الحمدُ للهِ مُرْتَضِي الحمد لنفسهِ، وجاعلهِ فاتحةَ وَحْيهِ، ومُنتَهى شُكْرهِ، وكَفَاءَ نِعْمَتِهِ، ودعوى أهلِ جَنَّتهِ عندَ إفضائهِم إلى كرامته، أحمَدُهُ بجميعِ مَحَامدهِ على جميعِ نِعَمِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسوله، اللهمَّ بلِّغْ نبيَّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم منَّا أفضلَ صلاةٍ وأنماها وأزكاها وأقضاها لِما فرضتَ من حقِّهِ وأوجبتَ من ذكره، صلَّى اللهُ وملائكتُهُ المقرَّبون عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه وعلى جميع النبيين والمرسلين.
أما بعد: فيا أيها الناسُ اتقوا الله تعالى واعلَمُوا أنَّ مِنْ أجلِّ القُرُباتِ وأفضلِ الطاعاتِ القيامُ بكفالةِ اليتيم، واليتيم هو من مات أبوهُ وهو دون البلوغ، قال تبارك وتعالى: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ ﴾ [النساء: 6]، وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (لا يُتْمَ بعْدَ احْتِلامٍ) رواه أبو داود وحسنه النووي.
وقد رغَّبَ الله ورسولُه في كفالة الأيتام والإحسانِ إليهم ورعايتِهم، فمن فضائل كفالة اليتيم:
1- هل تُريدُ مُرافقةَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة: فاكفل اليتيم: وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: («وأَنا وكَافِلُ اليَتِيمِ في الجنَّةِ هكَذا»، وأَشارَ بالسَّبَّابَةِ والوُسْطَى، وفَرَّجَ بَيْنَهُما شَيْئاً) رواه البخاري، وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: («كافلُ اليَتِيمِ لَهُ أوْ لِغَيْرِهِ أَنا وهُوَ كَهَاتَيْنِ في الجنَّةِ»، وأَشَارَ مالكٌ بالسَّبَّابَةِ والْوُسْطَى) رواه مسلم.
قالَ ابنُ بَطَّالٍ: (حَقٌّ على مَنْ سَمِعَ هذا الحديثَ أنْ يَعْمَلَ بهِ ليكُونَ رَفِيقَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الجنَّةِ، ولا مَنْزِلَةَ في الآخِرَةِ أفْضَلُ مِنْ ذلكَ) انتهى.
2- هل تُريدين يا أُمَّ اليتيمِ أن تَدْخُلي مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بابَ الجنةِ أو تدخُلي في أثَرِهِ: فاحبسي نفسكِ على أيتامكِ بألاَّ تتزوَّجي إلاَّ إن خشيتِ الفتنة، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُفْتَحُ لَهُ بَابَ الْجَنَّةُ إِلا أَنَّهُ تَأْتِي امْرَأَةٌ تُبَادِرُنِي فَأَقُولُ لَهَا: مَا لَكِ وَمَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنا امْرَأَةٌ قَعَدْتُ على أَيْتَامٍ لِي) رواه أبو يعلى، قال ابن حجر: (ورُوَاتُهُ لا بأْسَ بهِمْ، وقولُهُ: «تُبَادِرُنِي» أيْ: لِتَدْخُلَ مَعِي، أوْ تَدْخُلَ في أثَرِي، ويُحْتَملُ أن يكون المُرَادُ مَجْمُوع الأَمْرَيْنِ: سُرْعَةَ الدُّخُولِ وعُلُوَّ الْمَنْزِلَةِ) انتهى.
وقال ابنُ الجوزي: (يَعْنِي أَن تِلْكَ الْمَرْأَة حبست نَفسهَا على أَوْلَادهَا تربيهم، وَتركت التزين والتصنع والتعرض للأزواج) انتهى.
3- هل تُريدُ أن يكونَ لكَ أجرٌ كأجر المجاهد في سبيل الله وكأجر المصلي لا يَفْتُرُ وكالصائمِ لا يُفطر: فاكفلْ أُمَّ اليتيم: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (السَّاعِي على الأَرْمَلَةِ والْمِسكِينِ، كالْمُجَاهِدِ في سَبيلِ اللهِ - وأَحْسِبُهُ قالَ - وكالْقَائِمِ لا يَفْتُرُ، وكالصَّائِمِ لا يُفْطِرُ) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
4- هل تُريدُ مُعالَجةَ قسوة قلبك: فامسح رأس اليتيم، فعن أبي هريرةَ: (أنَّ رَجُلاً شَكَا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبهِ، فقالَ لَهُ: إنْ أَرَدْتَ أنْ يَلِينَ قَلْبُكَ، فأَطْعِمِ الْمِسكِينَ، وامْسَحْ رَأْسَ اليَتِيمِ) رواه الإمام أحمد وحسَّنه ابن حجر.
5- هل تُريد أن تتخطَّى عَقَبةً من عَقَباتِ يومِ القيامةِ: فأحسنْ إلى اليتيمِ، قال تعالى: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴾ [البلد: 11 - 15].
أيها المسلمون:
وقد كان السلف يُعظِّمون أمرَ اليتيم: كان عبدُ اللهِ بنُ عمر رضيَ الله عنهما (لا يَأْكُلُ طَعَامًا إلا وعلى خِوَانِه يتيم) رواه البخاري في الأدب المفرد وصحَّحه الألباني.
وقال ابن كثير في ذكره لسيرة أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: (خَرَجَ ابنٌ لهُ وهُوَ صَغيرٌ يَلْعَبُ معَ الغِلْمَانِ فَشَجَّهُ صَبيٌّ منهُمْ، فاحْتَمَلُوا الصَّبيَّ الذي شَجَّ ابْنَهُ وجَاءُوا بهِ إلى عُمَرَ، فسَمِعَ الْجَلَبَةَ فَخَرَجَ إليهِمْ، فإذا مُرَيْئَةٌ تَقُولُ: إنهُ ابْني وإنهُ يَتيمٌ، فقالَ لَهَا عُمَرُ: أَلَهُ عَطَاءٌ في الدِّيوانِ؟ قالتْ: لا، قالَ: فاكْتُبُوهُ في الذُّرِّيَّةِ، فقالَتْ زوْجَتُهُ فاطِمَةُ: فَعَلَ اللهُ بهِ وفَعَلَ إنْ لَمْ يَشُجَّ ابنَكَ ثَانيَةً، فقالَ: وَيْحَكِ، إنكُمْ أَفْزَعْتُمُوهُ ) انتهى.
عبادَ الله:
اكفُلُوا الأيتامَ لأنفسكم وأشركوا والديكم في هذا الأجر العظيم، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (إذا ماتَ الإنسانُ انقَطَعَ عنهُ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثلاثةٍ: إلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، أوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بهِ، أوْ وَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ) رواه مسلم، وقال الحافظُ الْمِزِّيُّ: (دعا عُميرةُ ابنُ أبي ناجية يتيماً فأطعَمَهُ وسَقَاهُ ودَهَنَ رَأْسَهُ وقال: اللَّهُمَّ أشركْ والديَّ في هذا، فنامَ فرأَى في نومِهِ أبويهِ ومَعَهُما ذلكَ اليتيم، يقولان: يا بُنَيَّ ما أعظَمَ بركَةَ هذا اليتيمِ علينا) انتهى.
فمَا أعظمَ توفيقَك يا مَنْ قُمْتَ بكفالةِ يتيم، وما أولاكَ بالأجرِ والثوابِ والْخَلَفِ مِنْ رَبِّ العالمين، فإنكَ في عبادةٍ وثوابٍ مُتزايدٍ، كلمَّا أطْعَمْتَهُ وكسوتَهُ وعلَّمتهُ وأَدَّبتهُ وربَّيتَهُ، وأنتَ في جهادٍ كلَّما سعيتَ في الكسبِ له وضَمِّه إليك وآويتَهُ، وقد يفتحُ الله لك بسببه طُرُقَاً من الخير وأبواباً، ويُنزلُ لكَ البركةَ ويُعطيكَ خَلَفَاً عاجلاً وأجراً وثواباً، فإنما تُنصرُ وتُرزقُ بضعفائك، وإنما تُرْحَمُ برحمتكَ إيَّاهُ، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (هلْ تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلاَّ بضُعَفَائِكُمْ) رواه البخاري، وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (مَنْ لا يَرْحَمِ النَّاسَ لا يَرْحَمْهُ اللهُ عزَّ وجَلَّ) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
يا رحمن اجعلنا من عبادِكَ الراحمين المرحومين، إنك جواد كريم، أقولُ قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ووالدينا وكافة المسلمين الأحياء والميتين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
♦♦♦
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ، وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسُولُهُ.
أمَّا بعدُ:
(فإنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخيرُ الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلُّ بدعَةٍ ضَلالَةٌ)، و (لا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ).
أيها المسلمون:
مما يدخل في أجر كفالة الأيتام: كفالة مجهولي النسب، قالت اللجنة الدائمة للإفتاء: (مجهولي النسب في حكم اليتيم، لفقدهم لوالديهم، بل هم أشد حاجة للعناية والرعاية من معروفي النسب؛ لعدم معرفة قريب لهم يلجؤون إليه عند الضرورة، وعلى ذلك فإن من يكفل طفلا من مجهولي النسب فإنه يدخل في الأجر المترتب على كفالة اليتيم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما شيئاً» متفق عليه. لكن يجب على من كفل مثل هؤلاء الأطفال أن لا ينسبهم إليه، أو يضيفهم معه في بطاقة العائلة، لِما يترتب على ذلك من ضياع الأنساب والحقوق، ولارتكاب ما حرم الله، وأن يعرف من يكفلهم أنهم بعد أن يبلغوا سن الرشد فإنهم أجانب منه كبقية الناس، لا يحل الخلوة بهم أو نظر المرأة للرجل أو الرجل للمرأة منهم، إلا إن وُجِدَ رَضَاعٌ مُحرَّم للمكفول، فإنه يكونُ مَحْرَمَاً لِمن أرضعته ولبناتها وأخواتها ونحو ذلك مما يَحْرُمُ بالنسب) انتهى.
أيها اليتيم:
لا تَحْزَن، وأحسِنِ الظَّنَّ بربِّكَ الرحيمِ اللَّطيف: فنبينا صلى الله عليه وسلم يتيم، وموسى كليم الله نشأ يتيماً، والزبير بن العوام الذي عَدَلَهُ عُمَرُ بألف فارس يتيم، وسيِّدُ الحُفَّاظ أبو هريرة يتيم، وعمير بن سعد الأنصاري يتيم، ومِسْطَح يتيم، وزيد بن أرقم يتيم، وعبدالله ذو البُجادين، وسلمان الفارسي، وزيد بن ثابت الضحاك، والقاسم بن محمد، نشأوا أيتاماً، وسفيان الثوري يتيم، قالت له والدته: (اذهبْ فاطْلُبِ العِلْمَ، حتَّى أَعُولَكَ بِمِغْزَلِي، فإذا كَتَبتَ عِدَّةَ عَشْرَةِ أحاديثَ، فانظُرْ هلْ تَجِدُ في نَفْسِكَ زِيَادَةً فاتَّبِعْهُ، وإلاَّ فلا تَتَعَنَّ)، وممن نشأ يتيماً من علماءِ وأُمراءِ الإسلام: القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، ومن أشهر تلاميذه الإمام أحمد، ومنهم الأئمة: الشافعي وأحمد والأوزاعي والبخاري وشيخ النسائي ابنُ عُلَيَّة وابن الجوزي وابن حجر والسيوطي، ومنهم: مؤسس الدولة الأُموية بالأندلس عبدالرحمن بن معاوية، وطارق بن زياد، وعماد الدين زنكي، والظاهر بيبرس، ومن العلماء المعاصرين: العنقري والسعدي والقرعاوي ومحمد الأمين والتويجري وابن صالح وابن باز وغيرهم رحمهم الله.
حفظَ اللهُ أيتامَ وأراملِ المسلمين، وأغناهم بفضله عمَّن سواه، وكفاهم شرَّ كلِّ ذي شرٍّ، آمين.

https://www.alukah.net/sharia/0/132056/