أقوال علماء السنة في قصيدة البردة - الإسلام حذر من الغلو بشتى أنواعه






وائل رمضان




لقد حذر الإسلام من الغلو بشتى أنواعه، وعاب على أهل الكتاب غلوهم في دينهم؛ فقال -تعالى-: { قُلْ يَا أهل الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}(المائ دة: 77)، وما وقع الغلو في أمة إلا وأهلكها؛ فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال محذرا أمته من الغلو: «إياكم والغلو؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين»، وبالغلو عُبد رجال صالحون، ذكرهم الله -سبحانه- في كتابه؛ فقال -تعالى-: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}(نوح: 23- 24)، وقد روى ابن جرير في معنى هذه الآية ما يلي: «ود وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم؛ فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كانوا أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم؛ فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس؛ فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم».

ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إطرائه، خشية أن يقال فيه ما قالته النصارى في عيسى -عليه السلام-؛ فقد روى البخاري عن ابن عباس أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد الله ورسوله»، وعن أنس رضي الله عنه أن ناسا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا، وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا؛ فقال: «يا أيها الناس قولوا ببعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله. ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله -عز وجل».
حدوث الشرك بالله
بمثل هذا نهى الإسلام عن الغلو؛ لأن الغلو هو السبب الرئيس في حدوث الشرك بالله لأول مرة في تاريخ البشرية، ولاشك أن الشرك بالله يعد أعظم ما عصي به الله على وجه الأرض؛ ومما يدل على هذا قول الله -عز وجل- على لسان لقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابنه وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}(لقمان: 13)، وقوله -تعالى-: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}(النساء: 48).
موقف المعاند
والصوفية وقفوا من هذه النصوص موقف المعاند؛ فلم يلقوا لها بالا، ولم يتقيدوا بها، بل أتوا بنقيضها؛ فغلوا في الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونسبوا إليه أمورا، وتوجهوا إليه بطلب المنفعة، ودفع المضرة، والأخذ باليد يوم الحشر، وشكوا إليه نوائب الدهر، ونسوا الله الذي بيده مقاليد كل شيء، ولم يقف غلو المتصوفة عند الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل غلوا أيضا في مشايخهم؛ فاعتقدوا فيهم أمورا لا تليق إلا بالله -عز وجل.
كلام العلماء في قصيدة البردة
ونظرًا لما ينشر عن البردة، ونظرًا لتلك الادعاءات التي يدعيها بعضهم من أن هذه القصيدة لا تحوي بين طياتها شركًا ولا بدعًا، نقدم هذه الفتاوى بشأن هذه القصيدة ليكون الجميع على بينة.
كلام الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله
قال الإمام محمد بن عبدالوهاب في تفسير سورة الفاتحة: وأما الملك فيأتي الكلام عليه، وذلك أن قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، وفي القراءة الأخرى: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ}؛ فمعناه عند جميع المفسرين كلهم ما فسره الله به في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}(الانفطا ر: 17-19}؛ فمن عرف تفسير هذه الآية، وعرف تخصيص الملك بذلك اليوم، مع أنه -سبحانه- مالك كل شيء ذلك اليوم وغيره، عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها، وسبب الجهل بها دخل النار من دخلها؛ فيالها من مسألة لو رحل الرجل فيها أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها؛ فأين هذا المعني والإيمان بما صرح به القرآن مع قوله صلى الله عليه وسلم : «يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاُ».(أخرجه البخاري في صحيحة: كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب رقم: 2753، والنسائي في سننه: كتاب الوصايا إذا أوصى لعشيرته الأقربين (6/ 248-250) رقم: 3644، 3646، 3647، من حديث أبي هريرة).
من قول صاحب البردة:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
إذا الكريم تحلى باسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي
محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي
فضلاً وإلا فقل يازلة القدم؟
فليـتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها، ومن فتن بها من العباد؛ وممن يدعى أنه من العلماء واختاروا تلاوتها على تلاوة القرآن.
هل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}؟ وقوله: «يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاُ»؟ لا والله، لا والله، لا والله، إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق، وأن فرعون صادق، وأن محمداً صادق على الحق، وأن أبا جهل صادق على الحق، لا .
والله ما استويا، ولن يتلاقيا
حتى تشيب مفارق الغربان
كلام العلامة محمد بن على الشوكاني - رحمه الله
فانظر -رحمك الله تعالى- ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهى عنه، المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما يقوله صاحب البردة -غفر الله له-:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم

فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبدالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وغفل عن ذكر ربه ورب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! إنا لله وإنا إليه راجعون، وهذا باب واسع، قد تلاعب الشيطان بجماعة من أهل الإسلام، حتى ترقوا إلى خطاب غير الأنبياء بمثل هذا الخطاب.
ومن ذلك قول من يقول مخاطباً لابن عجيل:
هات لي منك يابن موسى إغاثة عاجلاً في سيرها حثاثة؛ فهذا محض الاستغاثة التي لاتصلح لغير الله لميت من الأموات، قد صار تحت أطباق الثرى من مئات السنين، وقد وقع في البردة والهمزية شيء كثير من هذا الجنس، ووقع أيضاً لمن تصدى لمدح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولمدح الصالحين، والأئمة الهادين، ما لا يأتي عليه الحصر، ولا يتعلق بالاستكثار منه فائدةٌ؛ فليس المراد إلا التنبيه والتحذير لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}.
كلام الشيخ ابن باز - رحمه الله
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- من أحدهم: هل يجوز مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الشعر وإنشاده بالمجالس؟
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك
عند حدوث الحادث العمم
فقال: هذه أبيات منكرة، وفيها شرك، وهي من أبيات البردة للبوصيري، لا تجوز، بل هذه من الشرك الأكبر نعوذ بالله؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من جوده الدنيا وضرتها، ضرتها الآخرة، هذا من جود الرب -جل وعلا-، من ملك الرب -جل وعلا- لا يملكه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يعلم ما في اللوح والقلم -عليه الصلاة والسلام- لا يعلم الغيب -عليه الصلاة والسلام- وكذلك قوله: ما لي من ألوذ به سواك عند هذا معناه جعله المعاذ والملاذ، هذا شرك أكبر، أعوذ بالله.
إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي فضلاً، يعني: يوم القيامة معناه: أنه هو الذي يجير من النار، وهذا شرك أكبر، أعوذ بالله، الذي يجير من النار هو الله وحده، لكن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب السلامة، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب السلامة من النار، أما النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلا يملك لا الدنيا ولا الآخرة، ولا يجير من النار، بل هو عبد مأمور -عليه الصلاة والسلام.
كلام العلامة محمد بن صالح بن عثيمين - رحمه الله
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله- في كتابه: (القول المفيد على كتاب التوحيد1/218): وقد ضل من زعم أن لله شركاء، كمن عبد الأصنام، أو عيسى ابن مريم -عليه السلام، وكذلك بعض الشعراء الذين جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق، كقول بعضهم يخاطب ممدوحاً له:
فكن كمن شئت يامن لاشبيه له
وكيف شئت فما خلق يدانيك

وكقول البوصيري في قصيدته في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم:
يا أكرمَ الخلْقِ مالي مَن ألوذُ به
سواك عند حدوثِ الحادثِ العَمــم
إن لم تكن في معادي آخذاًبيدي
فضلاً وإلا فقل يازلة القدم
فإن مِن جودك الدنيا وضَرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم
قال الشيخ ابن عثيمين -حفظه الله-: وهذا من أعظم الشرك؛ لأنه جعل الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومقتضاهُ أن الله -جل ذكره- ليس له فيهما شيء.
وقال: أي البوصيري: «ومن علومك علم اللوح والقلم»، يعني: وليس ذلك كل علومك؛ فما بقي لله علمٌ ولا تدبيرٌ -والعياذ بالله- أ. هـ
كلام العلامة صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله
قال العلامة صالح بن فوزان الفوزان في كتابه (إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد) قوله -تعالى-: {ولا شفيع}، أي: واسطة، يتوسط له عند الله، ما أحد يشفع لـه يوم القيامة إلا بإذن الله -سبحانه وتعالى-، وبشرط أن يكون هذا الشخص ممن يرضى الله عنه، هذه شفاعة منفيّة؛ فبطل أمر هؤلاء الذين يتخذون الشفعاء، ويظنون أنهم يخلصونهم يوم القيامة من عذاب الله، كما يقول صاحب (البردة):
يا أكرم الخلق ما لي من أولذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً
بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلّة القدم
هذا على اعتقاد المشركين أن الرسول يأخذ بيده ويخلصه من النار، وهذا ليس بصحيح، لا يخلصه من النار إلا الله -سبحانه وتعالى- إذا كان من أهل الإيمان .
محمد عبد الله ورسوله
وعن أنس صلى الله عليه وسلم : أن أناساً قالوا يارسول الله، ياخيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا؛ فقال صلى الله عليه وسلم : «يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولايستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله -عز وجل-» رواه النسائي بسند جيد؛ فهذا الحديث فيه فوائد عظيمة من أهمها:
التحذير من الغلوّ
فيه التحذير من الغلوّ في حقِّه صلى الله عليه وسلم عن طريق المديح ، وأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما يوصف بصفاتِه التي أعطاهُ الله إيَّاها: العبوديّة والرِّسالة، أمّا أن يُغلى في حقَّه؛ فيوصف بأنّه يفرِّج الكُروب، ويغفر الذنوب، وأنه يستغاث به - عليه الصلاة والسلام- بعد وفاته، كما وقع فيه كثيرٌ من المخرِّفين اليوم فيما يسمّونه بالمدائح النبوية في أشعارهم: (البردة) للبوصيري ، وما قيل على نسجها من المخرفين؛ فهذا غلوٌّ -والعياذ بالله- أفضى إلى الكفر والشِّرْك، حتى لم يترُك لله شيئاً، كلّ شيء جعله للرسول صلى الله عليه وسلم : الدنيا والآخرة للرسول، علم اللوح والقلم للرسول، لا ينقذ من العذاب يوم القيامة إلا الرسول، إذاً ماذا بقي لله -عز وجل.
فتاوى اللجنة الدائمة
وسئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن حكم المبالغة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وما رأيكم في قول من قال: اللهم صلِّ على محمد طب القلوب ودوائها، وعافية الأبدان وشفائها، ونور الأبصار وضيائها معتقدًا ذلك؟
هذا الكلام المذكور في حق النبي صلى الله عليه وسلم فيه غلو وإطراء، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم»؛ وذلك لأنه جعل النبي صلى الله عليه وسلم يشفي الأبدان، ويعافي من الأمراض، وهذا مختص بالله وحده، كما قال الخليل -عليه السلام-: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}؛ فاعتقاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفي الأمراض، شرك بالله -عز وجل. الفتوى رقم ( 17248 ).