مَقْصَدُ السُّورَةِ :
الْـمُتَدَبِّرُ السورةَ الكريمة يَجِدُهَا اهْتَمَّتْ بِـ (رَكَائِزِ بِنَاءِ الْفَرْدِ وَالْـجَمَاعَةِ الْـمُؤْمِنَةِ ، وَبَصِيرَتِـهِمَا إِلَى وَسِيلَةِ ذَلِكَ ، وَمِنْ ثَمَّ الْفَلَاحُ) ، فقدَ وضعتْ السورةُ ركائزَ ذلك البناءِ فـ (أسَّسَتْ ، ثم بَنَتْ ، ثم دَعَتْ إِلَى وَسِيلَةِ ذَلِكَ) ،
- (أساسٌ) : أسَّسَتْ لِأن الله تعالى هو رب العالمين المتفردُ بذلك بلا شريك ، وربوبيتُه تعالى ثابتة

متقرِّرَة له في الدنيا والآخرة ، فله تعالى الربوبيةُ ، أي : (التفردُ) بالنعمة ، والفضل ، والرحمة ،

و(التفردُ) بالْـمُلْكِ ، والقهر ، والسلطان ، والسيادة ، فربوبيتُه التي هي صفاتُه عز وجل ، ونعوتُ جلالِه ، وأفعالُه سبحانه دائرةٌ بين صفَةِ (الْإِحْسَان والرَّحمة) ، قال تعالى : (ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣)- الفاتحة- ، وصِفَةِ (الْـمُلْكِ َوالْعَظَمَةِ)، قال تعالى : (مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤)-الفاتحة- ، فالحمدُ لَهُ وحدَهُ ، أي : جِمَاع أَجْنَاسِ الْمحبةِ ، والتعظيمِ ، والرضا ، وتألهِ القلب ، والمدحِ ، والذكرِ له وحده ؛ لأنه الربُّ وحدَه ؛ لذلك قال تعالى : (ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ٣ مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ٤) -الفاتحة- ، و(ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ) أحسن كلمة يُعَبَّرُبها عَمَّا قام بالقلب من الرضا به سبحانه ربًّا.
- (بِنَاءٌ) : ثم بَنَتْ على ذلك الأساس لازمَه ، لسانُها : مَن تَفَرَّدَ بالربوبية ، وَلَهُ الأسماءُ الحسنى وصفاتُ الكمال ، ونعوتُ الجلال وحدَه : لا يستحق العبادةُ والتألهُ سِواه ، فكما أنه الربُّ وحدَهُ ، فهو الإلهُ وحدهُ ، وهو المستعانُ وحده ، فربَطَتْ بين الربوبية ، والأُلوهية بأقوى رباطٍ ؛ لذلك قال تَعَالَى بَعْدَ ذلِكَ : (إِيَّاكَ نَعۡبُدُ...٥) الفاتحة ، ثم قال : (وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥) -الفاتحة- ، أي : - (وسيلةٌ) : ثم دَعَتْ إلى الْتزام سبيلِ الْـمُفْلِحِينَ ، الْـمُنْعَمِ عليهم بالهدى في الدنيا ، والجنةِ في الآخرة ، في صيغة طلب المؤمنين ، ودعائهم بـ (ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ ٧) ، وهو يشتمل على سؤال : 1- الإيمانِ بالله تعالى ، واتِّباعِ شريعَتِه ، ومنهجِه الشاملِ ، واتباعِ رسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي أنزل على قلْبه هذا الكتاب ، وأُرْسِلَ به ، وبالحكمة ، وهي السُّنَةُ. 2- وَبَيَانِ الْـحَقِّ وَالْـخَيْرِ ، وَسَبِيلِهِ ، وَتَمْيِيزِ أَهْلِهِ ، وَهُمُ الْـمُؤْمِنُونَ الْـمُتَّقُونَ أَهْلُ الْفَلَاحِ ، وَبَيَانِ الشَّرِّ ، وَتَمْيِيزِ أَهْلِهِ مِنَ الْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى ، وَالْـمُنَافِقِ ينَ ، وَأَصْنَافِ الْـمُجْرِمِينَ ؛ لذلك أَتْبعَ تَعَالَى قَوْلَهُ : (صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ) ، بِقَوْلِهِ : (غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ ٧) –الفاتحة-. 3 - وَإِقَامَةِ رَابِطَةِ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْـمُؤْمِنِينَ معَ بعضِهمُ البعضَ ، وَاعْتصامِهم جميعًا بحبلِ ربِّهم تَعَالَى ، غَيرِ مُتَفَرِّقِينَ : (إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ٦) الفاتحة–.
لِـمَاذَا سُمِّيَتْ بـ (الْفَاتِحَةِ) ؟ وَمَا وَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ ؟
(الْـمَعَانِي اللُّغَوِيَّة مُخْتَصَرَةٌ مِنْ : (لسان العرب 2/536 540 ، وَالْـمُعْجَمُ الْوَسِيطُ 2/671 ، و 672 ، ومعجم لغة الفقهاء 338). (مِنْ مَعَانِى (الفاتحة) في اللُّغَةِ ، وَدَلَالَاتِهَا عَلى مَقْصُودِهَا) : - بدايةُ الشيءِ ، ففاتحةُ الشيءِ والأمرِ بدايته ،(ووجهُ تسميتِهَا ، وجعلِها أولَ سور المصحف الشريف أنها كالْـمُقَدِّمَة ِ لِلْمَوْضُوعِ ، أو كالدِّيباجَةِ للخُطبة ؛ لاشتمالها على كُلِّ ما يحتويه القرآنُ العظيمُ ، فهي كالعنوانِ والترجمة له ، فـ (افتَتَح سبحانه كتابَه بهذه السورة ؛ لأنها جمعتْ مَقَاصِدَ الْقُرآن ؛ ولذلك كان من أسمائها : (أم القرآن) ، و(أم الكتاب) ، و(الأساس) ، فصارتْ كالعُنوان ، وبراعةِ الِاسْتِهلالِ) –السيوطيُ أسرار ترتيب القرآن 49- ، وَقال ابنُ كثير رَحِمَهُ اللهُ- : (يُقَالُ لَهَا: (الْفَاتِحَةُ) ، أَيْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ خَطًّا ، وَبِهَا تُفْتَحُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا : (أُمُّ الْكِتَابِ) عِنْدَ الْـجُمْهُورِ...) -1/101-. - الكَشفُ ، والإفساحُ ، وإزالةُ الْـمَغَاليقِ والسدودِ ، ومن ذلك قوله تعالى : (جَنَّٰتِ عَدۡنٖ مُّفَتَّحَةٗ لَّهُمُ ٱلۡأَبۡوَٰبُ) -ص50- ، وسورةُ (الفاتحةِ) كَاشِفَةٌ لِـمَعَانِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. - القضاءُ ، قال تعالى : (رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ)–الأعراف 89- وسورةُ (الفاتحةِ) مبيِّنَةٌ لقضاءاتِ اللهِ تعالى ، وأوامرِهِ ونواهيهِ ، ومنهُ : ما قَضَاهُ سُبْحَانَهُ أيضا- لِـمَنِ اتَّبع هُداه ، وعلى من خالف أمره ، وشاقَّه ، وحادَّه ، وعصَاهُ : (ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ٦ صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِٱلۡمَغۡضُ وبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ ٧) –الفاتحة-.
- التذكيرُ ، ومنه : (فَتَحَ عَلَيْهِ لـَمَّـا نَسِيَ) ، وسورة (الفاتحة) تَذْكِرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
- العطاءُ ، وَالرِّزْقُ ، ومنه : (النَّصْرُ، وَالْعِلْمُ ، وَالرَّحْمَةُ ، وَالـْهِدَايَةُ ، وَالْإِرْشَادُ) ، وَالله (هُوَ ٱلۡفَتَّاحُ ٱلۡعَلِيمُ)سبأ 26- ،وَقَالَ تَعَالَى : (لَفَتَحۡنَاعَلَ يۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ)الأعراف 96 - ، (إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ)النصر1- ، وَقَالَ : (إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا)الفتح 1- ، وَ(فَاتِحَةُ الْكِتَابِ) مبينةٌ لما جاء فيه هاديةٌ مرشدةٌ إلى سبيلِ الفلاحِ ، فَهِيَ عطاءُ الله تعالى ومِنَّتُهُ ، وَرَحمتُه بنبيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، وبالمؤمنينَ : (وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ سَبۡعٗا مِّنَ ٱلۡمَثَانِي وَٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِيمَ٨٧) –الحجر-. وَمِنْ أَنْسَبِ مَا يُتَرْجَمُ بِهِ لِسُورَةِ (الْفَاتِحَةِ) ؛ لبيان مدلولِ اسمها على مَقْصَدِها : (هِدَايَةٌ) ، وذلك (مِنْ وَجْهَيْنِ) : الأولُ : أنها هَدَتْ -إجمالا- إلى : ما جاءتْ سورُ القرآن العظيم بعدها بتفصيله ؛ لذلك فإن من أسمائها : (فاتحةَ الكتابِ) ، وقد سبق أنَّ مِنْ دَلَالَاتِ معاني المادةِ : (الفاءِ ، والتاءِ ، والحاءِ) : (الكشف والإبانة) ، فـ (الفاتحةُ) : هدتْ ، وهاديةٌ ، أي : بيَّنت ، ومُبيِّنة ، وكشفتْ ، وكاشفة ، فَهِيَ : (هِدَايَةٌ). الثاني : أنها هَدَتْ إجمالا أَيْضًا- إلى : الْـمَقَاصِد التي نزل بها القرآن العظيم وقد سبق بيانُهَا- ؛ لذلك فإن من أسمائها : (أمُّ القرآن) ، و(أم الكتاب) لِجَمْعِهَا مقاصِدِهِ.