ترتيب نزول السور
وموقف الطاهر بن عاشور منه
جمع ودراسة
د. شافي سلطان محمد العجمي (*)
ملخص البحث:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:
فقد اعتمد كثير من المتأخرين من المفسرين في ترتيب نزول سور القرآن على آثار عن بعض التابعين تفيد ترتيب نزول السور، وأكثر من اعتنى بذلك في تفسيره الطاهر ابن عاشور، وسيبين الباحث معنى ترتيب نزول السور، وتاريخ هذا الترتيب، وبعض القواعد المفيدة في ذلك، وجهود الطاهر بن عاشور وتعليقه على آثار التابعين، وسيكون للباحث تعقيب على رأي الطاهر بن عاشور في ترتيب بعض السور، وقد خلص الباحث للنتائج الآتية:
ترتيب نزول السور من المباحث المهمة التي يعتمد عليها في الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، وربط مواضيع القرآن ذات النزول المتقارب.
جاءت السنة الصحيحة ببيان وقت نزول كثير من السور والآيات، دون بيان السور والآيات التي نزلت قبل ذلك أو بعده إلا قليلا.
من يعرف سمات المكي والمدني ويتدبر السنة والسيرة النبوية وينظر في آثار الصحابة يدرك كثيرا من تقدم نزول بعض السور والآيات.
أكثر اعتماد المتأخرين في ترتيب نزول السور على الآثار الواردة عن جابر بن زيد، وليس فيها شيء صحيح أو يقارب الصحيح.
اعتنى الشيخ محمد بن الطاهر بن عاشور بترتيب السور في فاتحة تفسير كل سورة، وقد تابع جابر بن زيد في غالب ترتيبه، وخالفه في شيء يسير من ذلك.
تبين للباحث خطأ ترتيب بعض السور المكية والمدنية في الروايات المسندة لبعض الصحابة والتابعين في رأي الشيخ ابن عاشور، وقد بين الباحث حجته في ذلك.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد:
فقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم"، قال شقيق ابن سلمة: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت رادا يقول غير ذلك ([1]).
وفي الصحيحين عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله، تبلغه الإبل لركبت إليه" ([2]).
وفي هاتين الروايتين دليل على عظيم معرفة ابن مسعود لكتاب الله عز وجل، وقد أخذ ابن مسعود بضعا وسبعين سورة مكية من فم النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا: أن أكثر القرآن المكي قد أخذه عبد الله بن مسعود من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا واسطة.
وقد تميزت معرفة ابن مسعود بكلام الله بخمس مميزات:
الأولى: أنه أخذ أكثر من ثلثي القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم والباقي أخذه عن الصحابة.
والثانية: أنه أحاط بغالب السور المكية في مكة.
والثالثة: أنه عليم بكل أسباب النزول.
والرابعة: أنه عارف بمكان نزول كل آية.
والخامسة: أنه من أعلم الصحابة بكتاب الله سبحانه.
ويلزم من هذه المميزات الخمسة أن يعلم ابن مسعود ترتيب نزول القرآن.
ولا شك أن معرفة ترتيب نزول القرآن تشتمل على فوائد عدة:
أولها: معرفة المقاصد القرآنية التي ابتدأ الحديث عنها كالتوحيد ثم النبوة ثم البعث.
وثانيها: العلم بأهمية التدرج في بيان الحق، فإن القرآن أول ما نزل جاء في الأصول والترغيب والترهيب قبل الأحكام والحدود.
وثالثها: فهم السيرة النبوية وربطها بترتيب نزول الآيات.
ورابعها: ضرورة تصريف المعاني والمقاصد وتنويع الدلالات لترسيخها في قلوب الخلق.
وخامسها: معرفة الناسخ والمنسوخ والمتقدم والمتأخر (اللذان هما من أصول الفهم والاستنباط في القرآن).
