ولا فهم له، ورجل يفهم ولا يطلبه، وإني لأعجب ممن في وسعه أن يطلب العلم ولا يتعلم « قال المتنبي:

    ولم أر في عيوب الناس عيبا

    كنقص القادرين على التمام

    وأختم بقول ابن القيم: « وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة، فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا همّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا، استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله «اهـ.

    فنسأل الله تعالى أن يرزقنا الهمة العالية، ويوفقنا لمعالي الأمور، وأن يحفظنا من العجز والكسل وسفاسف الأمور.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (17) وإذا قلتــم فاعدلـوا



    د.وليد خالد الربيع



    الشريعة الإسلامية كلها عدل وقسط ورحمة في أصولها وفروعها وفي كل مجالاتها العامة والخاصة، وتأمر المكلفين بالتزام العدل في كل أمورهم ومع كل الناس الموافق منهم والمخالف، وتحثهم على الإنصاف من غير محاباة للقريب ولا مجافاة للبعيد البغيض، كما قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}، قال الشيخ ابن سعدي :» فالعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفورة، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه وحق عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى وولاية القضاء ونواب الخليفة ونواب القاضي.

    والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله وأمرهم بسلوكه ...فالعدل واجب والإحسان فضيلة مستحبة وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والمال وغير ذلك من أنواع النفع».اهـ.

    وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}.

    وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}.

    قال الشيخ ابن سعدي :» ومن أعظم أنواع القسط؛ القسط في المقالات والقائلين فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما، بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان حتى على الأحباب بل على النفس.. والقيام بالقسط من أعظم الأمور وأدلها على دين القائم به وورعه».اهـ.

    وقال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} قال الشيخ: «أي بمراعاة الصدق فيمن تحبون ومن تكرهون والإنصاف وعدم كتمان ما يلزم بيانه؛ فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم، بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه وأن يبين ما فيها من الحق والباطل ويعتبر قربها من الحق وبعدها منه « .

    وعن أنس] أن النبي [ قال: «ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه». قال المناوي: فلا يحمله الغضب على الجور ولا الرضا على الوقوع في المحظور لأجل رضا المخلوق».

    وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله[: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا».

    وقال عمار بن ياسر -رضي الله عنه-: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار» رواه البخاري تعليقا، قال الشراح: إنما كان من جمع الثلاثة مستكملا للإيمان لأن مداره عليها لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقا واجبا عليه إلا أداه ولم يترك شيئا مما نهاه عنه إلا اجتنبه وهذا يجمع أركان الإيمان .

    وبعث رسول الله [ عبد الله بن رواحة إلى خيبر ليخرص لهم الثمار فأرادوا أن يرشوه فقال : يا أعداء الله، تطعمونني السحت، ولقد جئت من عند أحب الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على ألا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.

    قال ابن عبد البر: وفيه أن المؤمن إذا أبغض في الله لا يحمله البغض على ظلم من أبغضه.

    ولم تمنع الغيرة أزواج النبي [ أن يشهدن بالفضل لبعضهن، قالت عائشة عن زينب بنت جحش :» وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله [، ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق في الحديث وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشدّ ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدّق به وتقرّب به إلى الله تعالى، ما عدا سَورْة من حدّة كانت فيها تسرع منها الفيئة». أخرجه مسلم

    وقال محمد بن سيرين : «ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره «.

    وقال سفيان الثوري : «عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والتعصب والشهوات دون أن يعي بفضائلهم، حُرم التوفيق ودخل في الغيبة وحاد عن الطريق».

    وقال الشافعي: «ما كلمت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان وتكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما كلمت أحدا قط إلا ولم أبال بينّ الله الحق على لساني أو لسانه»، وقال أيضا : «والله ما ناظرت أحدا إلا على النصيحة، أو قال: فأحببت أن يخطئ».

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبيّة جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتما بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه...» إلى أن قال : «وذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه».

    ويقول ابن القيم :» أما أهل العدل والإنصاف فهم هؤلاء الذين أعطوا كل ذي حق حقه، ولم يحكموا للصحيح بحكم السقيم ولا للسقيم بحكم الصحيح، ولكن قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد « .

    ويقول شيخ الإسلام :» فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب رئاسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا، ثم إذا ردّ عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه وربما اعتدى على ذلك المؤذي .

    وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة؛ فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه، ويرضون على من وافقهم وإن كان جاهلا سيئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء نفوسهم لا على دين الله ورسوله.

    وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمّه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب بهواه، ويكون مع ذلك له شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظّم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله ولم يكن مجاهدا في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدعى الحق والسنة هو كنظيره، معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة ؟! وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وكفّر بعضهم بعضا وفسّق بعضهم بعض».اهـ.







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (18)إن الديــن يســــر



    د.وليد خالد الربيع









    عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي [ قال: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ؛ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ» أخرجه البخاري.




    فمن خصائص الإسلام ، ومن سمات الشريعة السماحة واليسر ورفع الحرج ، وهذا الحديث فرد من جملة أدلة تدل على ذلك منها قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، وقال تعالى: {يريد الله أن يخفف الله عنكم}، وقال سبحانه: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وقال [: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة»، وقال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا»، وقالت عائشة- رضي الله عنها-: «ما خُيّر رسول الله [ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما»، ونصوص كثيرة حول هذا الأصل.

    وللأسف فإن بعض الناس يسيء فهم هذا الحديث وأمثاله، فيظن أن التهاون في بعض الواجبات، والوقوع في بعض المحرمات، والتنازل عن بعض الثوابت، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يظن أن ذلك من باب أن الدين يسر.

    إلا أن المفهوم الصحيح لسماحة الدين ويسره يتمثل فيما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أي دين الإسلام ذو يسر أو سُمِّيَ الدين يسرا مبالغة بالنسبة للأديان قبله؛ لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم، ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم» اهـ.

    وقال الشيخ ابن سعدي :» ما أعظم هذا الحديث، وأجمعه للخير والوصايا النافعة، والأصول الجامعة. فقد أسّـس[ في أوله هذا الأصل الكبير، فقال: «إن الدين يسر» أي ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه؛ فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره: هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب، وتوصِّل مقتديها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب، وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق، وأصلح الأعمال، بها صلاح الدين والدنيا والآخرة. وبفواتها يفوت الصلاح كله. وهي كلها ميسرة مسهلة، كل مكلف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه ولا تكلفه، عقائده صحيحة بسيطة. تقبلها العقول السليمة، والفطر المستقيمة. وفرائضه أسهل شيء.

    ثم إذا نظر العبد إلى الأعمال الموظفة على العباد في اليوم والليلة المتنوعة من فرض ونفل، وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، وأراد أن يقتدي فيها بأكمل الخلق وإمامهم محمد [ رأى ذلك غير شاق عليه، ولا مانع له عن مصالح دنياه، بل يتمكن معه من أداء الحقوق كلها: حقّ الله، وحقّ النفس، وحقّ الأهل والأصحاب، وحقّ كلّ من له حقّ على الإنسان برفق وسهولة، وأما من شدد على نفسه فلم يكتف بما اكتفى به النبي [، ولا بما علَّمه للأمة وأرشدهم إليه، بل غلا، وأوغل في العبادات: فإن الدين يغلبه، وآخر أمره العجز والانقطاع، ولهذا قال: «ولن يَشادَ الدينَ أحد إلا غلبه» فمن قاوم هذا الدين بشدة وغلو، ولم يقتصد: غلبه الدين، واستحسر ورجع القهقرى. ولهذا أمر [ بالقصد، وحثّ عليه. فقال: «والقصدَ القصدَ تبلغوا».

    فعلمت بهذا: أنه يؤخذ من هذا الحديث العظيم عدة قواعد:

    - القاعدة الأولى: التيسير الشامل للشريعة على وجه العموم.

    - القاعدة الثانية: المشقة تجلب التيسير وقت حصولها.

    - القاعدة الثالثة: إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم.

    - القاعدة الرابعة: تنشيط أهل الأعمال، وتبشيرهم بالخير والثواب المرتب على الأعمال.

    - القاعدة الخامسة: الوصية الجامعة في كيفية السير والسلوك إلى الله، التي تغني عن كل شيء ولا يغني عنها شيء، فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم ونوافعها»اهـ.

    ومن أبلغ الأدلة على سماحة الدين ويسر الإسلام (تشريع الرخص)؛ فالرخصة الشرعية هي حكم استثنائي من حكم كلي شرعت مراعاة لأحوال الناس وحاجاتهم، وقد شرعها الله رحمة بعباده وتخفيفا عنهم كما قال عز وجل: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}، فمن عجز عن الوضوء لفقد الماء أو عدم القدرة على استعماله يتيمم، ومن عجز عن الصلاة قائما صلى قاعدا، ومن عجز عن صيام أيام من رمضان أفطر وقضى أو فدى بشروطه، وغيرها من الرخصة الشرعية التي جاءت بها النصوص الشرعية لتيسر على المكلفين امتثال الأحكام الدينية وترفع عنهم الحرج والضيق، أما اتباع الهوى والبحث عن الحيل لإسقاط التكاليف، وفتح الأبواب إلى المحرمات، فهذه ليست برخص شرعية إنما هي لعب بالأحكام الشرعية، وعبث بالتكاليف الدينية؛ لأن التيسير والتخفيف في حقيقته (حكم شرعي ) ينبغي أن يستند إلى الأدلة الشرعية والقواعد الكلية، أما التيسير المردود فما كان تابعا للهوى بغير دليل شرعي ولا قاعدة كلية .

    فلو قال قائل: كيف يتفق هذا المبدأ ـ وهو الدين يسر ـ مع التكاليف الشرعية التي هي إلزام المكلف بما فيه كلفة ومشقة كما يدل عليه أصل الكلمة اللغوي ؟

    وقد أجاب عن هذا الإشكال الشاطبي رحمه الله حيث قرر أن المشقة أنواع:

    - النوع الأول: مشقة لا يقدر عليها المكلف، كتكليف المقعد بالمشي وتكليف الإنسان بالطيران، فهذا النوع لم يقع التكليف به، ولم يقصده الشارع.

    - النوع الثاني: مشقة مقدور عليها إلا أنها خارجة عن المعتاد: مثل إلزام المكلف بالوصال في الصوم، والاستمرار بقيام الليل، أو الصوم حال السفر أو المرض؛ فإن التكليف بهذه الأمور ـ وإن كانت مقدورة للمكلف ـ إلا أنه سيلحقه حرج شديد وضرر كبير مما يخل بنظام حياته ويفوت عليه مصالحه الدينية والدنيوية، فالشارع لا يشرع مثل هذا النوع من التكاليف التي فيها مثل هذا النوع من المشقة ، بل إنه سبحانه شرع الرخص التي تخفف عن الناس وترفع عنهم الحرج.

    النوع الثالث: المشقة المقدور عليها إلا أنها زائدة على المعتاد: وهي المشقة الطبيعية التي يستطيع المكلف- تحملها من غير أن يلحقه ضرر في دينه ولا دنياه، مثل التكاليف بسائر الفرائض، وترك المحرمات، فهي في ذاتها ليست بشاقة، ولكن التزامها هو الشاق على النفس؛ لما فيه من الدخول في أعمال زائدة على ما اعتادته النفوس من أعمال الدنيا، فمثل هذه المشقة لا تمنع من التكليف بمقتضاها؛ لأن كل عمل في الحياة لا يخلو من مشقة، غير أن هذه المشقة ليست هي المقصودة للشارع الحكيم ، بل المقصود المصالح المترتبة على التكاليف التي كلفنا بها، كمثل الطبيب الماهر يلزم المريض بتناول الدواء المرّ لا يقصد بذلك إيلامه، وإنما يقصد سلامته من المرض، ولله المثل الأعلى.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (19) من يزرع الأكاذيب يحصد الأشواك

