تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 25 من 25

الموضوع: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (21) الأرواح جنـــود مجنـــدة


    د.وليد خالد الربيع



    يجد الإنسان نفسه - أحياناً - متوافقا مع بعض الناس، منسجما معهم، مرتاحا لهم، أفكارهم متشابهة، وأسلوبهم متماثل. في حين أنه يجد نفسه مع آخرين منقبضا عنهم ، مجانبا لهم، مبغضا للاجتماع معهم، حتى إنه ليؤثر الانفراد على الاختلاط بهم، ويفضل الوحدة على صحبتهم، من غير سبب يذكر، ولا عيب يظهر، وإذا سئل عن سبب اعتزاله لأولئك الرهط، ومفارقته لذلك المجلس أجاب معللا ذلك بقوله: «الأرواح جنود مجندة؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
    وأصل هذه المقولة حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به عَنْ عَائِشَةَ ر ضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَ[ يَقُولُ: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
    وأخرجه مسلم مسندا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله[ قال: «الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، وفي لفظ آخر: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
    قال ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث: «قال الخطابي: يحتمل أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير والشر والصلاح والفساد, وأن الخيِّر من الناس يحنّ إلى شكله، والشرير نظير ذلك يميل إلى نظيره، فتعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر, فإذا اتفقت تعارفت, وإذا اختلفت تناكرت.
    ويحتمل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجسام, وكانت تلتقي فتتشاءم, فلما حلت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق من العهد المتقدم.
    وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خلقت خلقت على قسمين, ومعنى تقابلها أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت أو اختلفت على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف.
    قلت -القائل ابن حجر-: ولا يعكر عليه أن بعض المتنافرين ربما ائتلفا؛ لأنه محمول على مبدأ التلاقي, فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب، وأما في ثاني الحال فيكون مكتسبا لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النفرة كإيمان الكافر وإحسان المسيء.
    وقوله: «جنود مجندة» أي أجناس مجنسة أو جموع مجمعة, قال ابن الجوزي: «ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم, وكذلك القول في عكسه».

    وقال القرطبي: «الأرواح وإن اتفقت في كونها أرواحا لكنها تتمايز بأمور مختلفة تتنوع بها, فتتشاكل أشخاص النوع الواحد وتتناسب بسبب ما اجتمع فيه من المعنى الخاص لذلك النوع للمناسبة؛ ولذلك نشاهد أشخاص كل نوع تألف نوعها وتنفر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر , وذلك بحسب الأمور التي يحصل الاتفاق والانفراد بسببها .»اهـ كلام ابن حجر .
    وقال النووي في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة»: قال العلماء: معناه جموع مجتمعة، أو أنواع مختلفة، وأما تعارفها فهو لأمر جعلها الله عليه، وقيل: إنها موافقة صفاتها التي جعلها الله عليها، وتناسبها في شيمها، وقيل: لأنها خلقت مجتمعة، ثم فرقت في أجسادها؛ فمن وافق بشيمه ألفه، ومن باعده نافره وخالفه.
    وقال الخطابي وغيره : تآلفها هو ما خلقها الله عليه من السعادة، أو الشقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسمين متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت بحسب ما خلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار، والله أعلم «اهـ.
    ويعلل أبو حاتم البستي في (روضة العقلاء)سبب ائتلاف الناس وافتراقهم بعد القضاء السابق بأنه تعارف الروحين، وتناكر الروحين، فإذا تعارف الروحان وجدت الألفة بين نفسيهما، وإذا تناكر الروحان وجدت الفرقة بين جسميهما.
    ونقل عن مجاهد قال: رأى ابن عباس رضي الله عنها رجلا فقال: «إن هذا ليحبني» قالوا: وما علمك؟ قال: «إني لأحبه، والأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
    وذكر عن قتادة في قوله عز وجل: {إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}، قال: «للرحمة والطاعة، فأما أهل طاعة الله فقلوبهم وأهواؤهم مجتمعة، وإن تفرقت ديارهم، وأهل معصية الله قلوبهم مختلفة ، وإن اجتمعت ديارهم».