ومع شدة الحاجة لمعرفة هذا الموضوع ومناقشة الآثار الواردة في ترتيب نزول القرآن والنظر في موافقة هذه الآثار للسنة والآثار الواردة عن الصحابة فلم أجد من استقبل هذا الموضوع ببحث أو رسالة، ولذلك فقد يممت وجهي لكتابة بحث يتناول ترتيب نزول القرآن، وقد اخترت مفسرا كبيرا قد انفرد بذكر ومناقشة ترتيب نزول السور في بداية كل سورة ألا وهو: الطاهر بن عاشور، وقد اعتنى بذكر ترتيب كل سورة من حيث النزول، وكان يتعقب ذلك مبينا دليله، وسيكون للباحث تعليق على رأي ابن عاشور معتمدا على سياق الآيات، ومعرفة السيرة النبوية، والاحاديث والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنه في ذلك.
وقد طالعت اثنتين وخمسين من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناولت تفسير الطاهر بن عاشور، فلم أجد في شيء من ذلك تعريجا على هذه المسألة، فضلا عن جمعها أو مناقشتها.
وقد وجدت بحثين تناولا موضوعا يتصل بشيء من موضوعنا:
أحدهما للباحث محمد مجلي ([3]) بعنوان تفسير القرآن الكريم على ترتيب النزول، وقد ناقش أصحاب التفاسير الذين فسروا القرآن بحسب نزوله وضعف الآثار الواردة في ترتيب النزول، ولم يناقش ترتيب السور، ولم يستدل على ذلك، ولم يذكر شيئا من أصول ترتيب السور.
والثاني:
وهو الدكتور مصطفى مسلم ([4]) وقد ناقش-أيضا-هذه التفاسير من حيث الفائدة المرجوة من هذا الترتيب، ولم يتناول شيئا مما تناولناه في بحثنا.
وقد اقتضت طبيعة البحث أن يكون في مقدمة، وقد مضت، وتمهيدا في معنى ترتيب نزول السور وتاريخ ترتيب نزول القرآن، وترجمة الطاهر بن عاشور، وقواعد معرفة تقدم نزول بعض سور القرآن، ومبحثين: الأول: في ترتيب السور المكية، والثاني: في ترتيب السور المدنية وخاتمة.
والله الملاذ في كل مطلوب، وهو المعاذ عند كل مرهوب، وعليه التكلان.
التمهيد:
معنى ترتيب نزول السور القرآنية:
هناك ترتيبان للسور في علوم القرآن، ترتيب السور بحسب وضعها في المصحف، وترتيب نزول السور القرآنية، أما الأول فينظر في أقوال أهل العلم في هذا الترتيب وهل هو توقيفي أو اجتهادي، أو بعضه توقيفي وبعضه اجتهادي ([5]).
وأما ترتيب نزول السور فهو معرفة تقدم بعض السور على بعض وتأخر بعض السور عن بعض، وقد وردت آثار تبين ترتيب كل سورة وما قبلها وما بعدها، وفيها نظر قد سبق.
وسنبين في قواعد ترتيب نزول السور أن المقصود معرفة المتقدم والمتأخر، وليس المقصود معرفة موقع كل سورة بين السور، كما ورد في الآثار الضعيفة والواهية عن بعض الصحابة والتابعين.
ولا شك أن أكثر السور نزلت مفرقة " لاختلاف الأحداث التي نزلت فيها الآيات والسور، ولم تنزل السور جملة واحدة إلا السور القصيرة وسورة الأنعام، والعبرة في الحكم على ترتيب السور بالنظر إلى أول السورة دون أخرها أو وسطها، فسورة العلق-مثلا-نزل أولها قبل أول سورة المدثر، ونزل باقيها بعد أول المدثر، وسورة البقرة نزل أولها في أول قدوم المسلمين المدينة، ونزل أخرها قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأشهر، والسور التي نزلت جملة واحدة كثرها من السور القصيرة.
أما السور الطوال أو المثاني أو المئين: فقد نزلت مفرقة إلا سورة الأنعام، وقد قال الله تعالى ردا على سؤال الكفار: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) ([6]).
2- في تاريخ ترتيب نزول السور القرآنية:
ليس في السنن المرفوعة حديث يبين ترتيب نزول السور القرآنية إلا حديثا واحدا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا يصح ([7])، وقد أشار الباقلاني إلى أن مصحف علي بن أبي طالب كان مبدوءا بسورة اقرأ ([8]).
وليس في الآثار الموقوفة عن الصحابة شيء في ترتيب نزول القرآن إلا ما رواه ابن الضريس عن ابن عباس رضي الله عنه، ولم يصح أيضا ([9])، وأشهر الآثار الواردة عن التابعين في ترتيب نزول السور رواية جابر بن زيد، وقد ساقها السيوطي في الإتقان ولم تصح أيضا؛ ولذلك قال السيوطي بعد سوق الرواية:
"هذا سياق غريب، وفي هذا الترتيب نظر، وجابر بن زيد من علماء التابعين بالقرآن" ([10])، وجاءت آثار أخرى عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن والزهري ومحمد ابن النعمان ابن بشير وعطاء الخراساني، وتختلف يسيرا في بعض السور ([11]).
ومحصل القول في هذه الآثار: أنها لا تصح سندا ولا متنا، أما الأسانيد: ففيها من الضعفاء والمجاهيل والمخلطين ما يطمس عليها ([12])، وأما متنها: ففيه من الاختلاف والتقديم والتأخير ما يقطع بنكارتها كما سيأتي في الدراسة العملية عند الطاهر بن عاشور، وهذا يبرهن على سقوط الاستدلال بها، وترك الركون إليها.
وهذا كله يقوي ما رواه ابن الضريس عن ابن سيرين، قال: "قلت لعكرمة: ألفوه كما أنزل، الأول فالأول؟ فقال عكرمة: "لو اجتمع الإنس والجن على أن يؤلفوه ذلك التأليف ما استطاعوا". ([13])
ويشير ابن بطال إلى ذلك فيقول في شرحه للبخاري: "ومما يدل أنه لا يجب إثبات القرآن في المصاحف على تاريخ نزوله "لأنهم لو فعلوا ذلك لوجب أن يجعلوا بعض أية سورة في سورة أخرى وأن ينقصوا ([14]) ما وقفوا عليه من سياقه ترتيب السور ونظامها؛ لأنه قد صح وثبت أن الآيات كانت تنزل بالمدينة فيؤمروا بإثباتها في السورة المكية، ويقال لهم: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا. ألا ترى قول عائشة: وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، يعنى بالمدينة، وقد قدمتا في المصحف على ما نزل قبلهما من القرآن بمكة، ولو ألفوه على تاريخ النزول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السور" ([15]).
ومع ذلك فقد اعتمد الشيخ الطاهر بن عاشور على ترتيب جابر بن زيد لشهرته، ثم خالف ذلك الترتيب في بعض السور، وذكر أدلته على ذلك كما سيأتي.
3- ترجمة الطاهر بن عاشور: ([16])
ولد محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الشهير بالطاهر بن عاشور، بتونس في (1298 هـ=1879 م) في أسرة علمية عريقة، تمتد أصولها إلى بلاد الأندلس، وقد استقرت هذه الأسرة في تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش التي تعرض لها مسلمو الأندلس.
حفظ الطاهر القرآن الكريم، وتعلم اللغة الفرنسية، والتحق بجامع الزيتونة سنة (1310 هـ=1892 م) وهو في الرابعة عشرة من عمره، فدرس علوم الزيتونة ونبغ فيها، وتخرج الطاهر في الزيتونة عام (1317 هـ=1896 م)، والتحق بسلك التدريس في هذا الجامع العريق، ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى عين مدرسا من الطبقة الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة (1324 هـ=1903 م).
وكان الطاهر قد اختير للتدريس في المدرسة الصادقية سنة (1321 هـ=1900 م)، وفي سنة (1321 هـ=1903 م)، وقد عين نائبا أول لدى النظارة العلمية بجامع الزيتونة سنة (1325 ه=1907 م)؛ واختير في لجنة إصلاح التعليم الأولى بالزيتونة في (صفر 1328 ه=1910 م)، وكذلك في لجنة الإصلاح الثانية (1342 ه=1924 م)، ثم اختير شيخا لجامع الزيتونة في (1351 ه=1932 م)، كما كان شيخ الإسلام المالكي؛ فكان أول شيوخ الزيتونة الذين جمعوا بين هذين المنصبين، ولكنه لم يلبث أن استقال من المشيخة بعد سنة ونصف بسبب العراقيل التي وضعت أمام خططه لإصلاح الزيتونة، وبسبب اصطدامه ببعض الشيوخ عندما عزم على إصلاح التعليم في الزيتونة.
أعيد تعينه شيخا لجامع الزيتونة سنة (1364 هـ=1945 م)، وفي هذه المرة أدخل إصلاحات كبيرة في نظام التعليم الزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد المعاهد التعليمية.
ولدى استقلال تونس أسندت إليه رئاسة الجامعة الزيتونية سنة (1374 هـ=1956 م).
وقد توفي الطاهر بن عاشور في (13 رجب 1393 هـ=12 أغسطس 1973 م) بعد حياة حافلة بالعلم والإصلاح والتجديد على مستوى تونس والعالم الإسلامي.
4- قواعد معرفة تقدم نزول بعض سور القرآن:
لما كانت الآثار الواردة في ترتيب نزول السور ضعيفة وفيها نظر ظاهر اختار الباحث قواعد معينة لمعرفة تقدم بعض السور على بعض؛ ليكون ذلك بديلا عن تحديد ترتيب نزول السور. وإذا تبين تقدم النزول علمنا تقدم ترتيب بعض السور على بعض، فتقدم نزول سورة العلق على المدثر يفيد ترتيبها قبلها، وتأخر سورة الأحزاب بعد غزوة بني النضير يفيد تقدم سورة الحشر على سورة الأحزاب، والمقصود: أن هذه القواعد تقرب القول في تقدم بعض السور على بعض، وهذا ما توصل إليه الباحث أما الاعتماد على الآثار الواردة في تحديد موقع كل سورة: ففيها نظر ظاهر كما سبق.
وقد نظرت في صنيع المفسرين فاستخرجت من كلامهم قواعد تصلح لتقريب القول في ترتيب تقدم نزول بعض السور:
القاعدة الأولى: معرفة تقدم نزول بعض السور بحسب السياق القرآني:
والسياق القرآني يبين تقدم نزول بعض السور على بعض؛ لتقدم ذكر الأحكام والأحداث والناسخ والمنسوخ وسمات المكي والمدني، وذلك على النحو الآتي:
الأصل الأول: معرفة تقدم نزول بعض السور بحسب ورود الأحكام في السورة أو الآية:
وهذا أكثر الأصول استعمالا لمعرفة وقت نزول السورة والآية، ولذلك أمثلة:
سياق سورة البقرة في نصفها الأول يدل على ابتداء نزولها في المدينة من وجهين:
الوجه الأول: ذكر تحويل القبلة وقد حولت بعد ستة عشر شهرا من قدوم المسلمين المدينة؛ لما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب، قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا" حتى نزلت الآية التي في البقرة (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ([17])، فنزلت بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق رجل من القوم فمر بناس من الأنصار وهم يصلون، فحدثهم، فولوا وجوههم قبل البيت" ([18]).
الوجه الثاني: ذكر فرض الصيام، وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة ([19]).
وهذا يقتضي تقدم أول سورة البقرة على جميع السور المدنية.
قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ([20])، وقد نزلت في السنة السادسة حين صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت ([21]).
وهذا يفيد أن الشطر الثاني من سورة البقرة تأخر عن أولها وسبقته سورة الحشر والأحزاب والأنفال وغيرها.
الأصل الثاني: معرفة تقدم نزول بعض السور بحسب الأحداث التي تحدثت عنها الآيات:
ذكر سرية عبد الله بن جحش في السنة الثانية وقد قال الله فيهم: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ([22])). ([23])
جعل ابن عباس سورة الحشر نازلة في بني النضير، فعن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة، قال: "التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل، ومنهم ومنهم، حتى ظنوا أنها لن تبقي أحدا منهم إلا ذكر فيها"، قال: قلت: سورة الأنفال، قال: "نزلت في بدر"، قال: قلت: سورة الحشر، قال: "نزلت في بني النضير" ([24])، وغزوة بني النضير كانت في السنة الثالثة أو الرابعة ([25]) مما يدل على تقدم نزول سورة الحشر، بخلاف ما اختاره كثير من المتأخرين من تأخر نزولها.
ذكر سدرة المنتهى في سورة النجم يدل على أن مقدم السورة قد نزل بعد الإسراء والمعراج لا قبله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع على سدرة المنتهى إلا في الإسراء والمعراج، ولذلك قال تعالى مادحا نبيه (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) ([26])، وفي حديث الإسراء عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها" ([27])
الأصل الثالث: معرفة تقدم نزول بعض السور بحسب الناسخ والمنسوخ
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) ([28])، وهذا منسوخ ([29]) بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ([30]).
آية آل عمران: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) ([31])، منسوخة ([32]) بأية البقرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) ([33]).
الأصل الرابع: معرفة تقدم نزول بعض السور بحسب سمات المكي والمدني:
من سمات القرآن المكي: البدء بالقسم ([34])، فسورة العاديات من السور المكية؛ لأن سماتها سمات المكي، بخلاف ما اصطلح عليه كثير من المتأخرين من وضع العاديات في عداد السور المدنية، وأما حديث ابن عباس: ([35]) -وفيه أن العاديات مدنية-فقد استغربه جدا ابن كثير في تفسيره ([36])، وقد قال ابن عاشور: "وعدت الرابعة عشرة في ترتيب نزول السور، ثم قال: ذكر الواحدي في "أسباب النزول" عن مقاتل وعن غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا سرية إلى بني كنانة وأمر عليها المنذر بن عمرو الأنصاري فأسهبت، أي أمعنت في سهب، وهي الأرض الواسعة شهرا، وتأخر خبرهم فأرجف المنافقون وقالوا: قتلوا جميعا، فأخبر الله عنهم بقوله: والعاديات ضبحاً، إعلاما بأن خيلهم قد فعلت جميع ما في تلك الآيات ([37])، وهذا الحديث قال في "الإتقان" رواه الحاكم وغيره، وقد علق ابن عاشور على استغراب ابن كثير فقال: غرابة الحديث لا تنافي قبوله، وهو مروي عن ثقات، إلا أن في سنده حفص بن جميع، وهو ضعيف، فالراجح أن السورة مدنية" ([38]).
وسياق السورة يدل على أنها مكية لأربعة أسباب:
السبب الأول: بدء السورة بالقسم يشير إلى مكيتها؛ لأن السور المكية يكثر القسم في بدايتها ([39]).
السبب الثاني: بيان حقيقة الإنسان وحبه للمال كان موضوعا من مواضيع السور المكية، كما في سورة المعارج والفجر، قال تعالى: (وَجَمَعَ فَأَوْعَى) ([40]) وقال عز وجل (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) ([41])، وقال سبحانه: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) ([42]).
السبب الثالث: التخويف من يوم القيامة نمط من أنماط السور المكية.
السبب الرابع: أن سبب النزول الذي نسب للحاكم واعتمد عليه لا يصلح دليلا على مدنيتها من ستة أوجه:
الوجه الأول: أن السند ضعيف جدا؛ لأن حفص بن جميع إذا روى عن سماك فإنه يروي المناكير، وما كان كذلك فلا يصلح الاعتماد عليه ([43]).
الوجه الثاني: من نظر في عادة القرآن ونزول الآيات التي تنزل لبيان حادثة إما أن تبين أحكامها، أو ما قال الكفار فيها والرد عليهم، فمن الأول: سورة الأنفال والحشر والأحزاب ونحوها، ومن الثاني: سورة الأنعام والمدثر ونحوها، وليس في السورة هذا ولا ذاك، فلو كانت نازلة للحديث عن السرية لبينت شيئا مما جرى عليها أو أحكامها.
الوجه الثالث: أن مقصود السورة يطوف حول حقيقة الإنسان وتهديده والبدء بالقسم كان توطئة لذلك، وتنبيها عليه، وهذا سياق مكي، ويبعد أن يكون مدنيا.
الوجه الرابع: قال ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن-رادا على من اختار أن السورة مدنية لذكر الخيل فيها، ولا خيل ولا جهاد في مكة: "وأما قولكم: إنه لم يكن بمكة حين نزول الآية جهاد ولا خيل تجاهد، فهذا لا يلزم؛ لأنه سبحانه أقسم بما يعرفونه من شأن الخيل إذا كانت في غزو فأغارت فأثارت النقع وتوسطت جمع العدو، وهذا أمر معروف، وذكر خيل المجاهدين أحق ما دخل في هذا الوصف فذكره على وجه التمثيل لا الاختصاص، فإن هذا شأن خيل المقاتلة، وأشرف أنواع الخيل: خيل المجاهدين، والقسم إنما وقع بما تضمنه شأن هذه العاديات من الآيات البينات من خلق هذا الحيوان الذي هو من أكرم البهيم وأشرفه" ([44])
من سمات القرآن المدني الحديث عن المنافقين ([45]) فسورة الحديد من السور المدنية لورود ذكر المنافقين فيها، مع أن حديث ابن مسعود: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين" ([46]) يدل على مكيتها، ولكن الجواب عن ذلك: أن يقال بمكية الآية فقط، لا السورة؛ لأن العبرة بغالب آياتها.
من سمات القرآن المكي: أن السور الطوال لم تنزل في أول العهد المكي ([47])، وحديث عائشة يشير إلى ذلك، فقد روى البخاري في صحيحه عنها أنها قالت: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار" ([48]).
القاعدة الثانية: معرفة تقدم نزول بعض السور بالسنة:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) ([49]) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ([50])" ([51])، وهذا يقتضي نزول آية لقمان قبل آية الأنعام.
عن أنس رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "أنزلت علي آنفا سورة" فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)" ([52])، وهذا يدل على مدنية سورة الكوثر، لأن أنس إنما يروي بالمدينة.
القاعدة الثالثة: معرفة تقدم نزول بعض السور بآ ثار الصحابة:
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما كان بين إسلامنا وبين عتاب الله لنا بهذه الآية ([53]) إلا أربع سنين" رواه مسلم ([54])، وهذا يقتضي تقدم نزول هذه الآيات، بخلاف ما اصطلح عليه بعض المتأخرين، كما سيأتي بحث ذلك في المبحث الثاني.
قراءة عمر رضي الله عنه لسورة طه ([55])، وقد أسلم في السنة الرابعة أو الخامسة ([56]).
قراءة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لسورة مريم في الحبشة ([57])، وهذا يدل على تقدم سورة مريم على الهجرة للحبشة، وقد كانت الهجرة للحبشة في السنة الخامسة ([58]).
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر (فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ([59])" ([60]) قال ابن مسعود رضي الله عنه في بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: "إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي" ([61])، ومقتضى كلام ابن مسعود أن هذه السور الخمس من أوائل ما نزل في مكة، بخلاف ما اصطلح عليه كثير من المتأخرين.
قال ابن حجر في فتح الباري: "ومراد ابن مسعود أنهن من أول ما تعلم من القرآن" ([62]) وفي قول ابن مسعود إشارة إلى تقارب نزول هذه السور لقوله العتاق الأول أي المحفوظ الأول.
القاعدة الرابعة: معرفة ترتيب نزول السور بأقوال التابعين:
وقد حصل في ذلك اختلاف في الآثار الواردة عنهم ([63])، ولكن ما اتفقوا عليه ولم يخالفوا فيه نصا أو أثرا فالأصل تقديم رأيهم على رأي غيرهم، ما لم يأت في أصول الترجيح ما يدفع رأيهم.
المبحث الأول: ترتيب نزول السور المكية:
ورد في أثر جابر بن زيد الذي اعتمده أكثر المتأخرين ست وثمانون سورة نزلت بمكة، بدأها بسورة اقرأ، وختمها بسورة المطففين، وسنبين السور التي وافق فيها ابن عاشور على ترتيب جابر بن زيد وما خالفه فيه:
المطلب الأول: السور التي وافق فيها الشيخ ابن عاشور جابر بن زيد:
وقد وافق الشيخ ابن عاشور جابر بن زيد في السور الآتية ([64]):
(اقرأ "1"، والمسد" 6"، والتكوير "7"، والأعلى "8"، والليل " 9"، والفجر "10"، والضحى "11"، والانشراح "12"، والعصر "13"، والعاديات "14"، والتكاثر "16"، والماعون "17"، والكافرون "18"، والفيل "19"، والفلق "20"، والناس "21"، والإخلاص "22"، والنجم "23"، وعبس "24"، والقدر "25"، والشمس "26"، والبروج "27"، والتين "28"، والإيلاف "29" والقارعة "30"، والقيامة "31"، والهمزة "32"، والمرسلات "33"، وق "34"، والبلد "35"، والطارق "36"، والقمر "37"، وص "38"، والجن "40"، ويس "41"، والفرقان "42"، وفاطر "43"، ومريم "44"، وطه "45"، والواقعة "46"، والشعراء "47"، والنمل "48"، والقصص "49"، الإسراء "50"، ويونس "51"، وهود "52"، ويوسف "53"، والحجر "54"، والأنعام "55"، والصافات "56"، ولقمان "57"، وسبأ "58"، والزمر "59"، وغافر "60"، وفصلت "61"، والزخرف "62"، والدخان "63"، والجاثية "64"، والأحقاف "65"، والذاريات "66"، والغاشية "67"، والكهف "68"، والشورى "69"، وإبراهيم "70"، والأنبياء "71"، والنحل "72"، والسجدة "73"، ونوح "74"، والطور "75"، والمؤمنين "76"، والملك "77"، والحاقة "78"، والمعارج "79"، والنبأ "80"، والنازعات "81"، والانفطار "82"، والانشقاق "83"، والروم "84"، والعنكبوت "85"، والمطففين "86".
المطلب الثاني: السور المكية التي خالف فيها ابن عاشور جابر بن زيد:
وقد خالف الشيخ ابن عاشور جابر بن زيد في خمس سور وهي على النحو الآتي:
سورة المدثر: قال ابن عاشور "سورة المدثر أول سورة نزلت بعد فترة الوحي، كما في "الإتقان"" ([65]).
التعليق: اتفقت الروايات الواردة في ترتيب النزول عن ابن عباس وعكرمة والحسن وجابر بن زيد على جعل المدثر هي الرابعة في النزول، وقد خالفهم الشيخ الطاهر بن عاشور فجعل المدثر ثانية؛ لحديث جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: وهو يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة الوحي فقال في حديثه: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني "فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) إلى قوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ([66]). فحمي الوحي وتتابع ([67])
وجه الدلالة من الحديث قوله: فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض، وهذا يعني أن سورة المدثر لم تكن أول سورة بل كانت ثانية بعد السورة التي جاء بها جبريل أول مرة.
سورة الفاتحة: قال ابن عاشور: "وقال كثير أنها أول سورة نزلت، والصحيح أنه نزل قبلها: اقرأ باسم ربك وسورة المدثر ثم الفاتحة، وقيل نزل قبلها أيضا: ن والقلم وسورة المزمل، وقال بعضهم: هي أول سورة نزلت كاملة، أي غير منجمة، بخلاف سورة القلم، وقد حقق بعض العلماء أنها نزلت عند فرض الصلاة فقرأ المسلمون بها في الصلاة عند فرضها، وقد عدت في رواية عن جابر بن زيد السورة الخامسة" ([68]).
التعليق: اختلفت الروايات في ترتيب السور في ترتيب الفاتحة ففي ترتيب جابر بن زيد الخامسة، وقد سقطت من ترتيب عكرمة والحسن، وذكرها ابن عباس فيما نزل أولا، ولم يحدد ترتيب نزولها.
أما قول الشيخ ابن عاشور: وقال كثير: إنها أول سورة نزلت، فهذا منقول عن السيوطي في الإتقان ([69])، وفيه نظر، لأني حين رجعت للإتقان وجدت السيوطي ينقل عن الزمخشري ما نصه: "سورة الفاتحة قال في الكشاف: ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن أول سورة نزلت "اقرأ " وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب".
وقد نسب الزمخشري لكثير من المفسرين قولا لم يقولوه، فقال: "وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل، ثم سورة القلم" ([70])، وهذا وهم نبه عليه ابن حجر فقال: "والذي ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول، وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل ([71]) بالنسبة إلى من قال بالأول" ([72]).
سورة المزمل: قال ابن عاشور: "واختلف فيما نزل بعد سورة العلق، فقيل سورة ن والقلم، وقيل نزل بعد العلق سورة المدثر، ويظهر أنه الأرجح، ثم قيل: نزلت سورة المزمل بعد القلم، فتكون ثالثة. وهذا قول جابر بن زيد في تعداد نزول السور، وعلى القول: بأن المدثر هي الثانية يحتمل أن تكون القلم ثالثة والمزمل رابعة، ويحتمل أن تكون المزمل هي الثالثة والقلم رابعة، والجمهور على أن المدثر نزلت قبل المزمل" ([73]).
التعليق: ترتيب سورة المزمل في الآثار الواردة عن ابن عباس وعكرمة والحسن وجابر بن زيد الثالثة، وقد ذكر الشيخ ابن عاشور في تفسير الفاتحة أن الفاتحة نزلت بعد العلق والمدثر، وهنا يذكر أن المزمل أو القلم هي الثالثة، فإما أن يكون هذا القول ناسخا لقول الشيخ السابق، أو أن الشيخ قد نسي ما صححه في تفسير الفاتحة.
ولا يظهر أن سورة المزمل نزلت بعد المدثر، بل يمكن أن يقال: قد تأخر نزولها عن أول العهد المكي لسببين:
الأول: أن سورة المزمل تأمر بصلاة الليل، والصلاة المكتوبة لم تفرض مبكرة، بل تأخر فرضها ([74])، وليس في أول سورة العلق أو أول المدثر الدعوة الصريحة للصلاة.
الثاني: روى مسلم في صحيحه أن عائشة قالت لسعد بن هشام: ألست تقرأ يا أيها المزمل؟" قلت: بلى، قالت: "فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء" ([75])، وهذا يدل على أن خاتمة سورة المزمل نزلت بعد مقدمتها بسنة، وفي الخاتمة: حديث عن القتال في سبيل الله في قوله: وآخرون يقاتلون في سبيل الله، وهذا أشبه بآخر العهد المكي.
سورة القلم: قال ابن عاشور: "وهذه السورة عدها جابر بن زيد ثانية السور نزولا قال: نزلت بعد سورة اقرأ باسم ربك، وبعدها سورة المزمل، ثم سورة المدثر، والاصح حديث عائشة "أن أول ما أنرل سورة اقرأ باسم ربك ثم فتر الوحي ثم نزلت سورة المدثر".
وما في حديث جابر بن عبد الله "أن سورة المدثر نزلت بعد فترة الوحي" يحمل على أنها نزلت بعد سورة اقرأ باسم ربك، جمعا بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها" ([76]).
التعليق: في ترتيب جابر بن زيد: أن سورة ن والقلم هي الثانية، وكذا في رواية عكرمة والحسن، ورواية عن ابن عباس، وفي ذلك نظر؛ لقوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ([77])، وهذا كان عند تفاوض المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجر التفاوض بعد نزول المدثر والعلق، بل كان بعد ذلك بمدة، كما في كتب السير ([78]).
سورة الكوثر: قال ابن عاشور: "والأظهر أن هذه السورة مدنية، وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها، وعلى القول بأنها مكية عدوها الخامسة عشرة في عداد نزول السور، وعلى القول بأنها مدنية فقد قيل: أنها نزلت في الحديبية" ([79]).
التعليق: ترتيب السورة عند جابر بن زيد الخامسة عشرة، وعند ابن عباس وعكرمة والحسن الرابعة عشرة.
والذي يظهر للباحث أنها مدنية؛ وذلك لخمسة أوجه:
الوجه الأول: ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: "أنزلت علي آنفا سورة" فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ([80]).
الوجه الثاني: أن الله أمر بالنحر، ولم ينحر النبي صلى الله عليه وسلم إلا في المدينة ومحال أن يأمر الله به ويحول بين نبيه وبينه.
الوجه الثالث: أن المقصود بقوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) يعني مبغضك، ولفظ الآية عام يدخل فيه كل من أبغض النبي صلى الله عليه وسلم، سواء أكان العاص بن وائل أم كعب بن الاشرف أو غيرهم من المشركين واليهود والنصارى.
الوجه الرابع: أن وقت نزول السورة قد يكون موافقا لوقت وفاة كعب بن الأشرف ليكون ذلك دليلا على بتره وانقطاعه، ومعلوم: أن كعب بن الاشرف قتل في السنة الثانية من الهجرة بعد غزوة بدر ([81]).
الوجه الخامس: أن قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) أي الخير الكثير ([82])، وهذا يشمل خير الدنيا والآخرة، ولا شك أن الله قد أعطى نبيه في المدينة من خير الدنيا ما لم يكن عنده في مكة.
يتبع