طلب العلم.. من المهد إلى اللحد



ياسر محمود





كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء، فجاءه الملك فقال: "اقرأ، قال قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قال قلت: ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم" (رواه مسلم).

هكذا في أول لحظة من لحظات اتصال النبي صلى الله عليه وسلم بالملأ الأعلى يؤمر بالقراءة أكثر من مرة، وتبرز كذلك حقيقة التعليم، تعليم الرب للإنسان بالقلم، الذي كان وما زال أعمق وأوسع أدوات التعليم أثرأ في حياة الإنسان، ثم يبين لنا مصدر هذا التعليم، فإن مصدره هو الله عز وجل، وفي هذا كله إشارة بليغة إلى رفعة ومكانة العلم.

أفضل التطوع

قال كثير من سلفنا الصالح أن العلم أفضل ما يتطوع المرء به طمعا في القرب من الله تعالى، وقدموا مدارسته ومذاكرته على النوافل من العبادات، فعن أبي الدرداء قال: مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليلة، وقال ابن عباس: تذاكر العلم بعض الليل أحب إليّ من إحيائه، وقال الإمام الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، ويلخص الإمام الثوري فضل العلم على سائر النوافل فيقول: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.

طريق للجنة

ومدارسة العلم وبذل الجهد في تحصيله يعد سببا لدخول الجنة، كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "..ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة.." (رواه مسلم).

دليل العمل

ولكي يصح العمل ويستقيم لابد أن يكون مبنيًا على علم، سواء أكان العمل عبادة أو معاملة، ومن عمل على غير علم قد يبطل عمله ولا ينال منه إلا التعب والمشقة، كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر الرجل الذي أساء أداء الصلاة بأن يعيدها، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد وقال: "ارجع فصل فإنك لم تصل" ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها فعلمني، فقال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، وافعل ذلك في صلاتك كلها". (رواه البخاري).

بل إن الآثار السلبية للعمل المبني على غير علم قد تفوق منافعه، وفي هذا يقول عمر بن عبد العزيز: من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.

فالعلم يرشدنا إلى الصحيح والفاسد، وإلى المناسب وغير المناسب في كل شئون الحياة من عبادات ومعاملات.

رفعة ومكانة

فنفع العلم لأهله لا يقتصر على ثواب الآخرة وحدها، بل هو نفع لهم في الدنيا قبل الآخرة، فثمراته معجلة، وقطوفه دانية، فقد روي أن نافع بن عبد الحارث لقي أمير المؤمنبن عمر بن الخطاب بعسفان - وكان عمر ولاه على مكة - فسأله: من استخلفت على أهل الوادي، فقال: ابن أبزى، قال ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: أستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض (المواريث)، قال عمر: أما إن نبيكم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" (رواه مسلم).

رغبة صادقة

وأولى خطوات تحصيل العلم أن يكون لدى المرء رغبة عميقة وحب صادق للعلم حتى يدفعه ذلك إلى غبطة أرباب العلم على علمهم، ويتمنى من أعماقه أن يكون له من العلم والحكمة مثل ما لهم، فعن ابن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجا آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (رواه البخاري).

سعي واجتهاد

وتحصل العلم وإن كان يحتاج إلى رغبة صادقة فلابد أن يصاحبها سعي واجتهاد في طلبه، فيلزم المرء نفسه بحضور دروس العلم، وملازمة العلماء، والتلقي عنهم ومراجعتهم فيما خفي عنه، ويبذل وقته وجهده في القراءة والمطالعة والتلخيص والبحث، وينفق ما وسعه من مال في سبيل تحصيله.

وقد ضرب لنا سلفنا الصالح أروع الأمثلة في بذل المال والجهد والوقت من أجل تحقيق مسألة علمية أو سماع حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا سعيد بن المسيب يقول: إن كنت لأرجل الأيام والليالي في طلب الحديث، وقال الشعبي: لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة حكمة، ما رأيت أن سفره ضاع.

وهذا الاجتهاد في تحصيل العلم يرفع أجر طالبه حتى يجعله مثل أجر الجهاد في سبيل الله، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع". (رواه الترمذي).

مداومة في طلبه

وطلب العلم لا يتوقف عند مستوى محدد أو سن معينة، ولكن طالب العلم المُجد في طلبه لا يتوقف عن طلبه ولا يشبع منه، فكلما تعلم شيئا كلما تطلع لتعلم غيره، ولا يقنع بما علمه بل يظل دائما ساعيا للعلم، طالبا له، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "منهمومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا" (رواه البزار).

وقد كان سلفنا الصالح يطلبون العلم حتى الممات، فهذا الإمام أحمد بن حنبل يقول: إنما أطلب العلم إلى أن أدخل القبر، وسئل الحسن البصري عن الرجل له ثمانون سنة: أيحسن أن يطلب العلم، قال: إن كان يحسن به أن يعيش.