    ويبين أبو حاتم خطورة هذا التماثل والتقارب بين المتشابهين من الناس وأثر ذلك على دين الشخص وسلوكه فيقول: «إن من أعظم الدلائل على معرفة ما فيه المرء من تقلبه وسكونه، هو الاعتبار بمن يحادثه ويوده؛ لأن المرء على دين خليله، وطير السماء على أشكالها تقع، وما رأيت شيئا أدل على شيء، ولا الدخان على النار، مثل الصاحب على الصاحب، ونقل عن هبيرة أنه قال: اعتبر الناس بأخدانهم، أي: قس الناس بأصدقائهم، وذكر عن الإمام مالك أنه قال: «الناس أشكال كأجناس الطير؛ الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، وكل إنسان مع شكله».
    قال أبو حاتم: «العاقل يجتنب مماشاة المريب في نفسه، ويفارق صحبة المتهم في دينه؛ لأن من صحب قوما عرف بهم، ومن عاشر امرأ نسب إليه، والرجل لا يصاحب إلا مثله أو شكله، فإذا لم يجد المرء بدا من صحبة الناس تحرّى من زانه إذا صحبه، ولم يشنه إذا عرف به».
    ويقرر أبو حاتم أن ما قد يجده المرء في نفسه من اتفاق أو افتراق قد يؤكده الواقع بعد حينٍ حينَ تنجلي الأمور وتتكشف الحقائق فيقول: «إن من الناس من إذا رآه المرء يعجب به، وإذا ازداد به علما ازداد به عجبا، ومنهم من يبغضه حين يراه، ثم لا يزداد به علما إلا ازداد له مقتا ، فاتفاقهما باتفاق الروحين قديما، وافتراقهما يكون بافتراقهما».

    وأخيرا، مع تسليمنا بدلالة هذا الحديث إلا أن الشرع يؤكد على ضرورة مصاحبة الأخيار، ولزوم اجتناب الفجار، فكون المرء يميل إلى الأشرار ويبغض الأخيار ليس مبررا لما يتبع ذلك من مخالفات شرعية؛ لأنه مأمور بالصبر على صحبة الأخيار كما قال عز وجل: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (22)العطاء شرف والأخذ ألم

    د.وليد خالد الربيع




    هذه المقولة الموجزة تقرر واقعا ثابتا، وتوضح جانبا اجتماعيا يلاحظه المتأمل في أحوال الناس، فبعض الناس جبل على العطاء، وحبب إليه البذل، فهو كثير الأيادي، جمّ الإفضال؛ لذا فهو محبوب عند الناس، ذو شرف ومنزلة عندهم، كما قال علي ]: «من آتاه الله منكم مالا فليصل به القرابة، وليحسن فيه الضيافة، وليفك فيه العاني والأسير وابن السبيل والمساكين والفقراء وليصبر فيه على النائبة؛ فإنه بهذه الخصال ينال كرم الدنيا وشرف الآخرة»، وقال أبو حاتم البستي: «أجود الجود من جاد بماله، وصان نفسه عن مال غيره، ومن جاد ساد، كما أن من بخل رذل».

    ومصداق هذا قوله [: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، قال المناوي: «يعني المنفقة أفضل من الآخذة، أي ما لم تشتد حاجته»، وسئل الحسن عن معنى الحديث فقال: «يد المعطي خير من يد المانع».

    وفي المقابل يوجد في بعض الناس شره إلى المكاسب، وتشوف إلى ما في أيدي الناس، فتراه واسع الأطماع، كثير المراغب، لم يقنع بما رزقه الله تعالى، ولم يرض بما أعطاه مولاه، تجاوز طموحه حدود قدراته، وأراد الغنى على حساب غيره، فيعمل على الإثراء بالسؤال والاستجداء، دون أن يسعى في حرفة أو يتعاطى صنعة، وهذا مخالف لما تقرره الشريعة الغراء من ضرورة العمل والاكتساب، وحرمة المسألة والتكثر بغير حق.

    قال عز وجل: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا}.

    قال ابن كثير: أَيْ: لا يُلِحُّونَ فِي الْمَسْأَلَة وَيُكَلِّفُونَ النَّاس مَا لا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغنِيه عَنْ الْمَسْأَلَة فَقَدْ أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَة ، وفي حديث قبيصة ابن المخارق ] أن النبي [ قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل لأحد إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة. فحلت له حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا»، أخرجه مسلم.

    وعن أبي كبشة الأنماري ] أنه سمع النبي [ يقول: «ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثا فاحفظوه» قال: «ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر»، أخرجه الترمذي.

    قال المباركفوري: «(ولا فتح) أي على نفسه (باب مسألة) أي سؤال للناس (إلا فتح الله عليه باب فقر) أي: باب احتياج آخر وهلم، أو يكون سلب عنه ما عنده من النعمة فيقع في نهاية من النقمة كما هو مشاهد»، اهـ.

    عن حكيم بن حزام ] قال: سألت النبي [ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «إن هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى»، أخرجه مسلم.

    قال النووي: «قال العلماء: إشراف النفس: تطلعها إليه وتعرضها له وطمعها فيه، وأما طيب النفس فذكر القاضي فيه احتمالين:

    أظهرهما: أنه عائد إلى الآخذ، ومعناه: من أخذه بغير سؤال ولا إشراف وتطلع بورك له فيه، والثاني: أنه عائد إلى الدافع، ومعناه: من أخذه ممن يدفع منشرحا بدفعه إليه طيب النفس، لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع.

    وفي هذا الحديث الحث على التعفف والقناعة، والرضا بما تيسر في عفاف وإن كان قليلا، والإجمال في الكسب، وأنه لا يغتر الإنسان بكثرة ما يحصل له بإشراف ونحوه فإنه لا يبارك له فيه»، اهـ.

    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي [ قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» متفق عليه، قال النووي: «المزعة بضم الميم وإسكان الزاي: أي قطعة، قال القاضي: قيل معناه: يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لا وجه له عند الله، وقيل هو على ظاهره، يحشر ووجهه لا لحم عليه عقوبة له وعلامة بذنبه حين طلب وسأل بوجهه، كما جاءت الأحاديث الأخرى بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها المعاصي، وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالا منهيا وأكثر منه، كما في الرواية الأخرى: «من سأل تكثرا».

    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» أخرجه مسلم، قال النووي: «قال القاضي: معناه أنه يعاقب بالنار، ويحتمل أن يكون على ظاهره، وأن الذي يأخذه يصير جمرا يكوى به، كما ثبت في مانع الزكاة».

    وسمع عمر ] سائلا يسأل بعد المغرب، فقال لواحد من قومه: عشّ الرجل، فعشاه، ثم سمعه ثانيا يسأل، فقال: ألم أقل لك عشّ الرجل؟ قال: قد عشيته. فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا، فقال: لست سائلا ولكنك تاجر. ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة، وضربه بالدرة وقال: «لا تعد».

    وقال أبو حاتم البستي في «روضة العقلاء»: «العاقل لا يسأل الناس شيئا فيردوه، ولا يلحف في المسألة فيحرموه، ويلزم التعفف والتكرم، ولا يطلب الأمر مدبرا، ولا يتركه مقبلا؛ لأن فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وإن من يسأل غير المستحق حاجة حطّ لنفسه مرتبتين، ورفع المسؤول فوق قدره».


    والخلاصة أن البذل والعطاء شرف ورفعة، وهذا ما دل عليه اللغة والسنة، ففي اللغة الشرف هو المكان العالي، قال ابن فارس: «الشرف: العلو، والشريف: الرجل العالي»، اهـ.


    وفي الحديث قال [: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، فيفهم منه أن اليد المعطية يد شريفة عالية؛ فحري بالمسلم أن يحرص على هذا الفضل بأن تكون يده عليا بالخير.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (23)

