نحو مجتمع إنساني متراحم: جبر القلوب
علياء ناصف
وسط زحام الحياة.. وفي غمرة المشاغل والمسؤوليات ننسى ونحتاج أن نتذكر معا ما نسيناه أو تناسيناه بفعل أنفسنا التي تعجز أحيانا أن تجلس برهة مع أنفسها لتراجع وتدقق وتعيد النظر وتتذكر.
من منا يتذكر ما نسيه الكثير وربما لم يعد يتذكره إلا القليل، ألا وهي عبادة «جبر القلوب».
جبر القلوب هو ما يسأله البعض من مولاه في دعائه قائلا ما كان يقوله رسول الله " صلى الله عليه وسلم" بين السجدتين: «اللهم اغفر لي وارحمني، واجبرني، وارفعني، واهدني، وارزقني» (رواه الترمذي).
وينساه البعض الآخر في تعامله مع عباد الله فنجد من يؤلم قلوبهم ويعتصرها حزنا ولا يبالي بكسرها إما بكلمة أو فعل، ويمضي بلا حساب للنفس، بلا وقفة مع الذات، إما تجبرا عليهم أو لنقص وربما لانعدام الخبرة الحياتية في مدرسة العلاقات الإنسانية الإسلامية.
ولكن قراءة متعمقة لما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة ما يغني الطالب للعلم في تلك المدرسة عن قراءة عشرات ومئات الكتب والمؤلفات، ليعرف كيف يتعامل ويتقن فن العلاقات بين الأفراد على أقوى الأسس وأمتنها.
صورة من صور الرحمة
إن من أسماء الله الحسنى «الجبار»، و له ثلاثة معان: الأول بمعنى «القوة»، والثاني بمعنى «الرحمة»، والثالث بمعنى «العلو».
وإذا كان الله سبحانه وتعالى يتفرد بالعلو والقوة وليس لبشر أن ينازع الله في علوه و كبريائه وجبروته وقوته، وفي هذا المعنى قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل ينازع الله رداءه، فإن رداءه الكبرياء وإزاره العزة، ورجل شك في أمر الله، والقنوط من رحمة الله» (رواه الإمام أحمد).
أما الرحمة فقد أمرنا نحن العباد بها، بأن تكون من صفاتنا وجوهرا لحياتنا، وهاهو قول خير البرية رسول الله " صلى الله عليه وسلم" : «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (رواه أبوداود والترمذي).
وعندما نكون مأمورين بالرحمة، فمن ثم فحن مأمورون ومطالبون بجبر القلوب، فجبر القلوب صورة من صور الرحمة، أي إن جبر القلوب عبادة، فالعبادة طاعة وإذعان لأوامر الله، والحديث عن الرحمة بين العباد فيما بينهم يتسع للكثير والمزيد من الأقوال والأفعال التي تضمن أن نعيش معا في مجتمع إنساني له خاصية التراحم بين أفراده وجماعاته، فلا يطغى أحد على أحد، ولا تقهر جماعة جماعة أخرى ظلما وبهتانا.
«جبر القلوب» في القرآن الكريم والسيرة النبوية
دعونا نتأمل قوله تعالى في سورة الضحى: {فَأَمَّا اليتيم فلا تقهز (9) وَأَمَّا السّائلَ فَلا تَنهَز } (الضحى:9-10)، إن الله تعالى يأمر نبيه ألا يقهر اليتيم، أي لا يكسر بخاطره، أي يحسن معاملته ويترفق به ويجبر قلبه بالقول والفعل، كما أمر المولى عز وجل رسوله الكريم بألا ينهر السائل.
أمـــــا الـــحـــديث عـــــن خـــــــلــق رســــــولنا الكريم " صلى الله عليه وسلم" في جبر وتطييب القلوب فلن تسعه الصفحات، ولنتذكر في هذا المعرض كيف كان حبه لزيد بن حارثة ولأسامة بن زيد ورحمته بهما، فزيد بن حارثة هو ذلك الغلام الذي اشتراه حكيم بن حزام ابن أخ السيدة خديجة لها، والتي وهبته بدورها إلى رسول الله، فأعتقه " صلى الله عليه وسلم" وتبناه، وكان يلقب من فرط ما كان يحظى به من محبة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" بزيد بن محمد حتى نزلت الآية الكريمة {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب:5)
أبناؤنا وجبر القلوب
إذا كانت الأسرة هي وحدة بناء المجتمع.. وإذا كنا بصدد الحديث عن مجتمع تسوده الرحمة بين أفراده ويظلله التراحم بين جماعاته.. فمن ثم على الآباء والأمهات تعليم الأبناء جيدا منذ سنوات عمرهم الأولى كيف تكون الرحمة بين الناس من خلال أن يكونوا هم أنفسهم النموذج والقدوة في ذلك، فأحيانا ما نجد آباء وأمهات لا يعاملون اليتامى بالمودة والحب بل بالتعنيف والجفوة والغلظة ويردون السائل بطريقة قاهرة عنيفة قاسية، وأحيانا ما نجدهم يمتهنون الخدم ويعاملونهم تعاملا فوقيا بعجرفة وتكبر، وربما تمتد أيديهم عليهم لتلحق بهم الأذى البدني إضافة إلى الضرر النفسي والمعنوي.
إنما علينا أن نحسن معاملة من أمرنا الله ورسوله أن نحسن إليهم ونرحمهم ونجبر قلوبهم، فهم يحتاجون منا إلى الدعم النفسي والمادي لا الضرر الأدبي والبدني.