    د.وليد خالد الربيع



    يتهاون بعض الناس ـ للأسف ـ في أمر الكذب، ويقسمونه إلى كبير وصغير، وأبيض وأسود، ونافع وضار، وغير ذلك من تقسيمات تقلل من خطره، وتصغر من عظيم ضرره؛ مما يشجع بعض الناس على اختلاق الكذب، وافتراء الشائعات، وتلفيق الحكايات، وتزوير الحقائق، وتمويه الوقائع، والطامة الكبرى أن يتعود على الكذب الأطفال، وينشأ عليه الصغار، فلا يكترثون بالزور ولا البهتان، ويألفون الأكاذيب والتلفيق، ويستعملونه في الجد والهزل، ويروجونه في المزاح والمرح، وربما جعل الناس للكذب يوما يعتادونه كل سنة يتبادلون الأكاذيب كما يتبادلون الهدايا، غير مبالين بالأحكام الإلهية ، ولا التوجيهات النبوية التي حذرت من الكذب أشد التحذير، وبينت ما فيه من الأضرار والشرر المستطير، قال الإمام أحمد: «الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل»، وقال الذهبي: «يطبع المسلم على الخصال كلها إلا الخيانة والكذب».


    وقد جاءت النصوص الشرعية تأمر بالصدق وملازمة الصادقين ، وتنهى عن الكذب وتحذر من خصال الكاذبين، ومن ذلك قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، قال الشيخ ابن سعدي: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدق، وأعمالهم؛ وأحوالهم لا تكون إلا صدقا خالية من الكسل والفتور، سالمة من المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.»اهـ.

    قال[: «آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» متفق عليه، وقال[: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» متفق عليه.

    وقال[: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» أبو داود وحسنه الألباني.

    وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله[: «إن الصدق بر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإن الكذب فجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب كذابا» متفق عليه.

    قال النووي: «قال العلماء: هذا فيه حث على تحري الصدق، وهو قصده والاعتناء به، وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه؛ فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فعرف به وكتبه الله لمبالغته صديقا إن اعتاده، أو كذابا إن اعتاده، ومعنى» يكتب «هنا: يحكم له بذلك، ويستحق الوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم، أو صفة الكاذبين وعقابهم» اهـ.

    ومن آثار الكذب في الآخرة سواد الوجه؛ قال تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة}، قال ابن القيم: «ولهذا يجعل الله سبحانه شعار الكاذب عليه يوم القيامة وشعار الكاذب على رسوله سواد وجهه، والكذب له تأثير عظيم في سواد الوجه، ويكسوه برقعا من المقت يراه كل صادق، فسيما الكاذب في وجهه تنادي عليه لمن له عينان، والصادق يرزقه الله مهابة وجلالة، فمن رآه هابه وأحبه، والكاذب يرزقه إهانة ومقتا، فمن رآه مقته واحتقره» اهـ.

    ومن آثار الكذب محق البركة؛ قال [: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما» متفق عليه، قال النووي: «أي: بيّن كل واحد لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه من عيب ونحوه في السلعة والثمن وصدق في ذلك، ومعنى»محقت بركة بيعهما» أي: ذهبت بركته وهي: زيادته ونماؤه» اهـ.

    وقد كان الصحابة الكرام يعظمون من شأن الصدق وأهله، ويحذرون من الكذب وآثاره، قال عمر رضي الله عنه: «لأن يضعني الصدق - وقلما يضع - أحب إلي من أن يرفعني الكذب، وقلما يفعل». وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «أعظم الخطايا الكذب، ومن يعف يعف الله عنه»، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ الله [ مِنَ الْكَذِبِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ [ الْكَذِبَةَ، فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً» رواه أحمد.

    وبالتأمل في حقيقة الصدق والكذب ومآل كل منهما يجد الناظر ما يقتضي لزوم الصدق وهجر الكذب، يوضح ذلك أبو حاتم البستي بقوله: «إن الله عز وجل فضّـل اللسان على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلته، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده، فلا يجب على العاقل أن يعوّد آلة خلقها الله للنطق بتوحيده بالكذب، بل يجب عليه المداومة برعايته بلزوم الصدق، وما يعود عليه نفعه في داريه؛ لأن اللسان يقتضي ما عوّد: إن صدقا فصدقا ، وإن كذبا فكذبا» اهـ.

    وقال أيضا: «الصدق يرفع المرء في الدارين، كما أن الكذب يهوي به في الحالين، ولو لم يكن للصدق خصلة تحمد إلا أن المرء إذا عرف به قُبل كذبه وصار صادقا عند من يسمعه، لكان الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في رياضة لسانه حتى يستقيم له على الصدق ومجانبة الكذب، والعيّ في بعض الأوقات خير من النطق، لأن كل كلام أخطأ صاحبه موضعه فالعيّ خير منه.

    ولو لم يكن للكذب من الشين إلا إنزاله صاحبه بحيث إن صدق لم يصدّق، لكان الواجب على الخلق كافة لزوم التثبت بالصدق الدائم، وإن من آفة الكذب أن يكون صاحبه نسيا، فإذا كان كذلك كان كالمنادي على نفسه بالخزي في كل لحظة وطرفة» اهـ.

    والكذب قد يكون في مجالات عديدة منها الكذب على الله تعالى، والكذب على رسوله [، والكذب على الناس باختلاق الأقاويل، ومنها القذف واتهام الأعراض زورا وبهتانا، ومنها شهادة الزور، واليمين الغموس، وغيرها من أبواب يدخل فيها الكذب فيجلب معه الآفات والشرور والمصائب العقدية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها؛ ولهذا قرن الكذب بالفجور لأن الفجور انحراف عن الحق وإقبال عل القبائح والآثام، والكذب بلا شك مفتاح لكل تلك الأبواب المحرمة، فهو بحق وسيلة لهدم المجتمعات البشرية، وتحطيم علاقتها الإنسانية؛ فمن يزرع الأكاذيب يحصد الأشواك والآلام في الدنيا والآخرة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,491

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (20) ولا تنسوا الفضل بينكم



    د.وليد خالد الربيع




    الاعتراف بالفضل وشكر النعم، وحفظ الجميل من معالي الأخلاق التي جاء بها الإسلام الحنيف، ومن محاسن الصفات التي دعا إليها رسول الله [، وذلك أن الاعتراف بالنعم إقرار لصاحبها بإحسانه، وشكر له على آلائه، وإظهار لصنائعه وتحدث بأياديه، في حين أن كفر صنيعته وجحد إحسانه، وإنكار جميله كفر بنعمته، وتضييع لواجب شكره، واستخفاف بحقه وفضله، وهذا لا يقره الشرع المطهر ولا يقبله العقل السديد.


    قال أبو حاتم البستي : «الحر لا يكفر النعمة، ولا يتسخط المصيبة، بل عند النعم يشكر، وعند المصائب يصبر، ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقع أوشك أن لا يشكر الكثير منه، والنعم لا تستجلب زيادتها، ولا تدفع الآفات عنها إلا بالشكر»اهـ.

    ومن النصوص الشرعية التي تدل على هذا الخلق الكريم قوله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} لما له من أثر كبير في ترسيخ الأخوّة الإيمانية ونشر المحبة والود في المجتمع المسلم، قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: «فأمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل، ولا ينسوه؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه، فيضمحل منهم، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة.»اهـ.

    ويبين الشيخ ابن سعدي أن الفضل أعلى درجات المعاملة فقال:«الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف, وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة؛ لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب, وهو: أخذ الواجب, وإعطاء الواجب.

    وإما فضل وإحسان, وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق, والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة, ولو في بعض الأوقات, وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة, أو مخالطة, فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم»اهـ.

    ولهذه الآية الكريمة معان عديدة ذكرها المفسرون منها ما ذكره الطبري: يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَلَا تَغْفِلُوا أَيّهَا النَّاس الأخْذ بِالْفَضْلِ بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض فَتَتْرُكُوهُ, وَلَكِنْ لِيَتَفَضَّل الرَّجُل الْمُطَلِّق زَوْجَته قَبْل مَسِيسهَا, فَيُكْمِل لَهَا تَمَام صَدَاقهَا إنْ كَانَ لَمْ يُعْطِهَا جَمِيعه، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَاقَ إلَيْهَا جَمِيع مَا كَانَ فَرَضَ لَهَا, فَلْيَتَفَضَّلْ عَلَيْهَا بِالْعَفْوِ عَمَّا يَجِب لَهُ, وَيَجُوز لَهُ الرُّجُوع بِهِ عَلَيْهَا, وَذَلِكَ نِصْفه؛ فَإِنْ شَحَّ الرَّجُل بِذَلِكَ, وَأَبَى إلَّا الرُّجُوع بِنِصْفِهِ عَلَيْهَا, فَلتتَفَضل الْمَرْأَة الْمُطَلَّقَة عَلَيْهِ بِرَدِّ جَمِيعه عَلَيْهِ إنْ كَانَتْ قَدْ قَبَضَتْهُ مِنْهُ, وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ فَتَعْفُو عَنْ جَمِيعه, فَإِنْ هُمَا لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ وَشَحَّا وَتَرَكَا مَا نَدَبَهُمَا اللَّه إلَيْهِ مِنْ أَخْذ أَحَدهمَا عَلَى صَاحِبه بِالْفَضْلِ فَلَهَا نِصْف مَا كَانَ فَرَضَ لَهَا فِي عُقَد النِّكَاح, وَلَهُ نِصْفه.

    ثم نقل عن بعض مفسري السلف فذكر عَنْ قَتَادَة: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنكُمْ} يُرَغِّبكُمْ اللَّه فِي الْمَعرُوف, وَيَحُثكُمْ عَلَى الْفَضْل، وعَنْ سُفْيَان: {وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْل بَيْنكُمْ } قَالَ: حَثّ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض فِي هَذَا وَفِي غَيْره, حَتَّى فِي عَفْو الْمَرْأَة عَنْ الصَّدَاق وَالزَّوْج بِالْإِتْمَامِ، وعَنْ الضَّحَّاك: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنكُمْ} قَالَ: الْمَعْرُوف، وعَنْ سَعِيد قَالَ: سَمِعْت تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنكُمْ} قَالَ: لَا تَنْسَوا الْإِحْسَان.اهـ.

    وقد كان النبي [ أولى الناس بهذه الصفة الكريمة، فقد كان [ يحفظ لخديجة - رضي الله عنها- إحسانها، فعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: «ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة - ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين - لما كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة ثم يهدي في خُلتها - أي أهل صداقتها - منها» أخرجه البخاري.

    وفي حديث للحاكم والبيهقي أن النبي [ استقبل عجوزا بحفاوة وترحيب، فلما خرجت سألته فقال [: «يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإنَّ حُسنَ العَهدِ من الإيمان»، قال ابن حجر في شرح قول البخاري: باب حسن العهد من الإيمان، قال أبو عبيد: العهد هنا رعاية الحرمة، وقال عياض: هو الاحتفاظ بالشيء والملازمة له، وقال الراغب: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال، وعهد الله تارة يكون بما ركزه في العقل وتارة بما جاءت به الرسل، وتارة بما يلتزمه المكلف ابتداء كالنذر ومنه قوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله}.

    وحفظ لأبي بكر الصديق جهوده وبذله في نصرة الدين فقال [: «إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين باب في المسجد إلا سدّ إلا باب أبي بكر» أخرجه البخاري.

    وحفظ رسول الله [ للمطعم بن عدي جميله حين أجاره بعد أن رده أهل الطائف قبل الهجرة، فقال بعد غزوة بدر في شأن أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» أخرجه البخاري.

    وأمر [ بحفظ الجميل ومقابلة صاحبه بالشكر والجزاء فقال [: «من صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه» أخرجه أبو داود وصححه الألباني.

    قال أبو حاتم البستي: «الواجب على المرء أن يشكر النعمة، ويحمد المعروف على حسب وسعه وطاقته، إن قدر فبالضعف، وإلا فبالمثل، وإلا فبالمعرفة بوقوع النعمة عنده، مع بذل الجزاء له بالشكر، وقوله: «جزاك الله خيرا»اهـ.

    فعلى المسلم أن يحرص على الاعتراف بالإحسان وشكر النعم، ولا يترك ذلك بسبب أن الناس تركوا شكره أو قصروا في حقه، فهو إنما يفعل ذلك ليشكر الله عز وجل أولاً على فضله وما حباه من نعم وأمكنه من إيصالها لغيره ثم يثيبه عليها بفضله عز وجل، قال ابن الأثير: «من كان عادته وطبعه كفران نعمة الناس وترك شكرها لهم كان من عادته كفر نعمة الله عز وجل ، وترك الشكر له»، وقال بعض الحكماء: «لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره؛ فإنه يشكرك عليه من لا تصنعه إليه».
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •