توثيق النص الشعري المشرقي في الأندلس
أ. د. أيمن ميدان [(*) ]
تمهيد:
اهتم العرب قديما برواية الشعر باعتبارها أداة توثيق وتخليد، ووسيلة تعلم وصقل مواهب. ولئن ظلت رواية الشعر القديم ممتدة غير منقطعة وسط عوامل متعددة حرضت على بقائها أداة أثيرة لديهم فإن رواية هذا الشعر شفاهة عبر حقب زمنية طويلة - تركت آثارا جلية على السمات الفنية للقصيدة العربية إذ مالت إلى الثبات والسكون، جاعلة إياها عرضة لعبث العابثين، فتسرب إليها التحريف والتصحيف والخلط والتقديم والتخير والبتر والنحل أيضا.
وقد أحدث هذان الملمحان ردود أفعال متباينة، إذ أقدمت ثلة من شعراء العصر العباسي الكبار على رفض مبدأ ثبات القيمة الفنية وتمردت عليه؛ لأنه يسقط ما لعنصري الزمان والمكان من آثار حتمية في تشكل السمات الفنية للقصيدة وتطورها.
أما علماء العربية - وقد كان من بينهم رواة أحاديث نبوية وأشعار وأصحاب قراءات قرآنية.... - فقد انبروا للتصدي لكل ما اعترى الشعر من تغير طرأ على بنيته وما تعلق بها، فأخضعوه للفحص والتوثيق، تحدوهم رغبة صادقة في رده إلى صورته الأولى، فتشكلت لديهم طائفة من الوسائل التي يرجع الفضل إليهم في خلق بعضها، واستعارة بعضها الآخر من حقول علمية أخرى وتوظيفها لخدمة النص الشعري.
تجلت هذه النزعة وتلك الوسائل في كثير من المؤلفات المشرقية التي شقت سبيلها صوب الأندلس كطبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحيي (ت 231هـ)، وعيون الأخبار لابن قتيبة (ت 276هـ) والأمالي لأبي علي القالي (ت 356هـ) والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (ت 356هـ)، وفسري ابن جني (ت 392هـ) اللذين شرح فيهما أشعار المتنبي (ت 354هـ)..... وغيرها، فأحدثت أثرا كبيرا في عناية الأندلسيين بتوثيق النص الشعري مشرقيا وأندلسيا، فراحوا يخضعونه لعملية فحص دقيقة شملت نقد متنه، وتعقبت أيضا رواته وشراحه تعقبا اتسم في مواطن كثيرة بالتشدد والتعسف.
وقد تبلورت عنايتهم بخدمة النص الشعري وتوثيقه في عدة ملامح ينبغي الوقوف أمامها وقفة متأنية، فهاكم تفصيل الكلام..
أولا: الإسناد:
تأرجح موقف الأندلسيين من إسناد مروياتهم الأدبية والشعرية بين الإسقاط والحرص الشديد على الإثبات، وهم في موقفهم هذا أسيرو الموقف المشرقي حيال القضية ذاتها. فإذا كان المبرد (ت 276هـ) وابن الفرات لا يعنيان بإسناد مروياتهما، مما حدا بنفطويه (ت 323هـ) إلى القول "ما رأيت أحفظ لأخبار بغير أسانيد من المبرد ومن أبي العباس بن الفرات (ت 391هـ)"(1)، وجاراهما الصولي (ت 335هـ) فيما ذهبا إليه "ليقرب على طالبه ومستفيده" وإن عاد فأقر بإسناد "ما لابد منه"(2) فإن ابن قتيبة والقالي (ت 356هـ) والأصفهاني تشددوا في إسناد مروياتهم تشددا أطال سلسلة السند طولا أفقد الخبر اتصاله، وأصاب المتلقي بشيء من الملالة.
يعد ابن عبد ربه (ت 328هـ) أول العلماء الأندلسيين إقداما على إسقاط سند مرويات سفره الضخم الموسوم بـ "العقد الفريد" "طلبا للاستخفاف والإيجاز، وهربا من التثقيل والتطويل"، متكأ على أن أغلب مروياته "لا ينفعها الإسناد باتصاله، ولا يضرها ما حذف منها، وقد كان بعضهم يحذف أسانيد الحديث من سنة متبعة وشريعة مفروضة، فكيف لا نحذفه من نادرة شريفة وخبر مستطرف"(3)، وقد حذا حذوه ثلة من العلماء، أذكر منهم: ابن الإفليلي (ت 441هـ) في "شرح شعر المتنبي"، وابن سيده (ت 458هـ) في "شرح مشكل شعر المتنبي"، وأبا عبيد البكري (ت 487هـ) في كتاب "التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه"، وابن السيد البطليوسي (ت 512هـ) في مجمل ما بين أيدينا من كتب له.
وقد كان لتلك النزعة كبير أثر في عدولهم عن تكرار ما سبق ذكره في شروحهم من بيان لمعنى أو سرد أو تطرق لأسطورة..... ويتجلى هذا الملمح في حماسة أبي تمام بشرح الأعلم الشنتمري وشرح سقط الزند لابن السيد البطليوسي عبر تراكيب دالة مثل القول: "وقد ذكرناه فيما مضى"، و "قد تقدم ذكره" أو "وقد تقدم تفسيرها" إلى غير ذلك(4).
على أن إقدام ابن عبد ربه ومن حذا حذوه من علماء القرنين الخامس والسادس الهجريين على إسقاط سند مروياتهم لا يعني غلبة هذا الاتجاه وميل الأندلسيين إلى اعتناقه ميلا تاما، فقد شهد هذان القرنان وما تلاهما من قرون عناية محمودة بإسناد المرويات الأدبية والشعرية، وتجلت تلك العناية في جهود عدد من أبناء ذاك الزمان، أذكر منهم: ابن بسام الشنتريني (ت 542هـ) في كتاب الذخيرة، وابن خير الإشبيلي (ت 575هـ) في الفهرسة، وابن الأبار القضاعي (ت 658هـ) في كتابيه: المقتضب والتكملة، والتجيبي السبتي (ت 730هـ) في مستفاد الرحلة والاغتراب، والوادي آشي (ت 749هـ) في برنامجه، وابن الأحمر (ت 807هـ) في كتابه "نثير الجمان…".