    ومـا أكـثـر النـــــاس ولــو حرصـت بمؤمنيـن


    هذه الآية الكريمة من سورة يوسف عليه السلام تقرر حقيقة شرعية، وسنة إلهية وهي أن أهل الحق أقل من أهل الباطل، وأن الغالب على الناس الجحود والكفر، والقليل منهم من يهتدي للحق ويقوم به، قال الشاطبي: «وهذه سنة الله في الخلق; أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل؛ لقوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} ، وقوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}، ولينجز الله ما وعد به نبيه [ من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا، وتصير السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف، كما كان أولا يقام على أهل البدعة»اهـ.
    وقال الشيخ ابن سعدي: «يقول تعالى لنبيه محمد [ {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم {بِمُؤْمِنِينَ} فإن مداركهم ومقاصدهم قد أصبحت فاسدة، فلا ينفعهم حرص الناصحين عليهم ولو عدمت الموانع، بأن كانوا يعلمونهم ويدعونهم إلى ما فيه الخير لهم، ودفع الشر عنهم، من غير أجر ولا عوض، ولو أقاموا لهم من الشواهد والآيات الدالات على صدقهم ما أقاموا».اهـ.
    ومن الآيات المقررة لهذه الحقيقة قوله تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}، قال ابن كثير:» يُخْبِر تَعَالَى عَنْ حَال أَكْثَر أَهْل الْأَرْض مِنْ بَنِي آدَم أَنَّهُ الضَّلال كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلهمْ أَكْثَر الْأَوَّلِينَ} وَهُمْ فِي ضَلَالهمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِين مِنْ أَمْرهمْ وَإِنَّمَا هُمْ فِي ظُنُون كَاذِبَة وَحُسْبَان بَاطِل {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} فَإِنَّ الْخَرْص هُوَ الْحَزْر وَمِنْهُ خَرْص النَّخْل وَهُوَ حَزْر مَا عَلَيْهَا مِنْ التَّمْر وَذَلِكَ كُلّه عَنْ قَدَر اللَّه وَمَشِيئَته .
    قال الشيخ ابن سعدي:» يقول تعالى لنبيه محمد [، محذرا من طاعة أكثر الناس: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فإن أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم وأعمالهم وعلومهم. فأديانهم فاسدة، وأعمالهم تبع لأهوائهم، وعلومهم ليس فيها تحقيق، ولا إيصال لسواء الطريق. بل غايتهم أنهم يتبعون الظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ويتخرصون في القول على الله ما لا يعلمون، ومن كان بهذه المثابة، فحري أن يحذِّر الله منه عبادَه، ويصف لهم أحوالهم؛ لأن هذا – وإن كان خطابا للنبي [ - فإن أمته أسوة له في سائر الأحكام، التي ليست من خصائصه.
    ودلت هذه الآية، على أنه لا يستدل على الحق بكثرة أهله، ولا تدل قلة السالكين لأمر من الأمور أن يكون غير حق، بل الواقع بخلاف ذلك؛ فإن أهل الحق هم الأقلون عددا، الأعظمون -عند الله- قدرا وأجرا، بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل، بالطرق الموصلة إليه».اهـ.
    وقد جاء في الحديث قوله «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء «أخرجه مسلم، قال النووي:»قال القاضي: وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ» اهـ.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فوائد هذا الحديث: «لا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا يجوز تركه - والعياذ بالله - بل الأمر كما قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
    ولا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا أن المتمسك به يكون في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحديث:»فطوبى للغرباء {وطوبى من الطيب، قال تعالى: «طوبى لهم وحسن مآب}، فإنه سيكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا، وهو أسعد الناس، أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الأنبياء عليهم السلام، وأما في الدنيا فقد قال تعالى: {يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} أي:إن الله حسبك وحسب متبعك».
    وقال: «وكما أن الله نهى نبيه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام أول الأمر، فكذلك في آخره، فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم، وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر {إن وعد الله حق} وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار».
    قال:»وهذا الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام، ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام، كما كان الأمر حين بدأ، قال تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} إلى غير ذلك من الآيات والبراهين الدالة على صحة الإسلام.»اهـ.
    ويوضح الإمام ابن القيم الغربة الممدوحة بأنها: «غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله [ أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ «غريبا» وأنه»سيعود غريبا كما بدأ» وأن «أهله يصيرون غرباء «.
    وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه»الغربة»هم أهل الله حقا؛ فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسول الله [، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه.
    ومن صفات هؤلاء الغرباء: التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا، وأكثر الناس - بل كلهم - لائم لهم «اهـ.
    ويقسم ابن رجب الغرباء الممدوحين إلى قسمين: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، قال: «وهو أعلى القسمين».


    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (24)

    الخير عادة والشر لجاجة




    من القضايا الفلسفية القديمة البحث في النفس البشرية, وهل الأصل فيها الخير والشر طارئ ؟ أم العكس الذي يقول إن الشر متأصل في نفس الإنسان والخير طارئ؟
    والذي تدل عليه النصوص الشرعية أن الإنسان مهيأ لقبول الخير والشر بما خلق الله تعالى فيه من الإرادة والقدرة والاختيار كما قال تعالى:{وهديناه النجدين}، قال الشيخ ابن سعدي: «أي طريقي الخير والشر، بينا له الهدى من الضلال والرشد من الغي»، وقال القاسمي: «أي أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاما تدله عليهما، ثم وهبنا له الاختيار، فإليه أن يختار أي الطريقين شاء»اهـ.
    وقال: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} قال القاسمي: «أي سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك، أي: عرّفناه وبينا له ذلك بأدلة العقل والسمع» اهـ.
    ومع ذلك فإن الله تعالى من رحمته فطر الإنسان على حب الخير والميل إليه وتفضيله على الشر كما قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
    قال ابن سعدي: «يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامة دينه فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أي: انصبه ووجّهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها، وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.وهذا الأمر الذي أمرناك به هو {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ووضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها؛ فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم الميل إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة، ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي [: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»اهـ.
    وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ[ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلاَ إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُم ْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا». أخرجه مسلم
    قال النووي: قوله تعالى: {وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ} أي مسلمين، وقيل:طاهرين من المعاصي، وقيل: مستقيمين منيبين لقبول الهداية.
    وقوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُم ْ عَنْ دِينِهِمْ» أي: استخفوهم فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل»اهـ.
    وقال الطاهر بن عاشور: «وإذ قد كانت نفوس الشياطين داعية إلى الشر بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير، ولكنه معرض لوسوسة الشياطين، فيقع في شذوذ عن أصل فطرته، وفي هذا ما يكون مفتاحا لمعنى كون الناس يولدون على الفطرة، وكون الإسلام دين الفطرة، وكون الأصل في الناس الخير».
    وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّه ِ[: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» متفق عليه.
    قال النووي: «والأصح أن معناه: أن كل مولود يولد متهيئا للإسلام فمن كان أبواه أو أحدهما مسلما استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أي:يحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمر عليه حكم الكفر ودينهما، فإن كانت سبقت له السعادة أسلم وإلا مات على كفره» اهـ.
    والفطرة في اللغة: من فطر بمعنى شق، وانفطر وتفطر: انشق، وتأتي بمعنى خلق يقال: فطر الله الخلق، أي: خلقهم وأنشأهم، والفطرة: الابتداء والاختراع والخلق، ومنه قوله تعالى: {الحمد لله فاطر السموات والأرض}.
    قال القرطبي: «الفطرة هي الخلقة التي خلق الله عليها المولود في المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة».
    ومن هنا يأتي هذا الحديث ليؤكد هذا الأصل، ويحث الناس على الاستكثار من الخير والتعود على فعله حتى يصير سجية في النفس وعادة في الطبع، فعن ‏معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-عن رسول الله [ «‏‏إنه قال ‏ ‏الخير ‏ ‏عادة ‏ ‏والشر ‏ ‏لجاجة، ‏ومن يرد الله به خيرا ‏ ‏يفقهه في الدين» أخرجه ابن ماجه، وفي رواية أن معاوية -رضي الله عنه- قال: «عَوِّدُوا أَنْفُسَكُمُ الْخَيْرَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ[ يَقُولُ: «الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
    واللجاجة في اللغة بمعنى التردد وعدم الثبات، قال ابن فارس: «اللام والجيم أصل صحيح يدل على تردد الشيء بعضه على بعض، وترديد الشيء، يقال: لجلج الرجل المضغة في فيه إذا رددها ولم يسغها، ويقولون:في فؤاد فلان لجاجة، وهو أن يخفق لا يسكن من الجوع».
    قال السندي في شرحه: «‏أَي الْمُؤْمِن الثَّابِت عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَان وَالتَّقْوَى يَنْشَرِح صَدْره لِلْخَيْرِ فَيَصِير لَهُ عَادَة، وَأَمَّا الشَّرّ فَلَا يَنْشَرِح لَهُ صَدْره فَلَا يَدْخُل فِي قَلْبه إِلَّا بِلَجَاجَةِ الشَّيْطَان وَالنَّفْس الْأَمَارَة،وَه َذَا هُوَ الْمُوَافِق لِحَدِيثِ: «دَعْ مَا يَرِيبك إِلَى مَا لَا يَرِيبك وَالْإِثْم مَا حَاكَ فِي صَدْرك وَإِنْ أَفْتَاك الْـمَفْتُون». وَالْمُرَاد أَنَّ الْخَيْر مُوَافِق لِلْعَقْلِ السَّلِيم، فَهُوَ لا يَقْبَل إِلا إِيَّاهُ وَلا يَمِيل إِلا إِلَيْهِ، بِخِلافِ الشَّرّ فَإِنَّ الْعَقْل السَّلِيم يَنْفِر عَنْهُ وَيُقَبِّحهُ.
    وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد بِالْخَيْرِ وَالشَّرّ الْحَقّ وَالْبَاطِل، وَلِلْحَقِّ نُور فِي الْقَلْب يَتَبَيَّن بِهِ أَنَّهُ الْحَقّ، وَلِلْبَاطِلِ ظُلْمَة يَضِيق بِهَا الْقَلْب عَنْ قَبُوله؛ فَلا يَدْخُل فِيهِ إِلا بِتَرَدُّدٍ وَانْقِبَاض لِلْقَلْبِ عَنْ قَبُوله، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِق لِلْمَثَلِ الْمَشْهُور: «الْحَقّ أَبْلَجُ وَالْبَاطِل لجلج» مِنْ غَيْر أَنْ يَنْفُذ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا بَيَان مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُون الْمُؤْمِن عَلَيْهِ، أَيْ اللَّائِق بِحَالِهِ أَنْ يَكُون الْخَيْر عَادَته وَالشَّرّ مَكْرُوهًا لَا يَدْخُل عَلَيْهِ إِلَّا لِلَّجَاجَةِ»اه ـ.
    فعلى المسلم أن يتحرى الخيرات ويستكثر منها حتى يعتاد عليها ، ويعرف بها، ويألفها فيموت عليها ويختم له -بإذن الله- بخاتمة السعداء، كما عليه أن ينفر من الشرور والآفات، ويتباعد عنها، حتى يقوى في قلبه إنكارها ويزيد بغضها، ويفر منها ومن أهلها، فيكون كما أراده الله تعالى من عباده المخلِصين المخلـَصين، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,509

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (25)

    «إذا اشتريت اليوم ما هو كمالي تبيع غدا ما هو ضروري».



    هذه الكلمة الحكيمة تتناول سلوكا اجتماعيا منتشرا في مجتمعاتنا - وللأسف - وهو الرغبة في الشراء والتملك دون ضوابط شرعية أو معايير اقتصادية؛ مما يعود بالآثار السلبية على الأفراد والأسر والمجتمعات.
    فسوء تنظيم الإنسان لأموره المالية، وعدم كبح جماح طموحاته الاجتماعية يدفعانه إلى التمادي في الاستهلاك والاقتراض، وكثير من الآباء والأمهات لا يرفضون لأولادهم طلبا لكيلا يشعروهم بالنقص مع أقرانهم، في حين أنه من أساسيات التربية تنشئة الأبناء على التفريق بين ما يحتاجون إليه وما يريدونه؛ ليميزوا بين الحاجيات والكماليات، وما يلزم تحقيقه وما يمكن تأجيله، ليغرسوا هذا المبدأ في أبنائهم في المستقبل.
    كما أن حب التقليد والمحاكاة للطبقات الغنية، من التفاخر والمباهاة بالمقتنيات، وتقييم الإنسان من خلال لباسه وسيارته وبيته وأثاثه وقيمة مقتنياته، والتركيز على المظاهر الجوفاء دون المعاني والقيم والمبادئ من أسباب تفشي هذه الظاهرة.
    وللإعلام دور خطير في غرس هذا النمط الاستهلاكي عند الناس، فمن الأصول التسويقية: إن استطعت إقناع الزبون بشراء سلعتك مع أنها أكثر تكلفة من مثيلاتها فأنت مروج ناجح، أما إذا أقنعته بشرائها مع أنه لا يحتاجها فأنت أكثر نجاحا، أما أكثر المروجين نجاحا فهو الذي يقنع عميلا بشراء سلعة أكثر تكلفة وهو لا يحتاجها ولا يملك ثمنها.
    أما آثار هذا السلوك فهي عديدة، منها:
    1- الذل والهم : الذي يخيم على نفوس كثير من أرباب الأسر بسبب الديون والأقساط، وقد كان النبي[ يستعيذ بالله من الجبن والبخل ومن غلبة الدين وقهر الرجال؛ لما يترتب على ذلك من آثار نفسية عميقة، ومشكلات صحية وأمراض مزمنة.
    2- كثرة السؤال: انتشر بين الناس كثرة السؤال المكروه شرعا كما جاء في الحديث: «وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»، وقال[: «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمر جهنم فليستقل منه أو ليستكثر» أخرجه مسلم، وقال[: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح» قيل: وما الغنى؟ قال:«خمسون درهما أو قيمتها من الذهب»أخرجه أحمد والأربعة.
    3- عدم القناعة بما قسم الله عز وجل للعبد من رزق فيتطلع إلى ما ليس في وسعه ولا استطاعته، ويسعى لمحاكاة الآخرين بالديون والأقساط، وقد حثنا الدين على القناعة فقال [: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» أخرجه مسلم.
    4- كثرة المشكلة الأسرية: إما بسبب كثرة مطالبات الزوجة والأبناء لرب الأسرة مع ضعف إمكانياته المادية وما يتبع ذلك من مشاحنات وسوء العلاقات الأسرية، وإما بسبب تورط رب الأسرة في الديون والشيكات بغير رصيد وما يتبع ذلك من سجنه وضياع عمله وتشتت أبنائه وانحرافهم لغياب رقابة الأب عليهم.
    5- تربية الأبناء على الإسراف والبذخ والتبذير ، والظهور بمظهر الرفاهية المزيفة، فعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطني؟ فقال[: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» أخرجه مسلم، قال النووي: «معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده، يتكثر بذلك عند الناس ويتزين بالباطل، فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور».
    ويكمن أساس هذا السلوك الاجتماعي السلبي في غياب الوعي الشرعي بأهمية حفظ المال واستثماره وخطورة الديون وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة.
    فالشارع يقرر أن المال مال الله، ونحن مؤتمنون عليه ومسؤولون عنه كما قال تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، وقال: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}، وقال[: «نعم المال الصالح للرجل الصالح»، وقال[ لأبي ذر لما أبصر أحدا: «ما أحب أنه يحول لي ذهباً يمكث عندي مائة دينار فوق ثلاث إلا دينارا أرصده لدين» أخرجه البخاري، وقال[: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» أخرجه الترمذي.
    وقد أكد الشارع أهمية الاعتدال والتوسط في الإنفاق دون إسراف ولا بخل، فقال عز وجل: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، قال الجرجاني: «الإسراف هو إنفاق المال الكثير في العرض الخسيس، وقيل: هو تجاوز الحد في النفقة»، وقال ابن القيم في تفسير الآية: «أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهلهم فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدل خيار، وخير الأمور أوسطها».
    وقال عز وجل: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا}، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: «هم الذين ينفقون المال في غير حقه».
    وقال ابن سعدي معللا اقتران المبذرين بالشياطين: «لأن الشيطان لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة، فيدعو الإنسان على البخل والإمساك، فإذا عصاه دعاه إلى الإسراف والتبذير، والله تعالى إنما يدعو بأعدل الأمور وأقسطها ويمدح عليه كما في قوله عن عباد الرحمن الأبرار: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}، وقال هنا: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك}، كناية عن شدة الإمساك والبخل {ولا تبسطها كل البسط}، فتنفق فيما لا ينبغي، وزيادة على ما ينبغي {فتقعد} إن فعلت ذلك {ملوما} أي: تلام على ما فعلت {محسورا} أي: حاسر اليد فارغها، فلا يبقى ما في يدك من المال ولا خلفه مدح ولا ثناء»اهـ.
    وقال رسول الله[: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة» أخرجه أحمد، وقال[: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» أخرجه البخاري.
    قال الشيخ ابن سعدي: وقوله: «وإضاعة المال» وذلك إما بترك حفظه حتى يضيع، أو يكون عرضة للسراق والضياع، وإما بإهمال عمارة عقاره، أو الإنفاق على حيوانه، وإما بإنفاق المال في الأمور الضارة، أو غير النافعة، فكل ذلك داخل في إضاعة المال.قال: «وما كرهه الله لعباده، فهو يحب منهم ضدها» وذكر أنه سبحانه يحب من عباده «أن يحفظوا أموالهم ويدبروها، ويتصرفوا فيها التصرفات النافعة، ويصرفوها في المصارف النافعة»اهـ.
    ونختم بوصية نفيسة لابن الجوزي حيث يبين حال العاقل في فقره أو غناه فيقول: «العاقل يدبر بعقله معيشته في الدنيا، فإن كان فقيرا اجتهد في كسب وصناعة تكفّه عن الذل للخلق، وقلّل العلائق، واستعمل القناعة، فعاش سليما من منن الناس عزيزا بينهم، وإن كان غنيا فينبغي له أن يدبر في نفقته خوف أن يفتقر فيحتاج إلى الذل للخلق، ومن البلية أن يبذر في النفقة ويباهي بها ليكمد الأعداء، كأنه يتعرض بذلك - إن أكثر - لإصابته بالعين، وينبغي التوسط في الأحوال، وكتمان ما يصلح كتمانه، وإنما التدبير حفظ المال، والتوسط في الإنفاق، وكتمان ما لا يصلح إظهاره».


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •