تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 4 من 5 الأولىالأولى 12345 الأخيرةالأخيرة
النتائج 61 إلى 80 من 93

الموضوع: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

  1. #61
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن(62)

    رأي الشيخ خير من مشهد الغلام


    من أبرز قواعد الحكم في الإسلام، ومن أوضح ملامح المجتمع المسلم (الشورى)، فالمشاورة معلم أصيل من معالم الجماعة المسلمة وذلك لما فيها من الفوائد العظيمة، قال الشيخ ابن سعدي: «المشاورة تنور الأفكار، وتحل الاشتباه والإشكال، وتبلغ العبد الآمال، المشاورة عنوان العقل، والاستبداد من نتائج الجهل، ما ندم من استعان بالله واستخاره، وشاور الناصحين».

    والشورى هي استنباط المرء الرأي من غيره فيما يعرض له من مشكلات الأمور.
    وقد اعتنى القرآن الكريم بالشورى عناية كبيرة، فمن ذلك أن الله تعالى سمى سورة من سور القرآن الكريم باسم سورة الشورى، وتحدث فيها عن صفات المؤمنين ومنها صفة التشاور، وقرن سبحانه الشورى بالصلاة والصدقة واجتناب الفواحش فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
    قال الحسن: «ما تشاور قوم قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم»، وفي لفظ: «إلا عزم الله لهم بالرشد أو بالذي ينفع» قال ابن حجر: «أخرجه ابن أبي حاتم بسند قوي».
    وقال الشيخ ابن سعدي:» {وَأَمْرُهُمْ} الديني والدنيوي {شُورَى بَيْنَهُمْ} أي: لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعا عن اجتماعهم وتآلفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها، حتى إذا تبينت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها».
    وأمر الله تعالى نبيه الكريم بالشورى فقال تعالى: {وشاورهم في الأمر}، قال أبو هريرة: «ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم »، وقال الحسن: «قد علم أنه ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده»، قال ابن حجر: «أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن».
    والمشاورة دليل على كمال عقل الشخص وحسن تصرفه، قال عمر: «الرجال ثلاثة: رجل ترد عليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي، ورجل حائر بائر لا يأتمر رشدا، ولا يطيع مرشدا»، وقال علي: «نعم المؤازرة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد»، وقال عمر بن عبد العزيز: «إن المشورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة، لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم»، وقال بعض البلغاء: «من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل، والعقل الفرد ربما زل».
    ولأهمية الشورى وعظيم أثرها فيجب أن تسند إلى أهلها كما قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، فلابد من التماس الشورى وطلب الرأي السديد من أهل الشورى الجديرين بها، وأهل الشورى وإن لم يرد نص في تحديدهم إلا أن المتأمل لهدي النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنهم أهل العلم والدراية والخبرة كما قال البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه : «كان القراء يعني حفاظ القرآن -أصحاب مشورة عمر- كهولا كانوا أو شبانا»، وقال أيضا: «وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلميستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم».
    أما شروط أهل الشورى فقد ذكرها الماوردي باختصار، وهي: أن يكون ذا عقل كامل مع تجربة سالفة، وأن يكون ذا دين وتُقَى، فعن ابن عباس قال: «من أراد أمرا فشاور فيه امرأ مسلما وفقه الله لأرشد أموره»، وأن يكون ناصحا ودودا، فإن النصح والمودة يصدقان الفكرة ويمحضان الرأي، وأن يكون سليم الفكر من هم قاطع وغم شاغل؛ فإن من عارضت فكره شوائب الهموم لا يسلم له رأي، وألا يكون له في الأمر المستشار فيه غرض يتابعه، ولا هوى يساعده؛ فإن الأغراض جاذبة، والهوى صياد.
    ولا بد من مراعاة التخصص في أهل الشورى فيستشار في كل مجال أربابه، قال الشيخ ابن سعدي: «واعلم أن المشاورة تختلف باختلاف مواضيعها، فأمور السياسة يشاور فيها أهل الحل والعقد، والرجال المتميزون في عقولهم وآرائهم وكمال نصحهم، وأمور العلم والدين يشاور فيها أهل العلم بالدين، الجامعون بين العلم والحلم والعقل والدين، والأمور الدنيوية يشاور فيها أهل الخبرة فيها والرأي بحسب أحوالها، ولا بد في ذلك كله من قصد النصح”.
    وفي هذه الأيام نحن بحاجة إلى حكمة الشيوخ وتجاربهم، فهم أولى بالتقديم والتصدر من حماس الشباب واندفاعهم، فخبرة العقلاء وحنكة الحكماء معلم مضيء عند اشتباه الأمور وتزاحم الأحداث يسترشد بها الناس ويهتدوا عند اختلاط الآراء وتعالي الأصوات، أما حماس الشباب بغير حكمة الشيوخ فشجاعة بلا روية، وإقدام بغير تأمل ولا نظر، فما أسرع ما تعقبه الندامة والحسرة، ويتبعه الاعتذار بعدم العلم وقلة الخبرة ونقص التجربة، وكان حق الشباب تقديم رأي الشيوخ المجربين، والوقوف وراءهم لا التقدم عليهم ولا التصدر بين أيديهم.
    فعَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: أَتَيْتُ عليا ]فقلت: إِنِّي أَثبتُ مِنْ عَمِّي وَأَجْرَأُ؛ فَإِنْ رأيت أن تجعلني مكانهُ، قَال: «يَابْنَ أَخِي إِنَّ رَأْيَ الشَّيْخِ خَيْرٌ مِنْ مَشْهَدِ الْغُلام».
    قال الثعالبي: أطلب آراء الأشياخ الذين حنكتهم الأيام فتقاد، ولا تطلب ملازمة ذوي الأوجه الأغراء فتصطاد.
    وقال بعضهم: «شاور من جرب الأمور؛ فإنه يعطيك من رأيه ما دفع ثمنه غاليا وأنت تأخذه مجانا».
    فالشيخ كثير التجربة يبلغ برأيه من النتائج والآثار الحميدة في الحرب وغيرها، ما لا يبلغه الشاب صغير السن قليل التجربة، الذي قد يأخذه الحماس فيغرر بنفسه فيهلك نفسه وغيره ممن تابعه.
    وما أحسن ما قاله المتنبي في هذا المعنى حيث قال:
    الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ
    هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
    فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ
    بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  2. #62
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (63)

    واعتصموا بحبل الله جميعا



    دعا القرآن الكريم المكلفين إلى الاعتصام بالدين الحنيف والتمسك بالوحي المعصوم كما قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، وتكرر ذلك في أكثر من موضع مما يقتضي من المكلفين معرفة معنى الاعتصام وحكمه وفضله وآثاره ليحققوا ما أمرهم به ربهم من تدبر كتابه وتعقل معانيه وحكمه.
    فالاعتصام هو التمسك بما يحميك ويدفع عنك الخطر، ومما يؤكد هذا المعنى حديث سفيان بن عبد الله حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «حدثني بأمر أعتصم به - أي أستمسك به - قال: « قل ربي الله، ثم استقم» أخرجه الترمذي.
    والاعتصام بالله وبدينه وبكتابه واجب كما دل على ذلك آيات عديدة منها قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}، قال الطبري: «يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعا، يريد بذلك - تعالى ذكره-: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله».
    ونقل عن أهل العلم اختلافهم في بيان معنى (حبل الله)، فذكر عن ابن مسعود أنه فسره بالجماعة، وقال آخرون: عنى بذلك القرآن والعهد الذي عهد فيه، وأخرج بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» وهو صحيح، وقال آخرون: بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله، فنقل عن أبي العالية قوله: «اعتصموا بالإخلاص لله وحده»، وعن ابن زيد قال: «الحبل: الإسلام».
    قال الشيخ ابن سعدي مبينا مناسبة الأمر بالاعتصام بحبل الله تعالى بعد الأمر بتقواه: «هذا أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات؛ فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه وطاعته منيبا إليه على الدوام، ثبته الله عند موته، ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين؛ فإنه في باجتماع المسلمين على دينهم وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم، وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها من التعاون على البر والتقوى، كما أنه بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه ولو أدى إلى الضرر العام»اهـ.
    وقد جاء في السنة المطهرة ما يؤكد هذا المعنى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا؛ فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال». أخرجه مسلم.
    قال النووي: «وأما الاعتصام بحبل الله فهو التمسك بعهده وهو اتباع كتابه العزيز وحدوده والتأدب بأدبه، والحبل يطلق على العهد وعلى الأمان وعلى الوصلة وعلى السبب، وأصله من استعمال العرب الحبل في مثل هذه الأمور لاستمساكهم بالحبل عند شدائد أمورهم ويوصلون بها المتفرق، فاستعير اسم الحبل لهذه الأمور، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تفرقوا» فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين وتآلف بعضهم ببعض وهذه إحدى قواعد الإسلام» اهـ.
    وقال تعالى: {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}، قال الشيخ ابن سعدي:«{واعتصموا بالله} أي امتنعوا به وتوكلوا عليه في ذلك ولا تتكلوا على حولكم وقوتكم: {هو مولاكم} الذي يتولى أموركم فيدبركم بحسن تدبيره ويصرفكم على أحسن تقديره».
    فالاعتصام بالله وبدينه سبيل النجاة كما قال تعالى: {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}، قال ابن القيم: «الاعتصام نوعان: اعتصام بالله، واعتصام بحبل الله، قال الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} وقال: {واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}، ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين، فأما الاعتصام بحبله فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به يعصم من الهلكة؛ فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصده فهو محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له، فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والقوة والسلاح التى بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها، فالاعتصام بحبل الله يوجب له الهداية واتباع الدليل، والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي يستلئم بها فى طريقه» اهـ.
    والاعتصام سبب للنجاة من النفاق وآثاره الخطيرة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما}، قال ابن سعدي: «وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص بالذكر مع دخولهما في قوله: {وأصلحوا}؛ لأن الاعتصام والإخلاص من جملة الإصلاح لشدة الحاجة إليهما خصوصا في هذا المقام الحرج الذي تمكن فيه النفاق من القلوب فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله ودوام اللجأ والافتقار إليه في دفعه، وكون الإخلاص منافيا كل المنافاة للنفاق، فذكرهما لفضلهما وتوقف الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما»اهـ.
    والاعتصام سبب لنيل رحمة الله وفضله وهدايته كما قال تعالى: {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما}، قال ابن كثير: «قوله: {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به} أي جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم، وقال ابن جريج: آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن {فيدخلهم في رحمة منه وفضل}، أي يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ومضاعفة ورفعا في درجاتهم من فضله عليهم وإحسانه إليهم».
    وبين تعالى أنه وحده يعصم من يشاء فلا يوصَل إلى من عصمه الله كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين}، قال ابن سعدي: «هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من الناس وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين؛ فإن نواصيهم بيد الله وقد تكفل بعصمتك».
    ومن أراد الله تعالى إهلاكه أو عقوبته فلا عاصم له كما قال تعالى: {ما لهم من الله من عاصم} قال ابن كثير: «أي لا مانع ولا واق يقيهم العذاب».
    وقال تعالى: {يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم}، قال ابن سعدي: «لا من أنفسكم قوة تدفعون بها عذاب الله، ولا ينصركم من دونه من أحد».
    نسأل الله تعالى أن يرزقنا الاعتصام بدينه القويم وكتابه الكريم وهدي نبيه المستقيم.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  3. #63
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (64)

