وفي الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 103)
[مسألة صلى حنفي في جماعة فأسر نيته ورفع يديه في كل تكبيرة]
145 - 61 مسألة:
في رجل حنفي صلى في جماعة، وأسر نيته، ثم رفع يديه في كل تكبيرة، فأنكر عليه فقيه الجماعة، وقال له: هذا لا يجوز في مذهبك وأنت مبتدع فيه، وأنت مذبذب، لا بإمامك اقتديت، ولا بمذهبك اهتديت. فهل ما فعله نقص في صلاته ومخالفة للسنة ولإمامه أم لا؟
الجواب: الحمد لله. أما الذي أنكر عليه إسراره بالنية فهو جاهل فإن الجهر بالنية لا يجب ولا يستحب، لا في مذهب أبي حنيفة، ولا أحد من أئمة المسلمين؛ بل كلهم متفقون على أنه لا يشرع الجهر بالنية ومن جهر بالنية فهو مخطئ، مخالف للسنة باتفاق أئمة الدين؛ بل مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسائر أئمة المسلمين أنه إذا نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه بالنية لا سرا ولا جهرا كانت صحيحة، ولا يجب التكلم بالنية. لا عند أبي حنيفة، ولا عند أحد من الأئمة، حتى أن بعض متأخري أصحاب الشافعي لما ذكر وجها مخرجا: أن اللفظ بالنية واجب. غلطه بقية أصحابه، وقالوا: إنما أوجب الشافعي النطق في أول الصلاة بالتكبير، لا بالنية.
-إلى أن قال-
وإذا كان الرجل متبعا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد: ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى فاتبعه كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه. ولا عدالته بلا نزاع؛ بل هذا أولى بالحق، وأحب إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ممن يتعصب لواحد معين، غير النبي - صلى الله عليه وسلم - كمن يتعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة، ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه، دون قول الإمام الذي خالفه.
فمن فعل هذا كان جاهلا ضالا: بل قد يكون كافرا؛ فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر فإنه يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. بل غاية ما يقال: إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحدا لا بعينه، من غير تعيين زيد ولا عمرو.
وأما أن يقول قائل: إنه يجب على العامة تقلد فلان أو فلان، فهذا لا يقوله مسلم.
ومن كان مواليا للأئمة محبا لهم يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو محسن في ذلك. بل هذا أحسن حالا من غيره، ولا يقال لمثل هذا مذبذب على وجه الذم. وإنما المذبذب المذموم الذي لا يكون مع المؤمنين، ولا مع الكفار، بل يأتي المؤمنين بوجه، ويأتي الكافرين بوجه، كما قال تعالى في حق المنافقين: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس} [النساء: 142] إلى قوله: {ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} [النساء: 88] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين: تعير إلى هؤلاء مرة وإلى هؤلاء مرة» .
فهؤلاء المنافقون المذبذبون هم الذين ذمهم الله ورسوله، وقال في حقهم: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1] . وقال تعالى في حقهم: {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} [المجادلة: 14]
-إلى أن قال-
فأئمة الدين هم على منهاج الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين -. والصحابة كانوا مؤتلفين متفقين، وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة في الطهارة أو الصلاة أو الحج أو الطلاق أو الفرائض أو غير ذلك فإجماعهم حجة قاطعة.
ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين. كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة. وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي - رضي الله عنهما - فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم.
ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلا بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين، فيكون جاهلا ظالما، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم.
-إلى أن قال-
وهذا أبو يوسف ومحمد أتبع الناس لأبي حنيفة وأعلمهم بقوله، وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى، لما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه، وهما مع ذلك معظمان لإمامهما. لا يقال فيهما مذبذبان؛ بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول ثم تتبين له الحجة في خلافه فيقول بها، ولا يقال له مذبذب؛ فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان. فإذا تبين له من العلم ما كان خافيا عليه اتبعه، وليس هذا مذبذبا؛ بل هذا مهتد زاده الله هدى. وقد قال تعالى: {وقل رب زدني علما} [طه: 114] .
فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده، ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له. وعلى المؤمنين أن يتبعوا إمامهم إذا فعل ما يسوغ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إنما جعل الإمام ليؤتم به» وسواء رفع يديه أو لم يرفع يديه لا يقدح ذلك في صلاتهم، ولا يبطلها، لا عند أبي حنيفة ولا الشافعي ولا مالك ولا أحمد.
-إلى أن قال-
وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعارا يوجب اتباعه، وينهي عن غيره مما جاءت به السنة؛ بل كل ما جاءت به السنة فهو واسع: مثل الأذان والإقامة. فقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه أمر بلالا أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة» .وثبت عنه في الصحيحين «أنه علم أبا محذورة الإقامة شفعا شفعا، كالأذان» فمن شفع الإقامة فقد أحسن ومن أفردها فقد أحسن، ومن أوجب هذا دون هذا فهو مخطئ ضال، ومن والى من يفعل هذا دون هذا بمجرد ذلك فهو مخطئ ضال وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها، حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا. وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا. وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه.
وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل، المتبعين الظن، وما تهوى الأنفس المتبعين لأهوائهم بغير هدى من الله، مستحقون للذم والعقاب. وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه؛ فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين، والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية، فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع، وجمهور المتعصبين لا يعرفون من الكتاب والسنة إلا ما شاء الله، بل يتمسكون بأحاديث ضعيفة، أو آراء فاسدة أو حكايات عن بعض العلماء والشيوخ قد تكون صدقا، وقد تكون كذبا، وإن كانت صدقا فليس صاحبها معصوما يتمسكون بنقل غير مصدق، عن قائل غير معصوم، ويدعون النقل المصدق عن القائل المعصوم وهو ما نقله الثقات الأثبات من أهل العلم ودونوه في الكتب الصحاح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فإن الناقلين لذلك مصدقون باتفاق أئمة الدين، والمنقول عنه معصوم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، قد أوجب الله تعالى على جميع الخلق طاعته واتباعه. قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65] . وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63] والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، والهدى والنية، والله أعلم. والحمد لله وحده).