وقد امتدت رغبتهم في إسناد مروياتهم لتشمل كل ماله صلة بالأدب بمفهومه العام من مثل كتاب "الكامل"(5) والشعر مجاميع ودواوين شعراء مشارقة كبار كشعر زهير بن أبي سلمى(6) وأبي تمام (ت 221هـ)(7) والمتنبي (ت 254هـ)(8) والمعري (ت 449هـ)(9).. وانتهاء بإسناد مروياتهم من القصائد المفردة(10) والمقطعات.
وقراءة كل من "الفهرسة" لابن خير الإشبيلي وبرنامج الوادي آشي تؤكد ما ذهب الباحث إليه من احتفائهم برصد تسلسل مروياتهم رصدا دقيقا، فابن خير الإشبيلي في معرض رصده لما عرف لأبي العلاء المعري من مؤلفات بالأندلس يورد ثلاث روايات مختلفة لمجمل إنتاجه شقت سبيلها صوب الأندلس عبر قنوات متعددة (بغداد والقاهرة والقيروان)، ووسائط متنوعة تجلت ثلاث روايات حملها رواة أندلسيون وعراقيون ومصريون ومغاربة، ثم راح يتعقب مراحلها تعقبا أفضى به إلى المعري نفسه(11).
ولم تقف عناية الأندلسيين بإسناد مروياتهم عند حدود الآثار الأدبية والشعرية المشرقية لتقدم عهد اعتراها وحرص على الثقة في أصالتها وصدق انتمائها إلى قائليها، بل امتدت العناية لتشمل أشعار معاصريهم موطنا وأوانا، وقد تباينت أسانيدهم خفة وثقلا، فمن خفيف أسانيدهم قول ابن بسام الشنتريني (ت 542هـ) في تضاعيف ترجمة ابن الفرضي (ت 403هـ): "أخبرني الفقيه أبو بكر ابن الفقيه الوزير أبي محمد بن عربي عن الفقيه أبي عبد الله الحميدي، قال: أنشدني أبو الوليد بن الفرضي شعره في طريقه إلى المشرق في طلب العلم، وكان كتب بها إلى أهله حيث يقول: (من الطويل).
ومن مثل ذلك أيضا سند رواية شعر الفقيه أبي جعفر الألبيري الذي أدرجه الوادي آشي في برنامجه، فقال: قرأت على: الشيخ أبي محمد بن هارون منه أربع قصائد من أوله، وناولنيه بحق روايته له عن أبي يحيى عبد الرحمن بن عبد المنعم بن محمد الخزرجي إجازة عن أبيه، عن أبي القاسم بن ورد، عن أبي محمد عبد الله بن فرج بن العسال، عنه"(13).
مضت لي شهور منذ غبتم ثلاثة
وما خلتني أبقى إذا غبتم شهرا"(12)
أما ابن الأبار القضاعي والعبدري البلنسي (ت 688هـ) وابن خاتمة الأنصاري (ت 770هـ) فقد أطالوا في سند مروياتهم إطالة بدت في مواطن كثيرة غير مقبولة، وقد تجلى هذا الملمح في إسناد طويل - وممل أيضا - للعبدري يقول فيه: "وأنشدني شيخنا أبو زيد وأعطانيه في ورقة بخطه. قال: أنشدنا الفقيه المحدث أبو المكارم وأبو بكر محمد بن أحمد يوسف بن موسى هو ابن مسدي بالسين والدال المهملتين وكتبه لي بخطه قال: أنشدنا القاضي أبو الحسن علي بن عبد الله محمد يوسف الأنصاري، هو ابن قطرال بثغر شاطبة وكتبه لي بخطه قال: أنشدنا أبو الحجاج يوسف بن محمد هو ابن الشيخ البلوي وكتبه لي بخطه. قال ابن مسدي: وقرأت على أبي عبد الله محمد بن أحمد التميمي قال: أنشدنا أبو محمد عبد الله محمد بن أبي الفضل القاضي بثغر الإسكندرية وكتبه لي بخط يده. قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن صدفة بن سليمان وكتبه لي بخطه قال: أنشدنا محمد بن إبراهيم البكري وكتبه لي بخطه قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن قاسم الطليطلي وكتبه لي بخطه قال: أنشدنا محمد بن شداد بن الحداد وكتبه لي بخطه قال: أنشدنا محمد بن إبراهيم بن موسى بطلبيرة لنفسه وكتبه لي بخطه": (من الوافر)
وقد صاحب تلك العناية حرص على إزالة ما يوشح الإسناد من لبس وغموض، أو يعتريه من شلها وضعف، ففي سند العبدري السابق قال "هو ابن مسدي بالسين والدال المهملتين"، وذهب ابن الأبار إلى تصويب بعض الأسماء الواردة في سند إحدى مروياته معتمدا على وعيه بأصدقاء الشاعر ورواة أشعاره، فقال في تضاعيف ترجمته لأبي إسحاق الألبيري (ت 460هـ): "هكذا في هذا الإسناد أبو عبد الله محمد بن عيسى، ولعله أبو محمد عبد الواحد بن عيسى، فهو المعروف بصحبة الألبيري"(15).
رأيت الانقباض أجل شيء
وأدعي في الأمور إلى السلامة"(14)
وقد يشيرون إلى ما اعترى السند من خلط أو ضعف أو شك، مثال ذلك ما أورده القاضي عياض (ت 544هـ) نقلا عن ابن خاتمة الأنصاري في معرض ذكر سند مقطعة شعرية لابن الحكيم: "وفي سند هذه القطعة نوع غريب من التسلسل"(16).
وإذا كان الأندلسيون قد اتخذوا من الإسناد وسيلة لتوثيق نسبة النص الشعري إلى قائله فإن ثمة وسيلة أخرى تمثلت في النقل عن وثائق دونت بخط الشاعر، اتكأ ابن بسام الشنتريني عليها في مواطن كثيرة، من بينها قوله في تضاعيف ترجمة أبي جعفر بن اللمائي: "ومما نقل من خطه قصيدة من شعر يشكو نوائب دهره" و"مما وجدته أيضا بخطه لنفسه".(17)
ثانيا: إزالة الالتباس في الأسماء:
لم تقتصر جهود علماء الأندلس في توثيق النص الشعري - مشرقيا وأندلسيا - على الإسناد وتحري الدقة في نسبته إلى آبائه الشرعيين، بل امتدت لتغطي إزالة ما علق بأسماء الشعراء والأعلام وألقابهم وكناهم وأنسابهم من خلط واشتباه، فكانت لهم إسهامات متميزة في هذا المضمار، تجلت في تعقبهم الدقيق لمواطن هذا الخلط وذلك الاشتباه، وتأليف عدد من المؤلفات التي تناولت هذه الظاهرة ككتاب "الإيناس في علم الأنساب" للوزير المغربي (الحسين بن علي، ت 418هـ)(18)، وكتاب تقييد المهمل وتمييز المشكل: لأبي علي الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الجياني الأندلسي (ت 498هـ)(19).
وقد تجلى هذا الملمح فيما رصد أبو عبيد البكري (ت 487هـ) من استدراكات على أبي علي القالي في آماليه، إذ صوب ما أحدثه من تصحيفات وتحريفات وأخطاء اعترت أسماء الشعراء وقبائلهم، مثال ذلك إصلاح ما أحدثه أبو علي القالي من تحريف اسم شاعر جاهلي يدعى (سلمى بن ربيعة) فرواه بفتح السين والميم، فقال: "هكذا روي عن أبي علي - رحمه الله - سلمى بفتح السين والميم، ولم تختلف الرواة أن اسم هذا الشاعر سلمي بضم السين وكسر الميم وتشديد الياء، وهو سلمي بن ربيعة بن زبان بن عامر من بني ضبة، شاعر جاهلي"(20).
وقد فند البكري ما ذهب إليه أبو علي القالي من نسبة بيتين لمعدان بن مضرب الكندي، رادا هذه النسبة الخاطئة إلى التباين في الحفظ اعترى ذاكرته؛ إذ "لا يعلم شاعر اسمه معدان بن مضرب"، وإنما "هذا الشعر لمعدان بن جواس بن فروة السكوني ثم الكندي بلا اختلاف"(21).
وامتدت ملاحظ البكري لتشمل نسبة الشاعر إلى قبيلته إذ رفض نسبة القالي لمالك بن الريب (ت 60هـ) إلى مزنة، فقال: "هذا وهم من أبي علي - رحمه الله، ومالك مازني لا مزني"(22).
وللأعلم الشنتمري عناية بتوثيق أسماء الشعراء وكناهم وألقابهم.. وتعقب ما اعتراها من تحريف وتصحيف وإيهام، من ذلك. قوله: "وقال القتال الكلابي (ت 70هـ) واسمه عبد الله بن مجيب، وهو غير القتال الكلابي الآخر، واسم ذلك عبيد بن المضرجي"(23)، ومثل ذلك في شرحه كثير(24).
ثالثا: تحقيق نسبة الشعر:
تعددت وسائل توظيف النص الشعري لدى علماء الأندلس وتباينت تبعا لذلك درجة العناية بنسبته إلى قائله، فتارة يستشهدون به في تضاعيف تعرضهم لمسائل لغوية ونحوية، وتارة ثانية يتخذونه نافذة يطلون من خلالها على أصالة ما ينطوي عليه من معان أو تعقب امتداد جذوره لدى آخرين، وتارة أخرى يتخذونه مدخلا لرصد هفوات معاصريهم أو سابقيهم من العلماء حيال تفسيره أو نقده. على أنني أسارع فأقرر أن بعض العلماء الأندلسيين عزفوا عن الاستعانة بالشعر في بعض مصنفاتهم عزوفا تاما، وآثروا الوقوف أمام النص المشرقي وقفة ذوقية خالصة، يتجلى هذا الموقف في شرح ديوان المتنبي لابن الإفليلي.
وقد بدا للباحث أن عناية الأندلسيين بعزو النص الشعري تبدو ضيقة النطاق عندما يأتي في تضاعيف شروحهم الفنية للأشعار المشرقية، ويتجلى هذا الملمح في شرح ابن السيد البطليوسي لديوان سقط الزند لأبي العلاء المعري، وتبدو النسبة متعادلة تقريبا لدى ابن سيده في "شرح مشكل شعر المتنبي" إذ اتكأ على مائتين وأربعة شواهد شعرية عزا أربعة وتسعين شاهدا من بينها بنسبة قدرها (49%). أما عندما يستعان بالنص الشعري استشهادا على مسائل لغوية ونحوية فإن نسبة عزو الشواهد تدخل دائرة الندرة، مثال ذلك ما قام به أبو حيان الأندلسي في "البحر المحيط"؛ إذ "بلغ عدد الشواهد التي أثبتها... في تفسيره مستشهدا بها علي مسائل نحوية ولغوية: 457 بيتا من الشعر، و44 من الأرجاز، ومن الواضح أن أبا حيان لم يكن يهتم في كثير من الأحيان بنسبة أبياته التي يستشهد بها إلى قائلها، فيبلغ عدد الشواهد التي نسبها 84 شاهدا، وتمثل 16.8% فقط من مجموع الأبيات"(25) ويتجلى عزوفهم عن نسبة الشعر، والاكتفاء بالغاية التفسيرية التي اجتلب من أجلها، فيما قام به ابن السيد البطليوسي من الاستعانة ببعض الأبيات الشعرية التي أوردها عارية من العزو إلى قائل، رادا إياها إلى المصدر الذي استقيت منه، وبالعودة إلى المصدر المشار إليه وجدت معزوة لقائل، مثال ذلك قوله في تضاعيف شرحه للبيت الحادي عشر من القصيدة الثامنة والعشرين: وأنشد أبو زيد: (من الطويل)
وقد جاء هذا البيت معزوا إلى ضمرة بن ضمرة في نوادر أبي زيد(27)، وإلى هذا أشار محققو شروح سقط الزند.
تركت ابنتيك للمغيرة والقنا
شوارع والأكماء تشرق بالدم(26)
وتبلغ العناية بعزو الشعر إلى قائله أوجها عندما تتخذ وسيلة لنقد الآخر وتعقب هناته، وتتجلى هذه العناية في ما قام به أبو عبيد البكري من تعقب لهفوات أبي علي القالي في أماليه، إذ عزا جل ما أهمل القالي نسبته(28)، ورد الأبيات المختلطة النسب إلى قائليها(29)، وصوب ما اعترى بعضها الآخر من نسبة خاطئة لغير قائليها(30). ولذلك فقد تعددت صور عزو النص الشعري لدى. علماء الأندلس، وتجلت فيما يلي:
3/1- عزو النص:
عني الأندلسيون بعزو النص إلى قائله، وراحوا يوثقون تلك النسبة بوسائل متعددة، من بينها ذكر ما اتصل بالبيت من خبر شائع أو حادثة لا تنكر، مثال ذلك ما قام به أبو عبيد البكري، عندما نسب هذين البيتين: (من الطويل)
إلى الأحوص بن محمد (ت 105هـ)، إذا دعم تلك النسبة بقوله: ولهذا الشعر خبر..." ذكره(31) ومثل هذا في تنبيهات البكري كثير(32).
علاقة حب لج في سنن الصبا
فأبلى وما يزداد إلا تجددا
وقد يعتمدون على ذكر المصادر التي استقوا منها هذه الأشعار، من مثل ذلك ما نسبته ابن الأبار من أبيات إلى شاعر يدعى (الحصني)، مدعما تلك النسبة بقوله "أنشده ابن قتيبة في كتاب الأنواء"(33).
وقد يوثقون نسبة الشعر برده إلى ديوان الشاعر أو ما اشتهر من أشعاره، مثال ذلك قول البكري: "وهذا الشعر للعباس بن الأحنف (ت 192هـ) بلا خلاف... وهو ثابت في ديوان ابن الأحنف"(34)، وقوله في موطن آخر: "هذا الشعر لأبي الأسود الدؤلي (ت 69هـ) وهو ثابت في ديوانه"(35) ومن رد الشعر إلى ما اشتهر من قصائد، قول البكري تعليقا على قول الشاعر: (من المنسرح)
"البيت للكميت بن زيد (ت 126هـ) في أشهر قصائده.. وأولها:
نقيمة تارة ونقعده
كما يفاني الشموس قائدها
وقد يتخذون من خلو ديوان الشاعر من البيت وغيره أداة لنفي نسبته إليه، مثال ذلك ما رواه أبو علي القالي من أبيات معزوة لأبي الشيص الخزاعي (ت 196هـ)، يقول منها: (من الكامل)
هل ذائد للهموم ذائدها
عن ساهر ليلة يساهدها" (36)
إذ نفى البكري نسبة هذا الشعر إليه؛ لأنه "ليس... في ديوان أبي الشيص، ولا رواه أحد عنه، كما روي عن غيره"(37).
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه ولا متقدم
وقد امتدت عنايتهم بعزو الشعر إلى ما اختلط من الأبيات أيضا، ردت إلى أصولها ونسبت إلى قائليها(38). والحرص على نسبة الشعر إلى ما اشتهر من أسماء الشعراء وألقابهم وكناهم، وقلما يشذون عن تلك القاعدة، كأن ينسبون الشعر إلى قبيلة بإطلاق(39)، أو كنية غير شائعة مثلما نسب أبو حيان التوحيدي البيت الآتي: (من الطويل)
لأبي صخر، وما أبو صخر هذا إلا كثير عزة (ت 105هـ).. وتلك كانت كنيته"(40).
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تخيل لي ليلي بكل طريق
3/2- اختلاف النسبة وآليات الترجيح:
وجه الأندلسيون بأشعار كثيرة نسبت لأكثر من شاعر، ولتداخل الأشعار أسباب وتجليات، أما الأسباب فتكمن في "قصور الوسائل، لا قصور الدراسة، إذ يعود ذلك إلى جهود العلماء المتتابعة في الكشف عن النصوص وتحقيقها، وهذا ما واجه علماؤنا الأقدمون في هذه الشواهد، حيث قصرت بهم الوسائل أمام بعض النصوص فترددوا في نسبتها إلى قائل واحد، أو اختلفت هذه الوسائل بين دارس ودارس، فذكر كل منهم رأيا في الشاهد الواحد..."(41) وقد رد ابن الأبار وقوع الخطأ في نسبة الأشعار إلى أنهم كانوا يتمثلون بما يحفظون فيتوهم سامعهم أن ذلك لهم"(42).
أما عن التجليات فبدت في الخلط بين شعر الابن وأبيه(43) والأخ وأخيه(44)، والقصائد المتفقة وزنا وقافية وأغراضا(45).
وقد أخذ هذا الملمح لدى الأندلسيين وجوها متعددة، فمنهم من أشار إلى اختلاف النسبة دون ترجيح، ومنهم من رجح دون استناد إلى دليل، ومنهم من استند على أدلة ذوقية وأخرى نقلية.
أشار علماء الأندلس في مواطن كثيرة إلى قصائد ومقطعات وأبيات تنتمي إلى أكثر من شاعر، ولكن أعوزتهم الحاجة إلى أدلة حسم فطرحوها دون تنبيه أو ترجيح، مثال ذلك ما ذهب إليه ابن السيد البطليوسي في تعقيبه على قول المعري: (من السريع):
فقال: وقد سبقه الشعراء إلى نحو من هذا التشبيه، قال عبيد بن الأبرص (ت 25ق هـ)، وتروى لأوس بن حجر (ت 20ق هـ)، يصف سحابا: (من البسيط)
أو نسوة الزنج بأيمانها
للرقص قضب ذهبيات
ومثل هذا النمط في مصنفاتهم كثير(47).
كأن أقرابه لما علا شطبا
أقراب أبلق ينفي الخيل رماح"(46)
وقد استند البعض في نسبة البيت المتنازع عليه على قراءة ذوقية للبيت أو النص تستحضر السمات الفنية للقصيدة لدى الشعراء المتنازعين، والخروج بحكم فني بنسبة هذا البيت أو ذاك إلى شاعر محدد، تقترب سمات البيت أو الأبيات من سمات القصيدة لديه، وتعد هذه النظرة الذوقية في حسم الخلاف حول انتماء النص امتدادا للمعيار النقدي الذي سبق لمحمد بن سلام الجمحيي (ت 231هـ) اتباعه للفصل بين نمطين من أنماط شعرنا القديم(48)، وقد تجلت هذه النظرة لدى أبي عبيد البكري(49) وابن السيد البطليوسي الذي أشار إلى خلاف في النسبة اعترى البيت الآتي: (من الكامل)
إذ نسب إلى كل من ابن أحمر (ت 65هـ) والمتلمس (ت 43ق هـ)، ثم رد هذا البيت إلى موطنه في تضاعيف شعرهما، وراح يرصد مدى اتساقه فنيا وامتزاجه دلاليا مع الأبيات السابقة عليه، والأخرى اللاحقة به، ثم أصدر حكمه قائلا: "والأشبه بهذا البيت أن يكون للمتلمس؛ لأنه يليق بما قبله وما بعده من الشعر، وأما شعر ابن أحمر فلا مدخل له فيه"(51).
يا جل ما بعدت عليك بلادنا
وطلابنا فأبرق بأرضك وأرعدا(50)
3/3- تصويب نسبة النص:
امتدت جهود الأندلسيين في توثيق النص الشعري لتشمل النصوص الشعرية التي جاءت معزوة لقائل، فأخضعوها للفحص والتثبت، فكانت لهم لمحات ذكية تجسد فطنتهم وشدة حرصهم على رواية نص شعري لا تشوب نسبته شائبة، وقد تعددت وسائلهم، فمنهم من صوب نسبة بيت دون استناد إلى دليل مثال ذلك ما قام به ابن عربي (ت 638هـ) من تصحيح نسبة بيت، روي معزوا إلى أمية بن أبي الصلت يقول فيه: (من البسيط)
إذ رده إلى النابغة الجندي (ت 50ق هـ)(52). والبيت مدرج في ديوان الجعدي(53)، ولا أثر له في تضاعيف ديوان أمية.
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ومنهم من شفع نقد النسبة بما يجعله أمرا موثوقا به، من هذه الأدوات نقد المضمون، فقد ذهب البكري إلى نفي نسبة بعض الأبيات التي رواها القالي معزوة لعروة بن الورد (ت 30ق هـ) متهما إياه بالوهم والغفلة، إذ كيف ينشد لابن الورد "لا تشتمني يابن ورد...." ثم شفع كلامه بقوله "وإنما البيت الأول... لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي صاحب حرب داحس، يرد على عروة، وكان بينهما تنافس.."(54).
وقد يستند البعض في نفي نسبة الشعر إلى قائله على أدلة متعددة مثال ذلك ما رواه أبو علي القالي من أشعار عزاها إلى ابن الطثرية، (ت 126هـ) يقول منها: (من الطويل)
إذ اعتمد في نفي هذه النسبة على شهادات العلماء، وخلو ديوانه الذي ضم كل روايات أشعاره منه، فقال: "إنما هذا الشعر للعباس بن قطن الهلالي لا لابن الطثرية. كذلك قال دعبل (ت 246هـ) وأبو بكر الصولي (ت 335هــ)، ولم يقع هذا الشعر في ديوان ابن الطثرية؛ وقد جمعت منه كل رواية: رواية أبي حاتم (ت 252هـ) عن الأصمعي (ت 213)، ورواية الطوسي (ت أواسط ق 3هـ) عن ابن الأعرابي (ت 230هـ) وأبي عمرو الشيباني (ت 206هـ)"(55).
عقيلية أما ملاث إزارها
فدعص وأما خصرها فبتيل
3/4- أخطاء في النسبة:
إن ثمة أبياتا أخطأ علماء الأندلس في عزوها لقائليها من هذه الأبيات بيت أورده ابن سيده (ت 458هـ) معزوا إلى قطري بن الفجاءة (ت 78هـ)، يقول فيه: (من الطويل)
بينما جاء ضمن ثلاثة أبيات أوردها أبو تمام في حماسته معزوة بلا خلاف للحصين بن الحمام المري (ت 10ق هـ)(56).
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة دون أن أتقدما
وقد نسب أبو حيان الأندلسي البيت التالي إلى حسان بن ثابت (ت 54هـ):
بينما يروي لكعب بن مالك الأنصاري (ت 50هـ) في كل من: لسان العرب (جبر)، والمعرب ص 161، وخزانة الأدب، 1/415 والأزمنة والأمكنة 1/39 وديوان كعب ص 10(57).
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة
مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها
رابعا: تصويب بنى النص:
إذا كانت عناية علماء الأندلس بالنص الشعري قد شملت إسناد مروياته، وتصويب ما اعترى أسماء مبدعيه من تصحيف وتحريف وخلط، وتحقيق نسبته لقائله، فإن هذه العناية امتدت إلى تصويب ما اعتراه من أخطاء طالته شكلا ومضمونا، فكانت لهم لفتات ذكية تناولت لغته وإيقاعه ومضمونه.
4/1- البنية اللغوية:
بلغ اهتمام علماء العربية قديما بلغة الشعر درجة من التشدد أفضت بهم إلى صدام ضار بالشعراء، جسدته مقولة الفرزدق (ت 110هـ) لعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي: "علينا أن نقول، وعليكم أن تحتجوا"(58)، وأمام هذا الصدام تباينت مبررات كل طائفة، ففي الوقت الذي رأى فيه علماء اللغة والنحاة.. حتمية تحرك الشعراء في نطاق لغوي شكلته قرائح الأعراب الأقحاح وفق قواعد استقيت منه، ولا يحق الخروج عليها - ذهب الشعراء إلى أن ملكة الإبداع لديهم لا ينبغي أن يحد من تدفقها عوائق لغوية ونحوية وصرفية... يتذرع بها أناس لا ذائقة لهم، ولا وعي بصنعة الشعر يتسلحون به، فقال عمار الكلبي من أبيات يهجو بها النحاة: (من البسيط)
1/أ- ازدواجية اللغة:
ماذا لقينا من المستعربين ومن
قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكرا يكون بها
بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا
قالوا: لحنت. وهذا ليس منتصبا
وذاك خفض، وهذا ليس يرتفع
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم
وبين قوم على إعرابهم طبعوا
ما كل قولي مشروحا لكم فخذوا
ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا فدعوا"(59)
وتجد هذه العناية في الأندلس تربة خصبة لاحتضانها، فتتجلى في عدة مظاهر، من بينها عزوف مؤرخي الأندلس عن الاحتفاء بالموشح باعتباره تمردا على عنصري نقاء اللغة ووحدة الإيقاع كما وقافية، فجاءت مؤلفاتهم عطلا من نصوصه، إذ لم يشير الفتح بن خاقان (ت 529هـ) إلى شيء من أصوله في "قلائد العقيان"، وترفع عبد الواحد المراكشي (ت 647هـ) عن إيراد شيء من نصوصه، خضوعا لتقليد شاع في زمانه، إذ قال في تضاعيف ترجمته للوشاح الأندلسي الكبير أبي بكر بن زهر: "ولولا العادة لم تجر بإيراد الموشحات في الكتب المجلدة المخلدة، لأوردت له بعض ما بقي على خاطري من ذلك"(60). أما ابن بسام الشنتريني فقد عزف عن إيراد نصوص منه، وإن عني بدراسته مضمونا وأساليب بناء ومراحل تطور(61)، وفي أخريات القرن السابع الهجري يلقى الموشح قبول ابن سعيد الأندلسي (ت 685هـ) فيحتفي بنماذجه وأعلامه التي يحتشد بها كتابه "المغرب"(62).
1/ب- اللحن:
ومن مظاهر عنايتهم بتوثيق النص الشعري أيضا تعقب ما اعتراه من تصحيف وتحريف ولحن، ولهم في هذا المضمار مواقف لا تنكر، وآراء تذكر، فقد كانوا يعيبون اللحن، ويعدونه "من أقبح الأشياء"(63)، فمحمد بن محمد بن ميمون الخزرجي كان يشارك في العربية" والشعر النازل عن الدرجة الوسطى، لا يخلو بعضه من لحن"(64)، وقراءة قصيدة أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن بلال الأشعري التي يقول منها: (من بحر)
تستثير الضحك سخرية من لحنها وفسادها الخارج عن الحد"(65).
وقد تعقب أبو بكر بن العربي (ت 543هـ) صاحب الرواية الأندلسية الخالصة لأدب المعري - ابن السيد البطليوسي في شرحه ديوان سقط الزند وما اختار من لزوميات، مما حدا بابن السيد إلي تأليف رسالة صغيرة وسمها بـ "الانتصار ممن عدل عن الاستبصار" فند خلالها مآخذ ابن العربي رادا أكثرها إلى تصحيف وتحريف ارتكبهما ناسخ نسخته من الديوان - أي شرح السقط - مما أصاب كلامه بكسر في الوزن وتغير اعترى وجه الكلام(66).
ويعد أبو عبيد البكري وابن السيد البطليوسي أكثر علماء الأندلس عناية بتعقب ما اعترى لغة الشعر المشرقي من لحن، مثال ذلك رفض البكري رواية القالي لقول الشاعر: (من الطويل)
مستندا على رفض صاعد بن الحسن لها، وعدها تصحيفا، واستبدالها بأخرى (سباب بدلا من شباب)، ثم طرح تأويل أنصار الروايتين للمعنى، لينتصر خيرا لرواية صاعد، لأنها "رواية.. حسنة جليلة، وعن.. التكلف غنية"(67).
إذا أنت لم تترك طعاما تحبه
ولا مقعدا تدعى إليه الولائد
تجللت عارا لا يزال يشبه
شباب الرجال نقرهم والقصائد
ومن اللحن الذي طال جانب النحو ما رواه القالي من شعر لأبي الأسود يقول منه: (من الطويل)
إذ انبرى البكري لتخطئته، قائلا: "هذا سهو من أبي علي - رحمه الله - لم يشعره؛ لانجزام قوله: "يكن هينا" من غير جازم، وصحة إنشاده:
وإن أمرا لا يرتجى الخير عنده
يكن هينا ثقلا على من يصاحب
1/ج- غريب اللغة:
وأي امرئ ………………
يكن هينا ……………"(68)
كما امتدت عنايتهم بتوثيق لغة النص الشعري لتشمل التنبيه على غريب اللغة، ونادرها، وما تسرب في تضاعيفها من ألفاظ معربة وأخرى تنتمي إلى لغات القبائل.
وقد تعقب الأعلم الشنتمري في شرح حماسة أبي تمام المفردات المعربة عن الفارسية، والألفاظ التي تعود إلى لغات القبائل(69) فمن المفردات المعربة "اليارق" وتعني "السوار"، وهو فارسي معرب، وأصله ياره، فعرب"، وقد ورد ذكره في قول شبرمة بن الطفيل: (من الطويل)
ومثل هذا في تضاعيف شرحه كثير(71).
لعمري لرئم عند باب ابن محرز
أغر عليه اليارقان مشوف
أحب إلينا من بيوت عمادها
سيوف وأرماح لهن حفيف(70)
كما تعقب الشنتمري أيضا المواطن التي تسربت فيها لغات القبائل إلى أشعار الحماسة، فرصد تواجدا للغات كل من تميم وهذيل وطييء، وإن احتلت طييء مكانة متميزة، إذ رصد لقبيلة تميم موطنا واحدا ولهذيل موطنين، أما طييء فقد رصد لها ثمانية مواطن فـ "ذو" في قول عارف الطائي: (من الطويل)
بمعنى الذي، وهي لغة طييء"(72).
لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم
لأنتحين العظم ذو أنا عارقه
وتطرقوا كذلك إلى المفردات النادرة الشيوع، فابن السيد البطليوسي في تعليقه على قول المعري: (من الوافر)
ذهب إلى أن للبيت رواية أخرى، وهي: "تصيد أن يصادا" بفتح التاء والصاد والياء من الفعل الأول، وفتح الياء من الفعل الثاني، وهو من قولهم: صاد يصاد، لغة من صاد يصيد، وهي لغة نادرة"(73).
تصيد سفرها في كل وجه
وغاية من تصيد أن يصادا
وقد أشار الشنتمري في شرح حماسة أبي تمام إلى بعض المفردات التي جمعت على صيغ نادرة الورود، مثال ذلك لفظة "الكيسي" التي وردت جمع (كيس) في قول عقيل ابن علفة المري: (من الطويل)
إذ علق على هذا البيت قائلا: "والكيسي جمع كيس وهو نادر"(74).
وكن أكيس الكيسى إذا ما لقيتهم
وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا
كما نبهوا على ميل بعض الشعراء إلى استخدام مفردات حوشية وغريبة، من مثل عبد الواحد ابن سليمان الغرناطي(75)، وأحمد بن محمد القيسي(76) وأبي الوليد بن هاني الغرناطي(77).
1/د- السياق:
وقد تنبه علماء الأندلس إلى ضرورة أن تأتي أساليب الشعراء متسقة لا خلل ينتابها؛ فيسحب بظلاله على المعنى، كالفصل بين متلازمين(78) أو الإخبار عن النكرة بالمعرفة(79)، والحذف المفضي إلى الغموض(80)، والتقديم والتخير، فمن سيء التقديم والتخير قول القلاخ بن حزن المنقري: (من الطويل)
فقد علق الأعلم الشنتمري على البيت الأول قائلا: "هذا البيت رديء النظم، مبني على التقديم والتخير... ونظيره في سوء النظم وتعمية المعنى بيت أنشده ابن الأعرابي، وهو: (من الطويل)
فما من فتى كنا من الناس واحدا
به نبتغي منهم عميدا نبادله
ليوم حفاظ أو لدفع كريهة
إذا عي بالحمل المفصل حامله
1/ه – تعدد الروايات:
لها مقلتا حوراء طل خميلة
من الوحش ما تنفك ترعى عرارها"(81)
استدعت عنايتهم بتوثيق لغة النص واتساق أساليبه تحري الدقة في تعقب رواياته المتعددة - والمتباينة أيضا - ونقدها، وقد كان لتعدد مصادر رواية الشعر المشرقي لدى الأندلسيين، وتسامحهم في قبول كل ما يحمل سمة مشرقية كبير أثر في إقبالهم على الجمع والمزج بين الروايات المشرقية للآثار الشعرية دون تعصب لمدرسة أو انحياز لفريق دون فريق، فاجتمعت لأبي عبيد البكري عدة روايات لديوان يزيد بن الطثرية، الذي جمع منه كل رواية: رواية أبي حاتم عن الأصمعي، ورواية الطوسي عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني"(82). وأقدم الأعلم الشنتمري على الجمع بين رواية الأصمعي لشعر زهير بن سلمى وما زيد من مرويات رواة آخرين، فأتمها بما عثر عليه من زيادات لدى أبي عبيدة(83)، وتوفرت لدى ابن السيد البطليوسي نسخ متعددة من ديوان سقط الزند لأبي العلاء المعري أثرت شرحة بروايات متعددة(84).
وقد تعددت وسائلهم في رصد الروايات المتعددة، إذ توزعت بين الرصد العاري من الشرح والترجيح والنقد(85)، والرصد مصحوبا بتوجيه المعنى(86) والترجيح(87)، ونقد الرواية، معتمدين في نقدهم على آراء سابقيهم من علماء المشرق(88)، أو متكئين على قرائن تاريخية(89) وأخرى أسلوبية(90).
ففي معرض نقد البكري ما أنشده القالي معزوا إلى العجاج من رجز يقول منه:
يقتسر الأقوام بالتغمم
اتكأ على رواية ثلاثة من الرواة المشارقة، فقال: "هكذا روي عنه بالتغمم بالغين ولم يختلف في ذلك عنه، وهو وهم، وإنما هو بالتقمم بالقاف، أي بالركوب والاعتلاء، كذلك رواه أبو حاتم وعبد الرحمن عن الأصمعي - رحمهم الله - وفسروه بما ذكرته، وهو الذي لا يصح سواه"(91).
وقد يستندون في نقد الرواية وطرح رواية بديلة على قرائن دلالية وذوقية، مثال ذلك ما قام البكري به في معرض نقد رواية القالي لبيت للبعيث يقول فيه: (من الطويل)
لأنه "لا يستقيم أن يكون (.. وانصب النجوم الخواضع)، لأن الخواضع هي المنصبة، فكيف يستقيم أن يقول: وانصب النجم المنصب.. وإنما يريد الشاعر أن الليل قد أدبر، وانقض للغروب ما كان طالعا من أوله... وأيضا فإن الذي يلي هذا البيت من القصيدة قوله:
على حين ضم الليل من كل جانب
جناحيه وانصب النجوم الخواضع
فلو كان الذي قبله كما أنشده أبو علي - رحمه الله - لكان هذا من الإيطاء"(92).
بكى صاحبي من حاجة عرضت له
وهن بأعلى ذي سدير خواضع
4/2- الإيقاع:
كان للأندلسيين دور ملموس في دراسة موسيقى الشعر تأليفا ونقدا وتصحيحا، تجلى في عدد من المؤلفات العروضية(93) والنظرات النقدية التي تناولت النص الشعري المشرقي والأندلسي أيضا تناولا يعكس ثقافة عروضية واسعة يتسلحون بها، ووعيا شديدا بقيمة اتساق الإيقاع في إفراز المعنى وجلائه يحدوهم(94)، فكثيرا ما أشاروا إلى من لم يحسن إحكام الوزن وضبطه من الشعراء، فأبو عبد الله بن رشيد كان له شعر يتكلفه، ولا يكاد لعدم شعوره بالوزن يتألفه.."(95)، وقد كان الوادي آشي ينتقد سراج الدين عمر بن أحمد بن الخضر بن ظافر الأنصاري (ت 627هـ)، لأنه لا يحسن إحكام وزن الشعر، ولا يميز بين بحوره؛ فتراه يخلط في القصيدة الواحدة بين البحرين، فقال: ومن شعره يمدح (التنبيه) ما أنشدنيه: (من الطويل)
وأنشدني غير هذا، مع أنه لا يحسن وزن الشعر... ورأينه يستعمله في القصيدة الواحدة من بحرين، ولا يميز بين ذلك كالطويل والبسيط وغيرهما، وقيدت ذلك عنه، ولم يمكنني تنبيهه على ذلك لزعارة في خلقه":(96)، ويبدو أن تسرب الخطأ إلى عروض الشعر أضحى شائعا في أشعار متأخري شعراء الأندلس، إذ أشار ابن الأبار في معرض نقده أبياتا لأبي الإصبع عيسى بن محمد العبدري جاءت مختلة الإيقاع، فقال: "أفسد في صدر البيت الثاني والثالث من حيث الوزن، وقد وقع فيه جمهور الشعراء"(97).
وما سمي التنبيه إلا لأنه
ينبه عن كل الحوادث للفهم
ومن هذا المنظور راحوا يتعقبون الأشعار المشرقية والأندلسية، مظهرين ما اعتراها من أخطاء طالت الوزن، من ذلك ما أنشده أبو علي القالي لرؤبة بن العجاج (ت 145هـ) من رجز يقول فيه:
إذ قام أبو عبيد البكري بتخطئة هذه الرواية مقترحا رواية بديلة تزيل ما علق بالشطر الثاني من اختلال فقال: "هكذا أنشده، ولا يستقيم ذلك ولا يصح، وإنما صحة إنشاده: طأطأ من شيطانه المعتي"(98).
وطامح النخوة مستكت
طأطأ من شيطانه التعتي
وقد نبه الأعلم الشنتمري على ما اعترى بعض أبيات حماسة أبي تمام من خلل عروضي(99) ، إذ علق على بيت لامرأة من بني مخزوم، تقول فيه: (من السريع)
قائلا: "والبيت خارج من الوزن لتحريك العين في "البديع" "وراح يقلب الوجوه الإيقاعية المتنوعة؛ فقال: "فإن وقف عليه وسكن، وجعل كالبيت المصرع مما قافيته مبنية على الوقف قام وزنه، والبيت غير مبني على ذلك، فمثل هذا لا ينبغي أن يجوز"(100).
إن تسألي فالمجد غير البديع
قد حل في تيم وفي مخزوم
وقد نبه العلماء الأندلسيون أيضا على ما أصاب القافية من عيوب، وراحوا يزيلون هذه العيوب متكئين على وسائل متعددة، من: بينها رد الأبيات المفردة إلى قصائدها التي تنتمي إليها، وتجلى هذا الموقف فيما قام به البكري أمام رواية القالي لبيت الأبيرد اليربوعي الذي يقول فيه: (من الطويل)
فقال: "هذا سهو منه، وإنما هو: أو تنحر الجزر" مستندا موقفه هذا على أن قافية أبيات القصيدة التي ينتمي إليها البيت السابق مرفوعة؛ وقبله:
فتى لا يعد الرسل يقضي مذمة
إذا نزل الأضياف أو ينحر الجزرا
وقد استندوا أيضا على توجيه المعنى توجيها يدعم تغيير. القافية تغييرا يزيل ما اعتراها من عيب، مثال ذلك ما أجراه البكري من تغيير لرواية بيت للبعيث يقول فيه: (من الطويل)
فتى إن هو استغنى تخرق في الغنى
وإن قل مالا لم يؤذ متنه الفقر"(101)
إذ رواه بصورة مغايرة، فأعاد للمعنى اتساقه، وأزال ما علق بالقافية من عيب (الإيطاء)(102).
على حين ضم الليل من كل جانب
جناحيه وانصب النجوم الخواضع
وقد أشاروا أيضا إلى ما أصاب القافية من عيوب تجسدت في السناد(103) والإيطاء(104)... وقد زادوا فيها زيادات لا عهد لعروضي المشرق بها، من هذه العيوب عيب أطلق أبو البقاء الرندي (ت 684هـ) عليه مصطلح "الاستدعاء"، ويتمثل في اختلاف القافية، فتكون فضلة لا معنى لها، واستشهد ببيت أبي الطيب المتنبي الذي يقول فيه: (من الطويل)
أما المصطلح الثاني فهو (التجميع)، وقد أورده ابن الأحمر في معرض نقده أبياتا لابن الفخار (ت 666هـ)، يقول منها: (من الخفيف)
ولو كنت أدري كم حياتي قسمتها
وصيرت ثلثيها حياتك فاعلم(105)
إذ قال: "... إن قوله: فوق المنار، فيه عيب.. يسمى التجميع؛ لأن سامعه أولا يقدر قافية البيت مثل قافية المصراع، فيجدها على خلافه"(106).
شهرة المشرفي فوق المنار
عزة للورى ودين النبي
كما كان لانقيادهم لسلطان الوزن والقافية أثر كبير فيما وقعوا فيه من عيوب، إذ ألجأتهم القافية إلى الزيادة في حروفها، أو استخدام مفردات غير متلازمة(107)؛ مثال ذلك ما رصده ابن الأبار من انقياد إلى القافية دفع الأمير عبد الله بن محمد إلى ضرب من الإيهام، عندما قال: (من الطويل)
إذ "حول اسم مغيث إلى معتب إغماضا وانقيادا للقافية"(108).
موالي قريش من قريش فقدموا
موالي قريش لا موالي معتب
كما ألجأهم الحرص على اتساق إيقاع البيت إلى زيادة ألفاظ لا يحتاجها معناه، وقد رصد الأعلم الشنتمري نماذج شعرية لكل من أبي داؤد الإيادي (ت 79ق هـ) (109) وزهير بن أبي سلمى (ت 23ق هـ)(110) والمتنبي (ت 354هـ) وآخرين أصابها الحشو، ففي تضاعيف تعليقه على قول المتنبي: (من الكامل)
قال: "إلا أن صنعة البيت وحفظ إعراب القافية سبب ذكر الوطن"(112) ومن مثل ذلك أيضا قول أبي العلاء المعري: (من الطويل)
بنتم عن العين القريحة فيكم
وسكنتم وطن الفؤاد الواله(111)
إذ "اضطره الشعر إلى أن يضع (الراحة) موضع (اليد)، ولا يجوز أن يقال: إن لله راحة، وإن كانت بمعنى اليد؛ لأن الشرع قد منع أن يوصف إلا بما وصف به نفسه"(113).
ومن يعف عن ذنب ويسنح بنائل
فخالقنا أعفى وراحته أسخى
4/3- المضمون:
غني الأندلسيون بمضمون النص الشعري عناية فائقة تجلت في مظاهر متعددة، يأتي في مقدمتها إزالة ما اعتراه من غموض، وإظهار ما اتسم به من أصالة أو امتداد أو تكرار، ورصد روافده التي أنتزع منها، وتعقب قائله أو شارحه بالنقد والتجريح.
3/أ- الشرح:
يعد شرح النص الشعري الخطوة الأولى على درب استكناه مضمونه، لذا راح الأندلسيون يعنون بهذا الجانب، فشرحوا عددا من النصوص الشعرية المشرقية شروحا تباينت غاياتها، واختلفت وسائلها(114)، فإذا كان ابن الإفليلي قد عني في شرحه ديوان المتنبي بالمضمون عناية دفعته إلى الاصطدام المباشر بالنص دون توسل بشرح مفردات، أو ترجمة أعلام، أو تحديد مواطن، أو رصد ما يشبه المعنى لدى الشاعر أو غيره، فإن ابن السيد البطليوسي في شرحه ديوان سقط الزند لأبي العلاء المعري شغل بهذه الجوانب شغلا استنفد جل طاقاته، حتى إذا بلغ شرح البيت أو الأبيات اقتضب القول(115).
وإذا كان ابن الإفليلي وابن السيد البطليوسي قد شغلا بنص الشاعر تاما، فان ابن سيده صب اهتمامه على ما اعترى جانبا من شعر المتنبي من غموض، فسلط الضوء على أبيات المعاني(116)، وجاء اعتماده على شرح المفردات وغيرها من وسائل إيضاح ضيقا جدا، ومنهم من عني بشرح شواهد بعض الكتب المشرقية(117).
يتبع