    إنما جعل الاستئذان من أجل البصر



    الإسلام دين كامل، ونظام شامل، يتناول الحقائق الكبرى بالبيان والبرهان؛ فيقرر توحيد الله تعالى بأقوى حجة وأوضح دليل، ويؤكد النبوات والبعث بالدلائل العقلية والشواهد الحسية وأدلة الفطرة والمعجزات الباهرة، وهو مع ذلك لا يهمل أدق تفاصيل الحياة الإنسانية فيما يتعلق بالآداب العامة والخاصة، فيشرع لها أحكاما دقيقة في القرآن والسنة؛ ليكون المجتمع المسلم متميزا في جميع أحواله الإيمانية والأخلاقية والأسرية والمجتمعية.
    ومن تلك الآداب الإسلامية الرفيعة أدب الاستئذان في الدخول على بيوت الآخرين، حيث ضرب الإسلام أروع الأمثلة في الرقي الأخلاقي واحترام خصوصية الناس، وأرشد المسلمين إلى أحكام الاستئذان التي تناولتها سورة النور في موضعين منها، الموضع الأول قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
    والاسْتِئْنَاس المذكور في الآية هُوَ الِاسْتِئْذَان، وهو طلب الإذن في الدخول لمحل لا يملكه المستأذن، قَالَ مَالِك: الِاسْتِئْنَاس فِيمَا نَرَى -وَاَللَّه أَعْلَم-: الِاسْتِئْذَان، قال الجصاص: «وإنما سمي الاستئذان استئناسا؛ لأنهم إذا استأذنوا أو سلموا أنس أهل البيوت بذلك، ولو دخلوا عليهم بغير إذن لاستوحشوا وشق عليهم».
    وأما حكم الاستئذان في الدخول على بيوت الغير فهو الوجوب كما دلت عليه الآية، ويحرم على المسلم دخول بيت غيره قبل أن يؤذن له بالاتفاق، سواء أكان باب البيت مفتوحا أم مغلقا، وسواء أكان فيه سكان أم لم يكن؛ لقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا}، ولأن للبيوت حرمتها فلا يجوز أن تنتهك هذه الحرمة، ولأن الاستئذان ليس للسكان أنفسهم خاصة بل لأنفسهم ولأموالهم؛ لأن الإنسان كما يتخذ البيت سترا لنفسه، يتخذه سترا لأمواله، وكما يكره اطلاع الغير على نفسه يكره اطلاعه على أمواله.
    ومما يدل على وجوب الاستئذان حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رجلاً اطلع في جحر في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلممدرى -وهي حديدة يسوّى بها الشعر- يحك بها رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: «لو أعلم أنك تنظرني لطعنت بها في عينك»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» متفق عليه.
    ومما يستثنى من وجوب الاستئذان دخول الإنسان بيته فلا يجب عليه أن يستأذن، قال ابن حجر: «المرءلا يحتاج في دخوله منزله إلى الاستئذان؛ لفقد العلة التي شرع لأجلها الاستئذان».
    ويشرع في حق الرجل إذا دخل بيته أمران:
    - الأول: السلام؛ لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم، يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك» أخرجه الترمذي وهو حسن.
    - والأمر الثاني: الإعلام فيندب للزوج أن يعلم زوجته بدخوله بسلام أو تنحنح أو طرق نعال ونحو ذلك؛لأنها ربما كانت على حالة لا تريد أن يراها عليها، قالت زينب امرأة ابن مسعود: «كان عبد الله إذا دخل تنحنح وصوت»، وقال الإمام أحمد: «يستحب أن يحرك نعله في استئذانه عند دخوله حتى إلى بيته»، وقال: «إذا دخل على أهله تنحنح».
    فَإِنْ كَانَ فِي البيت أُمّه أَوْ أُخْته فيجب عليه أن يستأذن قبل الدخول، لأنهما قَدْ تكُونَان عَلَى حَالَة لَا يحِبّ أَنْ يرَاهُمَا فِيهَا. قَالَ الإمام مَالِك: وَيَسْتَأْذِن الرَّجُل عَلَى أُمّه وَأُخْته إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهِمَا. وَقَدْ رَوَى عَطَاء بْن يَسَار أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَسْتَأْذِن عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: إِنِّي أَخْدُمهَا؟ قَالَ: «اِسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا» فَعَاوَدَهُ ثَلَاثًا، قَال: «أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَة؟» قَالَ: لا، قَالَ: «فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا». أخرجه مالك.
    وفي «الأدب المفرد» للبخاري أن رجلاً سأل حذيفة: أستأذن على أمي؟ قال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره. وسأل رجلٌ ابن عباس فقال: أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قال: إنها في حجري، قال: أتحب أن تراها عريانة.
    ومما يستثنى أيضاً من وجوب الاستئذان إذا كان الدخول للبيت فيه إحياء لنفس أو مال، كما لو دخل لص بيت إنسان واستنجد بالناس أو وقع في البيت حريق وأهله غافلون.
    والاستئذان في السابق كان باللفظ وبإلقاء السلام بأن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ لمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ رِبْعِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَجُل مِنْ بَنِي عَامِر اِسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلموَهُوَ فِي بَيْت، فَقَالَ: أأَلِج؟ فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلملِخَادِمِهِ : «اُخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَان، فَقَل لَهُ: قُلْ: السَّلام عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَسَمِعَهُ الرَّجُل فَقَالَ: السَّلام عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَل».
    فلما اتخذ الناس الأبواب وكبرت المنازل قام قرع الباب مقام الاستئذان باللفظ، سواء أكان الباب مغلقا أم مفتوحا؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: «من ذا؟» فقلت: أنا، فقال: «أنا، أنا» كأنه كرهها. أخرجه البخاري.
    قال ابن حجر: وقد أخرج البخاري في «الأدب المفرد» من حديث أنس أن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم انت تقرع بالأظافير، وهذا محمول منهم على المبالغة في الأدب، وهو حسن لمن قرب محله من الباب، أما من بعد عن الباب بحيث لا يبلغه صوت القرع بالظفر فيستحب أن يقرع بما فوق ذلك بحسبه.
    وينبغي للمستأذن أن يكرر ذلك ثَلاث مَرَّات لَا يُزَاد عَلَيْهَا، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ دَخَلَ، وَإِنْ أُمِرَ بِالرُّجُوعِ اِنْصَرَفَ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْهُ اِسْتَأْذَنَ ثَلاثًا ; ثُمَّ يَنْصَرِف مِنْ بَعْد الثَّلاث.
    قال مالك: الاسْتِئْذان ثَلاث، لا أُحِبّ أَنْ يَزِيد أَحَد عَلَيْهَا، إِلَّا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يسمع، فَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَزِيد إِذَا اِسْتَيْقَنَ أَنَّهُ لم يسمع، ودليل ذلك قَوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اِسْتَأْذَنَ أَحَدكُمْ ثَلاثًا فَلَمْ يؤْذن لَهُ فَلْيَرْجِعْ» متفق عليه.
    ومن أدب الاستئذان ألاّ يقف قبالة الباب، بل ينحرف ذات اليمين أو ذات الشمال؛ لحديث عبد الله بن بسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم -وفي رواية: يريد أن يستأذن- لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: «السلام عليكم، السلام عليكم»، وذلك أن الدور لم يكن عليها ستور.أخرجه أبو داود وهو صحيح.
    وعن هزيل بن شرحبيل قال: استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقام مستقبل الباب فقال له صلى الله عليه وسلم: «هكذا عنك وهكذا، فإنما الاستئذان من النظر» أخرجه أبو داود وهو صحيح.
    ويستحب للمستأذن إذا قيل له: من أنت؟ أن يقول: فلان، فيسمي نفسه بما يعرف به من اسم أو كنية، ويكره أن يقول: أنا؛ فعنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه رضي الله عنه قَالَ: اِسْتَأْذَنْت عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» فَقُلْت: أَنَا، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَنَا»! كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ. قال ابن حجر: «وذكر ابن الجوزي أن السبب في كراهة قول (أنا) أن فيها نوعا من الكبر، كأن قائلها يقول: أنا الذي لا أحتاج أذكر اسمي ولا نسبي».
    وينبغي للمستأذن أن يحترم رغبة من يريد الدخول عليه وخصوصيته، فإذا اعتذر أخوه عن استقباله لأي سبب فعليه أن يرجع دون غضب أو ضيق؛ لأن ذلك أزكى له كما قال تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}.
    قال القرطبي: «وَعَنْ قَتَادَة قَالَ: قَالَ رَجُل مِنْ الْمُهَاجِرِينَ : لَقَدْ طَلَبْت عُمْرِي هَذِهِ الْآيَة فَمَا أَدْرَكْتهَا أَنْ أَسْتَأْذِن عَلَى بَعْض إِخْوَانِي فَيَقُول لِي اِرْجِعْ، فَأَرْجِع وَأَنَا مُغْتَبِط; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}».
    قال الماوردي: «وهنا ينظر، فإن كان -رد المستأذن- بعد الدخول عن إذن لزم الانصراف وحرم اللبث، وإن كان قبل الدخول فهو رد للإذن ومنع من الدخول».
    نسأل الله تعالى أن يجملنا بأحسن الأخلاق ويرشدنا لأجمل الآداب إنه سميع مجيب.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  4. #64
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن(65)

    -احذروا نفار النعم.. فما كل شارد بمردود


    كلمة حق قالها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما نقلها عنه الثعالبي في كتابه «الإعجاز والإيجاز»؛ حيث شبه رضي الله عنه النعم بالإبل المقيدة، وحذر من فرارها من قيدها ونفرتها من صاحبها؛ لأنه ليس كل ما شرد يمكن رده إلى حاله الأولى.
    وهي كلمة حكيمة تدل على إدراك عميق، ونظر دقيق في النصوص الشرعية والسنن الكونية، التي تشهد بأن النعم كلها من الله تعالى وحده كما قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله}، وأن سبب دوامها هو الشكر والاستقامة كما قال تعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم}، ومن أكبر أسباب زوالها الكفر والبطر وسوء استعمالها وصرفها عما يقتضيه الشرع والعقل.
    ولو نظرنا في معنى النعمة في اللغة لوجدنا أنها على كثرة اشتقاقاتها تدور حول الترفه وطيب العيش والصلاح، فالنعمة: ما ينعم الله به على عبده من مال وعيش.
    وأما النعمة في القرآن فهي كما قال الأصفهاني في «المفردات»: «النعمة: الحالة الحسنة»، قال: «والنعمة للجنس تقال للقليل الكثير، قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وقال: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم}، وقال: {وأتممت عليكم نعمتي}.
    وذكر ابن الجوزي في «نزهة الأعين النواظر» أن النعمة ما يحصل للإنسان به التنعم في العيش، وقرر أن النعمة في القرآن على عشرة أوجه:
    - أحدها: المنة، ومنه قوله تعالى في المائدة: {يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم}.
    - والثاني: الدين والكتاب، ومنه قوله تعالى في البقرة: {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته}.
    - والثالث: محمد صلى الله عليه وسلم، ومنه قوله تعالى في النحل: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها}.
    - والرابع: الثواب، ومنه قوله تعالى في آل عمران: {يستبشرون بنعمة من الله وفضل}.
    - والخامس: النبوة، ومنه قوله تعالى في الضحى: {وأما بنعمة ربك فحدث}.
    - والسادس: الرحمة، ومنه قوله تعالى في الحجرات: {فضلا من الله ونعمة}.
    - والسابع: الإحسان، ومنه قوله تعالى في الليل: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى}.
    - والثامن: سعة المعيشة، ومنه قوله تعالى في لقمان: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}.
    - والتاسع: الإسلام، ومنه قوله تعالى في الأحزاب: {إذ تقول للذي أنعم الله عليه}.
    - والعاشر: العتق، ومنه قوله تعالى في الأحزاب: {وأنعمت عليه}؛ لأن إنعام الله تعالى عليه بالإسلام، وإنعام النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق وهو زيد بن حارثة.
    والقرآن الكريم يرشدنا إلى واجب المسلم تجاه النعم، وأول ذلك التذكر وعدم نسيان النعم أو التغافل عنها، قال تعالى: {يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم}، وقال سبحانه: {واذكروا نعمة الله عليكم}، قال الشيخ ابن سعدي موضحًا كيفية التذكر: «باللسان حمدًا وثناء، وبالقلب اعترافًا وإقرار»، وبالأركان بصرفها في طاعة الله».
    وبين رحمه الله ثمرة كثرة ذكر النعم فقال: «فإن في استدامة ذكرها داعيا لشكر الله تعالى ومحبته وامتلاء القلب من إحسانه».
    ومن واجب المسلم تجاه النعم الشكر كما قال تعالى: {واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: إن كنتم مخلصين له العبادة فلا تشكروا إلا إياه، ولا تنسوا المنعم».
    والشكر هو حال المرسلين والمؤمنين كما ذكر سبحانه عن سليمان عليه السلام أنه قال: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي}، وقال سبحانه عن المؤمن الصالح أنه يقول: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي}، قال الشيخ ابن سعدي: «فسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه».
    وقد وضح لنا القرآن الكريم أسباب زوال النعم ومنها الكفر فقال تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار}، فنعمة الله تعالى عليهم هي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، فقاموا بالكفر به والصد عن سبيل الله بدلا من الشكر لله بالإيمان برسوله واتباع دينه، فكان عاقبتهم النار وبئس القرار.
    وضرب الله تعالى في القرآن الأمثلة للقرى الكافرة بنعم الله وما حل بها نتيجة ذلك، فقال تعالى: {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}، قال الشيخ ابن سعدي: «فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد، والخوف الذي هو ضد الأمن، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم».
    وضرب لنا مثلا بأهل سبأ فقال: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال...} إلى أن قال تعالى{ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور}، قال الشيخ ابن سعدي: «فكما بدلوا الشكر الحسن بالكفر القبيح، بدلوا تلك النعمة بما ذكر» ثم قال: «وهل نجازي جزاء العقوبة إلا من كفر بالله وبطر النعمة؟!».
    وضرب لنا مثلا في سورة القلم بأصحاب الجنة الذين اغتروا بما عندهم من النعمة وجزموا بثباتها في أيديهم، وعزموا على منع حق الله تعالى فيها، فكانت النتيجة أن نزعت منهم ونزل بها عذاب أبادها وأتلفها، ثم قال تعالى: {كذلك العذاب} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلبه الله الشيء الذي طغى به وبغى، وآثر الحياة الدنيا، وأن يزيله عنه أحوج ما يكون إليه».
    فما أحوجنا في بلدنا الآمن الذي نتقلب فيه بنعم الله الوفيرة وآلائه الغزيرة أن ندرك قيمة ما لدينا فنذكر نعمة الله، ونشكر فضله، ونحفظ حدوده، وننأى عن سبيل الجاهلين وسلوك الجاحدين، ونعلم أن النعم سريعة الزوال، وأن العصيان سبب الحرمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه» رواه أحمد.
    وقد أخرج الإمام أحمد عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب» وحسنه الشيخ الألباني، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم». متفق عليه.
    قال الشيخ ابن سعدي: «هذا يدل على شكر الله بالاعتراف بنعمه، والتحدث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعم، وفعل جميع الأسباب المعينة على الشكر؛ فإن الشكر لله هو رأس العبادة، وأصل الخير، وأوجبه على العباد؛ فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصة أو عامة إلا من الله، وهو الذي يأتي بالخير والحسنات، ويدفع السوء والسيئات، فيستحق أن يبذل له العباد من الشكر ما تصل إليه قواهم، وعلى العبد أن يسعى بكل وسيلة توصله وتعينه على الشكر.
    وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القوي لشكر نعم الله، وهو أن يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه في العقل والنسب والمال وأصناف النعم، فمن استدام هذا النظر اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه؛ فإنه لا يزال يرى خلقًا كثيرًا دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق، وخلق وخلق، فيحمد الله على ذلك حمدًا كثير».
    فيا ليت المغرورين ينظرون إلى ما هم فيه، ويقارنونه مع حال كثير من شعوب الأرض التي فقدت النعم الحسية والمعنوية، فيشكروا الله تعالى على الأمن والإيمان، والخير والإحسان، ويدركوا أن النعم إذا فرت يعسر ردها إلا أن يشاء الله كما قال علي رضي الله عنه: «احذروا نفار النعم؛ فما كل شارد بمردود».

    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  5. #65
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (66)


    {واتبع سبيل من أناب إلي}



    هذه الوصية الربانية على وجازتها اشتملت على فوائد عديدة، وتوجيهات مفيدة، تضمن النجاة لمن اتبعها، والسلامة لمن عمل بها.
    فقد دلت بمنطوقها على لزوم اتباع سبيل من أناب إلى الله تعالى، وأشارت بدلالتها على وجود سبل أخرى غير هذا السبيل، على المسلم أن يعرفها أولاً ليحذر منها ويجتنبها.
    والسبيل في اللغة هو الطريق الواضح، وقال الأصفهاني: «الطريق الذي فيه سهولة».
    - والإنابة: في اللغة تعني الرجوع، مأخوذة من الفعل ناب نوبا ونوبة: إذا رجع مرة بعد مرة، والإنابة إلى الله تعالى تكون بالرجوع إليه بالتوبة والإخلاص، وفي اللفظة معنى الإسراع والرجوع، والمنيب إلى الله: المسرع إلى مرضاته، الراجع إليه كل وقت.
    وقد أمر الله تعالى بالإنابة فقال:{وأنيبوا إلى ربكم}، وأثنى على خليله بها فقال تعالى: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب}، وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها ويتذكر أهل الإنابة فقال:{ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها}إلى أن قال: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}، وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الإنابة فقال:{وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام}.
    قال ابن القيم: «والإنابة إنابتان: إنابة لربوبيته، وهي إنابة المخلوقات كلها، يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر قال الله تعالى: {وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه}، فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر، كما هو الواقع، وهذه الإنابة لا تستلزم الإسلام، بل تجامع الشرك والكفر، كما قال تعالى في حق هؤلاء:{ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم} فهذا حالهم بعد إنابتهم.
    والإنابة الثانية:إنابة أوليائه، وهي إنابة لإلهيته، إنابة عبودية ومحبة، وهي تتضمن أربعة أمور: محبته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربع، وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك».
    وقد تعددت عبارات العلماء في تحديد المقصود بهذه الآية؛ فقال ابن كثير: «يعني: المؤمنين»، وقال الشيخ ابن سعدي: «وهم المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، المستسلمون لربهم، المنيبون إليه، واتباع سبيلهم: أن يسلك مسلكهم في الإنابة إلى الله، التي هي انجذاب دواعي القلب وإراداته إلى الله، ثم يتبعها سعي البدن فيما يرضي الله، ويقرب إليه».
    وقال البغوي: «أي: دين من أقبل إلى طاعتي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه»، وقال الطبري: «يقول: واسلك طريق من تاب من شركه، ورجع إلى الإسلام، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم».
    وقد جاء في كتاب الله تعالى آيات كثيرة تضمنت ذكر سبيل الله كقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله}، وقوله: {وأنفقوا في سبيل الله}، وقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك} وسبيل الله تعالى: كل ما شرعه من الحق والهدى، وتارة يصفه بأنه سبيل الرشد كما قال تعالى: {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا}، وتارة يصفه بأنه سبيل المؤمنين كما قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جنهم وساءت مصيرا} قال الشيخ ابن سعدي: «وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم».
    ويحذرنا سبحانه من سبيل المجرمين كما قال تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}، قال الشيخ ابن سعدي: «نوضحها ونبينها ونميز طريق الهدى من الضلال، والغي من الرشاد، ليهتدي بذلك المهتدون، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه، ولتستبين سبيل المجرمين الموصلة إلى سخط الله وعذابه؛ فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت أمكن اجتنابها والبعد عنها، بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل».
    ونهانا سبحانه عن اتباع سبيل المفسدين كما جاء في وصية موسى لأخيه هارون عليهما السلام في قوله تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: اتبع طريق الصلاح ولا تتبع سبيل المفسدين وهم الذين يعملون بالمعاصي».
    ونهى تعالى عن اتباع سبيل الذين لا يعلمون، فقال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: {فاستقيما ولا تتبعانِّ سبيل الذين لا يعلمون} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: لا تتبعانِّ سبيل الجهال الضلال المنحرفين عن الصراط المستقيم، المتبعين لطرق الجحيم».
    وقد وصانا الله تعالى وصية جامعة عظيمة فقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
    قال الشيخ ابن سعدي: «ولما بيّن كثيرا من الأوامر الكبار والشرائع المهمة أشار إليها وإلى ما هو أعم منها فقال: {وأن هذا صراطي مستقيما} أي: هذه الأحكام وما أشبهها مما بينه الله في كتابه، ووضحه لعباده صراط الله الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المعتدل السهل المختصر، {فاتبعوه} لتنالوا الفوز والفلاح، وتدركوا الآمال والأفراح، {ولا تتبعوا السبل} أي: الطرق المخالفة لهذا الطريق {فتفرق بكم عن سبيله}أي: تضلكم عنه وتفرقكم يمينا وشمالا، فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم فليس ثم إلا طرق توصل إلى الجحيم، فقال:{ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} فإنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم علما وعملا، صرتم من المتقين، وعباد الله المفلحين، ووحد الصراط وأضافه إليه؛ لأنه سبيل واحد موصل إليه، والله هو المعين للسالكين على سلوكه».
    وعن عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا , ثم قال: «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال: «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها» ثم قرأ هذه الآية.
    فالمسلم أمام تقاطع السبل ومفترق الطرق عليه أن يبحث عن سبيل الله الذي قامت عليه الأدلة والبراهين، ويسأل الله الهداية إليه ويستعين بالمجاهدة للوصول إليه فقد وعد الله تعالى أهل المجاهدة بالهداية والإعانة فقال عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} قال الشيخ ابن سعدي: «دل هذا على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه الله ويسر له أسباب الهداية».
    وليحذر من مخالفة سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع سبيل الغاوين؛ حتى لا يبوء بالحسرة والندامة يوم القيامة كما قال تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتَى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا}.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  6. #66
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (67)


    -استــفـت قلبـــك



    يحتج بعض الناس بهذه العبارة: «استفت قلبك ولو أفتاك المفتون» ليبرر بها تصرفاته، ويعتذر بها عن مواقفه من حيث استحلاله لشيء فيقدم عليه، أو تحريمه لآخر فيحجم عنه، دون أن يسترشد بدليل شرعي معتبر، أو يستشير ذا علم واطلاع في العلوم الدينية، وإنما يحتكم لهواه وما يمليه عليه عقله المجرد.
    وهذه العبارة جزء من حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟» قلت: نَعَمْ، فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي وَيَقُولُ: «يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» أخرجه الإمام أحمد، وحسنه الألباني.
    وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال:قلت: يا رسول الله أخبرني ما يحل لي ويحرم عليّ؟ فقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» رواه أحمد وصحه الألباني.
    فالحديثان يدلان على أمور مهمة منها:
    - الأول: واجب المسلم تعلم أحكام دينه التي يحتاج إليها ويتوقف عليها إيمانه وصحة عبادته وما يباشره من معاملات مالية أو غيرها، فإن كان المسلم من أهل الاجتهاد المعتبر رجع إلى الأدلة الشرعية واستنبط منها الأحكام الفقهية، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد وهو حال أغلب المسلمين فعليه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه كما قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. بالبينات والزبر} قال الشيخ ابن سعدي: «وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه العلم بكتاب الله المنزل، فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث، وفي ضمنه تعديل لأهل العلم، وتزكية لهم، حيث أمر بسؤالهم، وأنه بذلك يخرج الجاهل من التبعة؛ فدل على أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله».
    - الثاني: إذا سأل المسلم من يظنه من أهل العلم عما يحتاج إلى معرفة حكمه فأجابه بالحكم الديني مؤيدا بالدليل الشرعي، فواجب المسلم حينئذ العمل بما دل عليه الدليل الصحيح الصريح الذي لا مخالف له ولا معارض، فالله تعالى أمرنا بامتثال أمره واتباع شرعه فقال سبحانه: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}، ووعد من اتبع هداه بالرضوان والجنان فقال:{قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}، وذم سبحانه من أعرض وامتنع فقال عز وجل: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}.
    قال ابن رجب رحمه الله: «فأمَّا ما كان مع المفتي به دليلٌ شرعيٌّ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه، وإنْ لم ينشرح له صدرُه، وهذا كالرخص الشرعية، مثل الفطر في السفر، والمرض، وقصرالصَّلاة في السَّفر، ونحو ذلك ممَّا لا ينشرحُ به صدور كثيرٍ مِنَ الجُهَّال، فهذا لا عبرةَ به، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم، فيمتنعون من فعله فيغضب من ذلك؛ كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية فكرهوه».
    وفي الجملة، فما ورد النصُّ به، فليس للمؤمن إلا طاعةُ الله ورسوله، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا.
    - الثالث: إذا لم يطمئن السائل لجواب المسؤول من أهل العلم؛ لظنه أنه لم يفهم سؤاله، أو استعجل بجوابه، أو لم يذكر له دليلا على حكمه، أو كان المسؤول معروفا بالتساهل في الإفتاء، أو من أهل الأهواء، فهنا على المسلم الاحتياط لدينه، والأخذ بأسباب نجاته، ويعلم أن الله تعالى مطلع على الصدور وخبايا النفوس، وأنه يحاسب الناس يوم القيامة على أعمالهم ومقاصدهم، وفتوى المفتي لا تغير من حقائق الأشياء التي يعلم الإنسان أنها لا تحل له أو يرتاب في حلها، وقد قال العلماء: «الفتوى غير التقوى؛ فإن الفتوى الحكم على ظاهر الأشياء، والتقوى الاحتياط في الأمور بأن يجتنب الرجل الشبهات، أو يعدل عنها إلى ما تيقن كونه حلالا، ومثاله: رجل له مال حلال وآخر حرام، فإن أتاك بشيء من ماله، والمفتي يقول لك: كلّ ما لم تتيقن أنه حرام جاز لك أكله، فلا ينبغي لك أن تأكل خوفا من أن تأكل حراما، فإن الفتوى غير التقوى».
    قال ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين»: «لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك»، فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار»، والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره؛ لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها، فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانيا وثالثا حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والواجب تقوى الله حسب الاستطاعة».
    - الرابع: القلب الذي يرجع إليه الإنسان هو القلب المستنير بالإيمان، المسترشد بالعلم، وليس القلب الجاهل ولا القلب المريض بالشبهات أو الشهوات، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فوائد الحديث: «جواز الرجوع إلى القلب والنفس لكن بشرط أن يكون هذا الذي رجع إلى قلبه ونفسه ممن استقام دينه؛ فإن الله عز وجل يؤيد من علم الله منه صدق النية».
    وقال أيضا: «أي : حتى وإن أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه، فإن هذا من الخير والبر، إلا إذا علمت في نفسك مرضا من الوسواس والشك والتردد فلا تلتفت لهذا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس أو يتكلم على الوجه الذي ليس في قلب صاحبه مرض» انتهى.
    وقال أيضا: «وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافياً سليماً، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثماً، ويكره أن يطلع عليه الناس. أما المُتَمَرِّدون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم، فالكلام هنا ليس عاماً لكل أحد، بل هو خاص لمن كان قلبه سليماً طاهراً نقياً، فإنه إذا هَمَّ بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده متردداً يكره أن يطلع الناس عليه، فهذا علامة على الإثم في قلب المؤمن».
    وقال رحمه الله: «لا يغتر الإنسان بإفتاء الناس، ولا سيما إذا وجد في نفسه ترددا، فإن كثيرا من الناس يستفتي عالما أو طالب علم فيفتيه ثم يتردد ويشك، فهل لهذا إذا تردد وشك أن يسأل عالما آخر؟ الجواب: نعم، بل يجب عليه أن يسأل عالما آخر إذا تردد في جواب الأول».
    وخلاصة الأمر أن الاستدلال بالأدلة الشرعية إنما يكون وفق منهج معين بينه علماء الشريعة، وليس عملا عشوائيا، يأخذ الإنسان ما وقف عليه من الأدلة ويحتج به ويعمل وفقه دون العلم بثبوته أو دلالته أو سلامته من المعارض الراجح، بل لا بد من سؤال أهل العلم والله الموفق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  7. #67
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (68)


    - من أضر بشخص أصبح خطرا على مائه


    يتساهل بعض الناس أحيانا في انتهاك القوانين أو اللوائح ، أو التجاوز على الأملاك العامة أو الأملاك الخاصة، أو إيذاء الآخرين بسلوكه غير المبالي أو تصرفه الأناني الذاتي، ويسوّغ ذلك بأنه لم يضر أحدا، ولا ضير في مثل هذا التصرف اليسير - في ظنه - ويزعم أنه لا داعي للمبالغة أو تضخيم الأمور فالخطب يسير والأمر سهل، ونحو ذلك من عبارات تدل على التساهل في إيذاء الآخر والتعدي عليه، أوالتجاوز على الأملاك والمرافق العامة، فبعض الناس لديه من تبلد الإحساس وسذاجة التفكير وعدم الاهتمام بالآخرين ما يحمله على الإضرار بهم وبالمجتمع من حيث لا يشعر .
    وخطورة الأمر تكمن في (طريقة التفكير) وليس عين الحدث، فمن أضر بشخص أصبح خطرا على مائه، وهو مثل إيطالي يدل على أن التساهل في الإيذاء من شخص يصبح ظاهرة تلحق الأذى بالمجتمع، كما أن التساهل في الضرر اليسير ينجم عنه استمرار تلك النقاط الصغيرة لتصبح سيلا جارفا يكتسح ما أمامه كما قيل: «القطرات القليلة تصنع جدولا».
    وللإضرار معاني كثيرة واستعمالات عديدة، والمقصود منها هنا معنى الإيذاء وإيصال المفسدة والضرر إلى الآخرين، والشريعة الإسلامية قد وقفت موقفا حازما من الضرر والإضرار تمثل في النصوص الشرعية والقواعد الكلية التي بينت حقيقة الضرر وما يترتب عليه من جزاء مادي ومعنوي في الدنيا والآخرة.
    فقال تعالى عن السحرة: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}، فالسحر ضرر يلحقه الساحر بالمسحور بإذن الله.
    ومن أوجه الإضرار؛ الإضرار بالزوجة بالطلاق والرجعة على غير الوجه المشروع كما قال تعالى: {ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا}، قال الشيخ ابن عثيمين: «كانوا في الجاهلية يطلق الرجل المرأة فإذا شارفت انقضاء العدة راجعها، ثم طلقها ثانية فإذا شارفت انقضاء العدة راجعها، ثم طلقها ثالثة ورابعة، لقصد الإضرار، فرفع الله تعالى ذلك إلى حد ثلاث طلقات فقط».
    ومنها الإضرار في الرضاع، قال تعالى: {‏لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ‏}
    قال مجاهد: «لا يمنع أمه أن ترضعه ليحزنها بذلك».

    ومن ذلك الإضرار في الوصية قال تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ‏}، ويضرب الشيخ ابن عثيمين مثلا لذلك بقوله: «رجل أوصى بعد موته بنصف ماله لرجل آخر من أجل أن ينقص سهام الورثة، فهذا محرم عليه مع أن للورثة أن يبطلوا ما زاد على الثلث، مثال آخر:رجل له ابن عم بعيد لا يرثه غيره، فأراد أن يضاره وأوصى بثلث ماله مضارة لابن العم البعيد أن لا يأخذ المال، فهذا أيضاً حرام».
    ومنه الإضرار في توثيق الحقوق كما قال تعالى:{ولا يضار كاتب ولا شهيد} وذلك بإيذاء الكاتب أو الشاهد على أي وجه كان.
    وعن أبي صرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ضارّ ضارّ الله به، ومن شاقّ شقّ الله عليه» أخرجه أبو داود، قال صاحب عون المعبود: «من ضار» أي: مسلما - كما في رواية - أي: من أدخل على مسلم، جارا كان أو غيره مضرة يعني مفسدة في ماله أو نفسه أو عرضه بغير حق «أضر الله به» أي: جازاه من جنس فعله وأدخل عليه المضرة، قال: والحديث فيه دليل على تحريم الضرار على أي صفة كان، من غير فرق بين الجار وغيره.
    وعنْ أَبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: “«لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَار» أخرجه ابن ماجه.
    قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا الحديث أصل عظيم في أبواب كثيرة، ولا سيما في المعاملات:
    كالبيع والشراء والرهن والارتهان، وكذلك في الأنكحة يضار الرجل زوجته أو هي تضار زوجها، وكذلك في الوصايا يوصي الرجل وصية يضر بها الورثة.

    فالقاعدة: متى ثبت الضرر وجب رفعه، ومتى ثبت الإضرار وجب رفعه مع عقوبة قاصد الإضرار، ولو سرنا على هذا الحديث لصلحت الأحوال، لكن النفوس مجبولة على الشح والعدوان، فتجد الرجل يضار أخاه، وتجده يحصل منه الضرر ولا يرفع الضرر.
    هذا الحديث يعد قاعدة من قواعد الشريعة، وهي أن الشريعة لا تقر الضرر، وتنكر الإضرار أشد وأشد، والله الموفق.
    وقد نقل ابن رجب عن العلماء الفرق بين الضرر والضرار ، فذكر أن فمنهم من قال هما بمعنى واحد على وجه التأكيد ، والمشهور أن بينهما فرقا ، ثم ذكر أوجه التفريق بينهما:
    فقيل: إن الضرر هو الاسم، والضرار الفعل، فالمعنى أن الضرر نفسه منتف في الشرع وإدخال الضرر بغير حق كذلك .
    وقيل: الضرر أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به، والضرار أن يدخل على غيره ضررا بلا منفعة له به كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع .
    وقيل:الضرر أن يضر به من لا يضره، والضرار أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز.
    والفقه الإسلامي بمذاهبه المتعددة أكد هذا الأصل بأمثلة واقعية فيها معاقبة المهمل الذي ترتب على إهماله إلحاق الضرر بالآخرين، فمن تلك الأمثلة أن من فتح الماء في مزرعته واشتغل بأمر آخر فلم يشعر حتى تجاوز الماء الحواجز وأفسد زرع جاره فإنه يضمن.
    والراعي الذي ينام في النهار فتضيع الغنم في نومه أويصيبها السبع أو السارق فيضمن لإهماله، ومن أوقد في ملكه نارا كثيرا تسري في العادة لكثرتها فأحرقت دار جاره يضمن.
    ومن كانت يده يد أمانة كالمودع لديه والأجير فإنه يضمن التلف الذي حصل بسبب إهماله وتقصيره .
    ونحو ذلك من الأمثلة التي تدل على أن التقصير وعدم الاحتياط الواجب عند باشرة الإنسان من يجوز له فعله مما يترتب عليه إلحاق الضرر بالغير فإن ذلك مما يوجب تعويض الضرر الذي أصاب الآخرين؛ لأن واجب الإنسان أن يتثبت ويحترس عند استعمال ملكه الخاص، فإذا قصر تحمل نتيجة فعله حفظا لأنفس الناس وأموالهم وأعراضهم.
    ولا علاقة هنا للنية الصالحة والقصد الطيب، بل لابد من أن يوافق العمل الظاهر القصد الباطن، فصلاح الباطن وسلامة القصد لا يكفي لدفع المسؤولية عن الإنسان عندما يثبت تقصيره في الحفاظ على أمن وسلامة الآخرين .
    فالمسلم يحرص على مراعاة الآخرين وسلامتهم، وتجنب الإضرار بهم على أي وجه كان، ويعلم أن سلامة المجتمع بالتزام كل فرد فيه بالمطلوب منه دون توقف على فعل الآخرين، فكل إنسان يقوم بواجبه ابتغاء وجه الله، سواء وافقه الآخرون أم تفرد بذلك، فاستقامة كل فرد تعني استقامة المجتمع، من أضر بشخص أصبح خطرا على مئة ، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  8. #68
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    الدولة
    المملكة العربية السعودية حرسها الله
    المشاركات
    1,728

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    جزاك الله خيراً...

  9. #69
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    آمين وإياكم

  10. #70
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن(69)

    - ولن تجد لسنة الله تحويلا



    أمرنا الله تعالى بتدبر كتابه الكريم، والتأمل فيما فيه من الحكم والأحكام، والعقائد والأعمال، والأخلاق والآداب، فالقرآن الكريم كتاب هداية للبشرية، يحمل لها النور والعلم وسبل الفلاح في الدنيا والآخرة. ومما اشتمل عليه القرآن الكريم آيات كثيرة تقرر أن لله تعالى سننا ثابتة، ونواميس لازمة، تتسم هذه السنن بالثبات وعدم التغير، وتتصف بالشمول والعموم، كما أنها نافذة متحققة لا تتخلف ولا تتبدل، التفقه بها تدبر لبعض ما اشتمل عليه القرآن من العلوم النافعة.
    كما أنه يجعل المسلم على بصيرة وبينة فيسلك سبيل النجاة ويحذر سبل الهلاك، أما الجهل بها والإعراض عنها فيعرض المسلم للخطر؛ إذ لا يأمن المرء أن يقع فيما وقع فيه السابقون فيصيبه ما أصابهم كما قال تعالى:{قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}.
    ويعرف الراغب الأصفهاني السنن فيقول: «السنن: جمع سنة، وسنة الله تعالى: قد تقال لطريقة حكمته، وطريقة طاعته، نحو: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}،{ولن تجد لسنة الله تحويلا} فهو تنبيه بأن فروع الشرائع، وإن اختلفت صورها، فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدل، وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إلى ثواب الله تعالى وجواره».
    وبتتبع القرآن الكريم نجد أن سنن الله تعالى متنوعة منها سنة التغيير كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ومنها سنة المداولة كما قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ومنها سنة التدافع كما قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا}، وغيرها من السنن القرآنية.
    وبعض تلك السنن الإلهية تحمل الخير للمسلمين؛ لذا بيّنها لنا سبحانه وأمرنا باتباعها كما قال تعالى:{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}، وقال سبحانه: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم}، قال ابن سعدي: «يخبر الله تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال: {يريد الله ليبين لكم} أي: جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل، والحلال والحرام: {ويهديكم سنن الذين من قبلكم}أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم في سيرهم الحميدة وأفعالهم السديدة وشمائلهم الكاملة، فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل».
    وقال تعالى: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}، قال ابن سعدي: «هذه بشارة من الله تعالى لعباده المؤمنين بنصرهم على أعدائهم الكافرين»، وقال ابن كثير: «أي: هذه سنة الله وعادته في خلقه: ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلا نصر الله الإيمان على الكفر فرفع الحق ووضع الباطل ، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين مع قلة عدد المسلمين وعُددهم وكثرة المشركين وعُددهم».
    كما أن بعض تلك السنن في حقيقتها عقوبة جسيمة كما قال تعالى: {فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا}، قال ابن سعدي: «سنة الله في الأولين التي لا تبدل ولا تغير، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد أن تحل به نقمته، وتسلب عنه نعمته، فليترقب هؤلاء ما فعل بأولئك».
    وقال سبحانه: {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}، قال ابن سعدي: «إن من تمادى في العصيان، وتجرأ على الأذى ولم ينته عنه، فإنه يعاقب عقوبة بليغة: {ولن تجد لسنة الله تبديلا} أي: تغييرا، بل سنته تعالى وعادته جارية مع الأسباب المفضية لمسبباتها».
    وقال عز وجل: {سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا}، قال ابن سعدي في فوائد الآية: «وفيها أن الله إذا أراد إهلاك أمة تضاعف جرمها وعظم وكبر فيحق عليها القول من الله فيوقع بها العقاب كما هي سنته في الأمم إذا أخرجوا رسولهم»، وقال ابن كثير: «أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا، وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم، يأتيهم العذاب، ولولا أنه صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به؛ ولهذا قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}.
    وقال تعالى: {سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا}، وقال: {سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون}، قال ابن كثير: «أي : هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل؛ ولهذا جاء في الحديث: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر».
    وأطلق الله تعالى (سنة الأولين) على عادته في إهلاك المكذبين فقال تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا}، قال ابن سعدي: «أي: ما منع الناس من الإيمان، والحال أن الهدى الذي يحصل به الفرق بين الهدى الضلال، والحق والباطل، قد وصل إليهم، وقامت عليهم حجة الله، فلم يمنعهم عدم البيان، بل منعهم الظلم والعدوان عن الإيمان، فلم يبق إلا أن تأتيهم سنة الله وعادته في الأولين من أنهم إذا لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب، أو يرون العذاب قد أقبل عليهم ورأوه مقابلة معاينة، أي: فليخافوا من ذلك وليتوبوا من كفرهم قبل أن يكون العذاب الذي لا مرد له».
    وقال سبحانه: {لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين}، قال ابن كثير: «أي: قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة».
    وقال تعالى: {وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين}، قال ابن كثير: «وقوله: {وإن يعودوا} أي: يستمروا على ما هم فيه {فقد مضت سنة الأولين} أي: فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة».



    اعداد: د.وليد خالد الربيع





  11. #71
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (70)


    - المجالــــس بالأمانــة



    الإنسان مدني بطبعه، يحب مخالطة الآخرين والتواصل معهم، ويحرص على مشاركتهم في أفكارهم ومشاعرهم، ويتبادل معهم الآراء والمفاهيم؛ مما يقتضي الحديث معهم في المجالس العامة والجلسات الخاصة، وقد أرشدنا الإسلام إلى احترام تلك المجالس، والقيام بحقوقها من حفظ الأسرار، ورعاية خصوصية المتحدثين، وعدم إيذائهم بإفشاء أسرارهم ونشر أخبارهم دون إذن منهم.
    ويوضح الراغب معنى السر بأنه: «ما يلقى إلى الإنسان من حديث يستكتم، وذلك إما لفظا كقولك لغيرك: اكتم ما أقول لك، وإما حالا: وهو أن يتحرى القائل حال انفراده فيما يورده أو يخفض صوته أو يخفيه عن مجالسه؛ ولهذا قيل: إذا حدثك إنسان بحديث فالتفت فهو أمانة».
    ويبين أيضاً أن كتمان الأسرار من الوفاء، وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، ويوصف به ضعفة الرجال والنساء والصبيان، فقد قيل: الصبر على القبض على الجمر أيسر من الصبر على كتمان السر.
    ومن النصوص الشرعية التي أكدت حرمة المجالس ولزوم القيام بحقوقها قوله صلى الله عليه وسلم: «المجالس بالأمانة، إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق» أخرجه أبو داود وحسنه الألباني
    ويبين العلماء أن معنى الحديث: تحسن المجالس أو حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضرها؛ لما يحصل في المجالس ويقع فيها من الأقوال والأفعال، فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أمينا على ما يسمعه أو يراه.
    - وقوله: «إلا ثلاثة مجالس»، هو استثناء منقطع، والمعنى ينبغي للمؤمن إذا رأى أهل مجلس على منكر ألا يشيع ما رأى منهم إلا ثلاثة مجالس وهي المذكورة، فلا يجوز للمستمع كتمه بل عليه إفشاؤه دفعا للمفسدة.
    وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا حدث الرجل بالحديث، ثم التفت، فهي أمانة» أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني.
    قال شراح الحديث: «والمعنى إذا حدث الرجل شخصا بالحديث الذي يريد إخفاءه ثم التفت يمينا وشمالا احتياطا، فذلك الحديث أمانة عند من حدثه، أي: حكمه حكم الأمانة، فلا يجوز إضاعتها بإشاعتها؛ لأن التفاته إعلام لمن يحدثه أنه يخاف أن يسمع حديثه أحد، وأنه قد خصه بسره، فكان الالتفات قائما مقام: اكتم هذا عني، أي: خذه عني واكتمه، وهو عندك أمانة».
    وقال صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني، والمقصود بالمستشار: أي الذي طلب إليه المشورة والرأي، وقوله: «مؤتمن» اسم مفعول من الأمن أو الأمانة، أي: أمين، فلا ينبغي له أن يخون المستشير بكتمان المصلحة والدلالة على المفسدة.
    قال الطيبي: «معناه أنه أمين فيما يسأل من الأمور؛ فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته».
    وقال أبو حاتم البستي: «والواجب على العاقل السالك سبيل ذوي الحجى أن يعلم أن المشاورة تفشي الأسرار، فلا يستشير إلا اللبيب الناصح الودود الفاضل في دينه، وإرشاد المشيرِ المستشيرَ قضاءُ حق النعمة في الرأي، والمشورة لا تخلو من البركة إذا كانت مع مثل من وصفنا نعته».
    وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الهدي بنفسه كما أخرج البخاري في «الأدب المفرد» عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم: «هل لك خادم؟»، قال: لا، قال: «فإذا أتانا سبي فائتنا»، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اختر منهما»، قال: يا رسول الله، اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المستشار مؤتمن، خذ هذا؛ فإني رأيته يصلي، واستوص به خيرا»، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق.
    وتأمل تطبيق الصحابة الكرام لهذا الهدي النبوي الكريم فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَأَنَا ابْنُ ثَمَانيِ سِنِينَ، فَأَخَذَتْ أُمِّي بِيَدِي، فَانْطَلَقَتْ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلاَّ قَدْ أَتْحَفَكَ بِتُحْفَةٍ، وَإِنِّي لاَ أَقْدِرُ عَلَى مَا أُتْحِفُكَ بِهِ إِلاَّ ابْنِي هَذَا، فَخُذهُ فَلْيَخْدُمْكَ مَا بَدَا لَكَ، فَخَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا ضَرَبَنِي ضَرْبَةً، وَلاَ سَبَّنِي سَبَّةً، وَلاَ انْتَهَرَنِي، وَلاَ عَبَسَ فِي وَجْهِي، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أَوْصَانِي بِهِ أَنْ قَالَ:«يَا بُنَيَّ، اكْتُمْ سِرِّي تَكُ مُؤْمِنًا». قال أنس: فَكَانَتْ أُمِّي وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلْنَنِي عَنْ سِرِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلاَ أُخْبِرُهُمْ بِهِ، وَمَا أَنَا بِمُخْبِرٍ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا أَبَدًا. أخرجه التِّرْمِذِي.
    وعن أنس قال: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَحْنُ صِبْيَانٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، وَأَرْسَلَنِي فِي حَاجَةٍ، وَجَلَسَ فِي الطَّرِيقِ يَنْتَظِرُنِي، حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ فَقُلْتُ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، قَالَتْ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: فَاحْفَظْ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. أخرجه البُخَارِي في «الأدب المفرد».
    ومن سوء العشرة وخيانة الأمانة إفشاء الأسرار الزوجية، فعن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم يَنْشُر سرها» أخرجه مسلم.
    قال الشراح: «والمعنى أن نشر الرجل وإفشاءه ما جرى بينه وبين امرأته حال الاستمتاع بها من أعظم خيانة الأمانة».
    فخلاصة القول أن كتم الأسرار من الأمانة، والأمانة من الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» أخرجه أحمد وصححه الألباني، كما أن كتم السر من الوفاء بالعهد وقد قال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}، ونشر الأسرار خيانة للعهد كما قال الحسن: «إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك»، وخيانة العهد من صفات المنافقين كما قال صلى الله عليه وسلم:»أربع من كن فيه كان منافقا خالصا» وذكر منهن: «إذا اؤتمن خان»، كما أن كتم السر فضيلة تدل على كمال عقل الإنسان ووقاره، وحفظه لحقوق الأخوة، وإفشاء الأسرار قد يسبب أضرارا مادية ومعنوية، دنيوية ودينية. وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  12. #72
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (71)


    -من طلب ما لم يَعْنِهِ فاته ما يعنيه


    خلق الله تعالى الإنسان لغاية عظيمة، وهي أن يعبد الله تعالى وحده، ويعمل بطاعته، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وسخر الله تعالى للإنسان السموات والأرض والمخلوقات ليتفرغ لعبادته، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}.
    وقال سبحانه: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}، فالسعيد من أدرك غايته، وسعى لها بلا كسل ولا انحراف، والمحروم من لم يعرف غايته، أو اشتغل بما خلق لخدمته عمن خلقه لعبادته.
    وهذه الكلمة الحكيمة: «من طلب ما لم يعنه فاته ما يعنيه»؛ هي من نفائس كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يقرر فيها أمرا عظيما، وخلقا كريما ألا وهو أن من طلب ما ليس بمهم له أضاع وقته وجهده على حساب ما هو مهم له وضروري لدنياه وآخرته، فهو يحثنا على البصيرة في الدين، والفطنة في الدنيا بأن يطلب الإنسان ما فيه صلاح دينه ودنياه، ولا يضيع وقته وجهده في أمور لا تعنيه، بل قد تضره وتؤخره، فالواجبات كما قيل أكثر من الأوقات، والمسلم مطالب بحقوق كثيرة لله تعالى ولعباد الله، ومن اشتغل بذلك لم يجد وقتا لفضول الكلام، أو كثرة المخالطة، أو الاشتغال بعيوب الناس وانتقادهم.
    وقد جاء في السنة المطهرة ما يؤكد هذا المعنى ويقرره، فعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيه» أخرجه الترمذي.
    قال ابن رجب: «ومعنى هذا الحديث: أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى يعنيه: أنه تتعلق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية: شدة الاهتمام بالشيء، يقال: عناه يعنيه: إذا اهتم به وطلبه، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإسلام؛ ولهذا جعله من حسن الإسلام؛ فإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال؛ فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات، وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات كما قال[: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وإذا حسن الإسلام، اقتضى ترك كل ما لا يعني من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه، فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه؛ فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه».
    ويبين عمر بن عبد العزيز رحمه الله ما يعين على هذا الخلق فيقول: «من عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه»، قال ابن رجب: «وهو كما قال، فإن كثيرا من الناس لا يعد كلامه من عمله، فيجازف فيه، ولا يتحرى».
    وعن الحسن قال: «من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه».
    وقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: «مَنِ اشْتَغَلَ بِمَا لا يَعْنِيهِ فَاتَهُ مَا يَعْنِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِمَا يَكْفِيهِ فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يُغْنِيه»، وقيل: «بترك الفضول تكمل العقول».
    ويبين ابن القيم رحمه الله خطورة الاشتغال بما لا يعني الإنسان فيقول: «اشغل نفسك فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، فإياك ثم إياك أن تمكن الشيطان من أفكارك فإنه يفسدها عليك إفسادا يصعب تداركه، ويلقي إليك الوسواس، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، إياك أن تعينه على نفسك بتمكينه من قلبك، فمثالك معه كمثال صاحب رحـى يطحن فيها الحبوب، فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونك، فإن طردته ولم تمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون فقد واصلت على طحن ما ينفعك، وإن مكنته من إلقاء ما معه في الطاحون أفسد عليك ما في الطاحون من الحب فخرج الطحين كله فاسدا».
    يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل، ولا آمن عليك الزور، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا، فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأعنته».
    ودخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض فكان وجهه يتهلل فقيل له: ما بال وجهك يتهلل يرحمك الله؟ فقال: «ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليما».
    فعمر الإنسان ثمين، ووقته عزيز، والمطالب الدينية كثيرة، وأبواب الخير عديدة، والمرء لا يملك الوقت الكافي ولا الجهد المعين على القيام بتلك الواجبات، فكيف يضيع وقته في مجالس فارغة، وأسواق ملهية، وكلام في أمور ماضية لا يملك تغييرها، أو أمور مستقبلة الله أعلم بها، وهو مستغرق في مضغ وتكرار أمور لا يريدها من سلبيات المجتمع وأخطاء الناس، وكسول ومتراخ عن أمور يريدها ويطمح بها من علم نافع، وعمل صالح، ومال حلال، وأسرة مطمئنة، وراحة بال، وطيب عيش، كل ذلك وهو يعيش في دائرة السلبيات والحديث عن الأخطاء، ولا يحرك ساكنا، ولا يبذل أدنى جهد لإصلاح ما يقدر على إصلاحه في حياته وأسرته وما يدخل تحت سلطانه.
    فالطريق طويل، والسفر شاق، والحمل ثقيل، والعقبة كؤود، والموفق من استعد لعبورها بالإيمان والعمل الصالح والعلم النافع والتخفف من أثقال الذنوب والمعاصي، والمحروم من اشتغل بعيوب الآخرين عن إصلاح نفسه ودينه وأخراه، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  13. #73
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (72)


    {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (1-2)



    هذه الآية الكريمة دلت على حقيقة كبرى من حقائق الدين الرئيسة، وقواعده الأصيلة، وهي أن غاية خلق الثقلين، والحكمة العليا من الإيجاد هي عبادة الله تعالى وحده والقيام بمقتضى العبودية له سبحانه وتعالى.
    فالعبادة هي الغاية المحبوبة لله تعالى المرضية عنده، التي خلق الخلق لأجلها كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، قال ابن كثير في بيان معنى الآية: «إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم ».
    ونقل عن ابن عباس تفسير قوله تعالى: {إلا ليعبدون} أي: «إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها» وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن جريج: «إلا ليعرفون».
    قال الشيخ الشنقيطي: التحقيق -إن شاء الله - في معنى هذه الآية الكريمة إلا ليعبدون، أي إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم أي أختبرهم بالتكاليف، ثم أجازيهم على أعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق في معنى الآية؛ لأنها تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملا، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم.
    قال تعالى في أول سورة هود: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء}، ثم بين الحكمة من ذلك فقال: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}، وقال تعالى في أول سورة الملك: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}، فتصريحه -جل وعلا - في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق، هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملا، يفسر قوله: {ليعبدون}، وخير ما يفسر به القرآن (القرآن).
    ومعلوم أن نتيجة العمل المقصودة منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؛ ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولا وبعثهم ثانيا، هي جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وذلك في قوله تعالى في أول يونس: {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط}.
    ويؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية أن العبادة هي الغاية الكريمة التي أرسل لأجلها الرسل وأنزل الكتب كما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، وبها وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى: {وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون}، ونعت بها صفوة خلقه فقال تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}، وقال تعالى: {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا}.
    وقد وصف الله سبحانه بالعبادة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في أكمل أحواله، فقال عنه في مقام الإسراء: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}، وقال عنه في مقام الإيحاء: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} وقال في مقام الدعوة: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا}.
    وقد ذمّ الله تعالى المستكبرين عن عبادته فقال سبحانه: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}.
    ويقرر رحمه الله أن الدين كله داخل في العبادة كما دل على ذلك حديث جبريل الطويل، وفيه سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان فأجابه وقال في آخر الحديث: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».
    فالدين في حقيقته متضمن معنى الخضوع والذل الذي هو حقيقة العبادة، ومن هنا فإن دين الله تعالى هو عبادته وطاعته والخضوع له.
    وللعبادة ركنان تقوم عليهما وهما: (كمال الخضوع مع كمال الحب)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له».
    ويقول الشيخ مبينا ترابط هذين العنصرين: «ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له، كما قد يحب الرجل ولده وصديقه؛ ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله تعالى أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله، وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة، وما عظم بغير أمر الله فتعظيمه باطل».
    ولابد لصحة العبادة من توافر شروط أهمها: (الإخلاص والاتباع)، قال شيخ الإسلام: «جماع الدين أصلان ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، وذلك تحقيق الشهادتين، ففي الأولى: ألا نعبد إلا إياه، والثانية: أن محمدا هو رسوله المبلغ عنه، فعلينا أن نصدق خبره وأن نطيع أمره، وقد بين لنا ما نعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة، وكما أننا مأمورون ألا نخاف إلا الله ولا نتوكل إلا على الله ولا نرغب إلا إلى الله ولا نستعين إلا بالله وألا تكون عبادتنا إلا لله، فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به، فالحلال ما أحله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه».
    ويقول ابن القيم: «لا يكون العبد متحققا بالعبودية إلا بأصلين عظيمين، أحدهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني: الإخلاص للمعبود».
    - فالأصل الأول: وهو: (الإخلاص) دل عليه قوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}.والأصل الثاني: وهو: (الاتباع) دل عليه قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وقوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}.
    وإفراد الله تعالى بالعبادة هو حق الله الواجب على عباده كما أمر بذلك في قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا}، وقال تعالى: {يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
    وعن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا معاذ هل تدري حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟»، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا».
    وجاءت النصوص الكثيرة في النهي عن الشرك في عبادة الله تعالى، والوعيد الشديد لمن أشرك غير الله مع الله سبحانه في العبادة، والتنديد بالمعبودات الباطلة، وتأكيد ضلال من عبدها، كل ذلك لتقرير العبودية لله تعالى وحده؛ لأنه سبحانه المستحق لها وحده لما له من الكمال والجلال والجمال وتمام الملك والتفرد بالخلق والرزق وسائر مظاهر الربوبية، وكل ما سواه فهو مخلوق مربوب ضعيف عاجز فقير، والله هو الغني الحميد.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  14. #74
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (73)


    {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (2-2)


    قال بعض المؤرخين: من الممكن أن نجد مدنا بلا أسوار ولا ملوك ولا ثروة ولا آداب، ولكن لم ير إنسان قط مدينة بلا معبد، أو لا يمارس أهلها العبادة. فالعبادة من ضروريات حياة الإنسان، فهي ليست أمرا تكميليا، وليست ترفا فكريا، وإنما هي حاجة فطرية أساسية ومطلب قلبي ملح، يقول شيخ الإسلام: القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين، من جهة العبادة - وهي العلة الغائية - ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا ينعم، ولا يسر، ولا يلتذ، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة.
    ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات، لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائما مفتقر إلى حقيقة {إياك نعبد وإياك نستعين}؛ فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادة الله، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون الله هو غاية مراده، ونهاية مقصوده.
    والعبادة وإن كانت مطلوبا شرعيا، وحقا إلهيا، إلا إن لها ثمرات طيبة، وفوائد مباركة ترجع على العباد في الدنيا والآخرة، وقد اجتهد العلماء في الوصول إلى بعض وظائف العبادة والثمرات التي تحققها في الفرد والمجتمع، ومن تلك الوظائف:
    أولا: تحقيق العبودية لله تعالى والتقرب منه:
    خلق الله تعالى الإنس والجن لعبادته، فقيام الإنسان بالشعائر التعبدية هو مظهر من مظاهر طاعة الله تعالى، ودليل على صدق عبودية المكلف؛ لأن الدعاوى إذا لم تؤيدها البراهين كانت أقوالا كاذبة، قال ابن القيم: وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة؛ ولهذا جعل تعالى اتباع الرسول علما عليها وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، وهذا معنى قول الحسن: ليس الإيمان بالتمنى ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
    ثانيا: العبادة تحرير للإنسان:
    تحقيق العبادة لله تعالى وحده تحرير للإنسان من كل عبودية أخرى، وذلك أن الإنسان لا ينفك عن وصف العبودية؛ لأن له قلبا إما أن يكون عبدا لله، وإلا استعبدته حاجاته ومطامعه وأهواؤه، ويؤكد شيخ الإسلام هذا المعنى فيقول: فالعبد لا بد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله، فقيرا إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا إليه.
    ويقول: فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، ويقول: الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده، فالقلب عبده.
    ويبين رحمه الله الأثر المترتب على حرية القلب ورقه فيقول: فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
    أما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقا مستعبدا متيما لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.
    وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب؛ فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك، إذا كان قائما بما يقدر عليه من الواجبات، وأما من استعبد قلبه فصار عبدا لغير الله، فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس».
    ثالثاً: تزكية النفس وتطهيرها:
    العبادة سبب عظيم لتهذيب النفوس البشرية من الذنوب والأمراض التي قد تطرأ عليها، والأخلاق الرديئة التي قد تنطبع بها، وهذا ما يظهر واضحا من خلال نصوص كثيرة تربط بين العبادة والتزكية مثل قوله تعالى:{وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، وقوله:{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}، وقوله:{قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى}، ونصوص كثيرة تشير إلى أثر العبادة في تزكية الإنسان وتقويمه.
    رابعاً: إعداد الفرد الصالح في المجتمع:
    للعبادة وظيفة اجتماعية مهمة تتمثل في تخريج أفراد صالحين بكل معاني الصلاح، فتزكية النفوس وتهذيبها بأنواع العبادات المختلفة يعود أثره على واقع المجتمع، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وفائدة هذا عائدة على المجتمع كما لا يخفى، الزكاة تطهير للفرد من البخل والشح، ولا شك أن أفرادا كثيرين سيستفيدون من صرف الزكاة على مستحقيها في المجتمع، وقس على ذلك سائر العبادات من الصيام والحجاب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالعبادة الصحيحة توجد الفرد الصالح القائم بحقوق الله وحقوق العباد.
    خامسا: العبادة مظهر من مظاهر الشكر:
    العبادة تعبير عملي عن شكر النعم الكثيرة التي امتن الله تعالى بها على عباده، والله تعالى يحب أن يشكر ولا يكفر، ومن صور الشكر القيام بعبادته على الوجه المشروع كما أشار إلى ذلك تعالى في قوله: {اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور}، وحقق النبي [ هذا المعنى حين كان يقوم حتى تتفطر قدماه، فلما قيل له: لم تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال مبينا أن ذلك من موجبات الشكر و الزيادة: «أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا» أخرجه البخاري.
    سادساً: العبادة سر السعادة:
    يقول شيخ الإسلام: إن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له، لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب، فالموحد سعيد بتوحيده كما قال تعالى: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا}، فهذا مثل ضربه الله للمشرك الشقي بطاعة غير الله، والموحد المخلص لله فهو سعيد مرتاح.
    وأيضا فإن العابد المطيع يسعد في الدنيا بالنعم العاجلة كما قال تعالى:{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}، وقال تعالى:{ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}، وقال ابن عباس مبينا الأثر العاجل للطاعة والمعصية: «إن للحسنة نورا في القلب، وزينا في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة ظلمة في القلب، وشينا في الوجه، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق».
    نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، فذلك - كما يقول ابن القيم - أنفع الدعاء وهو طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب، وبهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا فقال: «لا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  15. #75
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (74)


    - شر الناس ذو الوجهين



    يحث الإسلام أتباعه المؤمنين على الصدق في الأقوال والأفعال، والوضوح في المواقف، والثبات على المبادئ، فقال تعالى:{يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، ويحذر من التلون والتقلب في المواقف حسب المصالح الدنيوية والأهواء الشخصية، ويعد هذا من صفات المنافقين كما قال تعالى: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا}.
    قال الشيخ ابن سعدي: «فهذه الأوصاف المذمومة تدل -بتنبيهها- على أن المؤمنين متصفون بضدها من الصدق والإخلاص ظاهرا وباطنا».
    وللأسف تجد بعض الناس ليس له شخصية مستقلة، ولا رأي ثابت، بل هو أقرب ما يكون شبها بالسائل الشفاف يأخذ لون الإناء الذي يوضع فيه، فهذا النوع من الناس إذا جلس مع المتدينين أظهر التدين والصلاح وانتقد غير المتدينين وعابهم، وإذا جمعه المجلس مع غير المتدينين وافقهم في أخلاقهم وأقوالهم وربما استهزأ بالمتدينين وانتقصهم.
    ووقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق ولا سيما إذا صاحب ذلك نميمة أو غيبة أو إفساد ، فقد أخرج الشيخان عن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعادِنَ: خِيَارُهُم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا، وتَجِدُونَ خِيَارَ النَّاسِ في هَذَا الشَّأنِ أَشَدَّهُمْ كَرَاهِيَةً لَهُ، وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الوَجْهَينِ، الَّذِي يَأتِي هؤُلاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ».
    ويوضح الباجي سبب وصفه بذي الوجهين فيقول: «وصف بذلك لأنه يأتي هؤلاء بوجه التودد إليهم والثناء عليهم والرضا عن قولهم وفعلهم، فإذا زال عنهم وصار مع مخالفيهم لقيهم بوجه من يكره الأولين ويسيء القول فيهم والذم لفعلهم وقولهم».
    ويذهب القرطبي إلى أبعد من ذلك فيعد ذلك من أحوال المنافقين فيقول: «إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق؛ إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس». ومثله الإمام النووي رحمه الله إذ يقول: «ذو الوجهين: هو الذي يأتي كل جماعة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق، ومحض كذب وخداع، وتحايل على الاطلاع على أسرار الطائفتين وهي مداهنة محرمة».
    ومما يؤكد خطورة هذه الخصلة الذميمة ما ورد في شأنها من وعيد شديد، فعن عمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار» أخرجه أبو داود وصححه الشيخ الألباني .
    وظاهر أن هذا الجزاء من جنس العمل كما علله في «عون المعبود» فقال: «معناه: أنه لما كان يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه على وجه الإفساد، جُعل له لسانان من نار كما كان له في الدنيا لسان عند كل طائفة».
    وهذا الحكم يستوي فيه الدخول على مجالس العامة ومجالس الوجهاء والأمراء على حد سواء، فقد قال أناس لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، فقال: «كنا نعده نفاقا». أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام (باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك).
    وذكر الحافظ أن في بعض الروايات أنهم قالوا: «إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون في شيء نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، فقال ابن عمر: «كنا نعد هذا نفاقا، فلا أدري كيف هو عندكم»؟
    وهذا للأسف ما يفعله بعض الناس، حيث يدخل على الحكام والمسؤولين فيمدحهم ويتزلف لهم، فإذا خرج من عندهم بادر بانتقاصهم واغتيابهم وذكر مساوئهم، فيقال له: ما منعك من نصحهم سرا في مجلسهم أداء للأمانة ونصحا لأئمة المسلمين وعامتهم؟! أم إنه الجبن والتلون وموافقة الجلساء في الغيبة والخوف من مخالفتهم لأجل الحق والمبادئ؟!
    وينبغي التفريق بين التلون في المواقف والتنازل عن المبادئ -وهو المداهنة- واستعمال الحكمة عند مخالطة الناس، والترفق بهم للإصلاح والتوعية -وهي المداراة- قال أبو حاتم البستي: «الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة من غير مقارفة المداهنة؛ إذ المداراة من المداري صدقة له، والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه».
    قال النووي: «فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود»، ونقل ابن حجر عن غيره الفرق بينهما: أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليها ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح».
    وقال ابن القيّم مبينا الفرق بين المداراة والمداهنة: «المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذمّ، والفرق بينهما أنّ المداري يتلطّف بصاحبه حتّى يستخرج منه الحقّ أو يردّه عن الباطل، والمداهن يتلطّف به ليقرّه على باطله ويتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النّفاق. وقد ضرب مثل لذلك مطابق، وهو حال رجل به قرحة قد آلمته فجاءه الطّبيب المداوي الرّفيق، فتعرّف حالها ثمّ أخذ في تليينها، حتّى إذا نضجت أخذ في بطّها برفق وسهولة، حتّى إذا أخرج ما فيها وضع على مكانها من الدّواء والمرهم ما يمنع فسادها، ثمّ تابع عليها بالمراهم الّتي تنبت اللّحم، ثمّ يذرّ عليها بعد نبات اللّحم ما ينشّف رطوبتها، ثمّ يشدّ عليها الرّباط، ثمّ لم يزل يتابع ذلك حتّى صلحت، أمّا المداهن فقال لصاحبها: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء، فاسترها عن العيون بخرقة، ثمّ أله عنها، فلا تزال مدّتها تقوى وتستحكم حتّى عظم فسادها».
    وقال البخاري في كتاب الأدب باب المداراة مع الناس: ويذكر عن أبي الدرداء: «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم»، قال ابن حجر: «والكشر بالشين المعجمة وفتح أوله: ظهور الأسنان، وأكثر ما يطلق عند الضحك».
    ثم أخرج بسنده عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: «ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة». فلما دخل ألان له الكلام فقلت له: «يا رسول الله، قلت ما قلت ثم ألنت له في القول؟» فقال: «أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه».
    قال ابن بطال: «المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط; لأن المدارة مندوب إليها والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك».
    فعلى المسلم أن يكون صادقا مع ربه ومع نفسه ومع الآخرين، ثابتا في مواقفه ومبادئه، حكيما في دعوته إلى الله تعالى، متوسطا بين الحزم والرفق، مفرقا بين الصراحة والوقاحة، وموازنا بين المصالح والمفاسد، جامعا بين العلم والعمل، والله تعالى الموفق لكل خير وسداد.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  16. #76
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (75)


    - عَـشِّ ولا تغتر



    يبتلي الله تعالى عباده بالخير والشر، فتارة يبتليهم بالفقر والمرض والحروب ونحوها من المصائب، وتارة يبتليهم بالأموال وكثرة الأولاد والتمكين في الأرض وتسخير الخيرات لهم كما قال عز وجل:{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة}، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: « أي نبتليكم بالشر والخير فتنة: بالشدة، والرخاء، والصحة، والسقم، والغنى، والفقر، والحلال، والحرام، والطاعة، والمعصية، والهدى، والضلال»، وقال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} ونحو ذلك من الآيات.
    والابتلاء بالخير أشد من الابتلاء بالشر؛ لأن الشر أمره ظاهر ويتفطن له غالب الناس، أما الابتلاء بالخير فقد يغرق الإنسان في النعم ولا يتنبه إلى أن هذا اختبار من الله تعالى له ليبلوه أيشكر أم يكفر، وتجري عليه النعم سابغة وهو غافل عن المقصود منها، وقد يغتر بها ويسوقه البطر إلى نسيان شكر المنعم، والغفلة عن القيام بحقه، والمسلم الواعي لا ينشغل بالنعم عن المنعم، ولا يغتر بالدنيا، ولا يثق بزينتها وزخرفها، ويأخذ بأوثق الأمور، ويستعد لأسوأ الاحتمالات، ويعمل بأسباب النجاة؛ فالسفر طويل، والعقبة كؤود، والناقد بصير.
    وهذا المثل العربي يصور هذه الحقيقة، ويقرب ذلك المعنى بأوجز عبارة وأقصر لفظ، قال الميداني في مجمع الأمثال: «أصل المثل -فيما يُقَال- أن رجلا أراد أن يُفَوِّزَ -أي يسير في المفازة-بإبله ليلا، واتّكَل على عشب يجده هناك، فقيل له‏:‏ عّشِّ ولا تَغْتَر، إي لا تغتر بما لست منه على يقين.
    ويروى أن رجلاً أتى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم فقال‏:‏ كما لا ينفع مع الشرك عمل، كذلك لا يضر مع الإيمان ذنب، فكلهم قَال‏:‏ «عشِّ ولا تّغْتَر»، يقولون‏:‏ لا تُفَرِّطْ في أعمال الخير وخُذْ في ذلك بأوثقَ الأمور، فإن كان الشأن على ما ترجو من الرُّخصَة والسَّعة هناك، كان ما كسبت زيادةً في الخير، وإن كان على ما تخاف كنت قد احْتَطْتَ لنفسك.
    ويوضح الغزالي أهمية اليقظة وخطورة الغرور فيقول: «إن مفتاح السعادة التيقظ والفطنة، ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة، والمغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهداية نفسه كفيلا، وبقي في العمى، فاتخذ الهوى قائدا والشيطان دليلا».
    ويعرف الغرور بأنه: «هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان، فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه، فأكثر الناس إذاً مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم».
    وزيادة في الإيضاح يبين ابن القيم الفرق بين الثقة والغرور فيقول: «الفرق بينهما: أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به، ووثق بالله في طلوع ثمرته وتنميتها وتزكيتها كغارس الشجرة وباذر الأرض، والمغتر العاجز قد فرط فيما أُمر به، وزعم أنه واثق بالله، والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود».
    وقال رحمه الله: «إن الثقة سكون يستند إلى أدلة وأمارات يسكن القلب إليها، فكلما قويت تلك الأمارات قويت الثقة واستحكمت ولا سيما على كثرة التجارب وصدق الفراسة.
    وأما الغرة فهي حال المغتر الذي غرته نفسه وشيطانه وهواه وأمله الخائب الكاذب بربه حتى أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والغرور ثقتك بمن لا يوثق به، وسكونك إلى من لا يُسكن إليه، ورجاؤك النفع من المحل الذي لا يأتي بخير، كحال المغتر بالسراب».
    وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في ذم الغرور بأنواعه، والتحذير من آثاره الوخيمة، فمن ذلك قوله تعالى:{يأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}، قال سعيد بن جبير: «غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا ليتني قدمت لحياتي».
    وقال عز وجل: {يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}، قال ابن سعدي: «يقول تعالى معاتبا الإنسان المقصر في حقه، المجترئ على معاصيه:{يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟»، قال قتادة: «ما غر ابن آدم غير هذا العدو والشيطان».
    وقال تعالى: {ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون}، قال ابن كثير: «أَيْ إِنَّمَا جَازَيْنَاكُمْ هَذَا الْجَزَاء لِأَنَّكُمْ اِتَّخَذْتُمْ حُجَج اللَّه عَلَيْكُمْ سِخْرِيًّا تَسْخَرُونَ وَتَسْتَهْزِئُو نَ بِهَا، وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاة الدُّنْيَا، أَيْ خَدَعَتْكُمْ فَاطْمَأْنَنْتُ مْ إِلَيْهَا فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ».
    وقال عز وجل:{وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}، قال ابن سعدي: «هذه الآية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها، وعدم بقائها، وأنها متاع الغرور، تفتن بزخرفها، وتخدع بغرورها، وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة، ومنتقل عنها إلى دار القرار التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه الدار من خير وشر».
    وقال تعالى: {ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني}، قال الطبري: «وقوله: {وغرتكم الأماني} يقول: وخدعتكم أماني نفوسكم، فصدتكم عن سبيل الله، وأضلتكم {حتى جاء أمر الله} يقول: حتى جاء قضاء الله بمناياكم فاجتاحتكم، وعن قتادة في قوله تعالى:{ وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله} كانوا على خدعة من الشيطان - والله ما زالوا عليها - حتى قذفهم الله في النار.
    وقوله: {وغركم بالله الغرور} يقول: وخدعكم بالله الشيطان، فأطمعكم بالنجاة من عقوبته، والسلامة من عذابه».
    وقال صلى الله عليه وسلم: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسبابة- في اليم، فلينظر بما يرجع» أخرجه مسلم.
    قال النووي: «ومعنى الحديث: ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها، ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها، إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر».
    والخلاصة أن المطلوب من المسلم أن يكون متنبها إلى ما يطرأ له من ابتلاءات وفتن بالخير قبل الشر، وعليه أن يقوم بواجبه من الشكر والصبر، عدم الاغترار بالدنيا والانغماس فيها إلى درجة الاستغراق والغفلة عن الحقائق الكبرى وهي الموت والبعث والجزاء، قال الزهري: «من استطاع ألا يغتر فلا يغتر»، فليحرص كل مسلم على ما ينفعه، ويستعين بالله على طاعته وحسن عبادته، فذلك أفضل مطلوب وأعظم موهوب، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  17. #77
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (76)


    - إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم



    التغيير سنة ماضية، فطبيعة الزمان والمكان وأحوال الناس تتغير بشكل دائم ومستمر، فالمتأمل لأحوال الناس، والدارس لتاريخ البشرية يجد هذا الأمر واقعا ملموسا، وحقيقة محسوسة.
    والتغيير قد يكون بالأفراد، كما قد يحدث بالمجتمعات، وقد يكون تغييرا نحو الأفضل، وأحيانا قد يصير التغيير للأسوأ.
    فهناك تغيير مذموم، وهو اتباع سبيل الشيطان في تغيير فطرة الإنسان، والانحراف به عن شريعة الرحمن كما قال تعالى: {إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا}.
    ويبين الشيخ ابن سعدي أن من إضلال الشيطان (تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله)، ويلتحق بذلك الاعتقادات الفاسدة، والأحكام الجائرة، وأوضح أن تغيير خلق الله يتناول الخلقة الظاهرة؛ بالوشم، والوشر، والنمص، والتفليج للحسن، ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن، ويتناول تغيير الخلقة الباطنة، وهي الفطرة السليمة التي تقبل الحق وتنقاد له، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل ، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان.
    وقال جماعة من أهل التفسير منهم مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة: المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات، ليعتبر بها وينتفع بها، فغيـّرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، قال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق الله.
    وروي عن ابن عباس في معنى فَلَيُغَيِّرُنَ ّ خَلْقَ اللَّهِ} أي: دين الله، واختاره الطبري فقال: «وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي؛ لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي، أي فليغيرن ما خلق الله في دينه».
    وقال مجاهد أيضا: فَلَيُغَيِّرُنَ ّ خَلْقَ اللَّهِ}: فطرة الله التي فطر الناس عليها، يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره، وهو معنى قوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه». فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الايمان به في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى}.
    ومن التغيير المذموم ما ورد النهي عنه في السنة المطهرة، فعن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله» أخرجه أحمد، وهو صحيح.
    فما يفعله بعض النساء من هذه الأفعال المنكرة بحجة التزين والتجمل داخل تحت هذا الوعيد، ومشمول بهذا الذم.
    وقد يكون التغيير محمودا، وذلك بأن يتبع المكلف سبيل الرحمن في تزكية نفسه بالعقيدة الصحيحة، والأخلاق القويمة، والعبادات المستقيمة، ويترك ما كان عليه من عقائد منحرفة وعبادات مبتدعة وأخلاق رذيلة، وإنما يتحقق ذلك باتباع شرع الله تعالى، والاهتداء بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
    قال ابن كثير: «يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما أولياؤهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك».
    والله سبحانه وتعالى أخبرنا عن سنته الماضية، وقاعدته المطردة وهي أنه تبارك وتعالى يعين من تغير إلى الخير ويوفقه، ويخذل من تغير إلى الشر ويعاقبه، فقال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال}.
    قال الشيخ ابن سعدي: «{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمة والإحسان ورغد العيش {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها؛ فيسلبهم الله عند ذلك إياها.
    وكذلك إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله، غير الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} أي: عذابا وشدة وأمرا يكرهونه، فإن إرادته لا بد أن تنفذ فيهم».
    وقال تعالى: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيـروا ما بأنفسهم}، قال الشيخ ابن سعدي: «{ذَلِكَ} العذاب الذي أوقعه اللّه بالأمم المكذبين، وأزال عنهم ما هم فيه من النعم والنعيم؛ بسبب ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم، {بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم} من نعم الدين والدنيا، بل يبقيها ويزيدهم منها إن ازدادوا له شكرا، {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من الطاعة إلى المعصية، فيكفروا نعمة اللّه ويبدلوها كفرا، فيسلبهم إياها ويغيرها عليهم كما غيروا ما بأنفسهم، وللّه الحكمة في ذلك والعدل والإحسان إلى عباده، حيث لم يعاقبهم إلا بظلمهم، وحيث جذب قلوب أوليائه إليه، بما يذيق العباد من النكال إذا خالفوا أمره».
    قال الشيخ ابن عاشور : «فقوله: {لم يك مغيرا} مؤذن بأنه سنة الله ومقتضى حكمته; لأن نفي الكون بصيغة المضارع يقتضي تجدد النفي ومنفيه .
    والمراد بهذا التغيير (تغيير سببه) وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران؛ ذلك أن الأمم تكون صالحة ثم تتغير أحوالها ببطر النعمة فيعظم فسادها، فذلك تغيير ما كانوا عليه; فإذا أراد الله إصلاحهم أرسل إليهم هداة لهم، فإذا أصلحوا استمرت عليهم النعم، مثل قوم يونس وهم أهل نينوى، وإذا كذبوا وبطروا النعمة، غيـّر الله ما بهم من النعمة إلى عذاب ونقمة».
    والخلاصة أن التغيير سنة ماضية، وهو وسيلة شرعية لتحصيل النعم الدينية والدنيوية والأخروية واستدامتها، إذا أخلص المسلم النية، وأحسن العمل، واستعان بربه في القيام بعبادته، وشكر نعمته، فأفضل مطلوب، وأحسن موهوب هو (الإعانة على العبادة).
    والتغيير يبدأ بنية صادقة، وعزم أكيد، يحدوه علم صحيح، وعمل مستقيم كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}وقال تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} وقال عز وجل: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  18. #78
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (77)


    - نعــم المــال الصــالح للرجــل الصـــالح



    قال أبو حاتم: «وشر المال ما اكتسب من حيث لا يحلّ، وأنفق فيما لا يجمل، ووجوده وعدمه ليسا بتجلد ولا بكثرة حيلة، ولكنه أقسام ومواهب من الخلاّق العليم»
    شاع لدى بعض الناس مقولة غريبة هي: «إن الفلوس وسخ دنيا»، وظنوا أن المال أمر مذموم، وأن جامعه ملوم، وكأن المسلم الصالح لا بد أن يكون فقيرا معدما، ولا يليق به أن يكون غنيا محترما، ولعل ذلك تأثرا بقدامى الصوفية كما قال ابن الجوزي: «كان إبليس يلبس على أوائل الصوفية - لصدقهم في الزهد - فيريهم عيب المال، ويخوفهم من شره، فيتجردون من الأموال، ويجلسون على بساط الفقر، وكانت مقاصدهم صالحة، وأفعالهم في ذلك خطأ لقلة العلم».
    والمتأمل في أدلة الشريعة الإسلامية وأحكامها ومقاصدها يجد أنها قد أولت الأموال اهتماما كبيرا، يقوم على الاعتدال ومراعاة الفطرة وتحقيق مصالح الفرد والمجتمع، مع القيام بحقوق الله تعالى وحقوق العباد.
    فالشريعة الإسلامية تقرر أن المال - وإن كان في يد مالكه - إلا أنه في الحقيقة مال الله تعالى كما قال عز وجل: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، والإنسان مستخلف في هذا المال كما قال تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، ومالك المال الحقيقي سيسأل الإنسان عن تصرفه في هذه الأموال كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيم أنفقَهُ» أخرجه الترمذي.
    والشريعة الإسلامية جعلت المال من مقاصدها الكلية، وعدته من الضروريات الخمس التي جاءت لتحصيلها وحفظها، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وهذا أمر مقرر وثابت باستقراء الشريعة في أدلتها وقواعدها كما هو معلوم من أصول الفقه وقواعده.
    كما أن الشريعة الإسلامية تراعي الفطرة وتهذبها، ولا تصادمها أو تعارضها، فالقرآن يقرر أن حب المال والرغبة في تملكه أمر فطري كما قال عز وجل: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}، وقال تعالى عن الإنسان: {وإنه لحب الخير لشديد} أي: المال، فحب المال غريزة، والدين جاء ليهذبها.
    والشريعة الإسلامية تعد المال عونا على طاعة الله تعالى، فالله تعالى أمر بأداء الزكاة وجعلها من أركان الإسلام، وهل يمكن أداؤها إلا بتحصيل الأموال أولا؟ وشرع الله تعالى الصدقات وعدها من أبواب القربات، وأوجب الكفارات لبعض المخالفات وفيها الإطعام والكسوة وتحرير الرقاب، وألزم الله تعالى المكلف بنفقات واجبة تجاه نفسه ومن يعول كزوجته وأبنائه وأقربائه بشروط وضوابط، حيث مدح المنفقين فقال عن المتقين: {ومما رزقناهم ينفقون}، ويلزم من ذلك تحصيل الأموال ليقدر المكلف على القيام بهذه الطاعات، ولا يفرط في تلك الواجبات.
    وندب الله تعالى إلى نصرة الدين بالنفس والمال فقال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}، وقد ضرب الصحابة الكرام في ذلك أروع الأمثلة، فتبرع أبو بكر بماله كله، ودفع عمر نصف ماله، وجهز عثمان جيش العسرة كاملا، رضي الله عنهم أجمعين، وما ذلك إلا لأنهم كانوا أغنياء سخروا أموالهم في خدمة الدين.
    وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى - وهو أن المال عون المسلم - فعن عَمْرَو بْن الْعَاصِ قال: «بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ عَلَيَّ ثِيَابِي وَسِلاحِي ثُمَّ آتِيَهُ، قَالَ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَمْرُو إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ، فَيُغْنِمَكَ اللَّهُ وَيُسْلِمكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ رَغْبَةً صَالِحَةً مِنَ الْمَالِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الإِسْلامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: «يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ». رواه أحمد وغيره وصححه الألباني.
    قال أبو حاتم البستي: «هذا الخبر يصرح عن النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة جمع المال من حيث يجب، ويحل للقائم فيه بحقوقه؛ لأن في تقرينه الصلاح بالمال والرجل جميعا بيانا واضحا؛ لأنه إنما أباح في جمع المال الذي لا يكون بمحرم على جامعه، ثم يكون الجامع له قائما بحقوق الله فيه».
    والقرآن الكريم يصف المال بأنه خير في مواضع مختلفة كما قال عز وجل: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم}. وجعل وفرة الأموال من البركة والثواب المعجل فقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}.
    وروى البيهقي أنه كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة من الفقر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم»، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر».
    وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسالك الهدى والتقى والعفاف والغنى»، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم الغني الصالح فقال: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي».
    وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص حين أراد أن يوصي بشطر ماله: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». متفق عليه.
    وقال لكعب بن مالك حين أراد أن يتصدق بكل ماله في حديث توبته: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» أخرجه البخاري.
    ولما طلبت أم سليم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لابنها أنس بن مالك قال: «اللهُمّ أكثِرْ مالَهُ ووَلدَهُ وأطِلْ حَياتَهُ» رواه البخاري في الأدب المفرد. قال الكرماني: وقد استجاب الله دعاءه فيه بحيث صار أكثر أصحابه مالاً، فكان له بستان يثمر في كل سنة مرتين، وأكثر ولدًا، فكان يطوف بالبيت، ومعه أكثر من سبعين نفسًا من نسله».
    وفي عهد عثمان رضي الله عنه ذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى أن ما زاد عن حاجة الإنسان فهو كنز يعرض مالكه للوعيد، ذكر البخاري ذلك في كتاب الزكاة باب ما أديّ زكاته فليس بكنز، قال الشيخ الطاهر بن عاشور: «أجمع الصحابة في عهد عثمان على مخالفة أبي ذر في دعوته الناس إلى الانكفاف عن المال، وإنبائه إياهم بأن ما جمعوه يكون وبالا عليهم في الآخرة».
    وفي المقابل فإن الشريعة الإسلامية تحذر من الافتتان بالمال؛ لأنه محبب للنفس وقد يعيق الإنسان عن طاعة الله تعالى كما قال عز وجل: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم}، وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.
    وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن التنافس في الأموال على غير الوجه المشروع سبب للهلاك، فعن عمرو بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين» فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: «فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» متفق عليه.
    وحذرت الشريعة من تقديم المال وكسبه على المقصد الأصلي وهو عبادة الله تعالى وحده، فعند التزاحم تقدم العبادة وحقوقها على الدنيا وزينتها كما قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}، وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» أخرجه البخاري، قال ابن حجر: «قوله: (عبد الدينار) أي: طالبه الحريص على جمعه القائم على حفظه، فكأنه لذلك خادمه وعبده، قال الطيبي: «قيل: خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها، كالأسير الذي لا يجد خلاصا».
    ودعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى فقال: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش» قال ابن حجر: «وسوغ الدعاء عليه كونه قصر عمله على جمع الدنيا واشتغل بها عن الذي أمر به من التشاغل بالواجبات والمندوبات».
    والشريعة الإسلامية تحث المكلفين على اكتساب الأموال دون استشراف ولا إلحاح ولا تعلق القلوب بها، فعن حكيم بن حِزامٍ رضيَ اللّهُ عنه قال: سألتُ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثمّ سألتهُ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثمّ قال: «يا حكيمُ ! إنّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوة، فمن أخذَهُ بَسخاوةِ نفسٍ بوركَ له فيه، ومن أخذَهُ بإشْرافِ نفسٍ لم يُبارَك له فيه، كالذي يأكلُ ولا يشبَعُ، اليدُ العُليا خيرٌ منَ اليدِ السّفلى». قال حكيمٌ: فقلتُ: يا رسولَ اللّهِ، والذي بَعثكَ بالحقّ لا أرزأُ أحداً بعدَكَ شيئاً حتى أُفارِقَ الدنيا. متفق عليه.
    قال أبو حاتم: «وشر المال ما اكتسب من حيث لا يحلّ، وأنفق فيما لا يجمل، ووجوده وعدمه ليسا بتجلد ولا بكثرة حيلة، ولكنه أقسام ومواهب من الخلاّق العليم».
    فالمال رزق من الله تعالى، وكثرته وقلته ليست معيار الكرامة عند الله تعالى كما قال عز وجل: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}، فالكرامة عند الله تعالى بالتقوى، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، ومن التقوى بذل الأموال في طاعة الله ما كان منها واجبا أو مستحبا.
    فبذل الأموال في الطاعات والقربات من سمات المؤمنين، قال تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}، ووعدهم على ذلك بالثواب الجزيل فقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، وحذر من الشح والبخل، فقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.
    وخلاصة القول بعد هذا العرض الموجز أن الشريعة أولت الأموال عناية كبيرة، وحثت على اكتسابها بالوجوه المشروعة، وإنفاقها في مصارفها المقبولة، دون إفراط ولا تفريط كما قال تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملموما محسورا}، فحيازة الأموال على هذا الوجه من الأمور المحمودة، وهي خير للفرد والمجتمع والدولة، حيث تعود على الجميع بالمصالح العديدة وتدرأ عنهم الفقر والمرض والجهل والذل والحاجة للآخرين.
    وأختم بوصية قيس بن عاصم لبنيه عند موته حيث قال: «عليكم بالمال واصطناعه؛ فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس؛ فإنها آخر كسب الرجل».
    ومثله قول أبي قيس بن معديكرب لبنيه: «يا بنيّ اطلبوا هذا المال أجمل طلب، واصرفوه في أحسن مذهب، صلوا به الأرحام، واصطنعوا به الأقوام، واجعلوه جنّـة لأعراضكم تحسن في الناس قالتكم؛ فإنه جمعه كمال الأدب، وبذله كمال المروءة».


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  19. #79
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (78)

    -الرفيق الجيد يقصر الطريق


    المسلم في رحلة طويلة، تكتنفها العقبات والصعاب، ويعترضها قطاع الطريق من شياطين الإنس والجن، وتسلط الأهواء، وفتن الدنيا، وإغواء النفس
    يحتاج الإنسان عادة في أسفاره وتنقلاته إلى من يعينه في سفره، فيحمل عنه أثقاله، ويذهب ضجره، ويؤنس وحدته، ويسانده في محنته؛ لذا كان الرفيق في السفر مطلبا ملحا، وحاجة ضرورية نفسية وشرعية، فعنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بلَيْلٍ وَحْدَهُ» رواه البخاري، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لا يسافرن رجل وحده، ولا ينامن في بيت وحده».
    ونقل ابن حجر عن الطبري قوله: «هذا الزجر زجر أدب وإرشاد؛ لما يخشى على الواحد من الوحشة والوحدة، وليس بحرام، فالسائر وحده في فلاة، وكذا البائت في بيت وحده لا يأمن من الاستيحاش، ولا سيما إذا كان ذا فكرة رديئة وقلب ضعيف».
    والمسلم في رحلة طويلة، تكتنفها العقبات والصعاب، ويعترضها قطاع الطريق من شياطين الإنس والجن، وتسلط الأهواء، وفتن الدنيا، وإغواء النفس، وأمامه مراحل عديدة في الدنيا والبرزخ وأهوال الآخرة، إلى أن يضع عصاه في الجنة بإذن الله ورحمته، وما أحكم الإمام أحمد بن حنبل لما سئل: متى يجد المؤمن طعم الراحة؟ فأجاب: «عند أول قدم يضعها في الجنة»، وقال ابن القيم: «الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو النار».
    ومما يعين المسلم على الصبر في هذه الرحلة، وتحمل مشاق الطريق: حسن اختيار الرفيق، الذي يعينه ولا يعطله، ويرفع همته ولا يخذله، وتأمل قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}، كيف أن ذكر الرفيق في الجنة يسهل على السالك السبيل، ويهون عليه الصعاب؛ شوقا إلى رفقتهم، وخوفا من الحرمان من صحبتهم، قال القرطبي: «والرفق لين الجانب، وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته؛ ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض».
    ولأن الصحبة الصالحة والأخوة الصادقة مفيدة في الدنيا والأخرة أمرنا الله تعالى بملازمتهم وعدم الإعراض عنهم فقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، قال الشيخ ابن سعدي: «فيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على محبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء؛ فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى».
    فمن الفوائد الدنيوية دعاء بعضهم لبعض ولو طال الزمان وتباعد المكان، قال تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}، قال الشيخ ابن سعدي: «وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين من السابقين، من الصحابة ومن قبلهم ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضا».
    وأما في الآخرة، فإن الأخوة الإيمانية تستمر وشائجها، وتدوم فوائدها كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، قال ابن كثير: «أَيْ كُلّ صَدَاقَة وَصحَابَة لِغَيْرِ اللَّه فَإِنَّهَا تَنْقَلِب يَوْم الْقِيَامَة عَدَاوَة إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ دَائِم بِدَوَامِهِ».
    ولأهمية الأخوة في الله والصحبة الصالحة حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على صحبة الأخيار وملازمة الأبرار فقال: «لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي»، ذكر الشيخ ابن باز كلاما نفيسا في شرح هذا الحديث فقال رحمه الله: «الذي نفهمــه من هـــذا الحديث، والله أعلـــم، أن النبــي صلــى الله عليه وسلم يضــع للمسلــم منهـــجاً ينطلـــق عليه في حيـــاته، ألا يصـــاحب إلا مؤمنــــاً ولا يــأكل طعــامه إلا تقــــي، ولا يعنــــي الحديـــث أنه لا يجـــوز للمسلــم أن يُطعــم غــير المــؤمن الصالـــح، وإنـــما يقصــد الحديــث أنه ينبغــي له ألا يخــالط إلا مؤمـــناً، وألا يــأكل طعـــامه إلا تقـــي، فالمخالطـــة والمصـــاحبة والمصـــادقة شـــيء، وأن يُطعــم بمنـــاسبة ما كافراً أو فــاسقاً شـــيء آخر فهـــذا يجـــوز، ولكـــن ينبغـــي ألا يكــون ذلك منهـــج حيـــاته؛ ذلك لأن المصــاحب الصالح كمثــل بائع المســـك، إما أن يحذيـك، أي: يعطيك مجـــاناً، وإما أن تشتري منه، وإما أن تشــم منه رائحــة طيبـــة، ومثل جليـــس الســوء كمثل الحداد، إما أن يحرق ثيــابك، وإما أن تشــم منه رائــحة كريهــة؛ لذلك لا يجـــوز للمسلـــم أن يخــــالط إلا الصــــالحين، هذا هـــو المقصــــود من قولـــه عليـــه الســـلام في الحديـــث الســـابق المسؤول عنه: «لا تصاحب إلا مؤمـناً، ولا يـأكل طعـــامك إلا تقي».
    والنبي صلى الله عليه وسلم يصور اللحمة الإيمانية بقوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه. متفق عليه، قال النووي في فوائد الحديث: «تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم، والملاطفة، والتعاضد في غير إثم ولا مكروه».
    وقد تكاثرت أقوال السلف في الحث على صحبة الإخوة العقلاء الناصحين، فقال عمر: «عليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم؛ فإنهم زين في الرخاء، وعدة في البلاء»، وقال بلال بن سعد بن تميم: «أخ لك كلما لقيك ذكـّرك بحظك من الله، خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا».
    قال الراغب الأصفهاني: «الصديق محتاج إليه في كل حال: أما عند سوء الحال فيعينونه، وأما عند حسن الحال فليؤانسوه وليضع معروفه عندهم، ومن ظن أنه يمكن الاستغناء عن صديق فمغرور، ومن ظن أن وجوده سهل فمعتوه».
    وقال أبو حاتم البستي: «العاقل لا يواخي إلا ذا فضل في الرأي والدين والعلم والأخلاق الحسنة، ذا عقل نشأ مع الصالحين؛ لأن صحبة بليد نشأ مع العقلاء خير من صحبة لبيب نشأ مع الجهال».
    ويبين ابن القيم أنواع اللقاء بالإخوة وآثار كل منها فيقول: «الاجتماع بالإخوان قسمان:
    - أحدهما: اجتماع على مؤانسة طبع وشغل وقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
    - الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة، والتواصي بالحق والصبر، فهذا أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات:
    - إحداها: تزّين بعضهم لبعض، الثانية: الكلام والمخالطة أكثر من الحاجة، الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.
    وبالجملة، فالاجتماع والخلطة لقاح: إما للنفس الإمارة، وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة المستفادة من اللقاح أن من طاب لقاحه طابت ثمرته، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك، والخبيثة لقاحها من الشيطان، وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات، وعكس ذلك».
    فكما يحرص الإنسان على رفقة العقلاء الناصحين في سفر الدنيا، فليحرص على صحبة الإخوة الصالحين الصادقين لسفر الآخرة، وحسن أولئك رفيقا، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  20. #80
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (79)


    -المجـالــس بالأمـانـة



    حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضرها، لما يحصل في المجالس ويقع فيها من الأقوال والأفعال فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه أو يراه قال الشراح: «والمعنى أن نشر الرجل وإفشاءه ما جرى بينه وبين امرأته حال الاستمتاع بها من أعظم خيانة الأمانة».



    الإنسان مدني بطبعه، يحب مخالطة الآخرين والتواصل معهم ، ويحرص على مشاركتهم في أفكارهم ومشاعرهم، ويتبادل معهم الآراء والمفاهيم؛ مما يقتضي الحديث معهم في المجالس العامة والجلسات الخاصة، وقد أرشدنا الإسلام إلى احترام تلك المجالس، والقيام بحقوقها من حفظ الأسرار، ورعاية خصوصية المتحدثين، وعدم إيذائهم بإفشاء أسرارهم ونشر أخبارهم دون إذن منهم.
    ويوضح الراغب معنى السر بأنه: «ما يلقى إلى الإنسان من حديث يستكتم، وذلك إما لفظا كقولك لغيرك: اكتم ما أقول لك، وإما حالا: وهو أن يتحرى القائل حال انفراده فيما يورده أو يخفض صوته أو يخفيه عن مجالسه، ولهذا قيل: إذا حدثك إنسان بحديث فالتفت فهو أمانة».
    ويبين أيضاً أن كتمان الأسرار من الوفاء، وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، وتوصف به ضعفة الرجال والنساء والصبيان، فقد قيل: الصبر على القبض على الجمر أيسر من الصبر على كتمان السر.
    ومن النصوص الشرعية التي أكدت حرمة المجالس ولزوم القيام بحقوقها قوله صلى الله عليه وسلم : «المجالس بالأمانة، إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق» أخرجه أبو داود وحسنه الألباني.
    ويبين العلماء أن معنى الحديث : تحسن المجالس أو حسن المجالس وشرفها بأمانة حاضرها، لما يحصل في المجالس ويقع فيها من الأقوال والأفعال ، فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أمينا لما يسمعه أو يراه.
    وقوله: «إلا ثلاثة مجالس»، هو استثناء، والمعنى ينبغي للمؤمن إذا رأى أهل مجلس على منكر ألا يشيع ما رأى منهم إلا ثلاثة مجالس وهي المذكورة فلا يجوز للمستمع كتمه بل عليه إفشاؤه دفعا للمفسدة.
    وقال صلى الله عليه وسلم : «إذا حدث الرجل بالحديث، ثم التفت، فهو أمانة» أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني.
    قال شراح الحديث: «والمعنى: إذا حدث الرجل شخصا بالحديث الذي يريد إخفاءه ثم التفت يمينا وشمالا احتياطا، فذلك الحديث أمانة عند من حدثه، أي: حكمه حكم الأمانة، فلا يجوز إضاعتها بإشاعتها؛ لأن التفاته إعلام لمن يحدثه أنه يخاف أن يسمع حديثه أحد، وأنه قد خصه بسره، فكان الالتفات قائما مقام: اكتم هذا عني،أي: خذه عني واكتمه، وهو عندك أمانة».
    وقال صلى الله عليه وسلم : «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني، والمقصود بالمستشار: أي الذي طلب منه المشورة والرأي، وقوله: «مؤتمن» اسم مفعول من الأمن أو الأمانة، أي: أمين؛ فلا ينبغي له أن يخون المستشير بكتمان المصلحة والدلالة على المفسدة .
    قال الطيبي: «معناه أنه أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته».
    قال أبو حاتم البستي: «والواجب على العاقل السالك سبيل ذوي الحجى أن يعلم أن المشاورة تفشي الأسرار، فلا يستشير إلا اللبيب الناصح الودود الفاضل في دينه، وإرشاد المشير المستشير قضاء حق النعمة في الرأي، والمشورة لا تخلو من البركة إذا كانت مع مثل من وصفنا نعته».
    وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الهدي بنفسه كما أخرج البخاري في «الأدب المفرد» عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم: «هل لك خادم؟»، قال: لا، قال: «فإذا أتانا سبي فَأْتِنا»، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اختر منهما»، قال: يا رسول الله، اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به خيرا»، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق.
    وتأمل تطبيق الصحابة الكرام لهذا الهدي النبوي الكريم، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ ، وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ، فَأَخَذَتْ أُمِّي بِيَدِي، فَانْطَلَقَتْ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلاَّ قَدْ أَتْحَفَكَ بِتُحْفَةٍ، وَإِنِّي لاَ أَقْدِرُ عَلَى مَا أُتْحِفُكَ بِهِ، إِلاَّ ابْنِي هَذَا، فَخُذهُ فَلْيَخْدُمْكَ مَا بَدَا لَكَ، فَخَدَمْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا ضَرَبَنِي ضَرْبَةً، وَلاَ سَبَّنِي سَبَّةً، وَلاَ انْتَهَرَنِي، وَلاَ عَبَسَ فِي وَجْهِي، وَكَانَ أَوَّلَ مَا أَوْصَانِي بِهِ أَنْ قَالَ: «يَا بُنَيَّ، اكْتُمْ سِرِّي تَكُ مُؤْمِنًا».قال أنس: فَكَانَتْ أُمِّي وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلْنَنِي عَنْ سِرِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلاَ أُخْبِرُهُمْ بِهِ، وَمَا أَنَا بِمُخْبِرٍ سِرَّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَحَدًا أَبَدًا. أخرجه التِّرْمِذِي.
    وعن أنس قال: أَتَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وَنَحْنُ صِبْيَانٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا ، وَأَرْسَلَنِي فِي حَاجَةٍ، وَجَلَسَ فِي الطَّرِيقِ يَنْتَظِرُنِي، حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ فَقُلْتُ: بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ ، قَالَتْ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ : فَاحْفَظْ سِرَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم . أخرجه البُخَارِي في «الأدب المفرد».
    ومن سوء العشرة وخيانة الأمانة إفشاء الأسرار الزوجية، فعن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم يَنْشُر سرها» أخرجه مسلم.
    قال الشراح: «والمعنى أن نشر الرجل وإفشاءه ما جرى بينه وبين امرأته حال الاستمتاع بها من أعظم خيانة الأمانة».
    فخلاصة القول: أن كتم الأسرار من الأمانة، والأمانة من الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم : «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» أخرجه أحمد وصححه الألباني، كما أن كتم السر من الوفاء بالعهد وقد قال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}، ونشر الأسرار خيانة للعهد كما قال الحسن: «إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك»، وخيانة العهد من صفات المنافقين كما قال صلى الله عليه وسلم : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا» وذكر منهن: «إذا اؤتمن خان»، كما أن كتم السر فضيلة تدل على كمال عقل الإنسان ووقاره، وحفظه لحقوق الأخوة، وإفشاء الأسرار قد يسبب أضرارا مادية ومعنوية، دنيوية ودينية.وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •