العلاقة الزوجية في الشريعة الإسلامية
د. عائشة سلطان المرزوقي [·]
المقدمة:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
لاشك أن العلاقة الزوجية من أقدس العلاقات الإنسانية في دنيا الناس، فعن طريق هذه العلاقة تتكون الأسرة، وبالتالي يتكون المجتمع كله، وهذه العلاقة أساسها رباط وثيق مقدس بين الرجل والمرأة بانيا هذه العلاقة على كلمة الله، ولكل منهما حقوق وواجبات على الآخر حتى يبنى هذه العلاقة على المحبة والمودة بعيدا عن كل أمر يسوء، ومن هذه العلاقة الزوجية يأتون الأبناء الذين هم المقصد من كل علاقة زوجية والذين تقر أعين أسرتهم بهم، فمن حق الزوجين عليهم هو تربيتهم على أحسن وأكمل وجه راجين من ذلك مرضاة الله تعالى عليهم.
قسمت هذا البحث إلى المباحث التالية:
المبحث الأول: العلاقة الزوجية
المطلب الأول: الخطبة
المطلب الثاني: كيفية الاختيار في الإسلام
المطلب الثاني: الحث على الزواج والترغيب فيه
المطلب الرابع: أهداف الزواج ومقاصده
المبحث الثاني: حقوق كل من الزوجين على الآخر
المطلب الأول: حقوق الزوج على الزوجة
المطلب الثاني: حقوق الزوجة على الزوج
المبحث الثالث: علاقة الآباء بالأبناء
المبحث الأول
العلاقة الزوجية
العلاقة الزوجية من أقدس العلاقات الإنسانية، حيث أنها تبدأ حين يبني رجل بامرأة عقد نكاح صحيح، ولقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يجعل الزوجية في كل شيء في الكون. قال تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ([1]).
وقال سبحانه: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) ([2]).
فالزوجية إذا هي القاعدة العامة في هذا الكون، ولقد غرس الله تعالى في الذكر والأنثى غريزة فطرية لها دافعها الذي يدفعها إلى اللقاء الجنسي، فيغشى الذكر أنثاه فيثمر ذلك وتتمخض عنه وجود أجيال متعاقبة ليبقى الجنس البشري ولا يندثر حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولم يترك الله البشرية سدى كالحيوانات التي تحيا على البسيطة، فالذكر منها إن تحركت غريزته على أثر دافعها بحث عن أنثى فغشيها حتى تهدأ ثورته ويسكن دافعه، ولكن الله سبحانه لم يدع البشرية كذلك، بل حدد لها منهجا يتم في ظله اللقاء الجنسي بين الذكر والأنثى فيلتقيان في ظل النكاح المشروع، فاللقاء الجنسي الذي شرعه الله في كتابه الكريم يقوم بين زوجين بينهما حياة مشتركة، لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية، بل تقوم العلاقة الجنسية على أساس من المشاعر الراقية تربط بينهما آمال مشتركة وآلام واحدة ومستقبل واحد يلتقي في الذرية المرتقبة والجيل الجديد الذي ينبت في عش الزوجية ([3]).
وهذا العمر الهادئ الذي ينبني بأمانة الله وعلى كلمته ونبل القصد وسمو الهدف، له أسسه وقواعده التي يبنى عليها ولن يقوم هذا البناء إلا في ظل نكاح شرعي، ولقد دعا الإسلام إلى النكاح ورغب فيه، ولكن من الثابت والمعلوم أن للنكاح مقدمات تتمثل في الخطبة، فالخطبة إذا نوع من العلاقة بين الخاطب والمخطوبة، فهذه العلاقة لها أسس وضوابط وآداب بينها الدين الحنيف، فما هي إذن ضوابط العلاقة أثناء الخطبة؟
المطلب الأول: الخطبة
الفقرة الأولى: السلوك الإسلامي في فترة الخطبة
لقد أباح الإسلام للرجل أن ينظر إلى من يخطبها ويريد أن يتزوجها وأن يرى وجهها وما فيها، حتى يكون على بينة من حقيقة أمرها، شريطة أن يكون ذلك في غير خلوة محرمة. فعن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- أنظر إليها فإنه أحرى أن يؤوم بينكما" ([4]).
وعن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا خطب أحدكم فقدر أن يرى منها بعض ما يدعو إلى نكاحها فليفعل" ([5])، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظرت إليها؟ قال لا، قال فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا ([6]).
يقول الإمام النووي:
"فيه استحباب النظر إلى من يريد تزوجها، وهو مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة، وأحمد وجماهير العلماء، وحكى القاضي عن كراهته ولكن هذا مخالف لصريح هذا الحديث ومخالف لإجماع الأمة على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة، ثم إنه يباح له النظر إلى وجهها وكفيها فقط لأنهما ليسا بعورة، ولأنه يستدل بالوجه على الجمال وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها.
فمن هذه النصوص وغيرها نرى جواز نظر الخاطب إلى من يريد الزواج بها حتى تدوم العشرة والمودة بينهما كما بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحينما أباح الإسلام النظر إلى المخطوبة قصد بذلك صلاح الكيان الأسري وتلبية الرغبة الإنسانية، وهذا الأمر ليس قاصرا على الخاطب فقط، ولكن من حق الفتاة- المخطوبة- أيضا أن تنظر إلى من يخطبها، فالنظر حق للخاطب والمخطوبة.
وحين أباح الإسلام النظر للغاية السامية والهدف النبيل حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية، والمخطوبة تعد أجنبية بالنسبة للخاطب، فالخلوة غير مأمونة العواقب، والنفس أمارة بالسوء، ولقد نهى نبينا الكريم- صلى الله عليه وسلم- عن الخلوة بالأجنبية حتى ولو كانت بينهما علاقة قرابة، ودليل ذلك عن عقبة بن عامر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال "أياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت" ([7]). والمراد بالحمو هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه لأنهم محارم الزوجة وبالتالي يجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت، وإنما المراد هو الأخ وابن الأخ والعم وابن العم وابن الأخت ونحوهم ممن يحل تزويجه لو لم تكن متزوجة، وجرت العادة بالتساهل فيه فيخلو الأخ بامرأة أخيه فيشبه بالموت وهو أولى بالمنع من الأجنبي... فالمعنى أن دخول قريب الزوج على امرأة الزوج يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة أي فهو محرم معلوم التحريم، وإنما بالغ في الزجر عنه ودخوله على المرأة قد يفضي إلى موت الدين أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج أو إلى الرجم إن وقعت الفاحشة ([8]).
إذا كان هذا بالنسبة للقريب، فغير القريب تحرم به الخلوة من باب أولى، ففي الصحيح عن ابن عباس- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، فقابل رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا. قال: "ارجع فحج مع امرأتك" ([9]).
إن الإسلام بهذه الحيطة البالغة يصون عرض المرأة وكرامتها، ويحافظ على مشاعر الرجل الأبي الذي لا يرضى الدنية، فما أسمى هذا التشريع الحكيم وما أعظمه.
ألا ليعلم كل عفيف نقي أن طعنة في جسده خير له من مس امرأة لا تحل له، فعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له" ([10]).
وفي ضوء هذا تتبين العلاقة بين الخاطب والمخطوبة، والسلوك الذي ينبغي أن يكون في تلك الفترة.
الفقرة الثانية: الخطبة على الخطبة وبيان حكمها
هناك أمر خطير حرمه الإسلام، يقع فيه بعض الناس عن قصد وعن غير قصد، وهذا الأمر يتعلق بالخطبة على الخطبة، وغالباً ما يكون الهوى وإتباع النفس الأمارة بالسوء هو الواعي لهذا السلوك القبيح، فحين ينعدم الدين وتضعف عقيدة الإنسان لا يبالي بما يفعل يقود إلى ارتكاب الآثام ووقوع الجرائم التي تهدد المجتمع.
ففي سنة نبينا- عليه الصلاة والسلام- ما يريح النفس ولو أن المجتمع اهتدى بنورنا ما وقع في الفعل المحرم أبدا. "عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه، حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب" ([11])، وعن أبي هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه" ([12]).
المطلب الثاني: كيفية الاختيار في الإسلام
ما هو المنهج الذي رسمه الإسلام في الاختيار؟ وما هي المعايير والأسس التي وضعها الإسلام حتى يضمن الإنسان حياة تغشاها الرحمة وتنزل عليها السكينة؟
إذا كان الإسلام قد شرع الزواج ليعف الإنسان نفسه وينأى عن موارد التهلكة، فإنه قد رسم الطريق الأقوم الذي لا اعوجاج فيه، وبين قواعد للاختيار، فمن الناس من يعجبه الجمال الفاتن، ومنهم من يغريه الجاه العريض، ومنهم من يلهث وراء القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ولكن فسدت مقاييس الاختيار بعد الغزو الثقافي الوافد الذي يستهدف التشكيك في قيمنا وأصول الحياة في إسلامنا.
وكان الواقع أصدق إنباء حين قضى بفشل التجربة التي تنكبت طريق الإسلام في نظام الأسرة، وزادت نسبة الطلاق في بيوت تعيش في مستويات اقتصادية عالية، إن الذين جمعتهم الدنيا تفرقهم الدنيا، والذي لاقوا بدافع الطمع في الجمال أو المنصب فرقتهم أيضا بروق المطامع، والذين حاولوا إرساء بيوتهم على نظرة فابتسامة تهدمت بيوتهم بعد أن غابت الابتسامة وتحولت العين باحثة عن صيد جديد.
فبيد أن موقف الإسلام في الاختيار يتجاوز كل هذه الصغائر لينفذ إلى الجوهر المخبوء ([13]). ومن هنا لقد أضاء القرآن المجيد والسن المطهرة معالم الطريق للاختيار الذي يقوم على أسس من الإيمان والعمل الصالح بعيدا عن الباطل.
يقول الحق سبحانه:
(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ([14]).
ويقول سبحانه: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ([15]).
فالإيمان والعمل الصالح هما الأساس الأول للاقتران بشريكة الحياة، ولابد أن تكون من ذوات الدين، وهذا واضح جلي في هدي رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح أن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك".
فاظفر بذات الدين فإنها الخير كله، معها السكن، تعرف قدر زوجها وتنثني على ولدها لتحيطه بالعطف والحنان، ترضعه من لبنها، ولا تمل خدمة أسرتها، لا تظهر شكواها ولا تبدي عيبا لزوجها، لسانها يجود بأعذب الكلمات، فهي واحة خضراء يستريح في كنفها الزوج والأولاد، أما غيرها فهي جاحدة لنعم زوجها تنفر من رضيعها، وتبخل عليه بلبنها وترضعه المجفف- الألبان الصناعية- لتحافظ على جماله وجسدها، دائمة الشكوى، كلماتها سهم يمزق، وسلوكها منهج يفرق، لا يرى الزوج والأولاد منها راحة فتحيل البيت جحيما ([16]).
إن الذين يخطئون الطريق ويلهثون وراء متع شائنة زائفة قد عميت وطمست بصائرهم، فأصبحوا لا يرون الحقائق، وسقوا أنفسهم بأيديهم من كأس المرارة والأسى، بخلاف الصالحين الصادقين الذين يصونون أبنائهم باختيار المرأة الصالحة ذات الدين والطهر والعفاف، فيقول أحدهم: يا بني ليكن أول شيء تكسبه بعد الإيمان حليلة تقية صالحة، فإنما مثلها كمثل النخلة إن قعدت في ظلها أظلتك، وإن أكلت من ثمرها وجدت طيبا، إن الإنسان إذا وفق في دنياه لامرأة صالحة فقد حاز خير الدنيا والآخرة، فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" ([17]).
وعن ثوبان قال: لما نزل في الفضة والذهب ما نزل قالوا: فأي المال نتخذ؟ قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك، فأوضع على بعيره- أي أسرع بعيره راكبا عليه- فأدرك النبي- صلى الله عليه وسلم- وأنا في أثره، فقال: يا رسول الله أي المال نتخذ؟ فقال: "ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر دينه" ([18]).
إن تدين المرأة هو زينتها الحقيقية، وهو جوهرها الذي ينتقل معها إلى عشها الجديد، وعلى أساس من الدين القويم والخلق الحميد تكون السكينة والسعادة التي تريدها، ومن ثم كان التحذير من التطلع إلى ذوات الجمال والمال فقط، وتجارب الحياة صادقة على أن هذه النوعية سرعان ما تتبدى على حقيقتها المؤلمة، فالجمال الفاتن ربما يجر الإنسان إلى غيرة قاتلة وشك لا انقضاء لأحده، هذا الشك الذي يهدد كيان البنيان الأسري الذي سرعان ما ينهار، وكذلك الغنى، فهذه معايير قد يكون فيها الهلاك، وهذا واضح من قول الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- "لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماء سوداء ذات دين أفضل" ([19]).
وليس معنى ذلك أن الإسلام يعلن الحرب على الجمال والمال وهما من خلق الله تعالى، ولكنه يساعد الإنسان ليوسع أفقه، فيختار شريكة حياته على نحو يحقق مطالب الحياة كلها من غض البصر وإرواء الغريزة، وصلة الرحم، لتجيء البركة نتيجة طبيعية، أما القصد إلى الحسن فقط والمال فقط فهي الدنيا التي تتجاهل مطالب الروح وتوقع الإنسان في فخ العبودية من حيث لا يحتسب ([20]).
اختيار الزوج- شريك الحياة-
إذا كان الإسلام قد حث على اختيار ذات الدين، فقد حث أيضا أولياء أمور الفتيات أن يختاروا لبناتهم أهل الصلاح والتقوى، فليس الأمر قاصرا على اختيار الرجل، ولكن ينبغي أن تكون الفتاة واعية في اختيارها، فتختار صاحب الدين والخلق.
من هدي السنة:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" ([21]).
يجب على الولي كذلك أن يراعي خصال الزوج، ولينظر لكريمته، فلا يزوجها ممن ساء خلقه أو ضعف دينه أو قصر عن القيام بحقها، أو كان لا يكافئها في نسبها.
قال رجل للحسن: "قد خطب ابنتي جماعة فممن أزوجها؟ قال: ممن يتقي الله تعالى فإنه إن أحبها أكرمها وإن بغضها لم يظلمها" ([22]).
إن الإسلام لا ينظر إلى صور الرجال الخلابة اللافتة للنظر ذات البريق الخادع، فتلك صورة باهتة، وإنما ينظر إلى طهارة القلب وصفاء النفس واستقامة السلوك، وهذا هو الاختيار الصادق والنظرة الثقابة الواعية التي تضع الرجال في مواضعهم اللائقة على أساس من التقوى والعمل الصالح، فقد قال عز وجل (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ([23]).
روي أن بلالا وصهيبا أتيا أهل بيت من العرب فخطبا إليهم فقيل لهما: من أنتما؟ فقال بلال: أنا بلال وهذا أخي صهيب، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا مملوكين فأعتقنا الله، وكنا عائلين فأغنانا الله، فإن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فسبحان الله، فقالوا: بل تزوجان، والحمد لله، فقال صهيب لبلال: لو ذكرت مشاهدنا وسوابقنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: اسكت فقد صدقت فأنكحك الصدق.
المطلب الثالث: الحث على الزواج والترغيب فيه
لقد حثنا الإسلام على الزواج ورغب فيه، فالزواج هو أساس العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة وإن المتدبر لآيات القرآن المجيد يجد الدعوة الصريحة المؤكدة، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش وحده أو أن ينفرد بالحياة دون الناس مهما أوتي في دنياه، فما هو الزواج قبل أن يعرفه القرآن الكريم؟ هل هو صفقة تجارية بين شريكين في المعيشة؟ هل هو وسيلة من وسائل الضرورة لإسكات صيحات الجسد والاستراحة من غوايته الشيطانية؟ هل هو تسويغ الشهوة بمسوغ الشريعة؟ هل هو علاقة عدمها خير من وجودها، إذا تأتي للرجل والمرأة أن يستغنيا عنها؟
كل هذا وأشباهه أعلى ما تصورته المجتمعات والعقائد من صور الزواج قبل الإيحاء بالقرآن الكريم، ولكن الزواج في القرآن الكريم هو- الزواج الإنساني- في وضعه الصحيح من وجهة المجتمع ومن وجهة الأفراد- فهو واجب اجتماعي من وجهة المجتمع، وسكن نفساني من وجهة الفرد وسبيل مودة ورحمة بين الرجال والنساء ([24]). وما ذكره العقاد جزء مما يفهم من الآية الكريمة (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) ([25]).
هذا الحق جعله سبحانه وتعالى من سنن الأنبياء والمرسلين كذلك، فقال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) ([26]).
قيل: إن اليهود عابوا على النبي- صلى الله عليه وسلم- الأزواج وعيرته بذلك، وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا لشغله أمر النبوة عن النساء، فأنزل الله هذه الآية وذكرهم أمر داود وسليمان عليهم السلام، فقال: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) أي جعلناهم بشرا يقضون ما أحل الله من شهوات الدنيا، وإنما التخصص في الوحي.
وقول القرطبي، والبينة واردة بمعناها واضح في قول النبي- صلى الله عليه وسلم- "أربع من سنن المرسلين الختان، والسواك، والتعطر، والنكاح" ([27]).
الفقرة الأولى: مع السنة المطهرة
لقد تضافرت أحاديث المصطفى الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- في الحث على الزواج والترغيب فيه، ومن المعلوم أن الإكثار من التوجيه على شيء دليل صدق على مكانته السامية وأهميته.
ففي الصحيحين يقول- صلوات الله وسلامه عليه- "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباء فليزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم".
وفي رواية من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
يقول الإمام النووي:
"اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قوليه:
القول الأول: أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع، فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤنة النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء، وعلى هذا القول وقع الخطأ مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء ولا ينفكون عنها غالبا.
القول الثاني: إن المراد بالباءة مؤنة النكاح سميت باسم ما يلازمها وتقديره من استطاع منكم مؤنة النكاح فليتزوج، ومن لم يستطع فليصم ليدفع شهوته، والذي حمل القائلين بهذا على هذا أنهم قالوا في قول- صلى الله عليه وسلم- ومن يستطع فعليه بالصوم، قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم لدفع الشهوة فوجب تأويل الباءة على المؤن ([28]).
وسواء كان المراد من الباءة هو القدرة على الجماع أو مؤن الزواج أو هما معا فإن ما يلفت النظر في الحديث هو اقتران الاستطاعة بالأمر، وهو واضح في قوله "فليصم" ومعنى فإنه له وجاء أي وقاية.
عن عائشة قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ومن كان ذا طول فلينكح ومن لم يجد فعليه بالصيام فإنه له وجاء ([29]).
ومع هذه التوجيهات النبوية والتأكيد الجازم في الدعوة إلى الزواج، مع كل هذا نقول: قد يقع الإنسان تحت وطأة ظروف اقتصادية تحول بينه وبين الزواج وقد نجد شبابا ذا طول وسعة ولكنهم يحجمون عن الزواج بدعوى الهروب من أعباء الحياة ومسئولياتها.
فالصنف الأول له في شرع الله سعة "فعليهم أن يلجئوا إلى الله وأن يجتهدوا في أعمالهم، فعسى الله أن يبارك في القليل من دخلهم، وفي النهاية سيأتي الله بالفرج، وإياهم ومخالفة شرع الله والزلل في الفاحشة وليصونوا أنفسهم عن كل ما يغضب الله وأن يتسلحوا بالعفة وسيجدون ما ينشدون، قال الله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِ ِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ([30])، وعليهم أن يحافظوا على الصلوات الخمس في أوقاتها وأن يكثروا من الصوم فإنه علاج لكسر حدة الشهوة، ويقلل من دوافعها ([31]).
لو أن المجتمع درج على الاعتصام بحبل الله المتين والاستمساك بالعروة الوثقى التي لا انفصام فيها لما وجد فيها من ينحرف ويسلك سبيل الشيطان، وهناك آية في القرآن المجيد غفل عنها الكثيرون وإذا تليت عليهم لا تتجاوز آذانهم، ففيها من رحمة الله سبحانه وعظيم حكمته أن جعل الزواج سبيلا إلى الغنى، فيقول جل ذكره: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ([32]).
يقول الإمام ابن كثير في بيانه للآية الكريمة: هذا أمر بالتزويج، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه... والأيامى جمع أيم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له، وسواء كان قد تزوج ثم فارق أو لم يتزوج واحد منهما، وقوله تعالى: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه) قال ابن عباس وابن أبي طلحة رغبهم الله في الزواج ووعدهم عليه بالغنى. قال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أطيعوا الله فيما يأمركم به من النكاح؛ ينجز لكم ما وعدكم من الغنى.
وقد زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا أزاره ولم يقدر على خاتم من حديد بمرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن، والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله ([33]).
إن القائل هو الله رب العالمين الذي إذا وعد بالخير وفي حكم الله لا معقب له، وتلك حقيقة ثابتة، ولو أن الناس أيقنوا بهذا وتوكلوا على ربهم حق توكله لأحسوا هذه الحقيقة وشعروا به ولما كلفوا أنفسهم المشقة والعنت.
قال جل جلاله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) ([34]).
أما هؤلاء المتقاعصون المتهاونون في أمر الزواج مع قدرتهم فحسبهم قول الرسول- صلى الله عليه وسلم- "فمن رغب عن سنتي فليس مني".
الفقرة الثانية: التبتل سلوك ينهي عنه الإسلام
أمام مطالب الحياة المسعورة التي لا تنتهي أبدا يحجم كثير من الشباب عن البحث عن شريكة الحياة، فقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت والدنيا مع سعتها وظنوا أن التبتل هو المخرج الوحيد من هذه الهوة السحيقة وهذا المستنقع الرهيب، وهذا بالنسبة لمن لا قدرة لهم. وهناك صنف من الناس يتخذون من التبتل وسيلة قربى إلي الله سبحانه وتعالى، وإذا كان الإسلام قد حث على الزواج حثا أكيدا ونهى نهيا صريحا عن التبتل أيضا.
معنى التبتل:
يقال: تبتل إلى العبادة تفرغ لها وانقطع ([35])، قال العلماء التبتل هو الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعا إلى عبادة الله وأصل التبتل القطع... قيل: التبتل هو ترك لذات الدنيا وشهواتها والانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى بالتفرغ لعبادته ([36]).
ولقد نهى سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- عن التبتل والانقطاع للعبادة، فإن ذلك يفضي إلى انقراض النوع الإنساني ولا يحقق الاستخلاف المطلوب من الإنسان من الإنسان في الأرض.
قبس من النور
سعيد بن المسيب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: لقد رد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا ([37]). إن هذا الصنيع بعد واضح عن منهج الإسلام الصحيح وظلم للنفس الإنسانية والمتأسون برسول الله- عليه الصلاة والسلام- أسوة صادقة لا يلجئون إلى هذا أبدا، فرسول الله لم يرض هذا لأصحابه ورد على من أراد التبتل تبتله ونهاه عن ذلك، ووضح المنهج السوي لمن يقوم الليل كله ويصوم النهار أبدا ويعتزل النساء لا يقربهن.
وفي صحيح الحديث عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي- صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالوها ([38]) فقالوا: أين نحن من النبي- صلى الله عليه وسلم- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! قال أحدهم: أما أن أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وارقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" ([39]).
ومما تقدم ندرك أنه لا رهبانية في الإسلام، ولا انقطاع مطلق عن دنيا الناس حتى لو كان تفرغا للعبادة، فلقد استبعد الإسلام كل فكرة ترمي إلى تعذيب الجسد وحرمانه وكبت غرائزه وإيلامه، والله سبحانه لم يخلق للإنسان جوارحه لتكون وسيلة ألم للنفس، ولكن دعا الإسلام إلى الاتزان والبعد عن الشطط والغلو، ولقد عنف الرسول الكريم كل من تحدثه نفسه بالترهب واعتزال النساء والخروج عن المألوف في دين الله.
ديننا الحنيف يكرم الإنسان كما هو بنوازعه وميوله الفطرية، وللنفس أن تتسامى وترتفع- وهذا حقها- ولكن بما يحقق مرضاة الله سبحانه ويحقق صالح الفرد والمجتمع، وإذا كان هؤلاء يظنون أن الأمر مجرد غريزة جنسية وشهوة جسدية فهم واهمون في هذا الظن، فالأمر أسمى من ذلك وأجل.
بعض الناس يظن أن التقرب إلى الله يكبت هذه الغريزة أبدا، ومن ثم فهو يعد الرهبانية درجة رفيعة من درجات السمو الإنساني، ودلالة كبيرة على حب الله والسعي في رضاه، والإسلام يأبى هذا التفكير ويرفض نتائجه جملة وتفصيلا،فهو دين الفطرة، ويصون الطبيعة البشرية ولا يمحقها، ونظرته إلى الميل الجنسي كنظرته إلى رغبة المعدة في الأكل، إن هذه الرغبة لا تنكر، ولكن يجب أن يكون المطعوم حلالا لا حراما، وطيبا لا خبيثا، فمن حق الله عليه ألا يأكل الجيف أو الدماء أو الخنازير... ومن حق الله عليه إذا وجد الطعام المباح ألا يكتسب بأسلوب الغش والخطف وغيرهما، كذلك من الناحية الجنسية.
إن الإسلام يرسم طريقا معينة لإشباع هذه الرغبة ويضع لها الحدود التي تتحرك داخلها، فإذا توفر لها الحلال الطيب انحسم الحرج كله في مسلكها، وكما يأكل باسم الله تعالى فيباشر زوجه كذلك باسم الله تعالى، وبانضمام النية الصالحة إلى هذه الأعمال المعتادة تتحول- وهي شهوات- إلى عبادات متقبلة" ([40]).
وعلي هذا نقرر أن العلاقة الإنسانية بين الجنسين- الرجل والمرأة- ليست علاقة جنسية فحسب، وثم قضية مهمة يجب أن تراعي وهي أن طبيعة نظرة الإسلام إلى الإنسان لا تسمح أن تكون العلاقة بين الجنسين هي مجرد العلاقة الحيوانية القائمة بين أزواج الحيوان، فالإنسان مخلوق فذ في تكوينه، فذ في مآله ومصيره.. وهذه الخصوصية من شأنها أن تجعل العلاقات الجنسية فيه غاية أبعد وأشمل من غاية الالتقاء الحيواني واللذة الحيوانية، فهي غاية تتفق مع غاية وجوده كما تتفق مع طبيعة تكوينه ([41]).
ولو أن الأمر مجرد شهوة جسدية فحسب كما يزعم مدعو الرهبنة لما كان لها مثوبة عند الله تعالى، ولما أجر عليها الإنسان، فلقد سما الإسلام بهذه العلاقة وحث على الزواج لأنه أراد بذلك من الإنسان أن يعمر الكون كما يحب الله سبحانه وتعالى.
المطلب الرابع: أهداف الزواج ومقاصده
إن الزواج ليس علاقة عادية بين الرجل والمرأة، وليس قضاء لوطر فحسب، ولكن له غاياته وأهدافه التي تسمه بالإنسانية، فمن أهم أهدافها:
الولد الصالح:
إن الذرية هي هدف كل إنسان من زواجه، والولد الصالح الذي تقر به العين هو الأمنية التي يتمناها الإنسان، وثم إشارة إلى هذا في قول الله تعالى: (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) ([42]).
قال ابن عباس ومجاهد ابن عيينة وغيرهم: معناه وابتغوا الولد يدل عليه أنه عقيب قوله: (فالآن باشروهن) ([43])، وهذا ما ذهب إليه الحافظ ابن كثير أيضا، فالولد هو المقصد وله شرع الزواج، كذلك لبقاء النوع الإنساني، فالإمام الغزالي حين ذكر لفوائد النكاح يقول: الولد هو الأصل وله وضع النكاح والمقصود إبقاء النسل وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس، وفي التوصل إلى الولد قربة من أربعة وجوه هي الأصل في الترغيب فيه:
الأول: موافقة محبة الله- عز وجل- بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان.
الثاني: طلب محبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تكثير من مباهاته.
الثالث: طلب التبرك بدعاء الولد الصالح.
الرابع: طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله ([44]).
ومعلوم لدى الكافة أن الأولاد زينة في الدنيا ومتعة، وهذا ما صرح به الحق سبحانه في قوله: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ([45]) وفي دعاء عباد الرحمن (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَ ا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) ([46])، فجعل رسولنا الكريم- صلوات الله عليه وسلامه- الولد الصالح من خير ما يتركه الإنسان ويخلقه بعد انقضاء حياته، ففي ظل وجود الأولاد الصالحين يتكون المجتمع الصالح الذي يرقى به أبناءه، وهذه حقيقة لا يماري فيها عاقل، فالعنصر البشري في أي مجتمع من المجتمعات هو رأس ماله ولا يمكن الاستغناء عنه.
التحصن من الشيطان:
ومن مقاصد الزواج وأهدافه التحصن من الشيطان وكسر التوقان ودفع غوائل الشهوة وغض البصر وحفظ الفرج، ففي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروح القلب، وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات.. ولذلك قال الله تعالى: (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) ([47]). وقال علي رضي الله عنه: روحوا القلوب ساعة فإنها إذا أكرهت عميت. فالمرأة الصالحة المصلحة للمنزل هي عون على الدين، واختلال هذا الأمر وشواغل ومشوشات للقلب ومنغسات للعيش ([48]). فما أسمى هذه المقاصد وما أرقى وأنبل تلك الأهداف السامية.
المبحث الثاني
حقوق كل من الزوجين على الآخر
لقد بين الإسلام سبيل العلاقة بين الزوجين، ووضع الأسس القوية التي تكفل الساعدة للبشرية كلها، وعنى عناية فائقة بهذه العلاقة، فأوجب حقوقا لكل منهما على الآخر، تلك الحقوق التي تقوم على العدل التام، ملبية لداعي الفطرة السليمة، كافية سلامة الأسر من أي انحراف يعوق مسيرة حياتها أو يكدر من صفوتها. فحين قرر الإسلام هذه الحقوق وعد القائمين بها المحافظين عليها بالخير العظيم والثوابت الجزيل وتوعد المخالفين المضيعين لها بأسوأ مصير ومآل.
وينبغي أن تكون الحياة الزوجية قائمة على الحب المتبادل والاحترام، فلا أنانية ولا أثرة، وسبيل ذلك هو الالتزام بهذه الحقوق، فمن درج عليها تحقق له الأمن والاستقرار، فضلا عن أنه في طاعة الله سبحانه" (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) ([49]). والحياة المطمئنة لها عمدها التي تقوم عليها، هذه العمد هو ما يجب لكل من الزوجين نحو الآخر...
ونوضح هذه الحقيقة فيما يلي:
المطلب الأول: حقوق الزوج على زوجته
إن للزوج حقوق يجب على الزوجة أن توفيها كاملة غير منقوصة، حتى ترضي ربها وتسعد زوجها. فالرجل يمضي بيومه جاهدا في سبيل لقمة العيش له ولذويه، ثم يعود إلى بيته كليلا مرهقا محطم الأعصاب، فما لم يجد في بيته من أسباب الراحة ما يسترد به أنفاسه الحرة، ويعيد إليه نشاطه، فإنه يرجع إلى عمله وهو يشعر بثقل الحياة على كتفيه... ومن آيات الله تعالى الدالة على قدرته وحكمته أن خلق لنا من أنفسنا زوجات لتطمئن إليها النفوس، وتستريح إلى مودتهن القلوب، وليكن منابع الرحمة للأزواج المكدودين، فإذا كانت الزوجات خلقهن بديع السموات والأرض ليكن مصدر الطمأنينة والمودة والرحمة، فعلى كل زوجة أن تعي ذلك وأن تعمل على أن تكون هي الواحة الخضراء التي يتغيأ ظلها زوجها إذا عاد من عمله... وأن تكون النسيم العليل الذي يمر برفق عليه فينتشي فؤاده، فإن راحة زوجها راحة لها، وهناءه هناء لها ([50]).
إن الزوجة الصالحة ترعى الله في زوجها وفيما ولاها فيه، فحق الزوج على زوجته عظيم، وهذا الحق مستمد من عظم قدر الزوج ومكانته الرفيعة التي بوأها الإسلام.
ولا غر- في ذلك- فهو الربان الذي يقوم السفينة إلى مرفئها بأمان، فلو فقدت ربان السفينة باتت تلعب بها الأمواج، ودفعتها إلى موطن الهلاك فكم من زوجة تقمصت شخصية الزوج وراحت تقود السفينة ومسخت الرجل وأقنعته بأن رأيه إلى أفن وعزمه إلى وهن، ورضي بملء بطنه وشراب يواكب هواه ومزاجه، وصارت هي الآمرة الناهية، وحينما تلبس المرأة هذا الثواب، تكون قد انسلخت من جلدها كما تنسلخ الحية، وتمردت على طبيعتها، فهي الرقية الحانية المؤنسة، وهي الواحة الوراقة، يجد الزوج الروح والريحان في ظلال أعذب الكلمات وأرق العبارات، فهي الملجأ من قسوة الحياة والحصن من همومه، ففي جانبها تتبدد الهموم، وفي كنفها تتضاءل المشاكل، وفي القرب منها تتبخر الآلام، وبعبارة تجود بمعاني زاخرة أتت البلاغة القرآنية بإيجاز قال تعالى: (وَمَنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ([51]).
فللمرأة طبيعتها التي فطرها الله عليها، وللزوج طبيعته التي خلقه الله عليها ([52]).
الفقرة الأولى: أول حق واجب للزوج هو- القوامة
فالزوج قيم الأسرة ورئيسها المطاع، وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) ([53]).
قال ابن عباس: قوامون مسلطون على تأديب النساء في الحق، ويشهد لهذا القول أن طاعتهم لهم ويشهد لهذا القول طاعتهن لهم في طاعة الله.
وقوام: صفة مبالغة، ويقال: قيام وقيم، وهو الذي يقوم بالأمر ويحفظه. والباء في بما للسبب، وما مصدرية أي: بتفضيل الله، والضمير في بعضهم عائد على الرجال والنساء، وذكر تغليبا للمذكر على المؤنث، والمراد بالبعض الأول الرجال، وبالثاني النساء، والمعنى: أنهم قوامون عليهن بسبب تفضيل الله الرجال على النساء، هكذا قرروا هذا المعنى. قالوا: وعدل عن الضميرين فلم يأت بما فضل الله عليهن لما في ذكر بعض من الإبهام الذي لا يقتضي عموم الضمير، فرب أنثى فضلت ذكرا.
وفي هذا دليل على أن الولاية تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة ([54])، وذكروا أشياء مما فضل به الرجال على النساء على سبيل التمثيل. فقال الربيع: الجمعة والجماعة، وقال الحسن: النفقة عليهن وينوب عنه قوله: وبما أنفقوا في أموالهم وقيل: التصرف والتجارات. وقيل: الغزو، وكمال الدين، والعقل. وقيل: العقل والرأي، وحل الأربع، وملك النكاح، والصلاحية للنبوة والخلافة والإمامة والجهاد ([55]).
سبب نزول الآية الكريمة
روي أن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار- رضي الله عنهم- نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن خارجة فلطمها؛ فقال أبوها: يا رسول الله، أفرشته كريمتي فلطمها، فقال عليه السلام: لتقتص من زوجها. فانصرفت مع أبيها لتقتص منه، فقال عليه الصلاة والسلام: ارجعوا هذا جبريل أتاني، فأنزل الله هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام- أردنا أمرا وأراد الله غيره. وفي رواية: أردت شيئا وما أراد الله خير، ونقض الحكم الأول ([56]).
ودلت هذه الآية على تأديب الرجال نساءهم، فإذا حفظن حقوق الرجال فلا ينبغي أن يسيء الرجل عشرتها، وقوام فعال للمبالغة من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد، فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد، وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها ومنعها من البروز، وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم يكن في معصية الخالق ([57]).
إن حكمة الله سبحانه اقتضت أن يفضل الرجال بأشياء دون النساء، إذ أن طبيعة الرجل تختلف تمام الاختلاف عن طبيعة المرأة، وعلى هذا فهو أقدر على قيادة الأسرة وسياستها، وأحكم لأمورها وتدبير شئونها، فهو لا يتوارى خلف عواطفه ومشاعره- مثل المرأة- وإنما يحكم رجاحة العقل وثاقب الفكر فيما يعود عليه بالنفع على أهله ومجتمعه، وطبيعة الأسرة- وهي اللبنة الأولى في المجتمع- أنها في حاجة إلى من يتولى أمرها ويحسن قيادتها.
ضرورة القوامة لإصلاح الأسرة
لا يستقيم أمر هذا المجتمع الصغير- الأسرة- إلا برئيس يشرف على إدارته، ويدين له بالطاعة مختلف أفراده، وإلا استحال إلى الفوضى والاضطراب، ولذلك عنيت النظم الاجتماعية بتعيين رئيس للأسرة، واتفقت على إسناد هذه الوظيفة إلى الزوج، وعلى هذا تسير معظم القوانين في الأمم الأوروبية نفسها... فالمادة الأولى من القانون الفرنسي تقرر: "إن الزوج يجب عليه صيانة زوجته، وإن الزوجة يجب عليها طاعة زوجها". والمادة الثانية تقرر: "إن الزوجة ملزمة أن تسكن مع زوجها، وأن تتنقل معه إلى أي مكان يؤثر الإقامة فيه، والزوج ملزم أن يعاشرها وأن يقدم لها كل ما هو ضروري لحاجات الحياة في حدود مقدرته وحالته" ([58]).
فالنظم الحديثة التي لا تدين بالإسلام تقرر هذا الحق للرجل، وتجعله قيما على مملكته الصغيرة، وإذا كانت هذه النظم تقرر هذه الحقيقة لأنها السبب في بقاء الكيان الأسري، فإنه الحق سبحانه- وهو الأعلم والخبير- بما يصلح شأن البشر كلهم لذلك أعطى سبحانه وتعالى هذه القوامة للرجل، وجعل منها صلاح في أمور الدنيا ووعده بالثواب في الآخرة إذا رعاها حق رعايتها، فالقيم المسلم يقوم على شأن بيته بدافع من الخشية والمراقبة لله تعالى لا على أنها نظام سائد في دنيا الناس، ولكن على أساس أنه تشريع حكيم يجب الالتزام به، فهو الراعي الحاني المسئول عن رعيته.
وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والأمير راع والرجل راع على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ([59]).
والغرض منها أن يسير البيت وفق نظام سائد- محكوم بقيم الدين- لا وفق مآرب متافعة ورغبات متنازعة.. ومن العبث أن تكون أي شركة من غير رئاسة مسؤولة، أو ترك زمام الأمور في البيت في يد المرأة وضع للأمور في غير نصابها، أو هو تحميل العبء للكاهل الضعيف.
والرجل أجدر من امرأته بحق إدارة البيت ورئاسة الأسرة، فإن ما ذرأه الله عليه من احتمال وصلابة ومقدرة واسعة على الكسب والنفقة كل ذلك يجعله أولى بالترجيح ([60]).
وهذه هي المكانة الطبيعية للرجل وسط مملكته الصغيرة، تبوأها عن استحقاق، وحق القوامة للرجل مستمد من التفوق الطبيعي في استعداد الرجل، ومستمد كذلك من نهوض الرجل بأعباء المجتمع، وتكاليف الحياة البيتية، فهو أقدر من المرأة على كفاح الحياة ولو كانت مثله في القدرة العقلية والجسدية، لأنها تنصرف عن هذا الكفاح قسرا ([61]) في فترة الحمل والرضاعة.
أن ما شرعه الله سبحانه هو المنهج الحق الذي يوصل إلى أسمى الغايات وأنبل المقاصد فلا داعي للتشدد بكلمات جوفاء ينوء عنها السمع، ويمحها الطبع السليم، ويأباها ذوو الفطرة النقية والعقول الصافية، وحسبنا أن المجتمع الذي يتزاحم الرجال والنساء فيه على عمل واحد لن يكون مجتمعا مستقيما على سواء الفطرة مستجمعا لأسباب الرضا والاستقرار بين بناته وبنيه، لأنه مجتمع يبذر جهوده تبذير السرف والخطل ([62]) على غير طائل ويختل فيه نظام العمل كما يختل فيه نظام الأسرة والبيت.
فالمرأة لم تزود بالعطف والحنان والرفق بالطفولة والسهر على رعايتها في أطوارها الأولى لتهجر البيت وتلقي بنفسها في غمار الحياة... والآفة الفتاكة في حب المحاكاة... فإن المرأة يخيل إليها أنها لا ترفع الضعة عن نفسها إلا إذا عملت عمل الرجال وطالبات بحقوق الرجال، وأن النساء والرجال سواء في جميع الأعمال والأحوال.
ولولا مركب النقص لكان للمرأة فخر بمملكة البيت، وتنشئة المستقبل فيه لا يقل عن فخر الرجل بسياسة الحاضر وحسن القيام على مشكلات المجتمع التي تحتاج إلى الجهد والكفاح، وهي لو رجعت إلى سليقتها لأحست أن زهوها بالأمومة أغلى لديها وألصق بطبعها من الزهو بولاية الحكم ورئاسة الديوان، فليس في العواطف الإنسانية شعور بملأ فراغ قلب المرأة كما يملؤه الشعور بالتوفيق في الزواج، والتوفيق في إنماء البنين الصالحين والبنات الصالحات ([63]).
حقيقة القوامة
ينبغي التنبيه على أمر ذي بال ونحن بصدد الحديث عن قوامة الرجل على أهل بيته وهو أن القوامة تكريم للمرأة في كل شيء، والقوامة لا تعني الجبروت من الرجل على أهله، وليس فيها أي ظلم على المرأة أو غض من شأنها وحط من قدرها، وإنما هي محافظة على المرأة وكرامتها وعفافها.
فقوامة الرجال في الأسرة قوامة رحيمة قائمة على المودة والمحبة والإرشاد، تصون للمرأة حقوقها، وتحقق مصلحتها على أخير الوجوه، فهي رعاية ومحبة مخلصة وليست بسلطان مفروض، وهي تدبير وإرشاد وليست بسيطرة ولا استبداد، وقد حرص الإسلام على أن يجعلها في صورة تكفل مصلحة الأسرة والمرأة نفسها في جميع الأوضاع والحالات التي تجتازها المرأة في حياتها.
فإذا كانت غير متزوجة كان مظهر القوامة هو محافظة ولي أمرها عليها وصيانتها وتزويدها بما تحتاج إليه من نفقة حتى لا تتذل بعمل مهين، وتتردى فيما لا يليق بها ولا بأسرتها، ويسيء إليها في حاضرها ومستقبلها، فالقوامة في هذه الحالة قوامة حفظ وصيانة ورعاية وحماية وإمداد بكل ما تحتاج إليه في حياتها... فإذا جاء دور زواجها فلها أن تختار ويشترك معها وليها بالمشورة، شريطة أم يكون صالحا فيه الكفاءة ([64]).
وبعد الزواج تنتقل القوامة إلى زوجها، ولكن هذه القوامة لا تنقص شيئا من شخصية المرأة وأهليتها، فالمرأة المسلمة تظل باسمها واسم أسرتها وبكامل حقوقها المدنية، وبأهليتها في تحمل الالتزامات، ومحتفظة بحقها في التملك تملكا مستقلا عن غيره، ولها شخصيتها المدنية الكاملة وثروتها الخاصة المستقلة عن شخصية زوجها وثورته، فلا يحل أن يتصرف في شيء من مالها إلا إذا أذنت له بذلك، وإنما تتمثل القوامة في تدبير سياسة البيت ([65]).
القرة الثانية: حق الطاعة وحسن العشرة
إن طاعة الزوج من أعظم القربات التي تتقرب بها المرأة الصالحة إلى الله تعالى فيجب على الزوجة المخلصة أن ترعى الله في هذا الحق، وأن تطيع زوجها طاعة الخليل لخليله والمحب لمن يحبه.
والطاعة هنا تكون فيما أحل الله سبحانه، فعليها الطاعة فيما لا معصية فيها، لأن الطاعة مجلبة للهناء، والمخالفة تولد الشحناء والبغضاء، وتوجب النفور وتفسد عاطف الإخاء وما من امرأة نبذت طاعة زوجها إلا حل بها الشقاء ولحقها البلاء، وكلما زادت طاعة الزوجة لزوجها ازداد الحب والولاء بينهما، وتوارثه أبناؤهما، لأن الأخلاق المألوفة إذا تمكنت صارت ملكات موروثة.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها دخلت الجنة ([66]).
وجاءت المادة 414 من الأحكام العبرية- متى خرجت الزوجة من بيت أهلها، ودخلت بيت زوجها صار له عليها حق الطاعة التامة والامتثال الكامل، فعليها ألا تخالفه في شيء مما يطلب منه، بل تذعن له كما تذعن الجارية لسيدها، وفي العدد 22 من الإصحاح الخامس من راسله بولس الرسول إلى أهل أفسس، أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب، لأن الرجل هو رأس المرأة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال فإن يصيبوا أجروا، وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن معشر النساء نقوم عليهم، فما لنا من ذلك؟ قال:- أي ابن عباس- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك، وقليل منكن من يفعله ([67]).
إن الزوج ذو قدر عظيم ومكانة سامقة، ولابد لكل زوجة أن تضع زوجها في المكانة اللائقة به، وأن تعرف له عظمته، وكفاها إجلالا أن تفعل هذا راجية الأجر والمثوبة من الله تعالى، وخليق الزوجة أن تعلم أن رضا الله عليها مقرون بحسن الطاعة، ولقد سما ديننا الحنيف بالزوج ورفعه مكانا عليا، ولو أبيح السجود لأحد من البشر لكان أولى به وأحق سجود المرأة لزوجها لعظم حقه عليها.
عن عبد الله بن أبي أوفى: قال: (لما قدم معاذ من الشام، سجد للنبي- صلى الله عليه وسلم-، قال: ما هذا يا معاذ؟ قال: أتيت الشام، فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن أفعل ذلك بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمرا أحد أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه ([68]).
وعن أبي هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: لو كنت آمر أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ([69]).
إن عصيان الزوج ذنب عظيم ومعصية شنيعة، وعلى المرأة الصالحة أن تنزه نفسها عن كل ما يغضب بعلها أو يؤذي مشاعره، ذلك أن خطر إيذائها وضرره ليس قاصرا على الزوج فحسب، بل يتعداه إلى من هن أكرم منها وأبر في عالم الغيب وهن الحور العين. وحسبنا ما رواه معاذ بن جبل وعائشة وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم "لا تؤذي امرأة زوجها إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله فإنها هو دخيل يوشك أن يفارق الدنيا ([70]).
إن شأن الزوجة الظاهرة الصالحة أن تعمل جاهدة على إضفاء السعادة على شريك الحياة وإرضائه بكل ما تملك ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، فلا تتعمد الإيذاء وتنغيص العيش وتكدير الصفاء، لأنها توقن أن الزوج طريق موصل إلى الجنان والرضا من قرين الرضا من الرحمن.
وحسبنا عن أم سلمة قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أيما امرأة باتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة ([71]).
أذكر هذا النور المبين، الموصل للعادة في الدارين، والجبين يندى خجلا والقلب يعتصر حزنا لما آل إليه حال كثير من الزوجات الآن. فكثير من الزوجات- الآن- يتأففن لأزواجهن لأتفه الأسباب، وقد يبلغ منهن على أزواجهن فيجود اللسان بأخس الكلمات وأبشع العبارات البذيئة تلقها في وجه زوجها، بلا مراعاة لحق أو تقدير لعاقبة أمر، والمرأة بهذا التصرف القبيح تهدد بنيان أسرتها فضلا عن غضب ربها عليها، وما يسمع ويقرأ الآن عن تلك المآسي تتقطع من هوله الأفئدة، فهذه امرأة لا تطيع لزوجها أمرا، وهذه لا تبالي ولا تلقي بالا لزوجها، فهو في نظرها كم مهمل، وثالثة بلغ بها الجحود والنكران، وكفرة بنعمة ربها وانسلخت من كل مشاعر الإنسانية، وتجرأت على الفتك بزوجها، ويا للأسى والأسف أن تفعل ذلك حتى يخلو لها الجو في عيشة موبوءة محرمة مع خدمها وعشيقها.
سلوك ساقط قبيح
في إحدى الصحف اليومية قرأت ما يلي ([72]): "تذبح زوجها بمعاونة زميلها ويشعلان النيران في جثته لإخفاء الجريمة، وتفاصيل الخبر ذبحت عاملة زوجها بمعاونة زميلها في العمل وحتى يخلو لها الجو للزواج بهذا الزميل.. غافله وضربه بشاكوش على رأسه ثم ذبحه بمعاونة زوجته وابن شقيقتها وأشعلوا النيران في الجثة لإخفاء معالمها.
إن هذه الزوجة التي وئدت في داخلها أدنى معاني الخير لهي أحط وأخس من الحيوان الذي يرفع حافره عن صغيره خشية أن تصيبه، ومهما يكن سلوك الزوج ومهما ساءت تصرفاته- فما ينبغي أن يكون طريق الخلاص بهذه الصورة الوحشية؟ أما كان هناك من سبيل سوى هذه الطريقة؟ قتل وإحراق بالنار، ولماذا؟ حتى يخلو الجو لعيشة فاسقة فاجرة. فإلى هؤلاء اللاتي قست قلوبهن، وتبلدت مشاعرهن، وظن أن الحياة لذائذ مسعورة، وأوقات تقضي عبثا في فجور ومجون نسوق لهن قول الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه "والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنجيس بالقيح والصديد ثم استقبلته تلحسه ما أدت حقه" ([73]).
فإذا استحال أمر العيشة فشرع الله واضح "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" ([74]).
الفقرة الثالثة: ومن حقه ألا تدخل أحدا بيته إلا بإذنه
من حق الزوج على زوجته ألا تأذن لأحد في دخول البيت- من غير المحارم- إلا أن بأذن هو، وهذا الحق ضائع بين أهله وأصبح أمر الولوج والخروج مباحا في أي وقت، فبعض الزوجات لا يفطن إلى حرمة هذا الأمر، ولكن المرأة الصالحة تحافظ على هذا الحق مستهدية بآداب الإسلام الرفيعة، فدخول البيت بغير إذن الزوج أو في غيبته فيه مفاسد ومخاطر جسيمة، وأدب الإسلام في حماية للأسرة من التصدع والانهيار أدب يرقى بالمجتمع إلى آفاق الملأ الأعلى.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه وما أنفقت من نفقة من غير أمره فإنه يؤدي إليه شطره" ([75]).
وفي خطبة الوداع قال عليه الصلاة والسلام: "ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون" ([76]).
بين أدب الإسلام وتعاليم الغرب
إذا كان الإسلام قد دعا إلى مكارم الأخلاق والسمو فخليق بالزوجات أن يحافظن وأن يلتزمن، فما انهارت البيوت وهدمت إلا بسبب الخلط وعدم الحفاظ على تعاليم الإسلام والتقليد الأعمى..
قال الهيثم بن عدي: قدمت امرأة شريفة من بني كلب مكة للحج، وكانت من أجمل النساء، فرآها عمر بن ربيعة فجعل يكلمها ويتبعها كل يوم فتقول له: إليك عني فإنك في حرم الله وفي أيام عظيمة الحرمة، فألح عليها فخافت الشهرة ([77])، فقالت لزوجها ذات يوم: إني أحب أن أتوكأ عليك إذا رحت إلى المسجد، فراحت متوكئة على زوجها، فلما أبصرها عمر بن ربيعة ولى، فقالت على رسلك يا فتى: تغدو الذئاب على من لا كلاب به.. وذو العفة الحريصون على عفاف النساء يتحاشون زيارتهن عند غياب أزواجهن مهما كانت الصداقة، كما يحذرون مداعبة الأطفال أمام أمهاتهم. ففي هذا كسب لعواطفهم، كما قال عقيل:
فطبيعة المسلم إذن لا ترضى الدنية في الدين والعرض، وشيمته الكريمة ترفعه عن الصغار... إلا أم المجتمع ابتلى بآفة المحاكاة الكاذبة والتقليد الأعمى المقيت، فقد تسمح بعض الزوجات بالدخول والخروج في بيت الزوجية سواء كان الزوج حاضرا أم غائبا.. بلا خجل أو حياء.
ولست بصادر عن بيت جاري صدور العير غمره الورود ([78]) ولست بسائل جارات بيتي أغياب رجالك أم شهود ولا ألقى لذي الودعات ([79]) سوطي لألهيه وريبته أريد ([80])
إن سلوك غير المسلمين في هذا الشأن غير محكوم بضوابط، فمعلوم مدى التحرر- التحلل- الذي يعيشوا فيه، فمن السهل أن تتخذ الزوجة خدنا- صديقا- أو أخدانا.
نموذج سيء:
هناك نموذج لهذا السلوك السيئ يميط اللثام عن الواقع المرير لسلوك الغرب. يذكر الأستاذ مصطفى الحديدي ([81]) أن الصحف البريطانية كتبت عن رجل أعمال متزوج ولم ينجب أنه تغيب أسبوعين ثم أبرق لزوجته أنه سيغيب أكثر من شهر، وطلب إليها أن تتسلى في تلك المدة بصحبة صديق له، كما كتب إلى صديقه بذلك، وكان كلاهما يقيم وحده، فدعاها إلى منزله لتناول الشاي، ثم أخذ يلتقي بها في معظم الأيام، ثم اتفقا على الإقامة معا، وجعل يتردد معها عليها، فكتب معارف الزوج إليه بذلك، وكانوا لا يعرفون أنه أذن لها بذلك ولم يهتم الزوج، لأن ذلك كان بإذنه ولأنهما كانا يخبرانه بتفاصيل أمورهما، وفي جملة ذلك إقامتهما معا في منزله، ثم عاد الرجل قبل المدة المحددة بعدة أيام، فاتجه فورا إلى منزله بلندن، فوجد الزوجة والصديق جالسين على مائدة العشاء فرحب به أيما ترحيب وقرر الصديق أن ينصرف إلى بيته بعد أن انتهت مهمته في صحبة زوجة صديقه، ولكن الزوج دعاه إلى البقاء حتى الصباح وأن يتابع إقامته المعتادة إذا شاء.
بعدها بأسبوع تقدم الزوج إلى المحكمة بطلب الانفصال عن زوجته بحجة أنه يشك في قيام علاقة محرمة بينها وبين صديقه، ولكن الزوجة صممت على البقاء معه لا تزال تكن له الحب، ورفضت المحكمة الطلاق لأن الزوج لم يستطع أن يثبت جريمة الزنا عليها ([82]).
هذه هي صورة من طبيعة الحياة الفوضوية التي يعيشها الغرب، ولكن الإسلام وهو دين الحياة أحاط الأسرة بسياج حصين يقي العلاقة الزوجية من العثرات، وهو طوق النجاة، ولم يبح للرجل أن يرضي لزوجته بمثل هذه الإباحية العفنة التي تختلط فيها الأنساب... فما أسمى هذا التشريع وما أعظمه، وما أجمل الإنسان وأكرمه حين يهتدي ويسير على طريق الحق والنور، قال سبحانه: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ([83]).
الفقرة الرابعة: ومن حق الزوج ألا تصوم زوجته إلا بأذنه
لقد سما الإسلام بحق الزوج فلم يحل لزوجته أن تصوم صوم تطوع وهو حاضر معها إلا أن يأذن في ذلك، فإن أذن لها صامت وإن لم يأذن فلا. وسبب هذا التحريم كما يقول ابن حجر أن الزوج حق الاستمتاع بها في كل وقت وحقه واجب على الفور، فلا يفوته بالتطوع ولا يوجب على التراخي حتى لو كان الزوج مسافرا وعاد من سفره فله إفساد صومها من غير كراهة.. وحمل بعضهم النهي على التنزيه فقال: هو من حسن العشرة، ولها أن تفعل من غير الفرائض بغير إذنه ما لا يضره ولا يمنعه من واجباته، وليس له أن يبطل شيئا من طاعة الله إذا دخلت فيه بغير إذنه، وهو خلاف الظاهر. وفي الحديث أن حق الزوج أكد على المرأة من التطوع بالخير، لأنه حق واجب والقيام بالواجب مقدم على القيام بالتطوع ([84]).
الفقرة الخامسة: ومن حق الزوج ألا تمنعه زوجته من نفسها إذا أرادها
من حق الزوج أن يتمتع بزوجته متى شاء، شريطة أن يكون ذلك في وقت يحل له أن يعاشرها، فلا يحل له ذلك في أيام الحيض أو النفاس أو أيام صيام رمضان أو إذا كان محرما بالحج أو العمرة.
ما عدا ذلك فله أن يباشرها متى شاء، وعليها ألا تمنعه نفسها فهذا حقه الذي شرعه الله له وأباحه، فإن أبت أو تصنعت بأي مانع فقد عرضت نفسها لسخط الله وعقابه ولعنتها الملائكة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح" ([85]) وفي البخاري يقول عليه الصلاة والسلام "إذا باتت المرأة مهاجرة فرش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع" ([86]).
والفراش كناية عن الجماع وفي قوله- صلى الله عليه وسلم- "الولد للفراش" أي لمن يطأ الفراش والكناية عن الأشياء التي يستحى منها كثيرة في القرآن والسنة، وظاهر الحديث اختصاص اللعن بما إذا وقع منها ذلك ليلا، لقوله حتى تصبح، وكأن السر تأكيد ذلك الشأن في الليل وقوة الباعث عليه، ولا يلزم من ذلك أن يجوز الامتناع في النهار، وإنما خص الليل بالذكر لأنه المظنة لذلك، وقد وقع في رواية عند مسلم "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها" ([87])، ولابن خزيمة وابن حيان من حديث جابر رفعه "ثلاثة لا تقبل لها صلاة ولا يصعد لهم في السماء حسنة، العبد الآبق حتى يرجع، والسكران حتى يصح، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى" فهذه الإطلاقات تتناول الليل والنهار ([88])، فأي امرأة ترضى لنفسها هذا الهوان؟ وأي امرأة تستعذب غضب الله عليها، وترضى أن تكون ملعونة؟ أما تخشى المرأة غضب ربها ولعن الملائكة لها... إن صاحبة هذا الصنيع لا يقبل منها أي عمل مهما كانت قيمته لأن الأمر- كما أسلفنا- مقرون برضى الزوج وطاعته.
الفقرة السادسة: ألا تسافر وحدها دون زوجها أو محرم
لا يحل للمرأة أن تسافر سفرا طويلا بدون زوجها أو محرم معها، وهناك اختلاف بين العلماء حول المدة التي لا تسافر فيها الزوجة وحدها، وهذا الاختلاف تبعا لاختلاف الآثار الواردة في ذلك.
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها" ([89]) وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذي محرم" ([90]).
الفقرة السابعة: جوار التزين
طبيعة الإنسان تألف المناظر ذات البهجة والجمال وتأنس بها، وتهوى الرائحة النقية الطيبة التي تبعث في النفس نشوة وارتياحاً، وشأن الإنسان أن تجذبه روعة الزينة والجمال، ومن ثم شرع الإسلام للزوجة الصالحة أن تتزين وتتجمل لزوجها، فليس بخاف ما للزينة وحسن النظافة من أثر جميل.
يقول سبحانه: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ َ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) ([91]).
أي ولا يظهرن زينتهن الخفية التي حرم الله كشفها إلا لأزواجهن، أو آبائهن أو آباء أزواجهن، فإن الأب يصون عرض ابنته، ووالد الزوج يحفظ على ابنه ما يسوءه، ثم عدد بقية المحارم...
فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها أمام أجنبي، أما الزوج فله شأن خاص، وزينة الزوجة له واجبة، ومما يؤسف له هو رؤية بعض الزوجات يهملن أمر الزينة لأزواجهن في البيت، ويلبسن ثيابا مهلهلة رثة، وإذا أردن الخروج خرجن في صورة أجمل من ليلة عرس أو شبيهة بها، وهذه آفة مهلكة، فالزوج يجب أن يرى زوجته في أبهى صورة وأجمل منظر، وللنظافة- والتزين- ألزم للمرأة عن الجمال، لأن الجمال لا يلبت أن يزول متى زالت نضارة الشباب، أما النظافة- والتزين- فعادة باقية ما بقيت المرأة، ولذا حث عليها الإسلام.
ولاشك أن المرأة التي تهمل نظافة نفسها تعمل على إبعاد زوجها بيدها ليرتمي في أحضان أخرى نظيفة، فعلى الزوجة بعد الفراغ من أعمالها اليومية أن تتنظف قبل حضور زوجها من أشغاله، وتلبس ملابسها الفاخرة كما لو كانت في انتظار عظيم- وهل هناك أعظم وأعز من الزوج؟ وكلما رأى الزوج زوجته على هذه الصورة الطيبة طابت نفسه وسر خاطره، هذا فضلا عما للنظافة من تأثير في توطيد أركان الصحة والصفاء، وما للقذارة من أثر في جلب الأمراض والشقاء ([92]).
أما هؤلاء اللاتي يتزين لغير بعولتهن، ويخرجن في الأماكن العامة عاريات بلا حياء ولا خجل، فقد حذرهن الحق سبحانه ونهاهن في قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) ([93])، أي الزموا بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة، - ولا تبرجن- قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية، وقال قتادة: إذا خرجن من بيوتكن كانت لهن مشية تكسر وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال مقاتل، والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها ([94]).
فالآية نهي صريح عن نهي إظهار الزينة من المرأة لغير محارمها، وذلك لأن ظهورها بتلك الصورة الفاضحة يفتح أبواب الفتن على مصارعها، وهو أمر غير مأمون العواقب، ولتعلم المرأة أنها إذا خرجت بهذه الصورة المحرمة ووضعت رائحة ([95]) ومرت على مجالس الرجال فهي ملعونة- والعياذ بالله.
عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: "كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وفي السنة أيضا هم ميمونة ابنة سعد وكانت خادمة للنبي- صلى الله عليه وسلم- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "مثل الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها ([96]).
قال في النهاية الرافلة هي التي ترفل في ثوبها أي تتبختر، والرفل الذيل ورفل إزاره إذا أسبله وتبختر فيه انتهى (في الزينة) أي في ثياب الزينة (في غير أهلها) أي بين من يحرم نظره إليها (كمثل ظلمة يوم القيامة) أي تكون يوم القيامة كأنها ظلمة قال الديلمي: يريد المتبرجة بالزينة لغير زوجها ([97]).
إن الإسلام بهذا يحفظ للمرأة عفافها وطهرها ويحافظ على كرامتها وحيائها، ولم يجعلها صيدا لنظرات ماجنة، أو ألسنة تتخرس بأحط الكلمات.
فما شرعه الله تعالى للمرأة صيانة وكرامة في الدنيا، وزلفى وحسن مآب في الآخرة، وما صنعته النساء لأنفسهم هو الملاك والخسران المبين.
يقول- عليه الصلاة والسلام- "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان" ([98])، ومعنى استشرفها الشيطان أي زينها في نظر الرجال وقيل أي نظر إليها ليغويها ويغري بها والأصل في الاستشراف رفع البصر للنظر إلى الشيء وبسط الكف فوق الحاجب، والمعنى أن المرأة يستقبح بروزها وظهورها فإذا خرجت أمعن النظر إليها ليغويها بغيرها ويغوي غيرها بها ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة، أو يريد بالشيطان شيطان الإنس من أهل الفسق سماه به على التشبيه ([99]).
قال الأصمعي رأيت في البادية امرأة عليها قميص أحمر وهي مختضبة وبيدها سبحة فقلت ما أبعد هذا من هذا فقالت: ولله مني جانب لا أضيعه... وللهو مني والبطالة جانب فعلمت أنها امرأة صالحة لها زوج تتزين له ([100]).
وشأن المرأة الصالحة ألا تدل على زوجها بجمال أو مال أو حسب، لأن أخلاقها الكريمة ترفض ذلك وتأباه... لأنها توقن أنها هي الزوجة الحانية لها مهمتها، وهو الزوج ربان السفينة وقيم الأسرة له على عاتقه أمر المملكة كلها، لذا نجد الزوجة الصالحة ترضي بعلها إذا غضب، وتلكؤه بالحنان تؤثر رضاه في كل شيء، ولقد قال رجل لزوجته:
إن ما ذكرته من حقوق للزوج يعد أهم الواجبات التي ينبغي أن تلتزم بها كل زوجة تجاه زوجها. ويلخص الإمام الغزالي هذه الآداب بقوله: "فالقول الجامع في آداب المرأة أن تكون قاعدة في قعر بيتها، لازمة لمنزلها، لا يكثر صعودها وإطلاعها، قليلة الكلام لجيرانها، لا تدخل عليهم، إلا في حال يوجب الدخول، تحفظ بعلها في غيبته، وتطلب مسرته في جميع أمورها، ولا تخونه في نفسها وماله، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن خرجت بإذنه فمتخفية في هيئة رثة، تطلب المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق، محترزة من أن يسمع صوتها، أو يعرفها بشخصها، لا تتعرف إلى صديق بعلها في حاجاتها، بل تتنكر على من تظن أنه يعرفها أو تعرفه، همها صلاح شأنها، وتدبير بيتها، مقبلة على صلاتها وصيامها، وإذا استأذن صديق لبعلها على الباب، وليس البعل حاضرا، لم تستفهم، ولم تعاوده في الكلام، غيرة على نفسها وبعلها، وتكون قانعة من زوجها بما رزق الله، وتقدم حقه على حق نفسها وحق سائر أقاربها، متنظفة في نفسها، مستعدة في الأحوال كلها للتمتع بها إن شاء، مشفقة على أولادها، حافظة للستر عليهم، وقصيرة اللسان عن سب الأولاد ومراجعة الزوج" ([102]).
خذي العفو عني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب ولا تكثري الشكوى فتذهبي بالقوى ويأباك قلبي والقلوب تقلب فإني رأيت الحب في القلب والأذى إذا اجتمعا لا يلبث الحب يذهب ([101])
المطلب الثاني: حقوق الزوجة على الزوج
مدخل وتمهيد:
إذا كان الإسلام قد أوجب حقوقا للزوج، وأمر الزوجة القيام بها والمحافظة عليها، فإنه قد أعطى مثل ذلك للزوجة، وأوجب لها حقوقا يجب على الزوج القيام بها، ومن ثم إذا التزم كل من الزوجين بما له نحو الآخر فسوف ينعمون بكل خير.
وقيل أن أسبر غور هذه الحقوق الواجبة للزوجة أقول: لعل من نافلة القول أن المرأة لم تحظ بإجلال وإعظام وتكريم سوى في ظلال السلام، لقد منح الإسلام المرأة حقوقا ظلت مسلوبة منها قبل أن يبزغ فجره ويبرق سناه، ويعم نوره الذي أضاء الدنيا كلها، فأسعد البشرية وبدلها من عيظ رشدا ومن حيرتها اطمئنانا ومن خوفها أمنا، وكان للمرأة حظ وافر نعمت به في ظلال الإسلام.
صورة المرأة قبل الإسلام
لقد كانت المرأة في الجاهلية ينظر إليها نظرة احتقار وازدراء، وكانت شؤما لا قيمة لها كالمتاع تباع وتشترى، وكان يتخلص منها بالوأد حية، ويصور القرآن المجيد هذا الواقع المرير في قوله جل ذكره: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) ([103]).
أي إذا أخبر أحدهم بأنه ولدت له أنثى صار وجهه مسودا من الحزن، وهو مملوء غيظا، يحاول الاختفاء عن أعين الناس، لئلا يروا كآبته من الألم الذي أصابه من المولود الذي أخبره به، ويستولي عليه حيرة؟ أيبقيه حيا مع ما يلحق به من الهوان على ذلك في زعمه، أم يدفنه في التراب وهو حي يموت تحته؟ وأنظر لفظاعة عمل هؤلاء.. ألا قبح حكمهم الذي ينسبون لله ما يكرهون أن ينسب إلى أنفسهم ([104]).
وفي آية أخرى يقول جل ذكره:
(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ([105]). ولقد حكم الله تعالى عليهم بالخسران من جراء هذا الفعل القبيح فقال سبحانه: (خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) ([106]).
قرأ ابن كثير وابن عامر "قتلوا" بالتشديد ([107]) قال ابن عباس: نزلت في ربيعة، ومضر، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياء في الجاهلية من العرب، وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم بنته مخافة السبي والفاقة، ويغذو كلبه، فكانوا يفعلون ذلك للسفه من غير أن أتاهم علم في ذلك وحرموا ما رزقهم الله من الأنعام والحرث، وزعموا أن الله أمرهم بذلك ([108]).
وهناك صور من القبح كان عليهم أهل الجاهلية، فقد كانت المرأة تورث كما يورث سائر المتاع، وما أشنع من هذا وأقبح هو دفع الإماء للبغاء طلبا لكسب مادي رخيص، وكانوا يرسلون جواريهم للزنا.
ولقد حرم الإسلام كل هذا الازدراء، وجعل للمرأة مكانا عاليا، فحرم تورثه، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنّ َ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) ([109]).
كان الرجل إذا مات قريبه يلقي ثوبه على امرأته أو على خبائها ويقول أرث امرأته كما أرث ماله فيصير بذلك أحق بها، ثم إن شاء تزوجها بلا صداق، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا، وإن شاء عضلها أي حبسها وضيق عليها لتفتدى بما ورثت من زوجها، وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل إلقاء الثوب فهي أحق بنفسه فنهوا عن ذلك، وقيل لهم لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث على زعمكم كما تحاز المواريث، وهن كارهات لذلك أو مكرهات عليه، وقيل: كانوا يمسكوهن حتى يمتن ويرثوا منهن، فقيل لهم لا يحل لكم ذلك وهن غير راضيات بإمساككم ([110]).
هكذا كان وضع المرأة في الجاهلية مهينا حقيرا لا قيمة لها، وهذا الوضع الشائن ظل ملازما للمرأة في شتى الأمم وأن اختلفت صورته في أمة لأخرى.
فمثلا في الحضارة الإغريقية قال سقراط: "إن وجود المرأة هو أكبر منشأ ومصدر للأزمة والانهيار في العالم، إن المرأة تشبه شجرة مسمومة حيث يكون ظاهرها جميلا، ولكن عندما تأكل منها العصافير تموت حالا.. ويصف أندروكس شخصية المرأة عند الإغريق بقوله: "قد نتمكن من أن نعالج حرقة النار ولدغة الحية، ولكن ليس للمرأة السيئة الأخلاق أي علاج.. وفي عهد الإمبراطورية الرومانية كان الرومان يسكبون الزيت الحار على أبدان النساء التعيسات، ويربطون البريئات بذيول الخيول ثم يجرونهن بأقصى سرعة كما يربطون الشقيات بالأعمدة ويصبون النار على أبدانهن... وليس هذا منحصرا في القرون الأولى لدين المسيح فقد امتد إلى أواخر القرن السابع عشر الميلادي عندما أصدر رجال العلم والمعرفة في رومانيا فتوى تنص على أنه "ليس للمرأة روح" وقد ذكر د. اسبرينج أنه في سنة 1500 خمسمائة وألف ميلادية تشكل مجلس اجتماعي في بريطانيا خصيصا لتعذيب النساء، وابتدع هذا المجلس وسائل لتعذيبهن، وعلى هذا الأساس أحرق المسيحيون النساء وهن أحياء ([111]).
هذا هو شأن المرأة يصورونها على أنها شجرة مسمومة تارة، وعلى أنها شر يحدق خطره وليس له علاج تارة أخرى، وجردوها من أسمى شيء وهو الروح، من أجل ذلك تفننوا في وسائل تعذيبها.
إن المسيحية تذكر أن المرأة هي التي أغوت آدم وأوقعته في الخطيئة، وهذا الاتهام يجعل النفور من المرأة حتما وضروريا، يقول ترتولين المقدس للنساء: هل تعلمين أن كل واحدة منكن حواء بالذات... يستمر إلى اليوم توبيخ- الله- لكن، ولجنسكن عامة، وعلى هذا يجب أن يبقى في نسلكن الشر والحقد، أنتن أيها لنساء مدخل للشيطان، أنتن اللاتي قطفتن من ثمار تلك الشجرة الممنوعة، أنتن اللاتي حطمتن القانون الرباني، أنتن اللاتي خدعتن آدم، وذلك قبل أن يبدأ الشيطان حملاته، أنتن اللاتي أضعتن سماء الله بسهولة كاملة من طبيعة البشر، إن شقاء الموت يرجع لعملكن القبيح وحتى موت ابن الله يرجع لعملكن الشنيع.
ويقول الأب توماركوس: لقد بحثت عن العفة بينهن ولكن لم أعثر على أي عفة، يمكن أن نعثر على رجل من بين الألف رجل ذي عفة وحياء ولكن لن نتمكن أن نعثر على امرأة واحدة لها عفاف وخجل ([112]).
وحسبي ما ذكره فقيه العتية، وهناك الكثير مما يضيق به المقام، فيما يتعلق بشأن المرأة عند الأمم الأخرى، فما أردت استقصاء، ولكن أردت ضرب أمثلة لصورة المرأة وما كانت عليه من المهانة والتحقير.
فهي صورة تنبئ عن حقيقة مؤلمة، والفرق شاسع وبعيد بين تشريع بوأ المرأة مكانة سامقة وبين توضيع جعل المرأة في الدرك الأسفل أحط من الحيوان.
أهم الحقوق للزوجة على الزوج هو المهر (الصداق)
الفقرة الأولى: كلمة عن الصداق- المهر
من الثابت والمعلوم أنه بعد الموافقة على الزواج من كلا الطرفين يكون الاتفاق على الصداق الذي يقدمه الزوج لزوجته، ومن الثابت أن الصداق حق الزوجة كما هو مبين في كتاب الله تعالى سبحانه (وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) ([113]).
قال ابن عباس وقتادة وغيرهما، قيل: كان الرجل يتزوج بلا مهر، فيقول: أرثك وترثيني، فتقول المرأة: نعم، فأمروا أن يسروعوا إعطاء المهور، وقيل الخطاب لأولياء الناس كانت عادة بعض العرب أن يأكل ولي المرأة مهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام، وقيل المراد بالآية: ترك ما كان يفعله المتشاغرون من تزويج امرأة بأخرى، وأمروا بصرف المهور، والأمر بإيتاء النساء صداقتهن نحلة يتناول هذه الصور كلها، والصدقات هي المهور ([114]).
لقد جعل الله الصداق حقا خالصا للمرأة عطية من الرجل، وكانت هناك صورة شائبة لأن الفعل والعادات في الجاهلية أبطلها الإسلام وقضى عليها. من هذه الصور التي تتعلق بالمرأة أنها تتزوج بلا صداق، أو أن يأكل وليها صداقها، فرفع الإسلام كل هذا وجعل الصداق نحلة وعطاء خالصا للمرأة.
يقال: نحلته أنحله نحلا مثل قفل أعطيته شيئا من غير عوض بطيب نفس، ونحلت المرأة مهرها نحلة بالكسر أعطيتها ([115]).
يقول الراغب: والنحلة عطية على سبيل التبرع، وهو أخص من الهبة إذ كل هبة نحلة، وليس كل نحلة هبة، واشتقاقه فيما أرى أنه من النحل نظرا منه إلى فعله فكأن نحلته أعطيته عطية النحل، وذلك ما نبه عليه قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ([116])، وبين الحكماء أن النحل يقع على الأشياء كلها فلا يضرها بوجه وينفع أعظم نفع فإنه يعطي ما فيه الشفاء كما وصفه الله تعالى، وسمى الصداق بها من حيث أنه لا يجب في مقابلته أكثر من تمتع دون عوض مالي، وكذلك عطية الرجل ابنه يقال نحل ابنه كذا وأنحله ومنه نحلت المرأة ([117]).
وقيل في معنى نحلة: فريضة قاله ابن عباس وغيره، وقيل عطية تمليك، وقيل: شرعة ودينا... والآية اقتضت إتيانهن الصداق... وقرأ الجمهور صدقاتهن جمع صدقة، على وزن سمرة، وقرأ قتادة وغيره: بإسكان الدال وضم الصاد، وقرأ مجاهد وغيره بضمها، وقرأ النخعي: صدقتهن بضم الصاد والإفراد، وانتصب نحلة على أنه مصدر لأن معنى "وآتوا انحلوا" فالنصب فيها بآتوا، وقيل: بانحلوهن مضمرة. وقيل: مصدر في موضع الحال، إما عن الفاعلين أي ناحلين، وإما من المفعول الأول أو الثاني أي: منحولات. وقيل: انتصب على إضمار فعل بمعنى شرع، أي: أنحل الله ذلك نحلة، أي شرعه شرعة ودينا وقيل: إذا كان بمعنى شرعة فيجوز انتصابه على أنه مفعول من أجله، أو حال من الصدقات، وفي قوله تعالى: (وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ) دلالة على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه ([118]).
وهذا الصداق له، هدفه الراقي وغايته الرفيعة، فليس الأمر- كما يزعم البعض ويشاع الآن- صفقة تجارية بين الرجل والمرأة. فما على هذا المبدأ الخسيس تبنى الأسرة، ولا على هذا الإدعاء المقيت تقام الحياة الزوجية.
إن المهر عطاء هبة يكون رمزا للمودة التي ينبغي أن تكون بين الرجل والمرأة، وآية من آيات المحبة، ودليلا على وثيق الصلة والرابطة التي يجب أن تكتنفها وتحيط بسماء المنزل الذي ينزلان فيه، وقد جرى عرف الناس بعدم الاكتفاء بهذا العطاء فتراهم يردفونه بأصناف الهدايا والتحف من مآكل وملابس ومصوغات إلى نحو ذلك، مما يعبر عن حسن تقدير الرجل للمرأة التي يريد أن يجعلها شريكته في الحياة.. ومن ثم لا يجوز للرجل أن يأكل شيئا من هذا الصداق إلا إذا علم أن نفسها طيبة به، فإن طلب منها شيئا وحملها الخوف أو الخجل على إعطاء ما طلب فلا يحل له ([119]).
الفقرة الثانية: مقدار الصداق
إذا كان الحق تعالى قد جعل الصداق حقا خالصا للمرأة، فهل لهذا الصداق مقدار معين وهل حدد له الشرع قيمة ثابتة لابد من الوفاء بها؟
إن من رحمة الله تعالى بعباده أنه لم يحدد لهذا المهر مقدارا ثابتا ومحددا، وليس في الآية الكريمة ما يدل على ذلك، ولكن الأمر متروك لأحوال الناس وأعرافهم وظروفهم المالية، فمن الناس من يكون في سعة ويسار وهذا الصنف يعطي على قدر سعته ويساره ومنهم من يكون أدنى من ذلك فيعطي أيضا بما يلاءم حاله وظروفه، ومنهم الفقراء وهؤلاء لهم في شرع الله يسر وسعة "لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا ([120]). فالصداق إذن يحدد بالتراضي والاتفاق بين الطرفين.
الفقرة الثالثة: النهي عن المغالاة
إذا كان تقدير الصداق متروكا لظروف الناس وأحوالهم وهذا من رحمة الله تعالى، فينبغي أن يكون بعيدا عن المغالاة والإسراف، وقد ابتلى الناس الآن بآفة المغالاة وركبهم شيطان الغلو والسرف، وضيقوا على أنفسهم فيما وسع الله عليهم فيه، وكانت النتيجة أمر من العلقم، وأسود من ظلام الليل.
لقد أحجم كثير من الشباب عن الزواج، وفي هذا من المخاطر الاجتماعية والآفات النفسية ما لا يخفى على لبيب فاهم.
ومن هنا كانت دعوة الإسلام إلى اليسر وعدم المغالاة، فالمغالاة تبعث الآلام وضيق النفس في الحياة الزوجية، وقد يستدين الإنسان- وهذا واقع ملموس- ليتم زواجه ويظل أسير هذا الدين ويصاب بانقباض النفس وضيق الصدر.
ومن هنا كانت الوصايا التي تلحق بالتعرف والاختيار والرضا والكفاءة بيسر المهور وعدم المغالاة فيها، وبه تشرح الصدور وتقوى الألفة وتطيب الحياة، هذا ما تراه الشريعة- الغراء- من الوسائل التي يجب مراعاتها قبل الإقدام على عقد الزواج من التركيز على الأسس القوية المتينة، وبعد به عن اللبنات الرطبة التي لا تلبث أن تذوب فينهار البنيان، ويسقط العرش ويتلاشى الأمل ([121]).
ولنا في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة وقدوة طيبة "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا" ([122]).
فقد كان صداقه- عليه الصلاة والسلام- لنسائه يسيرا لا مغالاة فيه، ففي صحيح مسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: (سألت عائشة رضي الله عنها زوج النبي- صلى الله عليه وسلم-: كم كان صداق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشر أوقية ونشا. قالت: أتدري ما النش؟ قال: قلت لا، قالت: نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم ([123]).
يقول الفاروق عمر بن الخطاب: رضي الله عنه: لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم أحقكم بها محمد- صلى الله عليه وسلم- ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشر أوقية، وإن كان الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه، ويقول: كلفت إليك علق القربة أو عرق القربة ([124]).
فهذا نهي واضح وصريح عن المغالاة نظرا لما يترتب عليه من عواقب وخيمة ومعنى لا تغالوا من الغلو وهو مجاوزة الحد في كل شيء، يقال: غاليت في الشيء وبالشيء إذا جاوزت فيه الحد- مكرمة- بمعنى الكرامة، وأصدق المرأة- إذا سمي لها صداقا ليثقل صدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه- أي حتى يعاديها في نفسه عند أداء ذلك المهر لثقله عليه حينئذ، ومعنى كلفت- تحملت- علق القربة- حبل تعلق به أي تحملت لأجلك كل شيء حتى علق القربة وهو حبلها الذي تعلق به... وقيل أراد بعرق القربة عرق حاملها... والمراد أنه تحمل الأمر الشديد المستحيل ([125]).
إن الحياة الزوجية سمو ورفعة، لست مساومة أو صفقات تجارة تحسب بحساب الربح والخسارة، ومصلحة المرأة أن تكون مع زوجها كالنفس الواحدة بمثابة العضو من الجسد، فقد قال الله تعالى "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها" ([126])، فالمغالاة في المهور وتكليف الرجل ما لا يطيق يقطع المودة والرحمة الفطرية بينهما ويكون باعثا على الطلاق والانفصال ([127]).
لقد جعل الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- صداق زوجته أم المؤمنين صفية عليها الرضوان من الله- عتقها، فعن أنس بن مالك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أعتق صفية وجعل عتقها صداقها ([128]).
ولقد أجاز سيدنا محمد- عليه الصلاة والسلام- نكاح من لا يملك صداقا ويرقأ القرآن الكريم، ويعلمه امرأته، وأسوق هذا الحديث لعل الذين في قلوبهم مرض وطست بصائرهم يعودون إلى الحق ويهتدون، ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال جاءت امرأة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي. قال: فنظر إليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست، فقال رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال: "وهل عندك من شيء؟ قال: لا، والله يا رسول الله. فقال: "اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ فذهب ثم رجع. فقال: لا والله ما وجدت شيئا. فقال: رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "انظر ولو خاتما من حديد"، فذهب ثم رجع، فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري. قال سهل: ماله رداء، فلها نصفه. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء" فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- موليا فأمر به فدعي، فلما جاء. قال: "ماذا معك من القرآن؟" قال: معي سورة كذا وسورة كذا عددها، فقال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟" قال: نعم، قال: "اذهب، فقد ملكتكما بما معك من القرآن" ([129]).
وعن أنس أن عبد الرحمن بن عوف تتزوج امرأة على وزن نواه من ذهب وأن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال له أولم لو بشاه ([130]).
وهذه امرأة مسلمة لم ترد صداقا ماديا لنفسها، وإنما أرادت الله والدار الآخرة، لقد خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله يا أبا طلحة ما مثلك يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري لا أسألك غيرهن فأسلم فكان ذاك مهرها، قال ثابت: فما سمعنا بامرأة قط كانت أكرم مهرا من أم سليم، فدخلت به فولدت له.
يقول الإمام ابن القيم بعد ذكر هذا الحديث: هذا هو الذي اختارته أم سليم من انتفاعها بإسلام أبي طلحة وبذلها نفسها له إن أسلم وهذا أحب إليها من المال الذي يبذله الزوج، فإن الصداق شرع في الأصل حقا للمرأة تنتفع به فإذا رضيت العلم والدين وإسلام الزوج وقراءته للقرآن كان هذا من أفضل المهور وأنفعها وأجلها فما خلا العقد عن مهر ([131]).
ومن الثابت المعلوم أن بركة الزوجة في يسر مهرها وخفته، وأن خير الزوجات من لا تكلف زوجها أكثر من طاقته، وإذا كان الإسلام قد قرر هذا المبدأ فخليق بالمسلم أن يكون من جانبه السمع والطاعة، وخليق به أن يتتبع لا أن يبتدع، فالخير كله في صدق الإتباع، والشر والبلاء في سوء الابتداع، والتعلق بعادات جاهلية فاسدة بالية.
المبحث الثالث
علاقة الآباء بالأبناء
تمهيد
إن الأبناء هم فلذات الأكباد، وعماد الظهور، وهم زينة الحياة الدنيا وحسبنا قول الله سبحانه: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) ([132]).
وقوله سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ) ([133]).
والأبناء هم أول هدف من أهداف الزواج في الإسلام، والرغبة في الولد والتطلع إليه بشوق ولهفة فطرة في الإنسان فطره الله عليها، والولد بقاء للنوع وامتداد للعمر، والرغبة الإنسانية الرامية إلى الولد كشف عنها القرآن المجيد على لسان أنبياء الله- صلوات الله عليهم- فهذا زكريا- عليه السلام- يتضرع إلى الله تعالى بهذه الرغبة الإنسانية.
يقول جل ذكره:
(قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) ([134]) ويقول سبحانه (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) ([135]).
وهذا خليل الرحمن- صلوات الله عليه- يدعو ربه بهذه الرغبة أيضا بقوله (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) ([136])، وعلى هذا النهج دعا عباد الرحمن الصالحين ربهم والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ([137]).
ولقد تغنى الشعراء بهذه المحبة الفطرية تجاه أبنائهم، ونظموا منها أشعارهم، فيقول أمية بن الصلت:
ويقول أبو بكر الطرطوسي:
غذوتك مولودا وعلتك يافعا تعل بما أحني عليك وتنهل ([138]) إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت لشكواك إلا ساهرا أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل ([139]) تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت حتم مؤجل
ومما قيل كذلك:
لو كان يدري الابن أي غصة يتجرع الأبوان عند فراقه أم تهيج بوجده حيرانة وأب يسح الدمع من آماقه يتجرعان لبينه غصص الردى ويبوح ما كتماه من أشواقه لرثى لأم سل من أحشائها وبكى لشيخ هام في آفاقه ولبدل الخلق الأبي بعطفه وجزاهما بالعذب من أخلاقه
من هذا كله نعلم قوة العاطفة الفياضة التي أودعها الله تعالى في قلب الأبوين نحو الأولاد، وما ذاك إلا لينفعنا اندفاعا نحو تربيتهم ورعايتهم والاهتمام بشئونهم ومصالحهم ([140]). وتلك هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، فمن هنا ندرك مدى أصالة العلاقة بالأبناء وأهميتها.
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض
متى تبدأ هذه العلاقة؟
علاقة الآباء بالأبناء تبدأ من نقطة سابقة على وجود الأبناء، وهي اختيار الرجل الصالح زوجة صالحة تعينه على أمر دينه وتربي أبناءه تربية صالحة فهي علاقة بعيدة في أغوارها، وإذا خرج الابن إلى الوجود فله حقوق واجبة في عنق والديه يلزمهم القيام بها على خير وجه بلا تقصير أو إهمال في بعضها، والإسلام بهذا يضع الأسس القوية لبناء المجتمع الصالح.. وهذه الحقوق هي حجر الزاوية لعلاقة الوالدين بأبنائهما، وهي الأصل في هذه الصلة القوية.
ولقد أبان القرآن المجيد والسنة المطهرة هذه الحقوق في جلاء لا خفاء فيه ووضوح لا غموض فيه ولا لبس، ووعد عليها بالخير والثواب العظيم، وتوعد المقصرين المضيعين بالنكال والخسران، ومنهج الإسلام في إنشاء هذه العلاقة بين الآباء والأبناء منهج فريد هدفه الأسمى هو وجود الإنسان الصالح الذي يرقى بنفسه ومجتمعه وحينما تأخذ هذه العلاقة مكانتها اللائقة كما رسم لها الإسلام أتت ثمرتها المرجوة وهي سعادة المجتمع كله.
يتبع