تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 3 من 5 الأولىالأولى 12345 الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 60 من 93

الموضوع: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

  1. #41
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (43)

    وفوق كل ذي علم عليم



    من الحكم القرآنية البليغة قوله عز وجل: {وفوق كل ذي علم عليم}، وقد اشتملت هذه العبارة الموجزة على فوائد جليلة، نذكر منها على سبيل الاختصار:
    1 - فضل العلم:
    يستفاد من هذه الآية الكريمة فضل العلم وشرفه، فقد بيـّن سبحانه أن رفعة يوسف عليه السلام على إخوته إنما كانت بالعلم كما قال عز وجل: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم}، قال القاسمي: «{نرفع درجات من نشاء} أي بالعلم»اهـ، وقال الشيخ ابن سعدي: «{نرفع درجات من نشاء} بالعلم النافع، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف» اهـ.
    ولا شك أن طلب العلم من أهم الواجبات وأفضل المطلوبات بعد أداء الفرائض والقيام بالشعائر، كما قال الثوري: «ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم»، حيث أمر الله تعالى بالعلم الشرعي ومدح العلماء وطلبة العلم، وذم الجهل وأهله، وذلك في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، ومنها هذه الآية التي جعل فيها سبحانه وتعالى معيار التفاضل بين يوسف وإخوته (العلم) مما يؤكد فضله وشرفه.
    2- تفاوت العلم والعلماء:
    لا يخفى أن العلم يتفاوت في الشرف والفضل، فالعلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته أفضل العلم وأعلاه درجة؛ لأنه يتعلق بأشرف معلوم وهو الله عز وجل، ثم يليه العلم بالطريق الموصل إليه، وهكذا تتفاوت العلوم بحسب موضوعها وأثرها في دين المكلف ودنياه.
    وأيضا فإن العلماء يتفاضلون تبعا لما يحملونه من العلم وما يقومون به من أعمال نافعة لأنفسهم ولأمتهم، قال الطاهر بن عاشور: «وجملة {وفوق كل ذي علم عليم} فيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس».
    3- العلم ينتهي إلى الله عز وجل:
    مما تفيده الآية الكريمة أن العلم من مواهب الله عز وجل للعلماء، وهو سبحانه العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما، قال الطبري: « وَقَوْله: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَفَوْق كُلّ عَالِم مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ يُوسُف أَعْلَم إِخْوَته، وَأَنَّ فَوْق يُوسُف مَنْ هُوَ أَعْلَم مِنْ يُوسُف، حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى.
    وذكر بسنده عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر، قَالَ: حَدَّثَ ابْن عَبَّاس بِحَدِيثٍ، فَقَالَ رَجُل عِنْده: الْحَمْد لِلَّهِ {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} فَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْعَالِم اللَّه، وَهُوَ فَوْق كُلِّ عَالِم.
    وعَنْ عِكْرِمَة عَنِ ابْن عَبَّاس: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: يَكُون هَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا، وَهَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا، وَاَللَّه فَوْقَ كُلّ عَالِم.
    وعَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب، قَالَ: سَأَلَ رَجُل عَلِيًّا عَنْ مَسْأَلَة، فَقَالَ فِيهَا، فَقَالَ الرَّجُل: لَيْسَ هَكَذَا وَلَكِنْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عَلِيّ: أَصَبْتَ وَأَخْطَأْتُ: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم}.
    عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر: {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: اللَّه أَعْلَم مِنْ كُلّ أَحَد.
    وعَنِ الْحَسَن، فِي قَوْله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: لَيْسَ عَالِم إِلَّا فَوْقَهُ عَالِم حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْم إِلَى اللَّه.
    وعَنْ بَشِير الْهُجَيْمِيّ، قَالَ: سَمِعْت الْحَسَن قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة يَوْمًا: {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم}، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّهُ وَاَللَّهِ مَا أَمْسَى عَلَى ظَهْر الْأَرْض عَالِم إِلَّا فَوْقَهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، حَتَّى يَعُود الْعِلْم إِلَى الَّذِي عَلَّمَهُ»اهـ.
    4- تواضع العالم:
    إذا اعتقد المكلف أن العلم ينتهي إلى الله، فمنه المبدأ وإليه المنتهى كما قال قَتَادَة في قَوْله: «{وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْم إِلَى اللَّه، مِنْهُ بُدِئَ، وَتَعَلَّمَتِ الْعُلَمَاء، وَإِلَيْهِ يَعُود»اهـ، فإن ذلك يحمل العالم على التواضع لله عز وجل، فلا يعجب بما عنده من العلم، ولا يتكبر على غيره من الناس، فأجمل ما يتحلى به العالم التواضع، وأقبح ما يتصف به الكبر والعجب، قال عمر رضي الله عنه: « تعلموا العلم وعلموه الناس، وتعلموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه، ولمن علمتموه، ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم جهلكم بعلمكم».
    وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في «حلية طالب العلم»: «فالزم رحمك الله اللصوق إلى الأرض، والإزراء على نفسك وهضمها، ومراغمتها عند الاستشراف لكبرياء أو غطرسة أو حب ظهور أو عجب ونحو ذلك من آفات العلم القاتلة له، المذهبة لهيبته، المطفئة لنوره، وكلما ازددت علما أو رفعة في ولاية فالزم ذلك تحرز سعادة عظمى، ومقاما يغبطك عليه الناس»اهـ.
    وانظر إلى تواضع الأئمة الكبار، فقد سئل أبو حنيفة: بم حصلت العلم العظيم؟ قال: «ما بخلت بالإفادة، ولا استنكفت عن الاستفادة»، وقال الحميدي -وهو تلميذ الشافعي-: «صحبت الشافعي من مكة إلى مصر، فكنت أستفيد منه المسائل، وكان يستفيد مني الحديث»، وعن وكيع وابن عيينة والبخاري قالوا: « لا يكون المحدث كاملا أو الرجل عالما حتى يحدث عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه».
    5- الحرص على زيادة العلم:
    مما يستفاد من هذه الآية الكريمة الحرص على الاستكثار من العلم، والازدياد منه؛ لأن الآية تدل على تفاوت العلم والعلماء، ولاشك أن هذا التفاوت له أثره في الدنيا والآخرة لذا فإن المسلم عموما، وطالب العلم خصوصا يحرص على الاستكثار من العلم الشرعي، ولو لم يكن في شرف العلم إلا ما جاء من أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالزيادة من العلم لكفى به شرفا وفضلا كما قال عز وجل: {وقل رب زدني علما} قال الشيخ ابن سعدي: «أمره تعالى أن يسأله زيادة العلم، فإن العلم خير، وكثرة الخير مطلوبة، وهي من الله، والطريق إليها: الاجتهاد، والشوق للعلم، وسؤال الله، والاستعانة به، والافتقار إليه في كل وقت»اهـ. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والقبول.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  2. #42
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (44)

    لا تــؤذوا المسلمـين



    مفهوم التدين عند بعض الناس غير مكتمل الجوانب، وذلك لقلة علمهم وضعف بصيرتهم، فظنوا أن حقيقة التدين تكمن في كثرة الصلاة والصيام والذكر. وهذا لا شك من المطلوبات الدينية، إلا أنهم غفلوا عن جانب مهم في فقه التدين اعتـنت به النصوص الشرعية التي بينت قواعد الدين وركائزه، ألا وهو رعاية حق المسلم بالبر والإحسان وكف الأذى والإساءة، وهذا مجال رحب للتقرب إلى الله عز وجل لو كانوا يعلمون.
    فمن الآيات الكريمة في هذا الشأن قوله عز وجل: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}.
    قال ابن كثير: «أَيْ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ بُرَآء مِنْهُ لَمْ يَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ، وقوله: {فَقَدْ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وَهَذَا هُوَ الْبَهْت الْكَبِير أَنْ يُحْكَى أَوْ يُنْقَل عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ عَلَى سَبِيل الْعَيْب وَالتَّنَقُّص لَهُمْ، ثم ذكر عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها أنها قَالَتْ: قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصْحَابِهِ أَيّ الرِّبَا أَرْبَى عِنْد اللَّه؟ قَالُوا: اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم، قَالَ: «أَرْبَى الرِّبَا عِنْد اللَّه اِسْتِحْلال عِرْض اِمْرِئٍ مُسْلِم» ثُمَّ قَرَأَ: {وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدْ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
    ويعلل الشيخ ابن سعدي سبب استحقاق من يؤذي المؤمنين للإثم المبين بأنهم: «تعدوا عليهم، وانتهكوا حرمة أمر اللّه باحترامها».
    وأما الشيخ الطاهر بن عاشور فقد بـيّـن مناسبة هذه الآية لما قبلها وهي قوله عز وجل: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة} فقال: «ألحقت حرمة المؤمنين بحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم تنويها بشأنهم، وذكروا على حدة للإشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام. وعطف (المؤمنات) على (المؤمنين) للتصريح بمساواة الحكم وان كان ذلك معلوما من الشريعة، لوزع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم.
    والمراد بالأذى: أذى القول بقرينة قوله {فقد احتملوا بهتانا}؛ لأن البهتان من أنواع الأقوال، وذلك تحقير لأقوالهم، وأتبع ذلك التحقير بأنه إثم مبين، والمراد بالمبين العظيم القوي، أي أنه جرم من أشد الجرم، وهو وعيد بالعقاب عليه».
    ويوضح الشيخ ابن عثيمين حقيقة الأذى ومجالاته فيقول: «والأذية: هي أن تحاول أن تؤذي الشخص بما يتألم منه قلبيا، أو بما يتألم منه بدنيا، سواء كان ذلك بالسب أم بالشتم أم باختلاق الأشياء عليه أم بمحاولة حسده أم غير ذلك من الأشياء التي يتأذى بها المسلم.
    وهذا كله حرام؛ لأن الله تعالى بيـّن أن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا.
    قال أهل العلم: وأنواع الأذى كثيرة، منها أن يؤذي جاره، ومنها أن يؤذي صاحبه، ومنها أن يؤذي من كان في عمل من الأعمال، وإن لم تكن بينهم صداقة، بالمضايقة وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام، والواجب على المسلم الحذر منه».
    وجاء في السنة المطهرة من الأحاديث الكثيرة ما يحذر من إيذاء المسلمين كقوله [: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» أخرجه مسلم.
    قال ابن رجب:» قوله: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» يعني يكفيه من الشر احتقاره أخاه المسلم، فإنه إنما يحقر أخاه المسلم لتكبره عليه، والكبر من أعظم خصال الشر».
    وعن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله»، أخرجه الترمذي في باب ما جاء في تعظيم المؤمن.
    فهذا نهي صريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذاء المسلمين، والفعل في سياق النهي يعم سائر أوجه الإيذاء البدني والمعنوي كما تقدم.
    ومما يؤكد حرمة إيذاء المسلم ما ورد من الأحاديث التي تدل على أن الله تعالى يكره إيذاء المؤمن، فقد أخرج الترمذي والطبراني أن النبي [ قال: «لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يؤذي المؤمن، والله يكره أذى المؤمن».
    فكيف يجرؤ مسلم أن يفعل ما يكره الله عز وجل، ومن ذلك إيذاء المسلم، ولهذا قال الفضيل: «لا يحلّ لك أن تؤذيَ كلباً أو خنزيراً بغير حقّ، فكيف بمن هو أكرم مخلوق»؟ وقال قتادة: «إيّاكم وأذى المؤمن فإنّ الله يحوطه، ويغضب له».
    ومن عجيب ما ورد في النصوص الشرعية النهي عن إيذاء المسلم ولو بسب قريبه الكافر، فلما شكا عكرمة بن أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقال له: ابن عدو الله، قام خطيبا فقال صلى الله عليه وسلم : «لا تؤذوا مسلما بشتم كافر» أخرجه الحاكم والبيهقي.
    وقال صلى الله عليه وسلم : «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» أخرجه الترمذي، قال المناوي: «لا تسبوا أموات المسلمين فتؤذوا الأحياء من أقاربهم».
    والخلاصة كما يقول ابن رجب: «تضمنت النصوص أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجه من الوجوه من قول أو فعل بغير حق».
    وانظر إلى هذا الخلق الرفيع الذي تصوره أقوال السلف، فعن يحيى بن معاذ قال: «ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة، إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه»، وقال الربيع بن خثيم: «الناس رجلان؛ مؤمن فلا تؤذه، وجاهل فلا تجاهله»، وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: أجعل كبير المسلمين عندك أبا، وصغيرهم ابنا، وأوسطهم أخا، فأي أولئك تحب أن تسيء إليه».
    فما أجدر المسلم أن يوسع أفقه ويزيد علمه فيعلم أن التدين ليس عبادة فحسب، وإنما هو قيام بحق الله عز وجل، وهو كذلك قيام بحقوق العباد، فكف الأذى عن الغير صدقة يتصدق بها العبد على نفسه، وهو قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  3. #43
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (46)



    يقوم بعض الناس بالتهاون في أداء الواجبات أو التقصير في الالتزام بالقوانين أو احترام الأعراف العامة، فيكسر القانون، ويتمرد على العرف العام، ويقصر في أداء مسؤولياته الفردية تجاه المجتمع والآخرين، ويجعل لنفسه مسوغاً يتكئ عليه ألا وهو: كل الناس يفعلون ذلك، أو أن الدنيا كلها بهذه الصورة، وإذا أدى غيري واجبه قمت بأداء واجبي، أو يقوم بإلقاء اللوم والعتب على المسؤولين لأنهم مقصرون في أداء أعمالهم، ويتخذ من ذلك مسوّغاً لإهماله وتقصيره ومخالفاته.
    ونصوص الشريعة وقواعدها تؤكد مبدأ المسؤولية الفردية، وهي كون الشخص مكلفاً بأداء ما كلف به تجاه ربه ونفسه والآخرين بحسب وسعه وطاقته، وأن قيامه بتلك التكاليف إنما يكون بالإخلاص لله عز وجل، والإحسان في العمل؛ لأنه سيسأل عن أعماله وسيجازى عليها إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، إلا أن يعفو الله ويتجاوز.
    فقيام الفرد بمسؤولياته الدينية والدنيوية عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى، فهي ليست مصالح متبادلة يقوم بها الشخص رداً على إحسان الدولة إليه أو مقابلة لجميل أسداه غيره إليه، والمسؤولية ليست فضلاً يمتن به المرء على أسرته أو مجتمعه أو دولته، فمسؤولية الفرد تجاه ربه وتجاه الآخرين أساسها إيمان الشخص بالله واليوم الآخر، وأداؤه لتلك المسؤوليات هو أثر لإيمانه، وانعكاس لدينه، وهذا ما يفرق بين المسؤولية في الإسلام والمسؤولية في النظم الغربية؛ حيث يكون أداء الإنسان لواجباته مناطاً برقابة القانون وحضوره، أما عند غيبة الرقيب فإن الشخص يتهرب من مسؤولياته والتزاماته.
    فمن الآيات الكريمة التي تؤكد مبدأ المسؤولية الفردية قوله عز وجل: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} قال الشيخ ابن سعدي: أي: لا أولاد، ولا مال، ولا أنصار، ليس معه إلا عمله، فيجازيه الله ويوفيه حسابه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، قال الشيخ ابن سعدي: وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه، أي: ما عمل من خير وشر يجعله الله ملازماً له لا يتعداه إلى غيره، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله، وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} فيه ما عمله من الخير والشر حاضراً صغيره وكبيره ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}، وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يقال للعبد: حاسب نفسك ليعرف بما عليه من الحق الموجب للعقاب.
    وقال تعالى: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: هداية كل أحد وضلاله لنفسه لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر، والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة، وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه.
    وأما ما جاء في السنة المطهرة مما يؤكد مبدأ المسؤولية الفردية فما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته» متفق عليه.
    قال النووي: «قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه، وما هو تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء، فهو مطالب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته».اهـ
    قال الطيبي: «في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوباً لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي ألا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه».
    قال ابن حجر: وقال غيره:«دخل في هذا العموم المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد، فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه حتى يعمل بالمأمورات ويجتنب المنهيات فعلاً ونطقاً واعتقاداً، فجوارحه وقواه وحواسه رعيته».
    فالأمر خطير؛ إذ إن كل إنسان سيسأل بمفرده عن أعماله ويجازى عليه، ولن ينفعه أو يدفع عنه أفعال الآخرين أو أعذارهم، وعليه أن يعد لكل تصرف جواباً يجيب به ربه، كما جاء في حديث أنس مثل حديث ابن عمر وزاد في آخره: «فأعدوا للمسألة جوابا» قالوا: وما جوابها؟ قال: «أعمال البر» قال ابن حجر: «أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط وسنده حسن».اهـ
    فهذه المقولة: «إذا نظف كل منا أمام بيته صار الشارع نظيفاً» هي مثل بريطاني يصور حقيقة المسؤولية الفردية بصورة تقريبية واضحة وسهلة الفهم؛ حيث إن قيام كل فرد بما كلف به وحده دون انتظار للآخرين سيؤدي في النهاية إلى شيوع النظام واستقامة الأمور، وتقلص الفوضى وانحسار الفساد، أما أن ينتظر كل فرد من غيره أن يقوم بواجباته وواجبات غيره، فهنا تتعطل مصالح المجتمع، ويشيع الفساد، وينمو التواكل والأنانية، وتبرز صفة اللامبالاة وقلة الاهتمام، وهذا يتنافى مع ما قرره الدين من الأخوة الإيمانية في قوله عز وجل: {إنما المؤمنون إخوة}، وما أكده من تلاحم المجتمع وأخذه على أيدي المقصرين والمهملين حتى لا ينهار المجتمع بسبب سوء تصرفهم وقلة فهمهم كما قال صلىالله عليه وسلم :«‏مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» أخرجه البخاري، فالحديث يؤكد أهمية تعاون الجميع لحفظ بقاء المجتمع وسلامته، وأن إهمال البعض أو تقصيره وحتى سلبيته قد يكون سبباً لهلاك المجتمع وفوات مصالحه، فأهم الأمور أن يقوم الفرد بما كلف به تجاه ربه ونفسه والآخرين، إخلاصاً لله تعالى وإحسانا للغير، وإتقاناً للعمل، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  4. #44
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (46)

    إن خير من استأجرت القوي الأمين



    قال عز وجل: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}. ذكر الشيخ ابن سعدي أن الله -عز وجل- يبين في هذه الآية الكريمة عظم شأن الأمانة التي ائتمن عليها المكلفون؛ حيث عرضها- سبحانه- على المخلوقات العظيمة السموات والأرض والجبال، عرض تخيير لا تحتيم، فأبين أن يحملنها خوفاً ألا يقمن بحقها، وعرضها عز وجل على الإنسان بذلك الشرط، وهو إن قام بها أجر وإن لم يؤدها عوقب فقبلها وحملها مع ظلمه وجهله، فانقسم الناس- بحسب قيامهم بها وعدمه - إلى ثلاثة أقسام: منافقون، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا، ومشركون، تركوها ظاهرًا وباطنًا، ومؤمنون، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا، فذكر اللّه تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة، وما لهم من الثواب والعقاب فقال: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَا تِ وَالْمُشْرِكِين َ وَالْمُشْرِكَات ِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
    والأمانة مفهوم واسع يشمل أمورا كثيرة يغفل عنها بعض الناس، فالأمانة تطلق على الوفاء فهي ضد الخيانة، كما تطلق على الوديعة، والمراد بها هنا كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به، فأمر الله عباده بأدائها كاملة موفرة، لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا ممطولاً بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله.
    وفي القرآن الكريم توجيه بديع إلى أمانة اختيار الأكفاء لتولي مصالح المسلمين، وبيان أسس الولاية وقوامها، وذلك فيما قصه الله عز وجل من قصة موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وسقى للمرأتين فقالت إحداهما لأبيها: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}.
    قال الشيخ ابن سعدي في تفسير الآية الكريمة: «أي: اجعله أجيراً عندك، يرعى الغنم ويسقيها، {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} أي: إن موسى أولى من استؤجر، فإنه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استؤجر من جمعهما، أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان، ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملاً، بإجارة أو غيرها، فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما باجتماعهما، فإن العمل يتم ويكمل، وإنما قالت ذلك؛ لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه، ما عرفت به قوته، وشاهدت من أمانته وديانته، وأنه رحمهما في حالة لا يرجى نفعهما، وإنما قصده بذلك وجه اللّه تعالى».
    ويبين الشيخ الطاهر بن عاشور أن هذه الكلمة من تلك المرأة صارت مثلاً سائراً، وقاعدة قرآنية يرجع إليها عند تولي المناصب العامة فيقول: «وجملة {إن خير من استأجرت القوي الأمين} علة للإشارة عليه باستئجاره؛ أي لأن مثله من يستأجر. وجاءت بكلمة جامعة مرسلة مثلاً لما فيها من العموم ومطابقة الحقيقة دون تخلف، فالتعريف باللام في: {القوي الأمين} للجنس مراد به العموم، والخطاب في: {من استأجرت} موجه إلى شعيب، وصالح لأن يعم كل من يصلح للخطاب لتتم صلاحية هذا الكلام لأن يرسل مثلاً».
    ويوضح شيخ الإسلام أن الأمانة والقوة أمران نسبيان يختلفان بحسب موضوع الولاية وخطرها، وأنه لا يلزم من صلاحية شخص لمكان أن يصلح لكل مكان، بل لابد من النظر إلى طبيعة الولاية وقدرة الشخص على تحقيق مقاصدها، فيقول رحمه الله في السياسة الشرعية: والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.
    والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألاّ يشترى بآياته ثمناً قليلاً، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس في قوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، ولهذا قال النبي [: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة» رواه أهل السنن.
    اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:«اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة».
    فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً وإن كان الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها».
    وهنا لابد من الإخلاص لله تعالى في اختيار من يلي أمور المسلمين، والتجرد عن اتباع الهوى على اختلاف صوره، والنظر إلى كفاءة الإنسان وقدرته على تحقيق مقاصد الولاية التي سيتولاها، فليس كل صالح في نفسه يكون صالحاً في ولايته، كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو؛ أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؟ فقال: «أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
    فالاختيار للقرابة أو للصداقة أو للرشوة أو لغيرها من المعايير غير الموضوعية يوقع الإنسان تحت مظلة الخيانة لله تعالى ولرسوله وللمسلمين كما جاء في الأثر: «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله» وفي رواية: «من قلـد رجلاً عملاً على عصابة أي: جماعة من الناس وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين» رواه الحاكم، وقال عمر رضي الله عنه : «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين».



    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  5. #45
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن «47»الدال على الخير كفاعله



    من رحمة الله عز وجل بعباده أن شرع لهم من العبادات ما يناسب قدراتهم، فلم يكلفهم فوق طاقتهم، ولم يحملهم إلا وسعهم كما قال عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، ومن رحمته أيضا أنه فتح لهم أبوابا عديدة لكسب الحسنات وتحصيل الدرجات تتناسب مع عجزهم وضعفهم وقصر أعمارهم واختلاف أحوالهم، فأبواب الخيرات متنوعة، ودرجات القرب متعددة، تناسب كل شخص بحسب عمره وعلمه ونوعه وصحته وفراغه كما قال عز وجل: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً}.
    ومن هذه الأبواب العديدة لكسب الحسنات ورفع الدرجات «باب الأجور المتراكبة، والحسنات المتضاعفة»، فقد دلت النصوص الشرعية على أن المسلم قد يبذل جهداً محدوداً إلا أنه يعود عليه بحسنات مضاعفة، وأجور غير متناهية، وهذا من عظمة الإسلام، ورحمة الله تعالى بعباده.
    فمن هذه الأدلة ما أخرجه مسلم عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جهـّز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا»، قال النووي: «أي حصل له أجر بسبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهاد وسواء قليله وكثيره، ولكل خالف له في أهله بخير من قضاء حاجة لهم وإنفاق عليهم أو مساعدتهم في أمرهم، ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته، وفي هذا الحديث الحث على الإحسان إلى من فعل مصلحة للمسلمين أو قام بأمر من مهماتهم».
    وعنْ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ؛ زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ» رواهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ وأخرجه ابن ماجه بلفظ: «زيادة لكم في أعمالكم». فالوصية بالخيرات من أبواب الخير المستمر الذي يجري ثوابه على المسلم ولو بعد موته وانقطاع عمله، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده وإنعامه عليهم.
    وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «مَن فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء» رواه الترمذي، فالمسلم الذي يتبرع بإطعام الصائم حين فطره يحصل له مثل أجر الصائم الذي أتعب نفسه وأظمأ جوارحه.
    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَكْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» أخرجه ابن ماجه، وهذه الأمور المذكورة في الحديث مما يبقى أثرها بعد موت فاعلها، ولهذا يظل قلم الحسنات جارياً للفاعل ما دام ذلك الأثر باقياً لأنه تسبب في وجودها وبقاء أثرها النافع لمدد طويلة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
    وغيرها من نصوص تؤكد هذا المبدأ الشرعي، وتقرر هذا الباب العظيم من أبواب كسب الثواب وتحصيل الأجور والحسنات.
    ومن هذا الباب ما جاء من أحاديث تدل على أن الدال على الخير له مثل أجر فاعله، فقد أخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يستحمله، فلم يجد عنده ما يتحمله، فدله على آخر فحمله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم : «إن الدال على الخير كفاعله»، ومعنى قوله: «يستحمله» أي: يطلب منه المركب، وقوله «فحمله» أي: أعطاه المركب.
    وأخرج مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله»، ومعنى قوله: «من دل» أي بالقول أو الفعل أو الإشارة أو الكتابة «على خير» أي علم أو عمل مما فيه أجر وثواب «فله» أي فللدال «مثل أجر فاعله» أي من غير أن ينقص من أجره شيء.
    قال الإمام النووي في شرحه على هذا الحديث: «فيه فضيلة الدلالة على الخير، والتنبيه عليه، والمساعدة لفاعله، وفيه فضيلة تعليم العلم، ووظائف العبادات ولاسيما لمن يعمل بها من المتعبدين وغيرهم، والمراد بـ«مثل أجر فاعله» أن له ثواباً بذلك الفعل كما أن لفاعله ثواباً، ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء».
    وأخرج مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ فَعَلَيْهِ مِن الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ اتَّبَعَ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»، رواه مسلم.
    قال الشيخ ابن سعدي: «هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث فيه الحث على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضل الداعي، والتحذير من الدعاء إلى الضلالة والغي، وعظم جرم الداعي وعقوبته، والهدى هو العلم النافع والعمل الصالح، فكل من علم علما أو وجـّه المتعلمين إلى سلوك طريق يحصل لهم فيها علم فهو داع إلى الهدى، كل من دعا إلى عمل صالح يتعلق بحق الله، أو بحقوق الخلق العامة والخاصة فهو داع إلى الهدى.
    وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها على الدين فهو داع إلى الهدى، وكل من اهتدى في علمه أو عمله، فاقتدى به غيره فهو داع إلى الهدى.
    وكل من تقدم غيره بعمل خيري، أو مشروع عام النفع، فهو داخل في هذا النص، وعكس ذلك كله الداعي إلى الضلالة.
    فالداعون إلى الهدى هم أئمة المتقين، وخيار المؤمنين، والداعون إلى الضلالة هم الأئمة الذين يدعون إلى النار.
    وكل من عاون غيره على البر والتقوى، فهو من الداعين إلى الهدى، وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان فهو من الداعين إلى الضلالة».
    ولا يخفى أن الله عز وجل قد أمرنا بالتعاون على البر والتقوى فقال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، فالدلالة على الخير، والإرشاد إلى المعروف، مندرج تحت التعاون على البر، والقائم بذلك مع امتثاله لأمر الله تعالى فهو ساع في باب الأجور المضاعفة والحسنات المركبة، وفقنا الله وإياكم للفقه في الدين، والعمل بما فيه من الهدي القويم.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  6. #46
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (48)

    عند الصباح يحمد القوم السُّرَى




    من الأمثال العربية المشهورة قولهم: «عند الصباح يحمد القوم السُّرَى»، والسُّرَى هو سَيْر الليل خاصة، ومعنى المثل: أن الذي يمشي بالليل يَفرَح بمسِيرِه إذا طَلَع النهار، بِخلاف الذي ينام ليله، فإنه يَندم إذا طَلَع النهار، فهو مثل كما يقول الميداني في (مجمع الأمثال) يضرب للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة.
    والنصوص الشرعية قد دلت على هذا المعنى أكمل دلالة، وأرشدت إليه بأوضح عبارة، تحث المؤمنين على المبادرة إلى الطاعات، والمسارعة في الخيرات، واغتنام الأوقات؛ لتحصل لهم البركات والحسنات، ولينجوا من الندم والحسرات .
    قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}، قال الشيخ ابن سعدي: «أمرهم بالمسارعة إلى مغفرته، وإدراك جنته، التي أعدها للمتقين».
    وقال سبحانه: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض}، قال الشيخ ابن سعدي: «أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته، وذلك بالسعي في أسباب المغفرة، من التوبة النصوح، والاستغفار النافع، والبعد عن الذنوب ومظانها، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح، والحرص على ما يرضي الله على الدوام، من الإحسان في عبادة الخالق، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع؛ ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك فقال: {وجنة عرضها كعرض السماء الأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} والإيمان بالله ورسله يدخل فيه أصول الدين وفروعه».
    ومن النصوص القرآنية في هذا المعنى قوله عز وجل: {فاستبقوا الخيرات} قال الشيخ ابن سعدي: «الأمر بالاستباق إلى الخيرات، قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات؛ فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل».
    ولا تزال الآيات القرآنية تتوالى في الحض على فعل الخيرات والمبادرة إلى الصالحات فقال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: فليتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه، فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال».
    وقال سبحانه: {لمثل هذا فليعمل العاملون}، قال الشيخ ابن سعدي: «فهو أحق ما أنفقت فيه نفائس الأنفاس، وأولى ما شمر إليه العارفون الأكياس، والحسرة كل الحسرة، أن يمضي على الحازم وقت من أوقاته وهو غير مشتغل بالعمل، الذي يقرب لهذه الدار، فكيف إذا كان يسير بخطاياه إلى دار البوار؟!».
    ومدح الله تعالى المؤمنين بأنهم: {يسارعون في الخيرات} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: في ميدان التسارع في أفعال الخير، همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة انتهزوه وبادروه، قد نظروا إلى أولياء الله وأصفيائه أمامهم ويمنة ويسرة، يسارعون في كل خير، وينافسون الزلفى عند ربهم، فنافسوهم، ولما كان المسابق لغيره المسارع قد يسبق لجده وتشميره، وقد لا يسبق لتقصيره، أخبر تعالى أن هؤلاء من القسم السابقين فقال: {وهم لها سابقون}».
    ومن الآيات القرآنية التي تطمئن المؤمن على حسن عاقبته وطيب مآله قوله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا}، قال القاسمي: «ومن أراد الآخرة، ولها طلب، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه، فأولئك كان عملهم مشكورا بحسن الجزاء».
    ويصور النبي صلى الله عليه وسلم حال المسلم في سعيه إلى الله والدار الآخرة كالمسافر الذي يقطع المراحل ويرغب في الوصول سالما، ويخشى من الانقطاع أو التأخر فقال صلى الله عليه وسلم : «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» أخرجه الترمذي، قال الطيبي في شرح الحديث:» هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لسالك الآخرة؛ فإن الشيطان على طريقه، والنفس وأمانيه الكاذبة أعوانه، فإن تيقظ في مسيره، وأخلص النية في عمله أمن من الشيطان وكيده، ومن قطع الطريق بأعوانه، ثم أرشد إلى أن سلوك طريق الآخرة صعب، وتحصيل الآخرة متعسر لا يحصل بأدنى سعي فقال: «ألا» بالتخفيف للتنبيه «إن سلعة الله» أي من متاعه من نعيم الجنة «غالية» أي رفيعة القدر «ألا إن سلعة الله الجنة» يعني ثمنها الأعمال الباقية المشار إليها بقوله سبحانه: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا}.
    وعلى المسلم في سعيه إلى الآخرة ألا يعتمد على نفسه، ولا يركن إلى جهده، بل يتوكل على الله تعالى، ويعلق قلبه ورجاءه به كما قال صلى الله عليه وسلم : «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه: احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز، ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة».
    ويحثنا عمر رضي الله عنه على علو الهمة وصدق العزيمة في السعي للآخرة فقال: «لا تصغرن هممكم؛ فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم».
    وضرب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أروع الأمثلة في الاجتهاد ولاسيما مع التقدم في العمر، فكان يصوم حتى يعود كالخلال (العود الذي يخلل به الأسنان) من النحول فقيل له: «لو أجممت نفسك؟ أي: تركتها تستريح فقال: هيهات! إنما يسبق من الخيل المضمرة»، وقد قيل: من طلب الراحة، ترك الراحة.
    قال ابن القيم: «وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لاشقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده ذلك لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله».
    فلا شك أنه عند الصباح يحمد القوم السُّرَى، فيحمد المسلم ربه على توفيقه حين يرى ما أعده له مما لا يخطر له على بال ولا فكر؛ ولهذا يقول أهل الجنة إذا رأوا ما منّ الله عليهم وأكرمهم به: {وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}، جعلنا الله وإياكم منهم، وبالله التوفيق .


    اعداد: د.وليد خالد الربيع




  7. #47
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (49) هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!



    هذه الآية الكريمة من القواعد القرآنية، ومن الحكم الربانية، التي ترغب المؤمن فيما عند ربه، وتبين جزيل كرم الله تعالى، وواسع رحمته، وتحث العبد على بذل وسعه لنيل فضله، والاستكثار من بره وإحسانه.
    قال الطبري في تفسيرها: «يقول تَعَالَى ذِكرُهُ: هَلْ ثَوَاب خَوْف مَقَام اللَّه تعالى لِمَنْ خَافهُ فَأَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا عَمَلَهُ، وَأَطَاعَ رَبَّهُ، إِلا أَنْ يُحْسِن إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة رَبُّهُ، بِأَنْ يُجَازِيَهُ عَلَى إِحْسَانه ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا».
    ونقل عَنْ قَتَادَة أنه قَال: «عَمِلُوا خَيْرًا فَجُوزُوا خَيْرًا»، وعن مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر أنه قَال في تفسيرها: «هَلْ جَزَاء مَنْ أَنْعَمْت عَلَيْهِ بِالإسْلامِ إِلا الْجَنَّة».
    وقَالَ ابْن زَيْد فِي بيان مناسبة الآية لما قبلها: «أَلا تَرَاهُ ذَكَرَهُمْ وَمَنَازِلَهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ ، وَالْأَنْهَارَ الَّتِي أَعَدَّهَا لَهُمْ، وَقَالَ:{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان} حِين أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَحْسَنَّا إِلَيْهِمْ فأَدْخَلْنَاهُم ُ الْجَنَّةَ».
    قال ابن كثير موضحا هذه القاعدة الربانية: «أَي: لِمَنْ أَحْسَنَ الْعَمَل فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْإِحْسَان إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة}».
    ومن الآيات الدالة على هذا الفضل الكبير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا}، قال ابن كثير: «لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَال الأشْقِيَاء ثنَى بِذِكْرِ السُّعَدَاء الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ فِيمَا جَاؤوا بِهِ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرُوهُمْ بِهِ، مِنْ الْأَعْمَال الصَّالِحَة فَلَهُمْ جَنَّات عَدْن».
    وقال الطبري: «يَقُول تَعَالَى ذِكْره: إِنَّ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّه وَرَسُوله، وَعَمِلُوا بِطَاعَةِ اللَّه، وَانْتَهَوْا إِلَى أَمْره وَنَهْيه، إِنَّا لَا نُضِيع ثَوَاب مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، فَأَطَاعَ اللَّه، وَاتَّبَعَ أَمْره وَنَهْيه، بَلْ نُجَازِيه بِطَاعَتِهِ وَعَمَله الْحَسَن جَنَّات عَدْن تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار».
    وقال سبحانه وتعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}، قال الطبري: «يَعْنِي جَلّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ:{وَأَ حْسِنُوا}أحسنوا أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي أَدَاء مَا أَلْزَمتكم مِنْ فَرَائِضِي، وَتَجَنُّب مَا أَمَرْتكمْ بِتَجَنُّبِهِ مِنْ مَعَاصِيَّ، وَمِنْ الإنْفَاق فِي سَبِيلِي، وَعَوْد الْقَوِيّ مِنْكُمْ عَلَى الضَّعِيف ذِي الْخُلَّة، فَإِنِّي أُحِبّ الْمُحْسِنِينَ فِي ذَلِكَ».
    ولابد من فهم حقيقة الإحسان وأنواعه ليعرف المسلم مجالاته التي يسعى فيها ليكون من المحسنين الذين يحبهم الله تعالى ويثيبهم على إحسانهم.
    وقد وضح الراغب الأصفهاني نوعي الإحسان بقوله: والإحسان يقال على وجهين:
    أحدهما: الإنعام على الآخر، يقال: أحسن إلى فلان.
    والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علم علما حسنا، أو عمل عملا حسنا، ومنه قوله تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه}.
    وقال الشيخ ابن سعدي: «الإحسان نوعان: إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وهو الجد في القيام بحقوق الله على وجه النصح والتكميل لها، وإحسان في حقوق الخلق».
    قال: «واعلم أن الإحسان المأمور به نوعان:أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجه عليك من الحقوق».
    والثاني: إحسان مستحب، وهو ما زاد على ذلك من بذل نفع بدني، أو مالي، أو توجيه لخير ديني، أو مصلحة دنيوية، فكل معروف صدقة، وكل ما أدخل السرور على الخلق صدقة وإحسان، وكل ما أزال عنهم ما يكرهون، ودفع عنهم ما لا يرتضون من قليل أو كثير، فهو صدقة وإحسان.
    فالإحسان: هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسن إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحسن وإخلاصه، والسبب الداعي له إلى ذلك.
    ومن أجلّ أنواع الإحسان: الإحسان إلى من أساء إليك بقول أو فعل، قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}.
    ومن كانت طريقته الإحسان أحسن الله جزاءه {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}.
    وقد وعد الله تعالى عباده المحسنين بالثواب الجزيل فقال سبحانه: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيث كَثِيرَة عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم تبين أن الحسنى في الآية هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى، منها ما أخرجه مسلم عَنْ صُهَيْب أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم تَلا هَذِهِ الْآيَة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة} وَقَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة وَأَهْل النَّار النَّار، نَادَى مُنَادٍ: يَأَهْل الْجَنَّة إِنَّ لَكُمْ عِنْد اللَّه مَوْعِدًا يُرِيد أَنْ يُنْجِزكُمُوهُ، فَيَقُولُونَ: وَمَا هُوَ أَلَمْ يُثْقِّل مَوَازِيننَا؟ أَلَمْ يُبَيِّض وُجُوهنَا وَيُدْخِلنَا الْجَنَّة وَيُجِرْنَا مِنْ النَّار؟ قَالَ: فَيَكْشِف لَهُمْ الْحِجَاب فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاَللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ اللَّه شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَر إِلَيْهِ وَلا أَقَرَّ لأعْيُنِهِمْ».
    وأخبر سبحانه أنه لا يضيع أجر المحسنين فقال تعالى: {إنا لا نضيع أجر المحسنين}، قال الطبري: «يَقُول: إِنَّ اللَّه لا يَدَع مُحْسِنًا مِنْ خَلْقه أَحْسَنَ فِي عَمَله فَأَطَاعَهُ فِيمَا أَمَرَهُ وَانْتَهَى عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ، أَنْ يُجَازِيه عَلَى إِحْسَانه وَيثيبهُ عَلَى صَالِح عَمَله».
    وثواب الإحسان في الآخرة ما يشتهيه المحسنون، قال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} قال الطبري: «يَقُول تَعَالَى ذِكْره: لَهُمْ عِنْد رَبّهمْ يَوْم الْقِيَامَة، مَا تَشْتَهِيه أَنْفُسهمْ، وَتَلَذّهُ أَعْيُنهمْ {ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ} يَقُول تَعَالَى ذِكْره: هَذَا الَّذِي لَهُمْ عِنْد رَبّهمْ، جَزَاء مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا فَأَطَاعَ اللَّه فِيهَا، وَائْتَمَرَ لِأَمْرِهِ، وَانْتَهَى عَمَّا نَهَاهُ فِيهَا عَنْهُ».
    ومن أعظم ثواب الإحسان أن الله تعالى يكون مع المحسنين كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّه مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} قال ابن كثير: «أَي: مَعَهُمْ بِتَأْيِيدِهِ وَنَصْره وَمَعُونَته وَهَدْيه وَسَعْيه، وَهَذِهِ مَعِيَّة خَاصَّة كَقَوْلِهِ: {إِذ يُوحِي رَبّك إِلَى الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وَقَوْله لِمُوسَى وَهَارُون: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَع وَأَرىَ}.
    وختاما، فالمسلم حين يقرأ قوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} لا يزيده ذلك إلا همة وعزيمة على بلوغ تلك الدرجة لينال ذلك الفضل، مستعينا بالله تعالى مخلصا له، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  8. #48
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (50)

    بئس مطية الرجل: زعموا


    فرضت طبيعة العصر المتسارعة، وغلبة التقنيات الحديثة على وسائل الاتصال المتنوعة نمطاً جديداً من الحياة، وصبغت حياة الناس بأساليب جديدة من التفكير والتواصل، فالهواتف الذكية وما فيها من نظم مدهشة ساعدت في سرعة انتشار الأخبار، وسهولة متابعة الأحداث - الشخصية والمحلية والعالمية - وإمكانية التعبير عن الرأي في كل جليل وتافه من الأمور، جعلت كثيرا من مقتنيها أسرى لتلك الأجهزة لا يملكون فكاكاً منها ، ولا خلاصا لعقولهم ولا قلوبهم من سحرها.
    ومن الآفات التي نتجت عن بعض تلك الممارسات، العجلة في نشر الأخبار، والتسرع في التعليق على الأحداث دون تثبت ولا روية، وأحيانا بنشر الشائعات، وتلفيق الوقائع وتزوير الحقائق، ولاسيما بدء الكلام بـ: يقولون، وقالوا، وسمعنا، وغيرها من كلمات تدل على نقل غير موثق ، وخبر غير دقيق.
    والشرع المطهر يذم النقل بلا روية، ونشر الأخبار بغير تثبت ، لما يترتب على ذلك مفاسد وأضرار عاجلة وآجلة، وقد دل على هذا المعنى أدلة كثيرة منها:
    1- قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، قال القرطبي: نادمين على العجلة وترك التأني».
    وقال الشيخ ابن سعدي: «الواجب عند خبر الفاسق التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه».
    2- قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} الآية، أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلومعه غنم فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم، فقاموا فقتلوه، وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
    قال الشيخ ابن سعدي: «يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة، فإن الأمور قسمان: واضحة وغير واضحة. فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل.
    وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين، ليعرف هل يقدم عليها أم لا؟ فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يتبين له حكمها، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمـَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم».
    3- وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلا} .
    قال الشيخ ابن سعدي: «هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي: والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا،فيحجم عنه؟»
    4- وقال صلى الله عليه وسلم : «التأني من الله، والعجلة من الشيطان»، قال ابن القيم: «إنما كانت العجلة من الشيطان لأنها خفة وطيش ، وحدّة العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم وتوجب وضع الشيء في غير محله وتجلب الشرور».
    5- وقال حذيفة لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في «زعموا»؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :» بئس مطية الرجل زعموا»، فالمقصود أن جعل المتحدث كلمة (زعموا) مقدمة لكلامه، ووسيلة لأغراضه أمر مستقبح، لأنه قد يجر إلى الكذب أو الخطأ وكلاهما مذموم.
    قال ابن الأثير في النهاية: «ومعناه:أن الرجل إذا أراد المسير إلى بلد والظعن في حاجة ركب مطيته، وسار حتى يقضي إربه، فشبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه، ويتوصل به إلى غرضه من قوله: زعموا كذا وكذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة، وإنما يقال: زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه، وإنما يحكى على الألسن على سبيل البلاغ، فذم من الحديث ما كان هذا سبيله، والزعم - بالضم والفتح - قريب من الظن».
    وفي الآداب الشرعية لابن مفلح: قال ابن الجوزي في تفسيره: كان ابن عمر يقول: زعموا: كنية الكذب، وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل: زعم فلان.
    وجاء في شرح الأدب المفرد :»فقه الحديث: إن الإخبار بخبر مبناه على الشك والتخمين دون الجزم واليقين قبيح، بل ينبغي أن يكون لخبره سند وثبوت، ويكون القائل على ثقة من ذلك، لا مجرد حكاية على ظن وحسبان، وفي المثل: «زعموا مطية الكذب».
    وقال ابن بدران: «ومعناه: ذم الإنسان الذي يحكي ما لم يعلم صدقه، فيقول: قال فلان كذا ، ولا حجة له على صدقه، والمقصود: الأمر بأن يتثبت الإنسان فيما يحكيه، ويحتاط فيما يرويه، قال ابن بطال: إن من أكثر الحديث لما لم يعلم صدقه، لم يؤمن عليه الوقوع في الكذب، فبئست هذه اللفظة مطية لما لا يعلم، فإنها تؤدي إلى الكذب».
    فواجب المسلم - عموما - ومستعملي الهواتف الذكية على وجه الخصوص التثبت في نقل الأخبار والروية قبل نشر الآراء والأقوال، والله المستعان.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  9. #49
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (51)

    من أضاع ساعة من الزمن أضاع سنة



    يعجب المتأمل من تفنن بعض الناس في هدر الأوقات، وتضييع الساعات في أمور هامشية، لا تعود عليهم بصلاح دينهم ولا دنياهم.
    فتجد كثيرا منهم يجوبون الأسواق بلا حاجة يشترونها ولا مصلحة يقضونها، أو يجلسون ساعات طويلة في المقاهي أو أمام التلفاز أو أجهزة الحاسب الآلي أو أجهزة الاتصال الذكية في غير منفعة دينية ولا دنيوية، إن لم يكن في ذلك تحصيل الآثام أو اكتساب السيئات.
    ولعل من أسباب هذه الظاهرة (الوفرة المادية) -ولله الحمد- التي أنعم الله تعالى بها علينا في مجتمعنا، بحيث أصبح الإنسان مكفيا في رزقه، حتى من لا يعمل كالطلبة أو العجزة ونحوهم قد تكفلت الدولة مشكورة بالإنفاق عليهم؛ ولهذا فإن وقت الفراغ متوافر جدا لدى كثير من الناس، فضلاً عن الأمن والشعور بالحرية مما يجعل بال الإنسان هادئا فارغا من الهموم والشواغل؛ لذا فكثير من الناس لا يعرف ما يفعل بوقته فيبادر إلى قتله بسفاسف الأمور.
    والسنة المطهرة تؤكد أن تضييع الأوقات من الخسارة الفادحة التي سيندم عليه صاحبها، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ» أخرجه البخاري، قال شراح الحديث: أي: الصحة وفراغ الخاطر بحصول الأمن. والمعنى لا يعرف قدر هاتين النعمتين كثير من الناس؛ حيث لا يكسبون فيهما الأعمال الكافية لما يحتاجون إليه في معادهم، فيندمون على تضييع أعمارهم عند زوالها، ولا ينفعهم الندم، قال تعالى: {ذلك يوم التغابن}، وقال صلى الله عليه وسلم : «ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله فيها».
    وقال ابن حجر مبينا معنى النعمة: «هي الحالة الحسنة»، ثم نقل عن ابن بطال أنه قال: «معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغا حتى يكون مكفيا صحيح البدن؛ فمن حصل له ذلك فليحرص على ألا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومن شكره امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فمن فرط في ذلك فهو المغبون، وأشار بقوله: «كثير من الناس» إلى أن الذي يوفق لذلك قليل، وقال ابن الجوزي: «قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم».
    فالأوقات ثمينة، والساعات عزيزة، فواجب المسلم أن يملأ وقته بالخيرات، ويبادر بالطاعات كما قال تعالى: {فاستبقوا الخيرات}، وقال صلى الله عليه وسلم : «اغتنم خمسا قبل خمس؛ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».
    ولا بد من تنظيم الوقت، وترتيب الأولويات، فيعرف المسلم وظيفة كل وقته وحقه، فقد قال أبو بكر رضي الله عنه موصيا عمر رضي الله عنه : «إن لله حقا بالنهار لا يقبله بالليل، وحقا بالليل لا يقبله بالنهار»، وقال بعض الصالحين: «أوقات العبد أربعة لا خامس لها: النعمة والبلية والطاعة والمعصية، ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية، يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية».
    ومن ألزم الأمور الحذر من الغفلة وبلادة الحس بأهمية الوقت والحياة، فالله تعالى يحذرنا من الغفلة وأهلها فقال سبحانه: {ولا تكن من الغافلين}، وقال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}، وكان من دعاء عمر رضي الله عنه : «اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين».
    وكذلك لابد من الحذر من التأجيل والتسويف ولا سيما في أعمال الخير، قال الحسن: «إياك والتسويف؛ فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن لك غد فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن لك غد لم تندم على ما فرطت في اليوم».
    ومن المهم أن يعلم المسلم أنه مسؤول عن وقته وعمره كما أكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه».
    وختاما فلا شك أن للزمن قيمته، وللعمر أهميته، والسعيد من حفظ وقته، واستدرك ما فاته، والمغبون من أضاع عمره فيما لا ينفع، وأهدر ساعاته فيما لا يجدي، وتأمل هذه الوصية الذهبية من الإمام ابن القيم رحمه الله في كيفية حفظ الأوقات واستدراك ما فات حيث قال: «إن في وقت بين الوقتين وهو في الحقيقة عمرك وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاق إنما هو عمل قلب، وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحة ليس هو عملا بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك، فما مضى تصلحه بالتوبة، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح في هذين نصب ولا تعب، ولكن الشأن في عمرك، وهو وقتك الذي بين الوقتين، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن أصلحته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم، وحفظه أشق من إصلاح ما قبله وما بعده، فإن حفظه أن تلزم نفسك ما هو أولى بها وأنفع لها، وفي هذا تفاوت الناس أعظم تفاوت، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك، إما إلى الجنة وإما إلى النار».
    وكل ما سبق يؤكد حقيقة ذلك المثل السويسري الذي يقول: «من أضاع ساعة من الزمن أضاع سنة»، فمن تعود إضاعة اللحظات هان عليه فوات الساعات،ثم يسهل عليها ضياع الأيام والسنوات، ووقته كان رصيدا له صرفه بلا منفعة دنيوية ولا دينية ولا أخروية، فهو حقا مغبون خاسر، نسأل الله تعالى أن يرزقنا عمارة الأوقات بالطاعات.



    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  10. #50
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (52)

    المال والبنون زينة الحياة الدنيا



    من الحكم القرآنية التي جرت على ألسن الناس مجرى الأمثال الحكيمة قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}، فتجد كثيرا ما يردد الناس هذه الآية إما في سياق تذكر نعم الله تعالى عليهم حثا لأنفسهم ولغيرهم على شكرها والقيام بحقها، وإما في سياق التحسر على فواتها وخلو النفس منها ورجاء لله تعالى أن يكرمهم بها .
    وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر المال والبنين في مواضع عديدة، وعند جمع تلك الآيات، والتأمل في تلك المناسبات، مع الرجوع إلى كلام المفسرين المعتبرين يتجلى بعض الفوائد والحكم التي تمس الحاجة إلى معرفتها، ويتأكد العمل بمقتضاها، من تلك الفوائد :
    أولاً: الأموال والأولاد رزق من الله عز وجل:
    فالله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ومالكه ، فهو سبحانه بيده خزائن كل شيء كما قال تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: جميع الأرزاق، وأصناف الأقدار، لا يملكها أحد إلا الله، فخزائنها بيده، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، بحسب حكمته ورحمته الواسعة.
    وقال عز وجل: {لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير}، قال الشيخ ابن سعدي: هذه الآية فيها إخبار عن سعة ملكه تعالى، ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء، والتدبير لجميع الأمور، فالله تعالى هو الذي يعطيهم من الأولاد ما يشاء.
    وقال تعالى وهو يعدد نعمه على عباده: {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات}، قال الشيخ ابن سعدي: يخبر تعالى عن منته العظيمة على عباده، حيث جعل لهم أزواجا، ليسكنوا إليها، وجعل لهم من أزواجهم أولادا تقر بهم أعينهم ويخدمونهم، ويقضون حوائجهم، وينتفعون بهم من وجوه كثيرة، ورزقهم من الطيبات، من المآكل والمشارب والنعم الظاهرةـ التي لا يقدر العباد على أن يحصوها.
    وقال سبحانه مخاطبا بني إسرائيل: {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا}، وقال على لسان نوح عليه السلام: {ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}.
    فعلى المسلم أن يسأل الله تعالى من فضله، ويدعوه أن يهب له ما يريد من الأموال والأولاد؛ لأنه وحده القادر على ذلك، فلا يسأل غير الله، ولا يرجو أحدا سواه كما قال صلى الله عليه وسلم : «إذا سألت فاسأل الله».
    ثانياً: على المسلم حسن توجيه الأموال والأبناء:
    من شكر النعمة العمل بها على ما يرضي المنعم، وعدم صرفها فيما يسخطه، فواجب المسلم أن يحسن تدبير أمواله كسبا وحفظا وصرفا كما قال تعالى:{يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم»، وجاءت نصوص كثيرة في تحريم المكاسب المحرمة ، والتبذير والإسراف في أنفاق الأموال .
    وكذلك من واجب المسلم حسن تربية أولاده وتنشئتهم على القيم الكريمة والأخلاق الحميدة التي جاء بها الدين الحنيف، كما قال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا}، قال الشيخ ابن سعدي: وقاية الأنفس بإلزامها أمر الله امتثالا، ونهيه اجتنابا، والتوبة عما يسخط الله، ويوجب العذاب، ووقاية الأهل والأولاد، بتأديبهم، وتعليمهم، وإجبارهم على أمر الله، فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه، وفيمن تحت ولايته وتصرفه.
    ثالثاً: الحذر من الاغترار بالمال والبنين:
    كثرة الأموال والأنصار - أحيانا - تكون سببا للطغيان وظلم الناس، كما قال عزوجل: {أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: أيظنون أن زيادتنا إياهم بالأموال والأولاد دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة، وأن لهم خير الدنيا والآخرة، وهذا مقدم لهم؟! ليس الأمر كذلك {بل لا يشعرون}، أنما نملي لهم ونمهلهم ونمدهم بالنعم حتى يزدادوا إثما وليتوفر عقابهم في الآخرة.
    ولهذا حذرنا القرآن من ذلك فقال عز وجل: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين}، قال الشيخ ابن سعدي: يخبر تعالى عن حالة الأمم الماضية المكذبة للرسل أنها كحال هؤلاء الحاضرين المكذبين لرسولهم محمد[، كفر به مترفوها، وأبطرتهم نعمتهم وفخروا بها {محتجين} بأنهم ليسوا بمبعوثين، ولو بعثوا فالذي أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا سيعطيهم أكثر من ذلك في الآخرة ولا يعذبهم، فأجابهم الله تعالى بأن بسط الرزق وتضييقه ليس دليلا على ما زعمتم؛ فإن الرزق تحت مشيئة الله فقال: {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} .
    وحقيقة الأمر في هذه المسألة ما قاله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}، فالنجاة عند الله تعالى في امتثال أمره لا بالمفاخرة بنعمه.
    والمال والبنون مما فطر الإنسان على حبه كما قال عز وجل: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة}، إلا أن المسلم يحذر من تفضيل الزينة الفانية على الحقيقة الباقية، قال الشيخ ابن سعدي: أخبر سبحانه عن حالة الناس في إيثار الدنيا على الآخرة، وبين التفاوت العظيم، والفرق الجسيم بين الدارين، فأخبر أن الناس زينت لهم هذه الأمور، فرمقوها بالأبصار، واستحلوها بالقلوب، وعكفت على لذاتها النفوس، كل طائفة من الناس تميل إلى نوع من هذه الأنواع، قد جعلوها هي أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وهي -مع هذا- متاع قليل، منقض في مدة يسيرة فهذا {متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}.
    قال القرطبي: قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}، وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا ، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين; لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم، وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى ، كالهشيم حين ذرته الريح; إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدة الآخرة، وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك، ويكفي في هذا قول الله تعالى:{إنما أموالكم وأولادكم فتنة}، وقال تعالى :{إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}، فواجب المسلم شكر الله تعالى على ما حباه من أموال وبنين، وجعلهما قنطرة إلى الدار الآخرة، {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  11. #51
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (52)

    المال والبنون زينة الحياة الدنيا



    من الحكم القرآنية التي جرت على ألسن الناس مجرى الأمثال الحكيمة قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}، فتجد كثيرا ما يردد الناس هذه الآية إما في سياق تذكر نعم الله تعالى عليهم حثا لأنفسهم ولغيرهم على شكرها والقيام بحقها، وإما في سياق التحسر على فواتها وخلو النفس منها ورجاء لله تعالى أن يكرمهم بها .
    وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر المال والبنين في مواضع عديدة، وعند جمع تلك الآيات، والتأمل في تلك المناسبات، مع الرجوع إلى كلام المفسرين المعتبرين يتجلى بعض الفوائد والحكم التي تمس الحاجة إلى معرفتها، ويتأكد العمل بمقتضاها، من تلك الفوائد :
    أولاً: الأموال والأولاد رزق من الله عز وجل:
    فالله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ومالكه ، فهو سبحانه بيده خزائن كل شيء كما قال تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: جميع الأرزاق، وأصناف الأقدار، لا يملكها أحد إلا الله، فخزائنها بيده، يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، بحسب حكمته ورحمته الواسعة.
    وقال عز وجل: {لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير}، قال الشيخ ابن سعدي: هذه الآية فيها إخبار عن سعة ملكه تعالى، ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء، والتدبير لجميع الأمور، فالله تعالى هو الذي يعطيهم من الأولاد ما يشاء.
    وقال تعالى وهو يعدد نعمه على عباده: {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات}، قال الشيخ ابن سعدي: يخبر تعالى عن منته العظيمة على عباده، حيث جعل لهم أزواجا، ليسكنوا إليها، وجعل لهم من أزواجهم أولادا تقر بهم أعينهم ويخدمونهم، ويقضون حوائجهم، وينتفعون بهم من وجوه كثيرة، ورزقهم من الطيبات، من المآكل والمشارب والنعم الظاهرةـ التي لا يقدر العباد على أن يحصوها.
    وقال سبحانه مخاطبا بني إسرائيل: {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا}، وقال على لسان نوح عليه السلام: {ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا}.
    فعلى المسلم أن يسأل الله تعالى من فضله، ويدعوه أن يهب له ما يريد من الأموال والأولاد؛ لأنه وحده القادر على ذلك، فلا يسأل غير الله، ولا يرجو أحدا سواه كما قال صلى الله عليه وسلم : «إذا سألت فاسأل الله».
    ثانياً: على المسلم حسن توجيه الأموال والأبناء:
    من شكر النعمة العمل بها على ما يرضي المنعم، وعدم صرفها فيما يسخطه، فواجب المسلم أن يحسن تدبير أمواله كسبا وحفظا وصرفا كما قال تعالى:{يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم»، وجاءت نصوص كثيرة في تحريم المكاسب المحرمة ، والتبذير والإسراف في أنفاق الأموال .
    وكذلك من واجب المسلم حسن تربية أولاده وتنشئتهم على القيم الكريمة والأخلاق الحميدة التي جاء بها الدين الحنيف، كما قال عز وجل: {يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا}، قال الشيخ ابن سعدي: وقاية الأنفس بإلزامها أمر الله امتثالا، ونهيه اجتنابا، والتوبة عما يسخط الله، ويوجب العذاب، ووقاية الأهل والأولاد، بتأديبهم، وتعليمهم، وإجبارهم على أمر الله، فلا يسلم العبد إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه، وفيمن تحت ولايته وتصرفه.
    ثالثاً: الحذر من الاغترار بالمال والبنين:
    كثرة الأموال والأنصار - أحيانا - تكون سببا للطغيان وظلم الناس، كما قال عزوجل: {أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: أيظنون أن زيادتنا إياهم بالأموال والأولاد دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة، وأن لهم خير الدنيا والآخرة، وهذا مقدم لهم؟! ليس الأمر كذلك {بل لا يشعرون}، أنما نملي لهم ونمهلهم ونمدهم بالنعم حتى يزدادوا إثما وليتوفر عقابهم في الآخرة.
    ولهذا حذرنا القرآن من ذلك فقال عز وجل: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين}، قال الشيخ ابن سعدي: يخبر تعالى عن حالة الأمم الماضية المكذبة للرسل أنها كحال هؤلاء الحاضرين المكذبين لرسولهم محمد[، كفر به مترفوها، وأبطرتهم نعمتهم وفخروا بها {محتجين} بأنهم ليسوا بمبعوثين، ولو بعثوا فالذي أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا سيعطيهم أكثر من ذلك في الآخرة ولا يعذبهم، فأجابهم الله تعالى بأن بسط الرزق وتضييقه ليس دليلا على ما زعمتم؛ فإن الرزق تحت مشيئة الله فقال: {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} .
    وحقيقة الأمر في هذه المسألة ما قاله تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}، فالنجاة عند الله تعالى في امتثال أمره لا بالمفاخرة بنعمه.
    والمال والبنون مما فطر الإنسان على حبه كما قال عز وجل: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة}، إلا أن المسلم يحذر من تفضيل الزينة الفانية على الحقيقة الباقية، قال الشيخ ابن سعدي: أخبر سبحانه عن حالة الناس في إيثار الدنيا على الآخرة، وبين التفاوت العظيم، والفرق الجسيم بين الدارين، فأخبر أن الناس زينت لهم هذه الأمور، فرمقوها بالأبصار، واستحلوها بالقلوب، وعكفت على لذاتها النفوس، كل طائفة من الناس تميل إلى نوع من هذه الأنواع، قد جعلوها هي أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وهي -مع هذا- متاع قليل، منقض في مدة يسيرة فهذا {متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}.
    قال القرطبي: قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}، وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا ، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين; لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم، وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى ، كالهشيم حين ذرته الريح; إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدة الآخرة، وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك، ويكفي في هذا قول الله تعالى:{إنما أموالكم وأولادكم فتنة}، وقال تعالى :{إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم}، فواجب المسلم شكر الله تعالى على ما حباه من أموال وبنين، وجعلهما قنطرة إلى الدار الآخرة، {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  12. #52
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (53)

    الحلال بيّـن والحرام بيّـن



    من الأحاديث العظيمة، والحكم النبوية النفيسة حديث النعمان بن بشير الذي هو قاعدة من قواعد الدين، وأصل عظيم من أصوله، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بيّـن وإن الحرام بيّـن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (متفق عليه واللفظ لمسلم).
    قال النووي: أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده، وسبب عظم موقعه أنه صلى الله عليه وسلم نبه فيه على إصلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها، وأنه ينبغي ترك المشتبهات فإنه سبب لحماية دينه وعرضه.
    وقال ابن حجر: وقد عظم العلماء أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة أحاديث تدور عليها الأحكام، قال القرطبي: لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه.
    وقد دل الحديث على تميز الحلال البيّـن والحرام البيّـن، فالحلال المحض بيّـن لا اشتباه فيه، مثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام والأشربة الطيبة والألبسة المباحة والأنكحة المشروعة والمكاسب الطيبة، كما قال تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات}، وقال عز وجل: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}.
    والحرام المحض بيّـن لا اشتباه فيه، مثل أكل الميتة والدم والخنزير وشرب الخمر ونكاح المحارم والزنى ولبس الحرير للرجال والمكاسب الخبيثة كالربا والقمار والسرقة والغصب وأكل أموال الناس بالباطل.
    قال ابن رجب: فما ظهر بيانه واشتهر وعلم من الدين بالضرورة لم يبق فيه شك ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام، وما كان بيانه دون ذلك فمنه ما يشتهر بين حملة الشريعة خاصة وقد يخفى على من ليس منهم، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضا فاختلفوا في تحليله وتحريمه.
    وقد أشار الحديث إلى هذا المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم : «وبينهما مشتبهات»، وفي لفظ للبخاري: وبينهما أمور مشتبهة، قال ابن حجر: أي شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين، وقال النووي: المشتبهات معناه أنها ليست بواضحة الحل والحرمة؛ ولهذا لا يعرفها كثير من الناس أما العلماء فيعرفون حكمها، وقال ابن رجب: وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام - يعني الحلال المحض والحرام المحض - وقال : من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام.
    وقد يكون سبب اشتباه بعض الأمور:
    1- تعارض النصوص في ظاهرها بين الإباحة والحظر.
    2- وقد يكون سبب الاشتباه عدم ظهور سبب الحل أو المنع كما قال صلى الله عليه وسلم : «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها» (متفق عليه).
    3- وقد يقع الاشتباه في الحكم لكون الفرع مترددا بين أصول تجتذبه كتحريم الرجل زوجته فإنه متردد بين تحريم الظهار الذي يوجب الكفارة الكبرى، وتحريم الطلقة الواحدة الذي يتحقق بانقضاء العدة، وتحريم الثلاث الذي لا تباح معه حتى تنكح زوجا غيره، وبين تحريم الرجل ما أحل الله له الذي يوجب الكفارة الصغرى.
    وهذه الأمور المشتبهة ليست مشتبهة من كل وجه، بل بيّـن صلى الله عليه وسلم أن أمرها لا يخفى على كل الناس، وإنما يعلم حكمها قلة منهم وهم العلماء الراسخون في العلم، فالشبهات على هذا تكون في حق غيرهم، وقد تقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين، قال ابن رجب: وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها، وكثير منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان: أحدهما: من يتوقف فيها لاشتباهها عليه، والثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه.
    وقد بين الحديث مواقف الناس من المتشابهات:
    فالأول: من كان عالما بها وبحكمها وعمل بما دل عليه علمه من حل أو حرمة فهذا أفضل الأقسام لأنه علم حكم الله وعمل به.
    الثاني: من يتقي الشبهات لاشتباهها عليه ابتغاء مرضات الله وتحرزا من الإثم فقد استبرأ لدينه وعرضه، أي: طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين الذي يحصل لمن لا يجتنبها، كما قيل: من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء الظن به، وقد جاء في رواية البخاري: «فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك».
    الثالث: من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده فقد وقع في الحرام، وقد فسر ذلك ابن رجب بقوله: وهذا يفسر في معنيين: أن يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها (شبهة) ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح، وفي رواية البخاري: «ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، أو أن من أقدم على ما هو ما هو مشتبه عنده لا يدري أهو حلال أم حرام، فإنه لا يأمن أن يكون حراما في نفس الأمر فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام».
    ولهذا جاءت الآثار عن السلف في التحذير والتوقي من المتشابهات، قال ابن عمر: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. وقال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال الذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما حجابا بينه وبين الحرام.
    وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام، وقال الثوري: إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى.
    وقد ختم الحديث بقاعدة عظيمة توضح الأصل الذي ينطلق منه المسلم عند اعتراض المتشابهات لطريقه فقال صلى الله عليه وسلم : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه المحارم واتقاءه الشبهات إنما يكون بحسب صلاح قلبه، والعكس صحيح؛ فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله وفيه خشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات وتوقي الشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع الهوى فسدت حركات الجوارح، وانبعثت إلى المعاصي والشبهات.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  13. #53
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (54)

    إذا نزل بك الشر فاقعد به



    من الأمثال العربية الحكيمة التي تدل على عقل واع، وأدب راق، ونظر ثاقب، وفكر صائب، قولهم: «إذا نزل بك الشر فاقعد به»، ومعناه - كما يقول ابن منظور - يدور حول معنيين: «أحدهما: أن الشر إذا غلبك فذل له ولا تضطرب فيه، والثاني: إذا انتصب لك الشر ولم تجد منه بدا فانتصب له وجاهده. وقولهم: فاقعد به أي: احلم».
    والإنسان في هذه الدنيا لا يخلو من التعرض للفتن والمحن والشرور التي تعترض طريقه، والناس تختلف مواقفها من الشرور والفتن بحسب طبيعة كل منهم، وما يمليه عليه دينه وخلقه وما نشأ عليه من التأني والرفق والحلم، أو الطيش والعجلة والسفه.
    فهذا المثل العربي القديم يضرب لمن يؤمر بالحلم وترك التسرع إلى الشر، ومعناه: إذا رأيت شراً مقبلاً، وفتنة ثائرة، فتأن، واحلم، ولا تسارع في الشر، ولا تستشرف له.
    والسنة المطهرة تقرر مثل هذا المعنى وتؤكده، قال البخاري في أول كتاب الفتن من صحيحه: «باب قول الله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من الفتن»، يشير رحمه الله إلى ما ورد من أحاديث كثيرة يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلمالمسلم بالرفق والتأني عند ظهور الفتن وكثرتها، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج» قالوا: يا رسول الله، أيما هو؟ قال: «القتل القتل» متفق عليه.
    قال ابن حجر: قوله: «وتظهر الفتن» فالمراد: «كثرتها، واشتهارها، وعدم التكاتم بها».
    ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به» متفق عليه، قال ابن حجر: «وفيه التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها».
    وقال أيضا: «والمراد بالأفضلية في هذه الخيرية من يكون أقل شرا ممن فوقه على التفصيل المذكور، وقوله: «من تشرّف لها» أي: تطلع لها؛ بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها، وقوله: «تستشرفه» أي: تهلكه، بأن يشرف منها على الهلاك، يقال: استشرفت الشيء: علوته وأشرفت عليه، يريد من انتصب لها انتصبت له، ومن أعرض عنها أعرضت عنه، وحاصله: أن من طلع فيها بشخصه، قابلته بشرها».
    والنبي صلى الله عليه وسلم يحث على أن يكون المسلم بابا للخير بأنواعه المادية والمعنوية، ولا يكون بابا للشر بأي صورة من صوره، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْر عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ» أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني.
    والشر في اللغة: هو السوء والفساد، قال الراغب: «الشر الذي يرغب عنه الكل، كما أن الخير هو الذي يرغب فيه الكل».
    قال السندي في شرح الحديث: «المفتاح بكسر الميم آلة لفتح الباب ونحوه، والجمع: مفاتيح ومفاتح أيضا، والمغلاق بكسر الميم هو ما يغلق به، ولا يبعد أن يقدر: «ذوي مفاتيح للخير» أي: إن الله تعالى أجرى على أيديهم فتح أبواب الخير كالعلم والصلاح على الناس حتى كأنه ملّـكهم مفاتيح الخير ووضعها في أيديهم؛ ولذلك قال: جعل الله مفاتيح الخير على يديه».
    كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يحث المسلم على الرفق والحلم والأناة، وترك الطيش والعجلة والسفه، فقال صلى الله عليه وسلم : «التأني من الله، والعجلة من الشيطان»، وقال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة» متفق عليه.
    فالتأني: عدم العجلة في طلب شيء من الأشياء، والتمهل في تحصيله والترفق فيه، وقد قال بعضهم: «الأناة حصن السلامة، والعجلة مفتاح الندامة».
    والحلم هو ضبط النفس عند هيجان الغضب، وقيل: تأخير مجازاة الظالم على ظلمه.
    ومن فضل الحلم أنه صفة الأنبياء قال تعالى: {إن إبراهيم لأواه حليم}، وقال قوم شعيب له: {إنك لأنت الحليم الرشيد}، وقال تعالى عن إسماعيل: {وبشرناه بغلام حليم}، والنبي صلى الله عليه وسلم يؤكد هذه الحقيقة بقوله صلى الله عليه وسلم : «السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة» أخرجه الترمذي.
    وقال صلى الله عليه وسلم : «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» متفق عليه.
    قال النووي: «فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قلّ من يقدر على التخلق بخلقه، ومشاركته في فضيلته، بخلاف الأول، وفي الحديث: كظم الغيظ وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار والمخاصمة والمنازعة».
    ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فكم أوذي في الله، فكان يقابل الإساءة بالإحسان، ويصفح عن المسيء، ويرفق بالجاهل، ويصبر على السفيه، فعن أبي هريرة أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه يطلب حقه فأغلظ له، فهمّ به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا» ثم قال: «أعطوه سنا مثل سنه» يعني بعيرا مثل بعيره، فلما لم يجدوا إلا أفضل من بعيره قال صلى الله عليه وسلم : «أعطوه، فإن من خيركم أحسنكم قضاء» متفق عليه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: «يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: «قلت: وعليكم» متفق عليه، وعن أنس قال: «كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء» متفق عليه قال النووي: «فيه احتمال الجاهلين، والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، وفيه كمال خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه وصفحه الجميل».
    فالخلاصة أن على المسلم أن يتحلى بالرفق والحلم، ويترك الطيش وهو سرعة الغضب من يسير الأمور، والمبادرة بالبطش، والسرف في العقوبة، ولاسيما عند اختلاط الأمور، وعدم تميز الحقائق، واشتباه الأشياء، فلابد من التمهل وترك العجلة، ومشاورة أهل العلم كما قال تعالى: {وإِذا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}، قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا، فيحجم عنه؟»، وبالله التوفيق.



    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  14. #54
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (55)

    والصلح خير


    لما كان من طبيعة الإنسان عموما الاختلاف والمغالبة والتعدي، فإن قيام المنازعات والخصومات بين الناس أمر حتمي ولابد، وهذا ما يشهد به الواقع؛ فلا يخلو مجتمع بل ولا أسرة أو علاقة بين اثنين من الناس من الخصومة والتنازع التي قد يرفعها دين الشخص أو عقله أو المصلحون، أو قد تستمر إن استحكم فيها الكبر والهوى والبغي والظلم.
    ولأن النزاع والصراع شر وفساد، وله ما لا يخفى من النتائج الوخيمة والآثار الأليمة، شرع الله تعالى الصلح لدفع هذا الشقاق ورفع آثاره الضارة بالفرد والمجتمع، فجاءت النصوص الشرعية تحث على الألفة والمحبة، وتنهى عن العداوة والبغضاء؛ لما في الاجتماع والائتلاف من الخير والتمكين، ولما في الشقاق والخلاف من الشر والفساد وتسلط الأعداء.
    ولهذا فإن شيخ الإسلام يؤكد أن ائتلاف قلوب المسلمين مقصد من مقاصد الشريعة يقدم على بعض المستحبات، فمصلحة تأليف القلوب أعظم في الدين من بعض المستحبات.
    والصلح والإصلاح والمصالحة هي قطع المنازعة، مأخوذة من صلح الشيء، إذا كمل، وهو خلاف الفساد، قال الراغب: والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس، يقال: اصطلحوا وتصالحوا، وعلى ذلك وقع الصلح بينهم.
    ومجالات الصلح كثيرة ومتعددة تبعا لتعدد مجالات النزاع كما بيّن ذلك ابن حجر بقوله: «الصلح أقسام: صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الزوجين، والصلح بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح بين المتغاضبين كالزوجين، والصلح في الجراح كالعفو على مال، والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة في الأملاك».
    والنصوص الشرعية في فضل الصلح والإصلاح كثيرة منها قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}.
    قال ابن حجر: «وهو ظاهر في فضل الإصلاح»، وقال ابن سعدي: «أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه».
    ثم ذكر أن الله تعالى استثنى أمورا منها: {أَوْ إِصْلَاح بَيْنَ النَّاسِ}، والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره؛ فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.
    وقال الشيخ ابن سعدي أيضا: «الساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله،كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله، ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء.
    ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص؛ ولهذا قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير؛ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أو لا؛ لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل».
    وعن عبد الله بن حبيب قال: كنت جالسا مع محمد بن كعب القرظي، فأتاه رجل فقال له القوم: أين كنت؟ فقال: أصلحت بين قوم، فقال محمد بن كعب:أصبت، لك مثل أجر المجاهدين ثم قرأ: {لا خير في كثير من نجواهم..} الآية.
    ومن النصوص الشرعية قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير}، قال الشيخ ابن سعدي: «ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو منازعة في جميع الأشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه؛ لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح».
    ويشير رحمه الله إلى أمر مهم وهو أن كل حكم من الأحكام لا يتم إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، ومن ذلك (الصلح)، فنبه سبحانه على أن الصلح خير، والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه، فإن كان - مع ذلك - قد أمر الله به وحثّ عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه، وذكر المانع بقوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ} أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا،أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك.
    فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب، بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة؛ لأنه لا يرضيه إلا جميع ما له، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر».
    وقال تعالى: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)}، وقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، وقال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}، وقال سبحانه: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فكل هذه الآيات الكريمة تدل على فضل الصلح وأهميته.
    ومما جاء في فضل الصلح في السنة المطهرة قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى، قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» أخرجه أبو داود
    قال في الشرح: «إصلاح ذات البين: أي: أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال ألفة ومحبة، وقيل: المراد بذات البين المخاصمة والمهاجرة بين اثنين بحيث يحصل بينهما بين، أي فرقة، والبين من الأضداد: الوصل والفرق، وفساد ذات البين الحالقة، أي: هي الخصلة التي من شأنها أن تحلق الدين وتستأصله كما يستأصل الموسى الشعر، وفي الحديث حث وترغيب في إصلاح ذات البين واجتناب الإفساد فيها؛ لأن الإصلاح سبب للاعتصام بحبل الله وعدم التفرق بين المسلمين، وفساد ذات البين ثلمة في الدين، فمن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها نال درجة فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه».
    وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الناس صدقة» متفق عليه، قال النووي: «يعدل بينهما: يصلح بينهما بالعدل».
    وقد باشر النبي صلى الله عليه وسلم الصلح بنفسه، فعن سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم» أخرجه البخاري.
    وعن أم كلثوم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا» متفق عليه، قال النووي: «ومعناه: ليس الكذاب المذموم الذي يصلح بين الناس، بل هذا محسن».
    قال ابن شهاب: «ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها» أخرجه البخاري.
    قال النووي: «قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها، فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه الصور للمصلحة، وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة واحتجوا بقول إبراهيم عليه السلام: {بل فعله كبيرهم} و{إني سقيم} وقول منادي يوسف: {أيتها العير إنكم لسارقون}.
    وقال آخرون منهم الطبري: لا يجوز الكذب في شيء أصلا، قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية واستعمال المعاريض لا صريح الكذب، وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه».
    وقال ابن حجر: «واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها، وكذا في الحرب في غير التأمين، واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده، فله أن ينفي كونه عنده، ويحلف على ذلك ولا يأثم، والله أعلم».


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  15. #55
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (56)

    لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين





    يرشد الإسلام أتباعه إلى استعمال عقولهم الرشيدة، وتوجيه أفهامهم السديدة فيما يعود عليهم بصلاح دنياهم وأخراهم، فالله عز وجل قد أمد الإنسان بوسائل الإدراك المختلفة، وجعل له العقل والقلب اللذين يميز بهما ما يرد عليه من خواطر وعلوم ومشاعر ورغبات، ويتنبه إلى ما يحيط به من أخطار وأضرار ومفاسد، فيسلك طريقه سليما مما يؤذيه في دنياه، أو يضره في دينه وأخراه.


    فالمسلم أريب، لبيب، فطن، عاقل، من ذوي الأفهام النيـّرة، والأذهان الصافية، وليس بطيء الحس، ولا سقيم الفهم، ولا أغلف القلب، أو أعمى البصيرة.
    يدل على هذا المعنى حديث الشيخين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَال: «لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ».
    وهذا الحديث له قصة ذكرها أصحاب الحديث، كما قال النووي وغيره: أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَسَرَ أَبَا عَزَّة الشَّاعِر يَوْم بَدْر، فذكر فقرا وعيالا، فمَـنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ، فعَاهَدَهُ أبو عزة أَلا يُحَرِّض عَلَيْهِ وَلا يَهْجُوهُ، فأطلقَه النبي صلى الله عليه وسلم فَلَحِقَ بقَوْمِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى التَّحْرِيض وَالْهِجَاء، ثُمَّ أَسَرَهُ يَوْم أُحُد،فَسَأَلَه ُ الْمَنّ، فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِن لَا يُلْدَغ مِنْ جُحْر مَرَّتَيْنِ» وأمر به فقتل.
    قال الحافظ ابن حجر: «فيستفاد من هذا أن الحلم ليس محمودا بإطلاق، كما أن الجود ليس محمودا مطلقا، وقد قال تعالى في وصف الصحابة: {أشداء على الكفار رحماء بينهم}».
    فهذا الحديث له أهمية في حياة المسلم، كما قال ابن بطال: «فيه أدب شريف أدّب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، ونبههم كيف يحذرون مما يخافون سوء عاقبته»، والمسلم يخاف سوء العاقبة في الدنيا قبل الآخرة، والحديث قد دل على ذلك من وجهين:
    الوجه الأول: أن على المسلم الحذر مما يضره في دينه وآخرته:
    فذكر النووي أن المؤمن المراد في الحديث هو الفطن الذي لا يخدع في أمور الآخرة دون الدنيا.
    وهو ما ذهب إليه الشيخ ابن سعدي فقال: «هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لبيان كمال احتراز المؤمن ويقظته، وأن المؤمن يمنعه إيمانه من اقتراف السيئات التي تضره مقارفتها، وأنه متى وقع في شيء منها، فإنه في الحال يبادر إلى الندم والتوبة والإنابة.
    ومن تمام توبته: أن يحذر غاية الحذر من ذلك السبب الذي أوقعه في الذنب، كحال من أدخل يده في جحر فلدغته حية، فإنه بعد ذلك لا يكاد يدخل يده في ذلك الجحر؛ لما أصابه فيه أول مرة».
    وقال أيضا: «وقد حذر الله المؤمنين من العود إلى ما زينه الشيطان من الوقوع في العاصي فقال: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين}، ولهذا فإن من ذاق الشر من التائبين تكون كراهته له أعظم، وتحذيره وحذره عنه أبلغ؛ لأنه عرف بالتجربة آثاره القبيحة».
    وقال: «وكما أن الإيمان يحمل صاحبه على فعل الطاعات، ويرغبه فيها، ويحزنه لفواتها، فكذلك يزجره عن مقارفة السيئات، وإن وقعت، بادر إلى النزوع عنها، ولم يعد إلى مثل ما وقع فيه».
    الوجه الثاني: أن على المسلم الحذر مما قد يضره في دنياه:
    ذكر المحدثون أن هذا الحديث يروى على وجهين:
    - أحدهما: بضم الغين على الخبر، ومعناه: المؤمن الممدوح، وهو الكيـّس الحازم الذي لا يستغفل، فيخدع مرة بعد أخرى، ولا يفطن لذلك، قَال النووي: «الرواية المشهورة برفع الغين»، وقال الحافظ ابن حجر: «هو بالرفع على صيغة الخبر، قال الخطابي: قَوله: (لا يُلْدَغ) هَذَا لَفْظه خَبَر وَمَعْنَاهُ أَمْر، أَيْ لِيَكُنْ الْمُؤْمِن حَازِمًا حَذِرًا لَا يُؤْتَى مِنْ نَاحِيَة الْغَفْلَة فَيُخْدَع مَرَّة بَعْد أُخْرَى، وَقَدْ يَكُون ذَلِكَ فِي أَمْر الدِّين كَمَا يَكُون فِي أَمْر الدُّنْيَا، وَهُوَ أَوْلاهُمَا بِالْحَذَر.
    والوجه الأخر: بكسر الغين على النهي أن يؤتى من جهة الغفلة.
    وعلى هذا فيكون المراد بالمؤمن في هذا الحديث (الكامل)، كما قرره الحافظ، الذي أوقفته معرفته على غوامض الأمور حتى صار يحذر مما سيقع، وأما المؤمن المغفل فقد يلدغ مرارا.
    قال الشيخ ابن سعدي: «وفي هذا الحديث: الحث على الحزم والكيس في جميع الأمور، ومن لوازم ذلك: تعرّف الأسباب النافعة ليقوم بها، والأسباب الضارة ليتجنبها، ويدل على الحث على تجنب أسباب الريـّب التي يخشى من مقاربتها الوقوع في الشر».
    وذهب بعض العلماء إلى أن معنى الحديث: من أذنب ذنبا فعوقب به في الدنيا فإنه لا يعاقب به في الآخرة.
    ويعلق ابن حجر قائلا: إن أراد قائل هذا أن عموم الخبر يتناول هذا فيمكن، وإلا فسبب الحديث يأبى ذلك، ويؤيده قول من قال: فيه التحذير من التغفيل، وإشارة إلى استعمال الفطنة.
    وقال أبو عبيد: معناه لا ينبغي للمؤمن إذا نكب من وجه أن يعود إليه. قال ابن حجر: هذا هو الذي فهمه الأكثر ومنهم الزهري راوي الحديث، فأخرج ابن حبان من طريق سعيد بن عبد العزيز قال: وقيل للزهري لما قدم من عند هشام بن عبد الملك: ماذا صنع بك؟ قال: أوفى عني ديني، ثم قال: يا بن شهاب تعود تدّان؟ قلت: لا، وذكر الحديث».
    وقد أخرج البخاري تعليقا عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: «لا حكيم إلا ذو تجربة»، وذكر ابن حجر عنه لفظا آخر: «لا حلم إلا بالتجارب»، وساق حديثا ضعيفا وهو: «لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة»، ونقل عن ابن الأثير أن معناه: لا يحصل الحلم حتى يرتكب الأمور ويعثر فيها فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطأ ويجتنبها، وقال غيره: المعنى: لا يكون حليما كاملا إلا من وقع في زلة، وحصل منه خطأ، فحينئذ يخجل، فينبغي لمن كان كذلك أن يستر من رآه على عيب فيعفو عنه، وكذلك من جرب الأمور علم نفعها وضررها فلا يفعل شيئا إلا عن حكمة.


    والخلاصة أن المسلم ينبغي أن يكون من أكمل الناس عقلا، وأسدهم رأيا، يحسن توجيه نعم ربه إلى ما فيه خيرا الدنيا والآخرة، ويحذر أسباب الشر والفساد وما يضره في دينه ودنياه وآخرته، وبالله التوفيق.



    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  16. #56
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (57)

    أعقل الناس أعذرهم للناس





    هذه كلمة حكيمة، ودرة نفيسة، من درر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تدل على فهم عميق للنفس الإنسانية، ومنهج سديد في التربية العملية، للرقي بالمسلم من حضيض الانتقام والتشفي، إلى سمو الصفح والعفو، ليحيا في سلام مع نفسه والآخرين، فيسلم من آفات الغضب والرغبة في الثأر التي تعود عليه بالضرر في بدنه ودينه ودنياه وربما آخرته.


    فاللوم والنقد والمقارنة هي القتلة الثلاثة - كما سماها د. إبراهيم الفقي رحمه الله - لما فيها من أثر ضار - كسم الثعبان- يسري في داخل الإنسان وينعكس على تصرفاته، وتسلب منه سعادته وراحة باله واتزانه، وبالتالي تبعده عن أهدافه الحقيقية في تحصيل سعادة الدنيا والآخرة بطاعة الله والتزام دينه.
    فبعض الناس يعيش في دائرة اللوم؛ فكثيرا ما يلوم الآخرين على ما يفعلون، ويعذلهم على ما يقولون، ولا ينفك من توجيه توبيخ أو تعنيف أو تقريع ، فالناس منه في شقاء، ونفسه منه في ضيق وكرب.
    فقول عمر رضي الله عنه عين الصواب؛ لأن العاقل حين يعذر الناس يتخلص من اللوم والنقد فيحيا في سلام وهدوء، فهو يضع نفسه مكان الآخرين، فيلتمس لهم الأعذار والتبريرات، ولا يحملهم على الكذب لتبرير أفعالهم وأقوالهم فيسلم من تسلط الشك والريب، ويحيا معافى في بدنه وعقله.
    والشرع المطهر يقرر هذا الخلق، ويؤكد هذا السلوك في النصوص الشرعية، فمن ذلك قوله تعالى: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}، قال ابن كثير: «فَإِنَّ الْجَزَاء مِنْ جنس الْعَمَل فَكَمَا تَغفِر ذنب مَنْ أَذنَبَ إِلَيك يَغفِر اللَّه لَك، وَكَمَا تَصْفَح يُصْفَح عَنْك».
    وقال الشيخ ابن سعدي: «واعف عما صدر منهم لله، فإن من عفا عن عباد الله عفا الله عنه، ومن سامحهم سامحه الله، ومن تفضل عليهم تفضل الله عليه، والجزاء من جنس العمل».
    وقال تعالى: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}، قال الطبري: «يَقُول: إِنْ تَعْفُوا أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ صَدّهمْ إِيَّاكُمْ عَنْ الْإِسْلَام وَالْهِجْرَة وَتَصْفَحُوا لَهُمْ عَنْ عُقُوبَتكُمْ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ, وَتَغْفِرُوا لَهُمْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوب {فَإِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم} لَكُمْ لِمَنْ تَابَ مِنْ عِبَاده, مِنْ ذُنُوبكُمْ {رَحِيم} بِكُمْ أَنْ يُعَاقِبكُمْ عَلَيْهَا مِنْ بَعْد تَوْبَتكُمْ مِنْهَا».
    وقال تعالى: {فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين} قال ابن كثير: «وَهَذَا هُوَ عَيْن النَّصْر وَالظَّفر، كَمَا قَالَ بَعْض السَّلَف: مَا عَامَلت مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيك بمِثْلِ أَنْ تُطِيع اللَّهَ فِيهِ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تَأْلِيفٌ وَجَمْعٌ عَلَى الْحَقِّ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يَهْدِيهِم وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ} يَعنِي بِهِ الصَّفح عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْك».
    وانظر إلى صفح يوسف عليه السلام عن إخوته بعد أن فعلوا به ما ذكره الله تعالى من المعاناة والأذى ثم لما تمكن وقدر قال لهم: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، قال ابن كثير: أَيْ لَا تَأْنِيب عَلَيْكُمْ وَلا عَتْبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْم وَلا أُعِيد عَلَيْكُمْ ذَنبكُمْ فِي حَقِّي بَعْد الْيَوْم، ثُمَّ زَادَهُمْ الدُّعَاء لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ فَقَالَ: {يَغْفِر اللَّه لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَم الرَّاحِمِينَ}.
    وتأمل صفح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة بعد أن تمكن منهم بعد الفتح فقال لهم: «ما تقولون وما تظنون؟» قالوا: نقول: ابن أخ، وابن عم، حليم، رحيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقول كما قال يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}، قال أبو هريرة: فخرجوا كأنما نشروا من القبور، فدخلوا في الإسلام .
    وهذا ليس بمستغرب من خلقه وهديه صلى الله عليه وسلم، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» أخرجه الترمذي وهو صحيح.
    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» أخرجه أبو داود وصححه الألباني، قال شراح الحديث: «المراد بذوي الهيئات: أصحاب المروءات والخصال الحميدة، وقيل: ذوو الوجوه من الناس، ومعنى أقيلوا: أي: اعفوا، والعثرات: الزلات، والحديث يندب إلى التجافي عن الزلات وعدم المؤاخذة بالصغائر وما يندر من الخطايا ممن كان حاله الاستقامة وظاهره الصلاح إلا ما يستوجب العقوبة المقدرة شرعا وهي الحدود فلا تساهل فيها.
    وفي الأثر قال جعفر بن محمد: إذا بلغك عن أخيك الشيء تـنكره ؛ فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً، فإن أصبته وإلا قل: لعل له عذراً لا أعرفه.
    وقال حمدون القصار: إذا زل أخٌ من إخوانكم فاطلبوا له سبعين عذراً ، فإن لم تقبله قلوبكم فاعلموا أن المعيب أنفسكم؛ حيث ظهر لمسلم سبعون عذراً فلم تقبله.
    وقال دِعبل الخُزاعي:


    تأنَّ ولا تعجَل بلَومِكَ صاحِبا



    لعلَّ له عُذراً وأنتَ تلومُ

    والاعتذار كما قال ابن فارس: العذر معروف، وهو طلب الإنسان إصلاح ما أنكر عليه بكلام، وقال الأصفهاني: العذر تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه».
    وهو أمر محمود كما قال أبو حاتم البستي: الاعتذار يذهب الهموم، ويجلي الأحزان، ويدفع الحقد، ويذهب الصد، والإقلال منه تستغرق فيه الجنايات العظيمة، والذنوب الكثيرة، والإكثار منه يؤدي إلى الاتهام وسوء الرأي، فلو لم يكن في اعتذار المرء إلى أخيه خصلة تحمد إلا نفي التعجب عن النفس في الحال لكان الواجب على العاقل ألا يفارقه الاعتذار عند كل زلة.
    ولهذا فإن الواجب على العاقل - كما يقول أبو حاتم البستي - إذا اعتذر أخوه إليه لجرم مضى، أو لتقصير سبق، أن يقبل عذره، ويجعله كمن لم يذنب؛ لأن من تنصل إليه فلم يقبل أخاف ألا يرد الحوض على المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومن فرط منه تقصير في سبب من الأسباب يجب عليه الاعتذار في تقصيره إلى أخيه.
    وقال أيضاً: لا يخلو المعتذر في اعتذاره من أحد رجلين: إما أن يكون صادقا في اعتذاره، أو كاذبا؛ فإن كان صادقا فقد استحق العفو؛ لأن شر الناس من لم يقل العثرات، ولا يستر الزلات، وإن كان كاذبا فالواجب على المرء إذا علم من المعتذر إثم الكذب وريبته وخضوع الاعتذار وذلته ألا يعاقبه على الذنب السالف، بل يشكر له الإحسان المحدث الذي جاء به في اعتذاره.


    فحق المسلم العاقل أن يعيش في سلام مع نفسه ومع الآخرين، فيسامح نفسه ويحيا في صفاء وهدوء، ويعفو عن زلات الناس، ويقبل أعذارهم،ويتغاضى عن عثراتهم، فيكون عفوا، صفوحا، واسع الحلم، رحب الصدر، يحب الناس قربه ، ويأنسون به، ويكون حقا مثالا حيا للمسلم الصالح، وبالله التوفيق.



    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  17. #57
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (58)

    شرف المؤمن صلاته بالليل


    قيام الليل هو قضاء الليل ولو ساعة بالصلاة أو غيرها كما قال تعالى: }يأيها المزمل قم الليل إلا قليلا{، والتهجد: هو صلاة التطوع بالليل بعد النوم كما قال تعالى: }ومن الليل فتهجد به نافلة لك{، وقد جاء في فضل قيام الليل نصوص كثيرة، فمن القرآن الكريم:
    1- قوله عز وجل في صفة المتقين: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون}، قال الشيخ ابن سعدي: «من أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق، صلاة الليل، الدالة على الإخلاص، وتواطؤ القلب واللسان؛ ولهذا قال: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} أي: كان هجوعهم، أي: نومهم بالليل، قليلاً، وأما أكثر الليل، فإنهم قانتون لربهم، ما بين صلاة، وقراءة، وذكر، ودعاء، وتضرع وَبِالْأَسْحَار ِ} التي هي قبيل الفجر {هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الله تعالى، فمدوا صلاتهم إلى السحر، ثم جلسوا في خاتمة قيامهم بالليل، يستغفرون الله تعالى، استغفار المذنب لذنبه، وللاستغفار بالأسحار فضيلة وخصيصة ليست لغيره، كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة:
    وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالْأَسْحَارِ}.

    2- قوله عز وجل في صفة عباد الرحمن: {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: يكثرون من صلاة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين له».
    3- قوله عز وجل: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون} قال الشيخ ابن سعدي: «أي: ترتفع جنوبهم، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم، وهو الصلاة في الليل، ومناجاة اللّه تعالى، ولهذا قال: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي: في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية، ودفع مضارهما، {خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: جامعين بين الوصفين، خوفًا أن ترد أعمالهم، وطمعًا في قبولها، خوفًا من عذاب اللّه، وطمعًا في ثوابه،وأما جزاؤهم، فقال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} من الخير الكثير، والنعيم الغزير، والفرح والسرور، واللذة والحبور، كما قال تعالى على لسان رسوله: «أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، فكما صلوا في الليل، ودعوا، وأخفوا العمل، جازاهم من جنس عملهم، فأخفى أجرهم؛ ولهذا قال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
    4- قوله عز وجل: {أمّن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} قال ابن سعدي: «قانت أي: مطيع للّه بأفضل العبادات وهي الصلاة، وأفضل الأوقات وهو أوقات الليل، فوصفه بكثرة العمل وأفضله، ثم وصفه بالخوف والرجاء، وذكر أن متعلق الخوف عذاب الآخرة، على ما سلف من الذنوب، وأن متعلق الرجاء، رحمة اللّه، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن».
    ومن السنة المطهرة جاءت أحاديث كثيرة تحث على قيام الليل، منها:
    1- قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» أخرجه مسلم.
    2- وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم» أخرجه الترمذي، قال الشراح: «أي التهجد فيه هو دأب الصالحين أي: عادتهم وشأنهم، ومكفرة للذنوب وساتر لها، وناه عن ارتكاب الإثم كما قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}.
    3- قال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» أخرجه الترمذي، قال الشراح: «لأنه وقت الغفلة فلأرباب الحضور مزيد المثوبة، أو لبعده عن الرياء والسمعة».
    4- قال صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» أخرجه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكن» أخرجه الترمذي.
    6- عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها» فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائما والناس نيام» أخرجه الطبراني وقال الألباني: حسن صحيح.
    7- عن سهل بن سعد قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا محمد، عش ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس» أخرجه الطبراني وقال الألباني: حسن لغيره. والشرف يطلق على المكان العالي، ويطلق على العلو والمجد، فرفعة المؤمن ومجده بكمال عبوديته لربه بقيام الليل مخلصا.
    8- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» أخرجه أبو داود وقال الألباني: صحيح.
    ولقيام الليل آداب منها:
    1- على المسلم أن ينوي قيام الليل عند نومه لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح، كتب له ما نوى وكان نومه صدقة عليه من ربه» أخرجه النسائي.
    2- أن يستاك إذا استيقظ من نومه «فعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام للتهجد من الليل يشوص فاه بالسواك» أخرجه البخاري.
    3- يدعو بما ورد، فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد قال: «اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن...» الحديث أخرجه البخاري.
    4- أن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين كما تقدم ولقول عائشة: «كان رسول الله إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين» أخرجه مسلم.
    5- يستحب أن يوقظ أهله لقوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى ثم أيقظ امرأته فصلت فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء» أخرجه النسائي.
    6- أن يرقد إذا غلبه النعاس لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه» أخرجه مسلم.
    7- أن يختم تهجده بالوتر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» أخرجه مسلم.
    8- أن يقضي ورده إذا فاته لمرض أو نوم لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل» أخرجه مسلم، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة، ركعة أخرجه مسلم.
    نسأل الله أن يعيننا على قيام الليل ويتقبله منا.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  18. #58
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (59)

    تاجروا الله بالصدقة تربحوا


    هذه الكلمة الحكيمة قالها أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، يحث المسلمين على الصدقة ؛ لأن الصّدقة شكر للّه تعالى على نعمه ، وهي دليل لصحّة إيمان مؤدّيها وتصديقه ، ولهذا سمّيت صدقةً، كما قال صلى الله عليه وسلم:« والصدقة برهان»أخرجه مسلم؛ ولأن للصدقة فضائل عديدة، وثمرات كثيرة في الدنيا والآخرة، منها :
    1ـ أن صدقة التطوع تكمِّل زكاة الفريضة وتجبر نقصها؛ لقوله عليه السلام: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمَّها كتبت له تامة، وإن لم يكن أتمها قال الله لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوِّعٍ فتكملون بها فريضته، ثم الزكاة كذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك»أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الألباني
    2ـ والصدقة يحصل بها مضاعفة الأجر على حسب الإخلاص لله تعالى؛ لقول الله : {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }؛ ولحديث أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله : «لك بها يوم القيامة سَبْعمائة ناقةٍ كلها مخطومة».
    3ـ والله تعالى يبارك في الصدقة وينميها لقوله صلى الله عليه وسلم:«إن العبد إذا تصدق من طيب تقبلها الله منه وأخذها بيمينه فرباها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال في كف الله حتى تكون مثل الجبل فتصدقوا». أخرجه ابن خزيمة .
    4ـ والصدقة تجلب البركة والزيادة والخلف من الله تعالى، قال الله سبحانه:{ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
    وقال صلى الله عليه وسلم :«ما نقصت صدقة من مال»رواه مسلم

    5ـ وهي الخير الباقي حقيقة لقوله عليه السلام: «يقول العبد مالي مالي وإنما له من ماله ثلاث؛ ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس»رواه مسلم
    6- والصدقة وقاية من النار فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة» وفي رواية :«من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل» رواه البخاري ومسلم.
    7- وعن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لكعب بن عجرة يا كعب بن عجرة الصلاة قربان والصيام جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار يا كعب بن عجرة الناس غاديان فبائع نفسه فموثق رقبته ومبتاع نفسه في عتق رقبته»رواه أبو يعلى بإسناد صحيح
    8- وعن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الصدقة لتطفىء عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته»رواه الطبراني في الكبير والبيهقي وهو حسن.
    9- عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«كل امرىء في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس». قال يزيد فكان أبو الخير مرثد لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو بكعكة أو بصلة رواه أحمد وابن خزيمة
    10- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله [: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا مَلَكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً» . متفق عليه
    قال القرطبي‏: «وهو يعم الواجبات والمندوبات، لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق هذا الدعاء إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه‏».‏
    11- والصدقة سبب لقضاء الحاجات، وتفريج الكربات؛ لأن الجزاء من جنس العمل؛ فعن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من نفَّس عن مؤمن كُربَة من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كُربةً من كُربِ يوم القيامة، ومن يسَّر على معسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
    والصدقة معنى واسع يشمل القربات المالية وغير المالية، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده أن شرع قربات تناسب جميع المسلمين على اختلاف أحوالهم، فالأغنياء والمقتدرون لهم قربات تناسب أحوالهم المالية والبدنية، وكذلك للفقراء والعاجزين قربات تناسب فقرهم وعجزهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة»، فمن أبواب المعروف والصدقة غير المالية:
    1ـ العزم المخلص والنية الصادقة، فعن أبي كبشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الدنيا لأربعة نفر؛ عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه ، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية؛ يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته ، فأجرهما سواء» الحديث أخرجه الترمذي .
    2- والأذكار مما يعود نفعه على المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: «فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة» أخرجه مسلم
    3- والمشي إلى الصلاة لقوله عليه السلام: «وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة» متفق عليه
    4- وصلاة الضحى لقوله صلى الله عليه وسلم: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» متفق عليه
    5- ومن الصدقات التي يتعدى نفعها إلى الأخرين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والكلمة الطيبة، وإعانة المحتاجين، فعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«على كل نفس في كل يوم طلعت عليه الشمس صدقة منه على نفسه، من أبواب الصدقة: التكبير ، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله ، واستغفر الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويعزل الشوك عن طريق الناس والعظم والحجر ، وتهدي الأعمى ، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك،» الحديث أخرجه أحمد والنسائي وصححه الألباني.
    6- ومن الصدقة التسليم على المسلمين فعن أبي ذر مرفوعا:«يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة، تسليمه على من لقيه صدقة» أخرجه أبو داود وصححه الألباني
    7- التبسم في وجه المسلم من الصدقة فعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تبسمك في وجه أخيك لك صدقة» أخرجه الترمذي قال في تحفة الأحوذي:«يعني إظهارك البشاشة والبشر إذا لقيته تؤجر عليه كما تؤجر على الصدقة».
    8- وكذلك مشاركة المنفرد صلاته ليحصل له أجر الجماعة من الصدقة، فعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يصلي وحده فقال:«ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه» أخرجه أبو داود ، قال في عون المعبود:«أي يتفضل عليه ويحسن إليه ليحصل له ثواب الجماعة، فيكون كأنه قد أعطاه صدقة، وسماه صدقة؛ لأنه يتصدق عليه بثواب ست وعشرين درجة».
    9- وإذا عجز المسلم عن بذل المعروف فأقل الصدقة هو الامتناع من الشرور وإيذاء الخلق فعن أبي موسى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ» قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ:» يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ» قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ»أخرجه البخاري
    والخلاصة أن التجارة مع الله تعالى رابحة ولا شك متى ما اتصف العمل بالإخلاص والاتباع، وأبواب المعروف والصدقات كثيرة تناسب كل إنسان ، والسعيد من هداه الله ووفقه وأعانه .


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

  19. #59
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (60)

    {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك}



    أنزل الله تعالى القرآن الكريم ليكون هاديا ومرشدا للبشرية إلى سواء السبيل كما قال تعالى:}إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم{، وقال تعالى: }كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد{.
    ويتعلق بالقرآن الكريم وظائف عديدة وتكاليف كثيرة، من أهمهما وأعلاها تلاوة القرآن وترتيله، فهي عبادة عظيمة أمر الله تعالى بها ورتب عليها الأجر الجزيل، ومدح أهلها في غير موضع، فقال تعالى: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور} قال قتادة: «كان مطرف رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء ».
    وتلاوة القرآن الكريم معنى واسع يشمل القراءة والترتيل، ويشمل العمل به وامتثال أحكامه، فالفعل (تلا) له معان في لغة العرب منها؛ القراءة، يقال: تلا الكتاب تلاوة أي قرأه كقوله تعالى:{قل لو شاء الله ما تلوته عليكم}، ومنها الاتباع، يقال: تلا الرجل إذا تبعه كقوله تعالى:{والقمر إذا تلاها} قال مجاهد: تبعها أي تبع الشمس، فما جاء من الآيات في ذلك من معانيه (القراءة) كما قال تعالى: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك} قال الشوكاني: «أمره الله سبحانه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى به إليه»، وقال تعالى مبينا وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن} قال البغوي: «يعني: وأمرت أن أتلو القرآن».
    وأيضا من تلاوة القرآن الكريم العمل به كما قال الشيخ ابن سعدي في تفسير قوله تعالى: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك} قال: «التلاوة هي الاتباع، أي: اتبع ما أوحى الله إليك بمعرفة معانيه وفهمها، وتصديق أخباره، وامتثال أوامره ونواهيه.
    وقال عند تفسير قوله تعالى:{اتل ما أوحي إليك من الكتاب}: «يأمر تعالى بتلاوة وحيه وتنزيله، وهو هذا الكتاب العظيم، ومعنى تلاوته اتباعه، بامتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه، والاهتداء بهداه، وتصديق أخباره، وتدبر معانيه، وتلاوة ألفاظه، فصار تلاوة لفظه جزءا المعنى وبعضه، وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب، علم أن إقامة الدين كله، داخلة في تلاوة الكتاب».
    فمطلوب من المسلم أن يكثر من قراءة القرآن الكريم، وأن يتدبر معانيه، ويعمل بأحكامه، ويجتنب نواهيه، ويتحلى بأخلاقه بقدر استطاعته كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة كقوله تعالى: {اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك} وقال:{اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة}، وقال: {ورتل القرآن ترتيلا}، وقال صلى الله عليه وسلم : «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» متفق عليه، قال ابن كثير: «ومعناه أن الله تعالى ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها، وذلك أنه اجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم وتمام الخشية وذلك هو الغاية من ذلك».
    وقال صلى الله عليه وسلم : «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» أخرجه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم : «من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» أخرجه الترمذي، وقال [: «يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي.
    وقد جاءت نصوص تبين مضاعفة الأجر بمجرد القراءة كقوله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ {قل هو الله أحد...} حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة» فقال عمر: إذن نستكثر قصورا يا رسول الله ! فقال: «الله أكثر وأطيب» أخرجه أحمد.
    وجاءت نصوص يدل ظاهرها على أن الثواب يحصل بمجرد القراءة والتلاوة ولا يشترط في ذلك الفهم كما أخرج البيهقي عن جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا العجمي والعربي، فقال: «اقرأوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يتعجلونه ولا يتأجلونه» وهو صحيح، ومعلوم أن فهم الأعجمي ليس كفهم العربي.
    فمن قرأ القرآن تقربا إلى الله تعالى مخلصا له فإنه يؤجر بإذن الله تعالى على قراءته لدلالة النصوص المتقدمة، فإن كان مع ذلك مطيعا زاده الله من فضله، وإن كان مقصرا بترك بعض الواجبات أو فعل المحرمات استحق العقاب بما كسبت يداه كما قال تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} قال ابن عباس: «لا يخاف أن يزداد على سيئاته ولا ينقص من حسناته».
    وأيضا فقد أمر الله سبحانه وتعالى بتدبر كتابه الكريم، وتأمل ما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونهى عن هجره والإعراض عنه، وذم المكذبين له والغافلين عما فيه من العلوم والآداب والحكم والأحكام والمواعظ، فقال عز وجل:{أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون كتاب الله، ويتأملونه حق التأمل؛ فإنهم لو تدبروه، لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر، ولعرفهم بربهم وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل».
    وقال عز وجل: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}، قال الشيخ ابن سعدي: «{ يَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود».
    وقال ابن القيم: «فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها».
    فحري بالمسلم أن يشغل وقته بالقرآن الكريم ؛ تلاوة وترتيلا، ودراسة وتدبرا، وعملا وتخلقا، والسعيد من عرف غايته وشمر إليها، ورزقه الله تعالى السداد والتوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


  20. #60
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,902

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمـة ضالـة المؤمن (61)

    دعوهـا فإنهـا منتنـة


    منّ الله تعالى على عباده بأن أخرجهم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، فصاروا بذلك أفضل الأمم وأكرمها على الله تعالى، فقال سبحانه: { كنتم خير أمة أخرجت للناس}، وعن بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ عن أبيه عن جَدِّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «نُكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرُها»، وفي رواية: «إنكم وفيتم سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله» أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني.
    والتأمل في أحوال المجتمع يلحظ بروز موجة غريبة من التعصب المقيت، وظهور التفاخر المذموم لدى بعض الناس، وانعكس كراهية وحقدا، ونخشى أن ينقلب فرقة وفتنة تمزق المجتمع وتفسد الأخوة الإيمانية التي أمر الله بها وحث عليها كما قال تعالى:{إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}، وقال صلى الله عليه وسلم: «وكونوا عباد الله إخوانا»، وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: «كل فكرة تقسم المسلمين وتجعلهم أحزابا، فكرة باطلة، تخالف مقاصد الإسلام وما يرمي إليه، وذلك لأنه يدعو إلى الاجتماع والوئام والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى، كما يدل على ذلك قوله تعالى:{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}».
    وقال شيخ الإسلام: «كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية».
    وقد جاءت نصوص كثيرة تنهى عن التعصب المذموم، وتحذر من سوء عاقبته، وتبين أن الأنساب للتعارف والتواصل، وليست للتنافس والتقاطع، فالنسب الحقيقي ما كان لله وبالله كما قال تعالى:{هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا}، وقال صلى الله عليه وسلم: «فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله»، وهذا النسب هو الباقي النافع بإذن الله، قال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}، وقال سبحانه:{يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه}.
    وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصارياً أي ضربه على دبره، فغضب الأنصاري غضباً شديداً، حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى أهل الجاهلية ؟» ثم قال: «ما شأنهم؟» فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «دعوها فإنها خبيثة» وفي رواية: «دعوها فإنها منتنة». متفق عليه.
    قال ابن حجر: «ودعوى الجاهلية: الاستغاثة عند إرادة الحرب، كانوا يقولون: يا آل فلان، فيجتمعون فينصرون القائل ولو كان ظالما، فجاء الإسلام بالنهي عن ذلك».
    وفرق رحمه الله بين أمرين فقال: «إن الاستغاثة ليست حراما، وإنما الحرام ما يترتب عليها من دعوى الجاهلية».
    وقوله: «دعوها فإنها خبيثة»، أي: دعوى الجاهلية أي: أنها كلمة قبيحة خبيثة، وقوله: «منتنة»، قال النووي: «أي: قبيحة كريهة مؤذية»، وقال أيضاً: «وأما تسميته صلى الله عليه وسلم ذلك دعوى الجاهلية فهي كراهة منه لذلك، فإنه مما كانت عليه الجاهلية من التعاضد بالقبائل في أمور الدنيا ومتعلقاتها، وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات والقبائل، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وفصل القضايا بالأحكام الشرعية، فإذا اعتدى إنسان على آخر حكم القاضي بينهما وألزمه مقتضى عدوانه، كما تقرر من قواعد الإسلام».
    وأخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ليس منا من ضرب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية».
    وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبّـيـّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن»، قال الخطابي: «العبّـيّة: الكبر والنخوة، فعبية الجاهلية فخرها وتكبرها ونخوتها»، وقوله صلى الله عليه وسلم : «مؤمن تقي وفاجر شقي» قال الخطابي: معناه أن الناس رجلان: مؤمن تقي فهو الخير الفاضل وإن لم يكن حسيبا في قومه، وفاجر شقي فهو الدني وإن كان في أهله شريفا رفيعا، وقوله: «أنتم بنو آدم» أي فلا يليق بمن أصله التراب النخوة والكبر».
    وأخرج البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية، ومطّلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه».
    قال شيخ الإسلام: «والسنة الجاهلية كل عادة كانوا عليها، فإن السنة هي العادة، وهي الطريق التي تتكرر لنوع من الناس مما يعدونه عبادة أو لا يعدونه عبادة، فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع سنة جاهلية، وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء من سنن الجاهلية في أعيادهم وغير أعيادهم».
    قال شيخ الإسلام: «فقد دلت هذه الأحاديث على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية تقتضي ذمه والنهي عنه، وذلك يقتضي المنع من أمور الجاهلية مطلقا».
    وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: «إن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذر منها، وأبدى في ذلك وأعاد في نصوص كثيرة، بل قد جاءت النصوص تنهى عن جميع أخلاق الجاهلية وأعمالهم إلا ما أقره الإسلام من ذلك، وكم جرّت دعوى الجاهلية على أهلها من ويلات وحروب طاحنة وقودها النفوس والأموال والأعراض، وعاقبتها تمزيق الشمل، وغرس العداوة والشحناء في القلوب، والتفريق بين القبائل والشعوب».
    ثم ذكر رحمه الله قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم» قيل: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال: «وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله» قال الشيخ ابن باز معلقا: «فيا له من وعيد شديد، وتحذير أكيد ينذر كل مسلم من الدعوات الجاهلية والركون إلى معتنقيها، وإن زخرفوها بالمقالات السحرية، والخطب الرنانة، والخيالات الواسعة التي لا أساس لها من الحقيقة، ولا شاهد لها من الواقع، وإنما هو التلبيس والخداع والتقليد الأعمى الذي ينتهي بأهله إلى أسوأ العواقب».
    فالدين يقرر ويؤكد أصل الخلق في قوله تعالى: {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} فالناس من أصل واحد كلهم يرجعون إلى آدم عليه السلام، ولكن الله تعالى أراد بهم الخير فجعلهم رجالا كثيرا ونساء، وجعلهم شعوبا وقبائل لأجل أن يتعارفوا فيتعاونوا ويتوارثوا، وتحيا بهم الأرض بالتعاون والتعارف، وليس بالتفاخر والاختلاف فقال تعالى: {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} فالأنساب للتواصل والتراحم كما قال النبي عليه السلام: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر» أخرجه أحمد.
    ولم يجعل معيار التفاضل النسب والأسرة والقبيلة، بل التقوى والعمل الصالح هما ميزان الكرامة، ووسيلة الرفعة عند الله تعالى كما قال عز وجل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وعن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط أيام التشريق فقال: «يأيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى». أخرجه الإمام أحمد.
    فما أحوجنا للتمسك بأصول ديننا، والتحلي بأخلاق قرآننا، والتخلق بهدي نبيينا، وهجر ما عداه.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •